الفصل الثالث

نماذج من الجنون وصور لإعادة تجسيده

في القرون الوسطى، لم يكن بالإمكان تحجيم الجنون ليقتصر على الطب فقط، حتى وإن كان يتم النظر إليه ودراسته ومعالجته، خلال العصور القديمة، باعتباره مرضًا. ويبدو هذا القول منطقيًّا إلى حدٍّ بعيد. والجنون يطرح أسئلة على تلك الحضارة القائمة على المعتقدات ويقينيات علم الوجود (الأنطولوجيا) كما أنه يبث القلق فيها. وهو يضع ذلك المجتمع الذي يرى نفسه مرتكزًا وقائمًا على تعاليم الإنجيل أمام تناقضاته الخاصة. فالمجنون يُضَحِّك الناس ولكنه يُخيفهم أيضًا. وهو مُبهِر وساحر ولكنه مثير للاشمئزاز في الوقت نفسه. بيدٍ نطعمه، وباليد الأخرى نطرده.

السرديَّة وجنون الحب

من الواضح أن الجنون والأدب المكتوب بالعامية اللاتينية القديمة كان لا بد لهما أن يلتقيا، ولا سيما من خلال روايات العشق والغزل، التي انتشرت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر وفي القرن الثالث عشر، وتغنَّت بقصص الحب التي لم تُكَلل بالنجاح. وقد حظي بالفعل جنون الحب بمكانة رفيعة عند اللاتينيين (مثل «أوفيد»)، وورد ذكره في الملاحم السَّلتية. كما كان موضوعًا شائعًا إلى حد كبير في الأدب العربي خلال القرنين العاشر والحادي عشر.

وتتعدد الأعمال الأدبية التي تشهد على مدى الاهتمام الذي حظي به هذا الموضوع. في القرن الثاني عشر نجد: «الجنونان»، و«تريستان»، و«إيبوميدون»، و«روبرت الشيطان»، و«أماداس وإيدوان»، و«إيفان أو فارس الأسد»، و«برسيفال». في القرن الثالث عشر نجد: «جنون لانسلوت»، وسلسلة «لانسلوت» النثرية، ورواية «تريستان»، و«معجزات نوتردام»، و«كليوماديس»، و«ملياسين»، و«لعبة المخبأ الشجري».1 ويبدو أن هذا الأدب، المُوَجَّه إلى جمهور أرستقراطي حصري، أقرب إلى الواقعية منه إلى الصور الاستعارية عند تصوير الجنون، حتى إذا كان هؤلاء المجانين ينتمون إلى مستوًى اجتماعي رفيع. فترسم لنا هذه الأعمال الأدبية لوحة دقيقة وحقيقية إلى حد بعيد تصوِّر لنا حالة المجنون الهائج (أو بالأحرى المجنون «الغاضب»، والحانق على نفسه، مثل «هرقل الساخط») الهائم على وجهه شريدًا، وحيدًا. والأبطال المصابون بلوثة الجنون يتحدثون بلهجة عبثية، ويمزقون ملابسهم ويركضون «عراة، وهم يصرخون ويصيحون». وسلوكهم في الغالب يكون عنيفًا كما جرى تصوير نوبات الجنون بطريقة «سريرية» للغاية: وهكذا نجد، في رواية «ملياسين»، سيلندا تقذف الحجارة، وتغطي نفسها بالطين، وتعَضُّ، وتخربش، وتسحب الناس من شعورهم، وتريد أن تقضم يد الطبيب ثم تريد قضم يديها. وفي مسرحية «لعبة المخبأ الشجري»، نرى مجنونًا، وهو أحد «الدراويش»، ساخطًا وهائجًا، ينبح، ويقول إنه ضفدع ثم يقول في موضع آخر إنه ملك، ويدخل إلى إحدى الحانات صارخًا: «إلى الخارج! النار! النار!» كما كان الأبطال يحلقون رءوسهم «حتى يظهروا بمظهر المتسكعين المستهترين والمخبولين» (إيبوميدون)، وهكذا، لم يعد الرأس الحليق علامة على التحضير لإجراء علاجي، وإنما كان بمنزلة وسم أو علامة على الذبول وفقدان الحيوية أو سمة مميزة، على شاكلة إكليل الرأس عند رجال الدين.

وتُعَد رواية «إيفان أو فارس الأسد»، التي كتبها كريتيان دي تروا في الفترة ما بين ١١٧٧ و١١٨١، أكثر الروايات — ربما حتى أكثر من «تريستان» و«لانسلوت» و«برسيفال» التي اختبر أبطالها أيضًا الجنون — تمثيلًا لهذا الاتجاه الأدبي الذي شهد نجاحًا ساحقًا. كانت السيدات الجميلات والآنسات النبيلات (وبالطبع، بعض الشبان أيضًا) قد تعبن من قعقعة السيوف وأصوات الحروب والأناشيد الملحمية. وهكذا، كان اللقاء بين العاطفة القاتلة والجنون مقدرًا. فقد هجر إيفان لودين ليسعى وراء المجد. ولكنه لم يفِ بوعده بالرجوع في خلال عام، فمنعته زوجته من العودة إليها مرة أخرى. ومن ثم، أصيب إيفان بالجنون. و«لم يكن يكره شيئًا بقدر كرهه لنفسه». وهرب إلى الغابة وعاش فيها «كرجل ممسوس هائج ومتوحش». كان يلتهم فرائسه نيئة. وقد تحدث كريتيان دي تروا في هذه الرواية عن «الحنق، والعواصف والأعاصير» (وليس بالإمكان استعراض كل هذا دون التفكير في مرض توهم الذئبية). ثم يختلط الخيال بما يشمله من سحر وأحداث خارقة للطبيعة بأحداث الرواية. فها هو إيفان ينقذ أسدًا (ومن هنا جاء اسم الرواية) كان يصارع ثعبانًا، ومنذ ذلك الحين، يصبح هذا الأسد ملازمًا له ويرافقه في جميع مغامراته. وهكذا لم يكن ينقصه شيء حتى ينشد الشفاء وقد ناله بالفعل؛ بفضل ناسك أشفق عليه وعامله بحنوٍّ حتى جعله في نهاية المطاف يقهر الخوف. ثم استعاد إيفان صحته عقب قضاء ليلة حضانة المرض. وبعد أن استعاد حب زوجته، تخلى نهائيًّا عن مغامراته.

خلاصة القول أن الحب الذي يصيب الإنسان بالجنون هو نفسه الذي يشفيه. وقد اختبر بطل الرواية الاثنين بسبب المرأة ذاتها، إنها تلك «السيدة» ذات المتطلبات والشروط التي تبدو قاسية في كثير من الأحيان ولكنها تهدف إلى «خدمة الحب». وذلك هو الدور الذي اضطلعت به لودين بالنسبة إلى إيفان، وإيدوان بالنسبة إلى أماداس، والملكة جونيفر بالنسبة إلى لانسلوت. وقد كان يحلو لمؤرخ الأدب العظيم جوستاف لانسون أن يكتب قائلًا: إن تلك الحقبة تمثل بداية عهد المرأة، حتى وإن كانت هذه الفكرة المثالية لا تزال حلمًا بعيد المنال.

نعود من جديد إلى فرساننا الذين كانوا يركضون عراة في الغابات في حالة هياج، عندما تتملكهم نوبات الجنون. وقد تحدث العديد من المؤرخين بشكل متكرر عن الطبيعة الحيوانية والوحشية للمجنون. وبالإمكان الحديث أيضًا عن العودة إلى البراءة بوصفها مرحلة أولية وعابرة في الطريق الطويل الذي يتعين على الإنسان أن يسلكه من أجل «خدمة الحب». يظل المجنون الهائم على وجهه عاريًا؛ لأن أحدًا لم يعطه ملابس، ويكون همجيًّا ومتوحشًا؛ لأنه لا يجد مأوًى، ويظل عنيفًا؛ لأنه مضطر دومًا إلى الدفاع عن نفسه وحمايتها من اضطهاد أصحاب العقول الرشيدة الذين يطاردونه بضراوة بمجرد أن يلمحوه. تُرَى، بالنظر إلى الرمز الذي يعود إلى القرون الوسطى والذي يصور لنا «مجنونًا ممسكًا بهراوة»، هل انقلبت الآية؟ وتزخر المؤلفات الأدبية في العصور الوسطى بهذه المطاردات القاسية. فنجد، على سبيل المثال، تريستان المجنون «كان الجميع يسخرون منه ويستهزئون به، ويقذفونه بالحجارة على رأسه». وكان يُضرَب ويُقَص شَعره ويلطَّخ بالرماد من قِبل الرعاة. وكان الناس يستقبلون المجنون عند دخوله المدينة أو القرية بصيحات الاستهزاء والسخرية وبالضرب المبرح. كان يتم إلقاء القمامة وإطلاق الكلاب عليه. وكان عامة الناس يتعاملون معه بمنتهى القسوة وكأنهم سعداء لعثورهم على شخص مسكين أكثر بؤسًا وشقاءً منهم. كما كانوا يظهرون نفورهم واشمئزازهم من أي شخص مختلف عنهم، وكان هذا هو السيناريو المُتَّبَع، على نحو مبتذل، لإثناء المجنون عن البقاء في هذه الأماكن ولإرغامه على الرحيل.

مجانين أُجَراءُ

«أحيا» مجتمع العصور الوسطى الجنون ولكن على هيئة نمط المجنون الأجير أو المهرج (بيد أن هذه الكلمة لم تظهر إلا في القرن السادس عشر الميلادي). وقد ارتبط هؤلاء بالبلاط الملكي وأيضًا بقصور الإقطاعيين ورجال الدين المسيحي، غير أنه في هذه الحالة الأخيرة، حَرَّمَت روما وجودهم من حيث المبدأ. وقد اعتاد الأمراء، في وقت مبكر للغاية، على أن يحيط بهم، إضافةً إلى الحيوانات الأليفة، بعضُ الكائنات الكريهة مثل: الأقزام، أو الحُدب، أو المجانين، وأحيانًا كل هؤلاء في الوقت نفسه، وكانت وظيفتهم تقتضي إبهاج وتسلية رب البيت وضيوفه الجالسين إلى موائد طويلة في الشتاء.

ولكن، هل كان هؤلاء المهرجون مجانين حقًّا أم أنهم كانوا يكتفون بتصنُّع الجنون؟ بالطبع، كانوا مزيجًا من الاثنين معًا. وعلى أي حال، فالنعوت التي وُصِفوا بها تنطبق على الفئتين، وهي: أحمق، معتوه، مخبول (و «مجنون» fol في اللغة الفرنسية القديمة). إن المجنون الحقيقي الفاقد لرشده لا يمكن أن يُضحِّك الناس لوقت طويل؛ ولذا كان لا بد لهؤلاء الأُجَراء أن يضيفوا قليلًا من السخافة والحماقة حتى يصبح الدور مسبوكًا. فما يهم هو إضحاك الناس. في القرون الأولى من العصور الوسطى، كان المهرج متعدد المهارات، فكان يقوم بالألعاب البهلوانية، وبالتمثيل الإيمائي، وبتقديم عروض بصحبة حيوانات مُدربة. ابتداءً من القرن الثالث عشر الميلادي، ظهر التخصص الذي ميز المهرجين عن لاعبي الخفة الذين كانوا يتنقلون من قصر إلى قصر لتقديم عروضهم، بينما يظل المجنون مقيمًا في بلاط معين. ذلك المهرج، أو البهلوان، المعروف عنه سرعة البديهة، والمشهور بقدرته على إلقاء نكات ودعابات والإتيان بأفعال مشينة أو التفوه بكلمات بذيئة، والثرثرة في الكلام عن أي شيء، لم يكن يثير بحق ضحك الملك أو السيد الإقطاعي إلا عند قيامه بالتهكم، وأحيانًا بشكل قاسٍ، على المدعوين. وتبلغ البهجة ذروتها حين يضيف إلى هذه الأفعال مواهبه في تقليد الآخرين. وكل الكلام الذي لا يجرؤ السيد الإقطاعي على قوله لأحد تابعيه وجهًا لوجه، كان يقوله لهم بنبرة دعابة. وبهذا الشكل لا يمكن لأحد أن يعيب على هذا الكلام، ألم يصدر عن مجنون؟ وفي وقت لاحق، بدءًا من عصر النهضة، كان بعض المهرجين، المختفين وراء عرش الحاكم، يوقعون الرعب في نفوس الحاشية. وبالطبع، لم يكن المهرج — مما يدل على أنه ليس مجنونًا تمامًا — يتحدث إلى الملك عن عيوبه بمثل هذه الصراحة المطلقة، حتى وإن كان يخاطبه بطريقة حميمة وغير رسمية، بل وفِجَّة في بعض الأحيان. لكن ألم يكن كافيًا بالنسبة إلى المجنون، مثل ذلك المخبول التابع للملك لير، أن يكون هو الوحيد القادر على التعامل مع الملك بمثل هذه الحميمية؟
ومن نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، أصبحت وظيفة مجنون البلاط، منصبًا يتهافت عليه الجميع. وقد قام هنري الثاني، ملك إنجلترا، بمنح قطعة أرض للمهرج التابع له، المدعو روجيه المجنون. أما عن جيوم بيكولف، وهو المجنون التابع لجون ملك إنجلترا أو ما يُعرَف ﺑ «جون بلا أرض»، فقد ترقى إلى مرتبة النبلاء ومُنِح قطعة أرض إقطاعية قابلة للتوريث، شريطة أن يظل في خدمة الملك طوال حياته. وفي فرنسا، اعتبارًا من عام ١٣١٦، أصبح تكليف المجنون وراثيًّا. وظلت طريقة تعيينهم أمرًا غامضًا.2 ففي بعض الأحيان، كان الأمير يتبناهم إذا صادفهم في طريقه، وفي أحيان أخرى، كان يرسل في طلبهم من العائلات الموجود بها أفراد مجانين؛ مما تمخض عنه انتشار المجانين المحترفين أكثر من المجانين الحقيقيين المصابين بأمراض عقلية.

وتشهد مجموعة الصور والرسوم، وخاصة الزخارف والنقوش، التي تمثل القرون الأخيرة من العصور الوسطى؛ على إعطاء دور سياسي لمجنون البلاط. فنجد الملك والمجنون يظهران في هذه الرسوم وهما يقفان وجهًا لوجه، وطولهما متساوٍ. يجلس الأول على عرشه، لابسًا التاج وممسكًا بالصولجان الملكي في يده. أما الثاني، فيبدو واقفًا غير مُرَتَّب الهندام، أحيانًا عاريًا تمامًا، وحليق الرأس وممسكًا هو الآخر بصولجان في يده؛ وهي الهراوة، التي أصبحت اعتبارًا من نهاية القرن الخامس عشر الميلادي بمنزلة هَوَس، وهي عبارة عن عصا ينتهي طرفها برأس مهرج مثير للسخرية مزينة بغطاء على شكل أُذُن حمار، وكان غطاء الرأس هذا هو نفسه الذي يرتديه مجنون البلاط ويضعه على رأسه. وهكذا، تتجسد المواجهة أو بالأحرى يتجسد الحوار بين رمزية النظام والاتزان من جهة، ورمزية الفوضى والإفراط من جهة أخرى. أحيانًا، نجد الملك يرفع إصبعًا علامة على الورع والتهذيب. وقد كان إضفاء طابع الغموض مقصودًا في هذه الصور الممثلة للجنون. تُرى من هو صاحب النفوذ الأقوى؟ العقل أم الجنون؟

عيد المجانين

صورة أخرى من صور إعادة إحياء الجنون تتمثل في احتفالات المجانين، وهي طقوس حقيقية تأسست في القرون الأولى من العصور الوسطى، متوارثة عن أعياد الإله ساتورن التي كانت تقام في الحقبة الرومانية وكان يحل فيها العبيد محل السادة. كانت هذه الطقوس — التي يجري فيها تبادل الأماكن وتختلف مراسمها من مقاطعة إلى أخرى — تسمح للجميع بأن يُفرِّجوا عن أنفسهم ويطلقوا لانفعالاتهم المكبوتة العِنان، كما كانت تبيح لهم ممارسة الفسق والمجون في الفترة ما بين السابع عشر والثالث والعشرين من شهر ديسمبر. يبدأ الاحتفال بقيام الكَتَبَة وبعض أعضاء الإكليروس بانتخاب «رئيس طائفة المجانين»، ويُجرى تنصيبه وسط أجواء من الألحان الساخرة، وذلك قبل أن تشيعه الجماهير بفرح إلى «منزله» حيث يقام احتفال هناك، يشرب فيه الحاضرون الخمور بكثرة وينشدون مزامير هزلية. ثم يُختار واحد من بين الجموع ليُنَصَّب «أسقف المجانين»، وأحيانًا كان يُلَقَّب ﺑ «بطريرك المجانين». وسعيد الحظ الذي يقع عليه الاختيار، كان يرافقه رجل دين متنكر على نحو ساخر حتى يوصله إلى باب منزله. وكان يجري توصيله إما راكبًا على فرس أو برميل خشبي، وإما جاثمًا على ظهر حمار مرتديًا تاجًا أسقفيًّا. وطوال مسيرة هذا الموكب، كانت تتعالى صيحات المباركة والتهليل ويُراق الخمر. وكان هذا الاحتفال، المقصور في أغلب الأحيان على المدن الكبرى، يبلغ أوْجَهُ في الكاتدرائية أو في المجمع الكنسي؛ حيث كانت تُجرى محاكاة ساخرة لطقوس الخدمة الكنسية أو صلاة القداس. وكان الحاضرون يأكلون لحم خنزير على المذبح أو يقومون بلعب النرد. وكان يتم حرق النعال البالية في المباخر القديمة، وشرب الخمر في حُقَّة القربان المقدس. وكانوا يطوفون بهذا الموكب في جميع أرجاء وشوارع المدينة وهم يطلقون دعابات ماجنة وفاسقة وسط مناخ عام من النشوة والسُّكْر.

وبالطبع، نستطيع أن ندرك أن الكنيسة قد سعت جاهدة لمحاربة هذه الأفعال الماجنة. في عام ١٤٥١، أصدر مجلس كنيسة إفرو تحذيرًا نصَّ على ما يلي: «سنعاقب بالحرمان الكنسي أي شخص من القساوسة أو رجال الدين التابعين لنا في حالة قيامه بالإتيان بأي تصرفات غير مقبولة في كنيستنا؛ من قبيل إطلاق الدعابات والتكلم بسفاهة أو بوقاحة وممارسة ألعاب غير شريفة.» ورغم ذلك تكررت هذه المحظورات. وعلى نحو ما، كانت هذه الفوضى التي تسود خلال بضعة أيام، وربما يوم واحد، بمنزلة ضمانة لإحلال النظام والاستقرار خلال بقية العام. وتظل الانتهاكات تتخذ مظهرًا احتفاليًّا حتى في شططها.

صور رمزية

إن الجنون الذي أعادت المسيحية إحياءه في القرون الوسطى، هو الجنون بصورته الاستعارية، وليس الجنون بمعناه الفلسفي والأخلاقي؛ أي جنون العَالَم. وقد برز هذا الجنون على وجه الخصوص في كتاب «سفينة الحمقى» لمؤلفه سباستيان برانت (نُشِر للمرة الأولى في مدينة بازل، في عام ١٤٩٤). وقد كُتِب هذا المؤَلَّف في الأصل باللغة الشعبية ثم سرعان ما تُرجِم إلى اللاتينية (ولم تكن هذه هي العادة في ذلك الزمن). رأى برانت، باعتباره عالمًا إنسانيًّا مسيحيًّا، أن قراءة الكتاب المقدس لا تعالج البشر من رذائلهم ولا تصحح نقائصهم؛ ولذلك قدم في هذا الكتاب نصوصًا هجائية عن البشر على هيئة أبيات شعرية بلغ عددها سبعة آلاف بيت. العالَم مجنون وسريع الزوال بالنظر إلى المنحوتات الخشبية العديدة التي صورت «السفينة»، والتي أسهمت في نجاح هذا الكتاب (حتى وإن كان من المؤكد اليوم أن هذه المنحوتات ليست من أعمال دورِر)، نجد أن إحداها تعطينا المفتاح لما سيحدث في اليوم الأخير على النحو التالي: بينما يقوم القديس بطرس في المقدمة باجتذاب سفينة مملوءة بالمؤمنين المُختارين نحو البَر، يجلس المسيح الدجال، المُستلهَم من الوحش المذكور في سفر الرؤيا، على عرش مُقام على سفينة محطمة ومقلوبة، صاريها في الماء، ويحيط بها مجانين يغرقون في حين يسعى آخرون جاهدين للوصول إليها. وقد حقق هذا العمل الأدبي لبرانت نجاحًا ساحقًا. ويعد هذا الكتاب، الذي جرت ترجمته واستكماله وتقليده، والذي استلهم منه الدعاةُ في مواعظهم، بمنزلة كتاب رئيس في الأدب الأوروبي في بداية العصر الحديث.

ويتكرر الموضوع نفسه لدى توماس مورنر عندما اقتبس الفكرة في كتابه «طرد الأرواح الشريرة من المجانين»، الذي تم تأليفه سنة ١٥١٢. ويؤكد توماس مورنر في هذا الكتاب، وبشكل أكثر وضوحًا من برانت، على هُوية الجنون والخطية. كما نجد الموضوع عينه في كتاب «انتصار الجنون»، الذي تم تأليفه في بداية القرن السادس عشر الميلادي. وعلى الرغم من أن الرسوم التوضيحية الواردة بهذا الكتاب تبدو أكثر فجاجة وأقل عددًا من تلك الواردة في كتاب «السفينة»، فإنها لا تقل عنها بلاغةً وتأثيرًا. فنجد المجانين، بلباسهم التقليدي، يقودون العالم منذ بدايات الأزمنة: «مع حواء، أم كل البشر.» وفينوس، بعد حواء، لم يكن لها دور قيادي قوي. وكانت تجلس على مَركَبة تقودها حيوانات شيطانية على هيئة تيوس، وكانت هذه الكائنات تقول: «عربة نقل الشهوة، لإرضاء الحمقى والسفهاء.» ومن جانبها، كانت فينوس تصدر الأوامر، فتقول عن نفسها: «دُعيت إلهة السفهاء؛ لأنني أدعو إلى الفسق وشهوات الحب.»

وتتجلى مقاربة مُعبِّرة إلى حد كبير من خلال كتيب ظهر في عام ١٥٣٩م بعنوان «انتصار السيد العظيم والقوي: الزُّهْرِيِّ»، ويُعد بمنزلة طِباق حقيقي لكتاب «انتصار الجنون». وفي عام ١٤٩٥، انتشر مرض مخيف وجديد في أوروبا. إنه مرض «الزُّهْرِي»3 الذي ظهر، إذا جاز لنا التعبير، في الوقت المناسب. وقد ألف الفارس أولريخ فان هيوتن، بعد إصابته هو نفسه بالزُّهْري، كتابًا عن هذا المرض في عام ١٥١٩؛ حيث نفث عن غضبه الشديد في صورة لعنات قائلًا: «يتلذذ الله بإرسال هذا المرض إلى عصرنا بينما لم يعرفه قط أجدادنا. ويقول أولئك الذين يتحصنون بالكتاب المقدس: إن الزُّهري ناجم عن الغضب الإلهي.»

في الرسوم الواردة بكتاب «انتصار الزُّهْرِي»، نجد المجانين ماثلين، ويجرُّون المركبة التي يستقلها السيد الجديد لرومانسيات البلاط: «الزهري»، وذلك على شاكلة «سيد الجنون». وكما أن الحب يحكمه الزهري، فالعالم يحكمه الجنون. ونجد أن الصور الاستعارية والرمزية، التي كانت منتشرة في ذلك الزمن، والتي تشير دائمًا إلى الموت والتعفن والانحلال، حتى ولو كانت تزينها ألوان الشهوة المبهجة على وجه الخصوص؛ قد استعانت بدورها بصورة الجنون. وهكذا، في عام ١٥٤٠، صور لنا الفنان الماهر بيهام، والذي يضارع دورر في براعته، «مجنونًا» مرتديًا غطاء الرأس التقليدي المزين بجلاجل على شكل أُذُن حمار، وهو ينحني أمام امرأة ليقدم لها زهورًا. في العام التالي، في إعادة تمثيل للفكرة نفسها، قدم لنا الفنان المشهد عينه ولكن مع بعض التعديلات البسيطة بحيث بدا المجنون مُقَطَّب الوجه، يرتسم على ملامحه تعبير الموت؛ وبدلًا من الزهور، تلقت السيدة الجميلة ساعة رملية، وهي صورة تحمل رسالة ذات مغزًى مزدوج: أن الجنون والموت وجْهان لعملة واحدة، وأن الوقت يدمر كل شيء ما عدا الجنون.

في سياق أقل قتامة وكآبة، كتب إراسموس مؤَلَّفًا بعنوان «مديح الحماقة» ظهر عام ١٥١١. وقد شرح إراسموس منهجه الفكري المُتَّبع في إهدائه المُوَجَّه إلى توماس مور في مقدمة الكتاب كما يلي: «أردنا أن نرسمها [الرذيلة] بأسلوب مُضحِك وليس بأسلوب بشع وكريه.» مثلما حدث مع كتاب «السفينة»، يرجع جزء كبير من الفضل في نجاح ذلك الكتاب إلى الرسوم التوضيحية التي قدمها الفنان هولباين الصغير في بداية مسيرته المهنية. بيد أن إراسموس يبقى كما هو. فيصور الجنون، الذي يتخذ صورة امرأة (إلهة في الواقع) وهو يصعد على المنبر ليخاطب الإنسانية. ثم تشير هذه المرأة في خطابها المهيب إلى جنون الآلهة، وجنون البشر، دون أن تغفل النساء اللائي يتمثل جنونهن الأعظم في سعيهن إلى نيل إعجاب الرجال. وقد استهدف الكاتب من خلال كتابه رجال الدين والكنيسة بصفة عامة قائلًا: «تأسست الكنيسة على الدم، وترسخت بالدم، وكبرت بالدم.» كما انتقد بحس ساخر الممارسات الخرافية، ومن بينها رحلات الحج العلاجي. وعَدَّ في مرتبة المجانين كلًّا مِن علماء اللاهوت واليسوعيين، ولا سيما الفلاسفة الذين يُعتَبَرون في نظره الأكثر جنونًا لادعائهم الحكمة. خلاصة القول: الجنون هو سمة الإنسانية، و«كلما زاد حيز الجنون عند الإنسان، كان سعيدًا.»

ولكن، بصفة عامة، كان موضوع السَّوْداوِيَّة أو الكآبة هو الذي ألهم فناني النهضة أكثر من موضوع الجنون. نذكر، على سبيل المثال، لوحة آلبرخت دورِر الشهيرة «السوداء»، وهي عبارة عن لوحة منحوتة على قطعة نحاس، وقد أنجزها الفنان في سنة ١٥١٤، بالإضافة إلى لوحة الفنان كراناش الأكبر، ويوجد كثير من أوجه التشابه بين اللوحتين. يتجلى في هذين العملين الفنيين، ملاك خنثوي، كئيب وصامت، يبدو على ملامحه الإلهام والتفكير في إتمام عمل ما. إنها سوداوية أرسطو التي تعانقها العبقرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤