الفصل الثالث

التراث الأبقراطي

وأخيرًا جاء أبُقراط، شعرنا برغبة في صياغة الجملة على هذا النحو، حتى وإن لم تكن دقيقة من الناحية التاريخية. لقد عاش أبقراط، الذي لُقِّب ﺑ «أبو الطب» في الفترة ما بين سنة ٤٦٠ و٣٧٧ قبل الميلاد تقريبًا. درس أبقراط — الذي ربما كان ابنًا لأحد كهنة الإله أسكليبيوس — مع ديموقريطوس وجورجياس، ثم سافر عبر اليونان وآسيا الصغرى قبل أن يستقر في جزيرة كوس، موطنه الأصلي حيث مارس هناك الطب قبل أبُقراط. ولكن قبل أبقراط، كان بعض الكهنة الأطباء وبعض الفلاسفة يدرسون الطب. وكانت توجد مسبقًا مدونةٌ بأسماء الأمراض والمصطلحات الطبية. وتمت بالفعل الإشارة في هذا الطب القديم إلى دور السَّوْداء في بعض الأمراض. وقد ورد ذِكر المِرَّة السَّوْداء وارتباطها بالجنون في أعمال المؤلف المسرحي أريستوفان؛ أي في المجال الاجتماعي والشعبي. وقد استبعد ديموقريطوس وأعضاء المدرسة الطبية بمدينة كروتوني فكرة تدخل الآلهة في تفسير ما يحدث في الكون والطبيعة. وبينما كان أبُقراط لا يزال طفلًا، وضع إيمبيدوكليس نظرية العناصر الأربعة (التي غالبًا ما تُنسَب إلى أبُقراط). ومن الجدير بالذكر أن إيمبيدوكليس نفسه قد استلهم هذه النظرية من فيثاغورث.

بالطبع، تشبع أبُقراط بهذه الروح العلمية، فاستقرَّ بدايةً في جزيرة كوس لتلقي العلم. «يُذكر، نقلًا عن إسترابون، أن أبُقراط قد تدرب بشكل خاص على ممارسة الطب عن طريق دراسة قصص معالجة الأمراض التي كانت محفوظة في معبد كوس.»

ولكن، ما هي إذنْ الإنجازات التي يُنسب الفضل فيها إلى أبُقراط؟ يقول سيلسوس، الطبيب الروماني الذي عاش إبَّان حكم الإمبراطور أغسطس، والذي يُعد أحد خلفاء أبُقراط: إن هذا الأخير هو أول من فَصَل الطب عن الفلسفة. يعد هذا القول صحيحًا ولكن به شيء من المبالغة، هذا إن أغفلنا المؤلفات السابقة مثل «الحِكَم الكنيديسية»، أو تأملات سقراط الذي كان معاصرًا لأبُقراط وقام أيضًا بالفصل بين الطب والفلسفة. ومن جهة أخرى، ليس في الإمكان تجريد أبُقراط تمامًا من لقب ذي وقع جميل؛ وهو لقب «فيلسوف»، عند قراءة إحدى الجمل التي كتبها في مؤلفه «الفصول» كما يلي: «العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق، والتجربة خَطَر، والقضاء عَسِر.»

ناموس الطب لأبقراط

ماذا عن أبُقراط والطب؟ نال أبُقراط شهرة واسعة في حياته واشتهر بالأكثر بعد مماته؛ لدرجة يصعب معها في أغلب الأحيان التمييز بين ما هو حقيقي وأصلي، وما هو خرافي وأسطوري. وتكمن ميزته الأساسية في كونه مؤلف ٧٦ مقالة بحثية، جميعها تحمل اسمه، سواء أكانت مكتوبة بواسطته أم منسوبة إليه. وتجمع هذه البحوث كل المعارف الطبية التي وصلت إلينا نقلًا عن مدرسة كوس. إضافة إلى كون أبُقراط مؤسس الطب، فهو أيضًا مُشرع المبادئ الأخلاقية لهذا العلم. ما الذي يقدمه لنا ناموس الطب لأبُقراط؟ يركز هذا الكتاب على العلاج ومتابعة تقدم المرض، مع التشديد على أهمية الملاحظة، وهي الكلمة الرئيسة، وتنحية الفرضيات جانبًا. فلا بد من دراسة الوقائع وإدراك الروابط الموجودة بينها وبين أي شيء، بدءًا بالتغذية (حيث إن أنواع الاضطرابات كافة إنما تنتُج عن نظام غذائي سيئ). وهكذا أصبحت دراسة مسببات الأمراض أمرًا بالغ الأهمية.

ترتكز الفسيولوجيا الأبقراطية بشكل كامل على نظرية الأخلاط البشرية التي تتمازج وتتغير داخل الجسم البشري، سواء في حالة الصحة أو في المرض. ما المقصود بهذه الأخلاط؟ يبلغ عددها أربعة، وهي: البلغم، والدم، والسَّوْداء (المِرَّة السَّوْداء، ويُقصَد بها الدم المتخثر من الطحال)، والصفراء (عصارة المرارة)؛ ويقابلها أربعة أعضاء في الجسم وهي على التوالي: المخ، والقلب، والطحال، والكبد؛ بالإضافة إلى ارتباطها بأربع طبائع، وهي: البلغمي والدموي والسوداوي والصفراوي (المزاج الغضوب). كما أن هذه الأخلاط الأربعة تتوافق مع العناصر الأربعة (الماء، والهواء، والتراب، والنار)، وأيضًا مع الخصائص الأربع (البارد، والرطب، والحار، واليابس)، وهي تلك النظرية التي كان منشؤها فلسفة إيمبيدوكليس. ويعتبر توازن الأخلاط شرطًا أساسيًّا للتمتع بصحة جيدة، وذلك عن طريق الغَلْي [التسوية]: «التعرض للغلي يعني امتزاج الأخلاط بحيث يُلطف بعضها بعضًا وتُسَوَّى معًا لتستعيد توازنها.» وحدوث اختلال في توازن الأخلاط من شأنه إصابة الجسم بالمرض.

تشكل المعرفة التي يملكها الطبيب أفضل ضمانة للمريض، ولكن «الطبيعة هي من تقوم بشفاء السقيم.» هذا بالإضافة إلى ذلك التحفُّظ الذي يعد أحد أعمدة أخلاقيات مهنة الطب: «إذا لم تستطع فعل الخير، فأقله لا تفعل الشر.»

وماذا عن الجنون في كل ما سبق؟ ورد ذكر الاضطرابات العقلية ضمن أربعين مرضًا داخليًّا آخر في ناموس أبُقراط الطبي كما يلي: التهاب الدماغ (أو الاهتياج)، الصرع، الهَوَس، السَّوْداوِيَّة، داء الكَلَب أو السعار، و«الاختناق الرَّحِمِي» (أو الهستيريا). يظل التهاب الدماغ ممثلًا للهذيان الكلاسيكي الحاد أو الجنون الحاد المصاحب للحمى. ويُعد جنون النِّفاس (ظهرت هذه الكلمة في أواخر القرن الثامن عشر)، على سبيل المثال، أحد أنواع الاهتياج.

وقد وردت دراسة أكثر حداثة حول مرض الصرع في البحث الذي يحمل عنوان «المرض المقدس». «لم يبدُ لي أن هذا المرض يمتاز بشيء أكثر ألوهية وأكثر قداسة عن سائر الأمراض الأخرى […] يرجع ذلك دون أدنى شك إلى انعدام الخبرة وروعة هذا المرض؛ مما جعلنا ننظر إلى طبيعته وسبب الإصابة به وكأنهما مظهران لقوة إلهية. وفي الواقع، لم يكن هذا المرض يشبه أيًّا من الأمراض الأخرى.» كما أن «هناك أمراضًا أخرى، ولا أحد يعتبرها مقدسة، لا تقِلُّ إبهارًا وإثارةً للخوف عن سواها […] رأيت أناسًا مصابين باختلال العقل والجنون، دون أي سبب ظاهر، يقومون بالعديد من الأفعال الطائشة وغير العقلانية.»

ويشدد أبقراط (أو المُؤلف الأبقراطي) بأسلوب حاد ولاذع على الفكرة نفسها قائلًا: «أرى أن أولئك الذين يقرنون داء الصرع بالألوهية ينتمون إلى تلك الفئة نفسها التي ينتمي إليها الدجالون المدَّعون، والسَّحَرة، والمُشَعْوِذون، والمتزمِّتون دينيًّا؛ الذين يريدون إيهام الناس بأنهم يعقدون صفقات مع الآلهة وأنهم يعرفون عن هذه الأمور أكثر من سائر البشر جميعًا. أمثال هؤلاء اتخذوا من الألوهية ستارًا يخفون به قصورهم وعدم أهليتهم.» فبإمكاننا معالجة الصرع بشرط تخير الوسائل المفيدة، «دون الحاجة إلى عمليات التطهير والحيل السحرية وكل ذلك الدَّجَل والشعوذة.»

وقد وُصِفَت نوبة الصرع على النحو التالي: «يفقد المريض صوته ويختنق، ويخرج زَبَد من فمه، وتَصِرُّ أسنانه، وتتشنج يداه، وتَحْوَلُّ عيناه، ويفقد وعيه بالكامل.» وبإمكان المرضى أن يستشعروا دخولهم في نوبات الصرع. أما عن علاقة الصرع بالمخ، فهو أمر يمكن تبيُّنه بشكل واضح: «المخ هو أساس الإصابة بهذا المرض، كما هي الحال بالنسبة إلى جميع الأمراض الحادة الأخرى.» مما سبق يتضح أن البحث المُعَنون «المرض المقدس» ليس مجرد دراسة بسيطة عن مرض الصرع، بل هو أكثر من ذلك؛ فمنبع كل شيء هو المخ: «لأننا به نفكر ونفهم ونرى ونسمع ونميز بين القبيح والجميل وبين الشر والخير […] كما أن المخ هو مصدر إصابتنا بالجنون والهذيان.»

فنحن نهذي عندما يكون المخ غير سليم؛ تماشيًا مع الاعتقاد بأن المخ يكون رطبًا للغاية ومتحركًا من مكانه (مثل تلك الفكرة المتعلقة بالرحم). «طالما كان المخ مستقرًّا [بمعنى ثابتًا في موضعه]، يحتفظ الإنسان بوعيه.» لا بد كذلك أن نفرق بين تضرر المخ الناتج عن تأثره بالبلغم البارد؛ مما يؤدي إلى إصابة المرضى بحالات جنون تجعلهم مسالمين «لا يصرخون ولا يهتاجون»، وبين التضرر الناتج عن تعرض المخ لدرجة حرارة مرتفعة بفعل الصفراء؛ مما يؤدي إلى إصابة المرضى بحالات جنون تجعلهم «صارخين ومؤذِين ودائمي الحركة ودائمي الانشغال بفعل أمر خاطئ أو بإحداث ضرر ما.»

في انتظار حدوث تطورات واسعة فيما يتعلق بالسَّوداويَّة على يد خلفاء أبُقراط، عَرَّف هذا الأخير السَّوداوية باقتضاب في مُؤَلفه «الفصول» قائلًا: «إذا استمر الشعور بالخوف والحزن لفترة طويلة، فإن ذلك يعني أن الإنسان مصاب بحالة من الكآبة.» وفيما يتعلق بالهوس، جرى التمييز بين نوعين في المؤلَّف الأبقراطي «النظام الغذائي»، وينتج كلا النوعين عن حدوث اختلال في توازن أحد عناصر المزاج المثالي؛ إما الماء وإما النار. فإذا كان السبب العنصر الأول، فنحن أمام «هوس المياه» الذي يصاحبه خمول وفزع وبكاء. أما إذا كان السبب العنصر الثاني، فنحن أمام «الهوس الناري» الذي يصاحبه السرعة والاندفاع المفرط.

ومما يثير الفضول، كما يوضح جاكي بيجو في إحدى دراساته،1 أن أبُقراط، الذي كان يرفض الفصل بين علم النفس المَرَضي (الباثولوجيا النفسية) والأخلاقيات في مؤلَّفه «المرض المقدس»؛ أقَّر هذا الفصل فيما يتعلق بالهوس: «الجنون mania، تلك الحالة التي يكون الإنسان فيها مُغيبًا عن العالم، يمكن تفاديها إذا قمنا بتصحيح الطبيعة»، ولكن إلى حدٍّ معين، خاصة أن النظام الغذائي (كما ورد في البحث الذي يحمل الاسم نفسه) «ليس بوسعه فعل شيء حيال حدة الطبع، والهدوء، والدهاء، والصدق، والأريحية، والرفق، وسوء القصد أو النية.» والخلاصة، أن الطبيب لا يستطيع شيئًا إزاء الظواهر الأخلاقية.

ورد مرض «الاختناق الرَّحِمِي» (ولم تكن كلمة «هستيريا» قد ظهرت بعد)، في كتاب «أوجاع النساء»، حيث جرى التأكيد على الاعتقاد القائل بأن سبب الإصابة بهذا المرض يرجع إلى انتقال الرحم وتجوله داخل الجسم. كما جرت الإشارة إلى هذا المرض، الذي يُعد غريبًا تمامًا عن نظرية الأمزجة والأخلاط البشرية ومناقضًا للحداثة التي تجلت في كتاب «المرض المقدس»، في ناموس الطب لأبُقراط. يتعلق الأمر بوجه عام بطب الأمراض النسائية؛ ذلك أن انتقال الرحم داخل جسم المرأة لا يفسر فقط الإصابة ﺑ «الاختناق الرحمي»، وإنما أيضًا ببعض أمراض النساء الأخرى؛ فانتقال الرحم يمكن أن يؤثر على العديد من الأعضاء الأخرى؛ فإذا ضغط الرحم على القلب، يسبب الشعور بالقلق والانزعاج والضيق النفسي، والدوار وقيء العصارة الصفراوية. «وحينما يكون الرحم عند الكبد مما ينتج عنه حدوث الاختناق؛ يؤدي ذلك إلى انقلاب العين (ظهور بياض العين)، وتصبح المرأة باردة وشاحبة اللون في بعض الأحيان، وتُصِرُّ أسنانها ويمتلئ فمها باللعاب، وتكون في هذه الحالة أشبه بالمصابين بنوبات الصرع.»

الخلفاء

يجدر أن نركز على الأهمية التي احتلتها عملية وضع المفاهيم، والتي تستحق أن نتوقف عندها لنتناولها بشيء من التفصيل، خاصة وأن هذه العملية ستشهد تطورًا استثنائيًّا في مرحلة لاحقة ستستمر حتى أواخر القرن التاسع عشر. وهكذا، نجد اليوم مصطلحات مثل الهذيان والهوس والصرع والهستيريا والسوداوية لم تفقد تمامًا صداها، كما لم تفقد مضمونها الطبي.

ساد التقليد القديم وحده لِما يقرب من ألف عام (من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي)، وشهدت هذه الفترة بزوغ العديد من المدارس، من بينها: المدرسة الدوجماتية، وهي أكثر المدارس التزامًا بالتعليم الأبُقراطي، وتوصي بدراسة التشريح والبحث باتباع التفكير المنطقي عن جوهر الأمراض ومسبباتها الكامنة. على النقيض، ظهرت المدرسة التجريبية التي ترفض البحث عن أسباب الأمراض وترى أن ما يهم فقط — في فن مداواة المرضى — هو التجربة، سواء أكانت مستندة إلى خبرة الطبيب الشخصية أم إلى التجارب والخبرات الجماعية المذكورة في المراجع الطبية. من هذا التناقض بين المدرستين السابقتين، برزت المدرسة الثالثة، التي انتشرت أفكارها في روما في أواخر القرن الأول الميلادي على يد سورانوس الأفسسي؛ وهي المدرسة المنهجية، التي ترى أن الجسم يتألف من مجموعة من الجزيئات دائمة الحركة. وقد تأثرت هذه المدرسة إلى حدٍّ ما بالمذهب الذَّرِّي لأبيقور، كما قامت بدحض المذهب المرتكز على نظرية الأخلاط الأربعة. وفقًا لهذه المدرسة، هناك قنوات تمر عبر الجسم ومن خلالها تتدفق النفحة (الهواء) أو الروح بالإضافة إلى سوائل الجسم. وتعتمد حالة الجسم سواء في الصحة أو في المرض على هذه الجزيئات، ومدى سهولة أو صعوبة تدفقها، وشكلها … إلخ، كما تعتمد على وَضْع هذه القنوات داخل الجسم. ومؤسس هذه المدرسة هو أسكليبياديس البيثيني الذي عاش في (أواخر القرن الثاني قبل الميلاد)، وكان صديقًا لشيشرون. ومن الجدير بالذكر أن مؤلفاته لم تصل إلينا، ولكنها حُفظت ونُقلت على يد الطبيب الروماني كاليوس.

تجدر الإشارة أيضًا إلى المدرسة القائمة على الإيمان بمذهب النفحات، والتي كانت هي نفسها مناهضة للمدرسة المنهجية. فالنفحة أو الروح تسري داخل الجسم، ولكنها لا تجعله في صحة جيدة إلا إذا كان الضغط منتظمًا. هذا بالإضافة إلى بروز فئة تضم بعض كبار الأطباء الذين لم ينتموا إلى أي من هذه المدارس الطبية، والذين رفضوا التسليم بأيٍّ من المعتقدات السائدة وأخذوا منها فقط ما يناسبهم؛ ولذلك أطلق عليهم لقب «الاصطفائيين». نذكر من بين هؤلاء سيلسوس وأريتايوس من كبادوكيا في القرن الأول الميلادي، ومن بعدهم جالينوس في القرن الثاني الميلادي، وهو ثاني أعظم الأطباء في العصور القديمة بعد أبُقراط. وقد شاع القول إن جالينوس كان معاديًا لأفكار أبُقراط (فإذا قال أبُقراط «نعم»، قال جالينوس «لا»). يُعد جالينوس بالأحرى خليفة أبُقراط، كما أنه هو الذي أعاد إحياء نظرية الأخلاط والأمزجة البشرية.

بيد أن جالينوس نبذ نظرية الرحم المتجول المُسبِّب للهستيريا (لنطلق على هذا المرض ذلك الاسم الأكثر ملاءمة)، كما رفض نظرية احتباس دم الحيض ليستبدل بها نظرية احتباس المني، استنادًا إلى الفرضية القائلة بأن المرأة تفرز المني مثل الرجل (يحل المبيضان لدى المرأة محل الخصيتين لدى الرجل). وبناءً على ذلك، يسبب احتباس المني لدى المرأة، مثلما يحدث لدى الرجل، آثارًا مَرَضية. ويتعرض لهذا الأمر على وجه الخصوص النساء اللواتي ينقطعن فجأة عن ممارسة الجنس بعد أن كُنَّ مداومات عليه بصورة منتظمة، مثل الأرامل.

ظل لجالينوس تأثير كبير حتى القرن الثامن عشر الميلادي. إضافة إلى كونه اختصاصيًّا في علم التشريح والفسيولوجيا، كان جالينوس فيلسوفًا أيضًا، وكان على صلة وثيقة بأفلاطون وأرسطو. ولكنه فَنَّد الفكرة القائلة بفناء الروح العاقلة بصفته طبيبًا وليس بصفته فيلسوفًا. وأوضح أن الروح موجودة بالدماغ، كما أكد أفلاطون، ولكنها ليست فانية. بالنسبة إلى عالِم الفسيولوجيا، الروح عبارة عن وظيفة عضوية يتجلى من خلالها عمل عضو ما في الجسم.

على مدى القرون اللاحقة، تطورت المفاهيم التي عَرَّفها أبُقراط في أبحاثه ومؤلفاته بشكل كبير، بحيث أصبحت أكثر وضوحًا عن ذي قبل، ولكن أكثر تعقيدًا في الوقت نفسه. وبالطبع، كان الهوس — باعتباره خير مثال للجنون — هو أكثرَ مجال حظِيَ باهتمام واسع. بالنسبة إلى أريتايوس الكبادوكي، «هناك عدد لا يُحصى من أنواع الهوس، أما عن الأعراض، فأبرزها […] حدوث هذيان مستمر دون حمى.» أعطى كاليوس وصفًا تفصيليًّا للهوس كما يلي: «يُصاب به على وجه الخصوص الشباب والرجال في منتصف العمر […] وأحيانًا يباغتهم هذا المرض بشكل عنيف ومفاجئ، وفي أحيان أخرى تحدث الإصابة بشكل تدريجي […] وعندما يسيطر الهوس على فكر شخص ما، يظهر ذلك في صورة إحساس بالغضب، أو الفرح، أو الحزن، أو التصرف بأسلوب طائش، أو كما يذكر البعض، الشعور بمخاوف لا أساس لها من الصحة […] وفي بعض الأحيان يستمر الجنون — أو لِنقُل: الهوس — لفترة طويلة، وفي أحيان أخرى تخف حدته على فترات زمنية غير محددة، وما يحدث في هذه الفترات هو أن المريض إمَّا ينسى ما فعله وإمَّا لا يدرك هفواته […] لدى غالبية المرضى، عندما تنتابهم النوبة، تحتقن أعينهم بلون الدم الأحمر وتصبح نظراتهم حادة. وقد يصابون أيضًا بأرق دائم […] وتصبح قوة المريض على غير عادتها.»

فيما يتعلق بالهوس، يُعد سيلسوس من أوائل الذين قدموا توصيفات لمرض الجنون، وفَرَّق بين ثلاثة أنواع من الجنون: التهاب الدماغ، والسوداوية، والهوس، وهو أكثر الأنواع امتدادًا لفترة طويلة؛ لأنه لا يهاجم إلا الرجال الأقوياء. كما ميز سيلسوس بين نوعين من المصابين بالهوس: أولئك الذين يعانون من اضطراب عقلي، والذين تخدعهم صور (أي تراودهم أوهام وهلاوس).

ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي، تشكلت ملامح الهوس باعتباره مرضًا محددًا، يخضع لتشخيص طبي، بينما لم يكن في نظر أبُقراط إلا مجرد عَرَض. وبالطبع، استمر الاعتقاد في كلا الرأيين سائدًا، كلٍّ على حدة، لدرجة أن المصطلح نفسه أصبح مبهمًا. غير أنه قد ترسخ، في كل الأحوال، مبدأ الفصل بين أمراض الروح (الأمراض النفسية) التي تدخل ضمن نطاق الفلسفة، والأمراض الجسدية التي يختص بها مجال الطب، حتى ولو أخذنا في الاعتبار أنه في حالة الهوس، تكون لهذا المرض آثارٌ على النفس؛ وعندئذٍ «يمتنع الطبيب عن التفلسف» (جاكي بيجو). وهكذا، كتب كاليوس عن الهوس قائلًا: «وأخيرًا، يخطئ أولئك الذين يعتقدون أن الهوس يُعد مرضًا نفسيًّا في المقام الأول، ومرضًا جسديًّا في المقام الثاني؛ لأنه ما مِنْ فيلسوف قَطُّ استطاع علاج هذا المرض.» خلاصة القول أن الجنون من اختصاص الأطباء.

المنافس الأول — إذا جاز التعبير — للهوس هو السوداوية، بأشكالها المتعددة. يقول كاليوس: «يعاني المصابون بسوداوية متأصلة من إحساس عميق بالقلق والانزعاج والضيق، إضافةً إلى الشعور بحزن يصاحبه خَرَس وكراهية للمحيطين. ثم يشعر المريض أحيانًا بالرغبة في الحياة، وفي أحيان أخرى تنتابه الرغبة في الموت، ويشك في أن هناك مؤامرات تُحاك له.» وهناك ذلك الشعور بالخوف والحزن والنفور من الحياة وكراهية الذات والآخر. وغالبًا، تكون النساء أكثر عُرضة للإصابة بالسوداوية من الرجال. كما ترتفع نسبة الإصابة لدى كبار السن؛ لأن المِرَّة السوْداء تتكون على وجه الخصوص مع التقدم في العمر.

أضفى القدماء على السوداوية العديد من المعاني الأخرى، «ويمثل ذلك ذروة التفكير الطبي نحو الاتجاه الفلسفي» (جاكي بيجو). أليست السوداوية هي المحرك الأساسي للمصير المأساوي؟ أليست العبقرية سمة من سمات الشخصية السوداوية؟ قالها أرسطو على أي حال في مؤَلَّفه «مسائل أرسطوطاليس الطبيعية، الجزء ٣٠»: «تُرى لماذا كل الرجال العظماء في الفلسفة والسياسة والشعر والفنون من ذوي الشخصية السوداوية؟ وقد كان بعضهم في الحقيقة مصابًا بأعراض مَرَضية مرجعها المِرَّة السَّوْداء.» وتتجلى مما سبق ازدواجية أخرى كما هي الحال بالنسبة إلى الهذيان الذي يحمل أحيانًا طابع الهوس، وأحيانًا أخرى طابع الإبداع والتفكير الخلَّاق. من جانبه، يذكر روفوس — طبيب يوناني من أفسس واختصاصي في علم التشريح عاش في أواخر القرن الأول الميلادي — أن الأشخاص ذوي الفكر الثاقب الذين يتمتعون بقدر كبير من الذكاء يقعون بسهولة في براثن السوداوية.

بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر السَّوْداوِيَّة أفضل وسيلة توضيحية لإمكانية التحول من شكل إلى شكلٍ آخر من أشكال الجنون. لاحظ روفوس الأفسُسي أن مرحلة الإصابة بالهوس تسبق مرحلة الإصابة بالسَّوْداوِيَّة. بينما يرى أريتايوس الكبادوكي، الذي عرَّف السَّوْداوِيَّة بأنها: «الشعور بحزن عميق في النفس مع التركيز على فكرة ثابتة»، أن حالات المَلَنْخُوليَا هي التي تتحول إلى هوس وليس العكس.

فيما يتعلق بالسَّوْداوِيَّة كما هي الحال بالنسبة إلى أشكال الجنون الأخرى، لقيت قصص الحالات المرضية اهتمامًا كبيرًا من جانب الأطباء في العصور القديمة، وعلى رأسهم أبُقراط، وجالينوس الذي حدثنا، على سبيل المثال، عن إحدى الحالات لرجل من كبادوكيا «استقرت في رأسه فكرة مجنونة وأُصيب، نتيجة لذلك، بالمَلَنْخُوليَا.» وكان هذا الرجل قد صَرَّح وهو يبكي بكاءً عنيفًا أنه يخشى أن يكون العملاق أطلس (أحد آلهة الميثولوجيا الإغريقية) قد تعب من حَملِه قبة السماء لفترة طويلة على كتفيه؛ مما قد يترتب عليه سقوط هذه القبة السماوية فجأة وتدمير كل شيء. كما ذكر جالينوس حالة أخرى لرجل كان يعتقد أن أحد الموتى قد نادى عليه لدى مروره أمام المقابر، ومنذ ذلك الحين أُصيب هذا الرجل بالمَلَنْخُوليَا. وهناك حالة أخرى لمريض مصاب بالمَلَنْخُوليَا كان يعتقد أن رأسه قد قُطِع لأنه طاغية. وشُفي هذا المريض حينما وُضعت قبعة معدنية بشكل مفاجئ على دماغه؛ مما أعطاه الإيحاء بأنه قد وجد رأسه!

لا تكتفي هذه القصص بوصف ضروب الجنون فحسب، ولكنها توضح أيضًا بالنسبة إلى غالبية الحالات ما هي طرائق العلاج التي طُبِّقت. ونستنتج من ذلك أنه منذ بدايات العصور القديمة، كان هناك اهتمام بعلاج المجانين …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤