الخاتمة

ليس بالإمكان اختتام هذه الدراسة؛ لأن تاريخ الجنون لم ينتهِ، وعلى الأرجح لن ينتهي إلا بانتهاء تاريخ الإنسانية نفسها. هذا ما نأمله على الأقل. تتبادر إلى ذهننا تلك العبارة الجميلة التي صاغها جيرارد بايل، رئيس جمعية التحليل النفسي في باريس: «الحياة مرض يشهد نموًّا متزايدًا.»

على أي حال، فلنراهن على أن الجنون سيصبح من الصعب للغاية القضاء عليه — إلا إذا ثبتت بالقَطع صحة النظرية القائلة بأن منشأه عضوي بحت — تمامًا كالقتلة العظام المتجسدين في أمراض القلب والأوعية الدموية والأورام السرطانية. كان إسكيرول يتهكم في بعض الأحيان قائلًا: «اشرحوا لي كيف يفكر الإنسان تفكيرًا عقلانيًّا، وسأقول لكم كيف لا يفعل ذلك!» وعلى الرغم من جميع الآثار المترتبة على الإعلان عن الإنجازات التي تم تحقيقها في مجال التعرف على المخ وعلاقاته بالفكر (فسيولوجيا المعرفة)، فهل صرنا نعرف كيف يعقل الإنسان أكثر بكثير مما كانت عليه الحال في زمن إسكيرول؟

إن هذا الجنون الشبيه بالضفدع المبرقش ذي الأشكال الجذابة المراوغة التي يصعب الإمساك بها، لم يكفَّ عن إدهاش العالم على امتداد القرون. كيف سيبدو الجنون بعد مائة عام؟ أو بعد خمسة قرون؟ هذا هو ما سيكون من الشائق معرفته! في الخامس من أبريل ١٨٧٧، كتبت صحيفة التايمز، مبدية مخاوفها إزاء تزايد عدد الاعتقالات، ما يلي: «إذا استمر الاستلاب العقلي في النمو على هذا النحو، فسرعان ما سيصبح المجانين هم الأغلبية، وعندئذٍ لن يكون أمامهم، بعد أن يقوموا بتحرير أنفسهم، إلا احتجاز ذوي العقل السليم.» ومع تقلص جدران المصحة، بات سيناريو جديرًا بالعالم الشمولي الأورويلِّي، وهو بالطبع أقل عبثية؛ حيث ستضع الصحة العقلية — ذلك القادم المدعو كنوك — الجميع في فراش المرض، ونقصد بذلك إخضاعَهم لمؤثرات نفسية من خلال تناولِ بعض العقاقير أو على الأقل وضعَهم تحت مراقبة نفسية. ألم نتحدث بالفعل، وبجدية هذه المرة، عن «صحيفة الحالة النفسية»؟ «فالمجنون يجدُ دائمًا شخصًا أشدَّ جنونًا منه يُفقده صوابَه ويثير جنونه»، على حد قول أندريه بلافييه. في خريف ٢٠٠٨، قدم فيليب كولين برنامجًا جديدًا على قناة فرانس إنتر الإذاعية: «هلع في الوزارة النفسية»، كان برنامجًا فكاهيًّا، ولكن إذا تأملنا قليلًا في العنوان، فسنجد أن «الوزارة النفسية» يبدو كتعبير له رنَّة مستقبلية.

يطيب لنا التحدث عن «الدروس المستفادة من التاريخ» (يرى سيوران أن التاريخ يعطينا «أعظم درس يمكن تخيله في السخرية.» علاوة على ذلك، بالنسبة له التاريخ لا معنَى له، وإنما هو مجرد مجرًى للأحداث). ومع ذلك، إذا أردنا الاعتراف بأن تاريخ الجنون يمثل تاريخ أخطائه المتعاقبة، فيمكننا على الأقل أن نستخلص من ذلك درسًا عظيمًا في الحذر. وهنا نتذكر شارل ديسلون، حين كان يتحدث عن المغناطيسية الحيوانية، و«طب الخيال». بخلاف الأمراض الأخرى، التي تقتادنا فيها معرفة المرض وبالتالي الاستجابة العلاجية، حتمًا ولكن بصعوبة أحيانًا، من الظلام إلى النور؛ أقل ما يمكن أن يقال عن الجنون، هو أنه لا يسير وفق نظام خطي؛ ولذا فهو جنون. تداخلت العديد من الثقافات مع الجنون، ومن ثم ينبغي قياس يقينيات اليوم في ضوء يقينيات الأمس — ولا سيما أنها قد تكون هي نفسها في بعض الأحيان!

ها قد استعرضنا الماضي، وهو ماضٍ سحيق بالفعل، بما أننا رأينا أن الجنون تمت معالجته ودراسته (بالترتيب ذاته) منذ بدايات العصور القديمة، وإنه ليكون خطأ معرفيًّا (إبستمولوجيًّا) فادحًا أن نقلد تاريخ الجنون وتاريخ الطب النفسي. ولكن، ماذا عن اليوم؟ لقد رأينا اليوم أنه يتم الجمع، على نحو مثير للمفارقة، بين الطلب الذي لا يكف عن التزايد فيما يتعلق بصحة العقل والالتباس الكبير في المقاربات. ولم تعد ممارسة الطب النفسي تحتذي بأي نموذج. بالطبع، لم يحُل هذا دون تطور التقنيات الحديثة في الرعاية، بل على العكس تمامًا. وبطريقة ما، يظل الطب النفسي في عصرنا الحاضر عِلمًا تجريبيًّا، حتى لا نقول إنه ما زال يتحسس خطواته ويتلمس طريقه. وأخيرًا، علينا أن نتذكر ذلك التأمل الرائع لسينيكا: «ليس معنى أن الطب لا يشفي كل شيء، أنه لا يشفي أي شيء.»

ينبغي أن نتساءل عما إذا كانت إشكالية الجنون قد أصبحت تدور من الآن فصاعدًا حول معرفة أين هو بالضبط مكان الإنسان داخل هذا السياق — أو على الأقل التساؤل بهذا الشأن. في عام ١٩٨٨، نشر صديقنا المأسوف عليه إدوارد زاريفيان (١٩٤١–٢٠٠٧) كتابًا بعنوان «بستانيو الجنون».1 ولقد حقق هذا المُؤَلَّف عن جدارة نجاحًا باهرًا لدى الجمهور العريض؛ لأنه يخاطب بنزعة إنسانية ومنطق سليم جميع أولئك الذين هم ليسوا ممارسين ولا اختصاصيين في مجال العلوم الإنسانية، والذين كانوا وما زالوا يطرحون تلك الأسئلة البسيطة: ما تعريف الجنون اليوم؟ وأي رؤية لدينا عنه؟ مَن مجنون ومَن ليس كذلك؟ ولقد عمل إدوارد زاريفيان جاهدًا على التنديد بالأيديولوجيات المختلفة للجنون، التي تحتل كل واحدة منها «مكانة إمبريالية حصرية». لقد كنا إذن في عام ١٩٨٨، ومنذ ذلك الحين، فَقَد كل تيار الكثير من روعته، بدءًا ﺑ «أيديولوجية التحليل النفسي الشمولية». «كان يتعين على الطبيب النفسي الشاب اختيار معسكر ما»، و«كان الضحايا الحقيقيون هم دومًا المرضى وعائلاتهم — التي كان يتم إساءة معاملتها، وإشعارها بالذنب.» أما عن «الاكتشافات المميزة في مجال البَيُولُوجْيا العَصَبِيَّة، فلقد استُغِلَّت دائمًا بطريقة غير شريفة فكريًّا […] وطُرِحت الفرضيات بصفتها حقائق، والتكهنات بصفتها يقينيات.» وظل غالبية الأطباء النفسيين «مُفتَتَنين، كما هي الحال دائمًا؛ لأنهم لا يفهمون». بيد أن إدوارد زاريفيان — الذي كان طبيبًا نفسيًّا بالمصحة النفسية وأستاذًا جامعيًّا (وكُلف بالعديد من المهام الوزارية، ولا سيما فيما يتعلق بتناول الأدوية التي تؤثر على الحالة النفسية) — كان من «مؤيدي أفكار المؤسسة التي يعمل بها.» بل لقد اتهمه البعض بأنه ينادي ﺑ «نزعة جديدة لمناهضة الطب العقلي». ومع ذلك، لم يدافع، متقدمًا بذلك على زملائه بفارق عشرين عامًا، إلا عن «توحيد خدمات الرعاية»، زاعمًا أنه بحث في مختلف المناهج دون أن يعطي الأفضلية لأيها. ولكن «رفض تفضيل نموذج تفسيري، معناه أيضًا التخلي عن فكرة امتلاك الحقيقة.»
يختتم إدوارد زاريفيان قائلًا: «الجنون، تلك النبتة الغريبة التي تنمو في أي مجتمع إنساني، يزرعها عدد لا يُحصى من البستانيين. مَن هم؟ إنهم أنتم، وأنا. إنهم جميع أولئك، العائلات، والأطباء النفسيين، والمعالجين الذين يساهمون، كرهًا، في إدامة الجنون. إن المجتمع بأكمله، من فرط الخوف، والظلامية أو الادعاءات العلمية، والأنانية، والمحافظة بنزعتها التقليدية، والتعصب؛ قد سد، شيئًا فشيئًا وبلا هوادة، أيَّ فتحةٍ مطلَّة على العالم الخارجي، وأغلق الطريق أمام أي احتمالية لانعكاس الأمور أو انقلاب الآية، وحكم بذلك على الجنون بتكرار ذاته، إلى ما لا نهاية، باعتباره ضحية لِاسمِه […] إن الجنون في جوهره هو جدلية للإقصاء، ولكن في هذه اللعبة، المريض هو الذي يخسر دائمًا.» في مُؤَلَّف آخر، يقول زاريفيان إن الطب النفسي لا ينبغي أن يُنظر إليه باعتباره العلم المختص بالأمراض العقلية، وإنما هو الطب الذي يُعنى بالشخص المتألم.2

هل يعني ذلك أنه في بداية هذا القرن الحادي والعشرين، يثير الجنون القدر نفسه من الخوف، أو على الأقل من سوء الفهم الذي كان يثيره في عصر الطب العقلي؟ بالطبع لا، بالإضافة إلى أن الكلمة نفسها، التي ظلت محظورة لوقت طويل، لم تعد مُحَرَّمة، بل وأصبحت من جديد قيد الاستخدام؛ إذ تبددت، وتغلغلت في الحياة اليومية، وعادت إلى الحياة بشكل عام. لقد تم ترويض الجنون، أو إذا أردنا القول، تكييفه، حتى في أشكاله الأكثر استعصاءً. وفيما يتعلق بمستهلكي العقاقير التي تؤثر على الحالة النفسية، فسوف يتفاجَئون بالطبع حين نقول لهم إنهم يندرجون أيضًا تحت مظلة الجنون. ولم يعد الجنون، فيما عدا بعض الاستثناءات، هو ذلك الجنون الجبار الذي نعاينه عند جينيول الكبير، بنوبات الهلاوس المرعبة التي تصيبه، والتي تبدو اليوم ذات طابع كاريكاتوري. لم يعد هناك جدران تحيط بالمصحة، وتفصل بوضوح بين هؤلاء الموجودين في جانب، وأولئك الموجودين في الجانب الآخر. نحن نعلم بالتأكيد قصة ذلك المجنون الذي يطل من نافذة حجرته بالمصحة ليسأل أحد المارِّين: «أأنتم كثيرون هناك؟» هذه ليست مزحة: فنحن بالفعل كثيرون هنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤