الفصل الأول

الإنجيل من منظور فوكو

عمدنا، منذ مقدمة هذه الدراسة، إلى الإصرار على أهمية كتاب ميشيل فوكو (١٩٢٦–١٩٨٤) «الجنون والخلل العقلي: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»،1 ذلك المُؤَلَّف المؤسس، الذي كان له الفضل في إنشاء حقيقة جديدة، والذي لا يزال يشغل حيز الدراسة النقدية كاملًا (الإبستمولوجية) للعلوم الإنسانية منذ بدء استخدام كلمة «جنون». فكيف يمكن دراسة مسألة احتجاز المجانين في ظل النظام الفرنسي القديم دون الرجوع أولًا إلى هذه الأطروحة؟ وكيف للمرء أن يدَّعي فهمه لما كتبه فوكو في الوقت الذي يستخدم فيه هذا المؤلِّف أساليب متعددة تتداخل عن عمد وقصد مع بعضها البعض؟ فأنَّى لنا أن نميز متى يكون فيلسوفًا، ومتى يكون عالِمًا اجتماعيًّا، ومتى يكون مؤرخًا؟ لذا، على شاكلة وقواق ديدرو الذي كان يمجد الفكر المنهجي، فإننا لن نركز في هذه القراءة إلا على الخطاب التاريخي فحسب — بما أنه يوجد بالفعل خطاب تاريخي — إذ إنه يمهد لتناول إشكاليات لم يعد بالإمكان تفاديها.

كيف نقرأ أطروحة ميشيل فوكو؟ بدءًا من مقدمة كتاب «الجنون والخلل العقلي»، يُصدَم القارئ بمدى صعوبة فهم ما يقصده المؤلِّف. حيث يفاجئنا دومًا على نحو غير متوقع بأسلوبه الشائق والرائع، وفكره الذي لا يقل عنه روعةً، وجدليته المُقنِعة، حسبنا فقط أن ندعي قراءة هذا العمل من منظور النقد التاريخي. يطرح فوكو بعض البديهيات، التي ما إن نسلم بها، حتى تقودنا طيلة قراءة ذلك الكتاب، كما لو كنا تقريبًا بصدد قبول قواعد لعبة سباق. بيد أن النرد مغشوش، منذ السطور الأولى. ماذا يعني فعليًّا ذلك القول المقتبس عن باسكال: «إن الرجال بالضرورة مجانين لدرجة أن عدم الجنون سيكون ضربًا آخر من ضروب الجنون»؟ وما المقصود بذلك القول الذي تلا الاقتباس السابق مباشرة، والذي جاء على لسان دوستويفسكي حين قال: «إن حبس جارك ليس هو السبيل لتتيقن من رجاحة عقلك»؟ ماذا تعني هذه العبارات الواردة بهذا الشكل، إن لم يكن المقصود منها أولًا تفنيد مفهوم الجنون نفسه، أو بالأحرى عدم التمييز بين ما يتبع الجنون المَرَضي وما يتبع الجنون بمعناه الفلسفي والأخلاقي؟ انطلاقًا من وجهة النظر هذه، قد يجمع الجنون بين كلا الاتجاهين. وفقًا لفوكو، ربما يكون الجنون إذنْ «واحديًّا»، بيد أننا سبق أن رأينا الجنون في العصور القديمة وهو يختلف تمام الاختلاف عن مثيله في العصور الوسطى.

ولكن ليست هذه هي المشكلة، فها نحن أمام هذه المُسَلَّمة المتعلقة ﺑ «غير المجنون»، ذلك المجنون الآخر «الذي يستخدم لغة تخلو من الرحمة»، والذي بَدَر منه يومًا ما سلوكٌ يتسم بالجنون. يتعلق الأمر ﺑ «إيجاد لحظة التآمر تلك». ومن ثم، إيجاد «نقطة انطلاق في تاريخ الجنون» — وبعيدًا عن كونها قديمة قِدم تاريخ البشرية نفسها — إلا أنها قد تكون جاءت بعده بوقت طويل، فقد ظهرت في «لحظة» ليست كغيرها: وهي لحظة «المؤامرة». لا مجال بالنسبة إلى فوكو للرجوع إلى العصور القديمة في هذا الصدد، على الرغم من أنه قد سبقت الإشارة إلى مدى أهمية هذه المرحلة فيما يتعلق بالأمراض العقلية. إن إشاراته النادرة إلى تلك الفترة جعلت منها حقبة زائلة، حتى لا نقول غير موجودة. هذه الجدلية قادت فوكو إلى الاستشهاد بنيتشه (الذي أعطى أيضًا الأفضلية للعقل على الحق) ليعلن، بأسلوب غليظ وقاسٍ، رفضه ونبذه للغرب وعقلانيته اللذين وضعهما، للبرهنة على صحة كلامه، في مقابلة مع الشرق المؤيد ضمنيًّا لمذهب اللذة والمتعة. فها هو ذا الإنسان الغربي يقف متهمًا: «إن الإدراك الحسي لدى الإنسان الغربي للزمان والمكان المحيطين به يكشف عن هيكلية للرفض، تتم من خلالها إدانة قول باعتباره لا يمثل لغةً، أو إيماءة باعتبارها ليست عملًا، أو شخصية ما كما لو كان لا يحق لها أن تأخذ مكانها في التاريخ.» ما يثير اهتمام فوكو، وما يودُّ رؤيته، هو القرار (وتوقيت ذلك القرار) الذي يربط ويفصل بين العقل والجنون.

يشدد فوكو على أنه لا يريد استعراض تاريخ الطب النفسي، وإنما تاريخ الجنون نفسه «في عنفوانه، قبل أن تكبح المعرفة جماحه.» ولكن، ما هي التواريخ، أو على حد تعبيره، ما هما الحدثان اللذان سيستند إليهما في بحثه؟ «١٦٥٧» (في الواقع ١٦٥٦): «إنشاء المستشفى العام والاحتجاز الكبير للفقراء»، «١٧٩٤» (في الواقع ١٧٩٣): «إطلاق سراح المُكبَّلين في بيسَتْر». إنهما حدثان يشكلان بالطبع (ضمن وقائع أخرى) لحظاتٍ حاسمةً في تاريخ الاعتقال، ومن ثم في تاريخ الطب النفسي. بين هذين التاريخين، كان هناك انتقال «من تجربة القرون الوسطى والخبرة الإنسانية في شأن الجنون إلى تلك التجربة المستندة إلى خبرتنا الخاصة، والتي تؤطر الجنون ضمن حدود المرض العقلي. إبَّان العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، كان الجدل الدائر بين الإنسان والخَبَل جدلًا دراميًّا يضع الإنسان في صدام ومواجهات مع القوى الصماء في العالم؛ وهكذا كانت تجربة الجنون محفوفة بالصور المتعلقة بالسقوط والكمال، والوحش، والتحول، وبجميع أسرار المعرفة المثيرة للدهشة. أما في عصرنا الحالي، فإن تجربة الجنون يغلفها الصمت ويحيط بها هدوء المعرفة التي نَسِيتْها بعد أن استغرقت في بحثها وعرفت عنها الكثير.» نستنتج من ذلك أن الجنون «السابق»؛ أي الجنون النابع من الحُمْق (الاختلال العقلي في العصور الوسطى)، كان ذا طبيعة خاصة وبنية مختلفة جذريًّا عن الجنون «اللاحق» النابع من العقل (العقلانية في العصر الكلاسيكي). هذه المقدمة، التي تنتهي على ذلك النحو، ليست إلا تمهيدًا لبرهان تاريخي طويل أفضى، في الجزء الأول، إلى كتابة أطروحة نالت شهرة واسعة عن «الاعتقال الكبير» — وهو تعبير أوجده ميشيل فوكو عبر مصطلح «الاحتجاز» التاريخي — حيث قررت السلطة المَلَكية، باسم العقل، أن تسجن، سياسيًّا، المجنون.

كانت الفكرة الأولى التي وردت في الفصل المُعَنوَن «سفينة الحمقى» هي: مع اختفاء مرض الجذام في نهاية القرون الوسطى، وانتفاء الحاجة إلى مشافي الجذام، أُفسِح المجال لظهور «انبعاث جديد للشر، ووجه جديد للخوف، وطقوس سحرية متجددة للتطهير والإقصاء […]» في البداية، حلت الأمراض التناسلية محل الجذام، ولكن «الإرث الحقيقي للجذام […] يكمن في ظاهرة أشد تعقيدًا لم يكتشفها الطب إلا بعد وقت طويل؛ ألا وهي الجنون.» وقد ذكر فوكو «الصور الرئيسة» للجنون، وذلك قبل أن «تجري السيطرة عليه، نحو منتصف القرن السابع عشر.» يبدأ فوكو بسفينة الحمقى، ويرى أنها ليست رمزًا فحسب وإنما حقيقة واقعية أيضًا: في العصور الوسطى، كان المجانين المطرودون من المدينة، يُعهَد بهم أحيانًا إلى بعض البحارة والسفن، التي كانت مخصصة هذه المرة بشكل كامل للقيام برحلات الحج العلاجية، وربما كانت هذه السفن، على حد قوله، تجوب أنهار أوروبا صعودًا ونزولًا. يرى فوكو أن هذه الرحلات الإقصائية، تمثل «طقوسًا للنفي». يمزج فوكو، في إيجاز مثير للدهشة، بين جنون الخطيئة وجنون المرض كما لو كانت القرون الوسطى لديها، مرة أخرى، مفهوم «واحدي» للجنون.

بيد أن هذه «الواحدية» الخاصة بالجنون لا وجود لها إلا لدى فوكو. ويتناقض هذا المذهب بشكل مطلق مع النزعة الثنائية التي طالما فرقت بين ما هو فلسفي وأخلاقي وديني من جهة، وبين ما هو طبي من جهة أخرى (وهكذا فإن «المخ الذي يعاني خللًا بفعل الأبخرة السوداء المنبعثة من الصفراء»، كما ورد في «تأملات» ديكارت، يتبع المجال الطبي). مع ذلك، سوف يستخلص فوكو مما سبق استنتاجات حاسمة، وسيعمل جاهدًا على الانتقال مباشرة إلى الحديث عن إنشاء دور الحجز في القرن السابع عشر باعتباره «أحد علامات مجيء عصر العقل». وهكذا نصل إلى الفصل الحاسم (الفصل الثاني: «الاعتقال الكبير»): «فقد أعاد عصر النهضة إلى الجنون صوته، ولكنه تحكم في عنفه، وسيأتي العصر الكلاسيكي لكي يسكته بقوة غريبة.»

ها نحن إذن، أمام حيلة جديدة للخداع والمراوغة، على الصعيد نفسه المتعلق بالاحتجاز وخاصة احتجاز المختلين عقليًّا: «نعرف أن المختلين عقليًّا كان يتم إيداعهم المعتقلات بأوامر ملكية […] غير أنه لم يتم على الإطلاق تحديد وضعهم بدقة داخل هذه الزنازين، ولا تحديد معنى ذلك الاختلاط الذي كان يبدو وكأنه يمنح وطنًا واحدًا للفقراء، والعاطلين، والجانحين والمختلين عقليًّا […] منذ منتصف القرن السابع عشر، ارتبط الجنون بهذه الأرض الخاصة بالحجز، وبالسلوك الذي كان ينظر إليها باعتبارها بؤرته الطبيعية.» وقد استند فوكو إلى هذا التأكيد كما لو كان أمرًا بديهيًّا: «إن احتجاز المختلين عقليًّا يشكل البنية الأكثر وضوحًا في التجربة الكلاسيكية للجنون.»

انطلاقًا من هذه النقطة، يفكر ميشيل فوكو مطولًا في أمر المشفى العام بباريس الذي أُنشئ في عام ١٦٥٦: «إن المشفى العام لا يحتوي على أي فكرة طبية، لا من حيث اشتغاله ولا من حيث خطابه. إنه محفل من محافل النظام، النظام الملكي البرجوازي الذي كان منهمكًا في تنظيم أوضاعه في تلك الفترة في فرنسا.» خلاصة القول: «لقد اخترعت الكلاسيكية الاعتقال.» هذا الاختراع المتعلق بالحجز، الذي يشكل «لحظة حاسمة»، هو نتاج «رد الفعل الجديد إزاء البؤس». «فابتداء من هذه اللحظة لم يُعَدَّ البؤس حلقة ضمن جدلية الذل والمجد، بل أصبح مرتبطًا بثنائية أخرى هي اللانظام والنظام، ثنائية تصنف البؤس ضمن الشعور بالذنب.» ومن ثم، يستطرد فوكو قائلًا: إن العصور الوسطى كانت تنظر إلى البؤس باعتباره أمرًا مقدسًا في مجمله، وبدأت الكنيسة المشرِفة على حركة الإصلاح المضاد تميز بين الفقراء الجيدين والفقراء السيئين الذين ضم فوكو طائفة المجانين إليهم: «وتلك هي أولى الحلقات التي سيحصر ضمنها العصر الكلاسيكي الجنون.» عبر نزع طابع القدسية عن البؤس، انتفت بالتالي عن الجنون صفة القداسة (بعد أن كان ينظر إليه قبلًا باعتباره شيئًا مقدسًا). وبعد أن كان الباعث على الحساسية في التعامل مع الجنون دينيًّا، أصبح الدافع لها اجتماعيًّا. وأصبح له منذ ذلك الحين أفقًا ضمن النطاق الأخلاقي.

بالرجوع إلى «الحدث الحاسم» المتعلق بإنشاء المشفى العام ونظائره من المشافي الأوروبية، نجد أن فوكو يشدد على طابعه الحصري فيما يخص منع البطالة، «إنها اللحظة التي نُظِر فيها إلى الجنون باعتباره أفقًا اجتماعيًّا للفقر، وعدم القدرة على العمل، واستحالة الاندماج مع الغير […] وهكذا فقد انتُزِع الجنون من تلك الحرية الخيالية التي كانت في تزايد مستمر في سماء عصر النهضة.»

و«على الجانب الآخر من أسوار المعتقل»، في «عالم الإصلاحيات» كما أُطلق عليه (المذكور في الفصل الثالث) ماذا نجد؟ «أولئك الذين جرى توزيعهم، بتردد كبير وخوف، على السجون والإصلاحيات والمشافي النفسية أو عيادات الطب النفسي.» يشدد فوكو على أن الأمر لا يتعلق بإقصاء غير القادرين على الاندماج اجتماعيًّا، بقدر ما يتعلق بذلك «الفعل المؤسس للاغتراب»، ومن هنا جاء قوله: «إن إعادة كتابة تاريخ الإقصاء معناه القيام بأركيولوجيا الاستلاب. ذلك الحقل الاستلابي، الذي تم تسييجه فعليًّا بفضاء الحجز، حيث شَعَر المجنون داخله بأنه مقصي مثله مثل مجموعة أخرى من الكائنات تختلف عنه، في تصورنا، في كل شيء ولا وجود لأي رابط بينهما.» ذلك أنه لا يوجد، في عرف الاحتجاز، أي فرق بين هذه الفئات، إنما يجمعها «نفس العار المجرد»: «الفاسق» و«الغبي» و«الضال» و«المعوق» و«المختل عقليًّا» و«المنحل» و«الابن العاق» و«الأب المبذر» و«المومس» و«الأخرق». ويسترعي فوكو الانتباه إلى هذه النقطة تحديدًا: «إن الاندهاش من كونهم حبسوا المريض وخلطوا بين المجنون والمجرم لن يظهر إلا لاحقًا. نحن الآن أمام واقعة منسجمة.»

سوف نبين في الفصول التالية أن هذا المزج بين «الأشخاص غير الاجتماعيين» (حديث للغاية وينطوي على مغالطة تاريخية في معناه) والحمقى لم يكن موجودًا قط، ولن نخوض الآن في التفاصيل. أيتعين علينا أيضًا السير وراء فوكو، حين يؤكد أن «المصابين بالأمراض التناسلية كانوا ينتمون بالكامل، منذ الشهور الأولى لاعتقالهم، إلى المشفى العام»؟ هذا الخلاف ليس عبثيًّا؛ لأنه يطرح فرضيتين مختلفتين جذريًّا تتعلقان بطريقة إدارة وعمل المشفى العام. على العكس من ذلك، نجد أن المصابين بالأمراض التناسلية، كما عرضنا في كتاب «داء نابولي»،2 كان يجري طردهم بشكل صريح من المشفى العام ولم يتم قبولهم به إلا لاحقًا لعدم وجود مكان آخر يمكن وضعهم به (فلم تكن المشافي الرئيسة ترغب في قبولهم). هنا يتجلى الفرق بين التشغيل الأيديولوجي والتشغيل البراجماتي للمشفى العام، وهو ليس بالاختلاف الهيِّن.

ولكن لمَ التركيز على هذه النقطة الخاصة بالمصابين بالأمراض التناسلية، فقد خصص فوكو لهم عدة صفحات من كتابه؟ السبب يرجع إلى أنه، في المشفى العام والدور الصغيرة (حيث يوجد بالفعل مجانين، ومصابون بأمراض تناسلية، وتجدر الإشارة إلى الحرص آنذاك على الفصل بين الفئتين)، «على امتداد مائة وخمسين عامًا، سيخالط المصابون بالأمراض التناسلية المختلين عقليًّا داخل حيز واحد مُسَيَّج؛ وستظل آثار ذلك الاختلاط حاضرة لمدة طويلة، وستكشف، عند الضمير الحديث، عن تقارب غريب وغامض جعلهما عرضة لنفس المصير، ووضَعهما داخل النسق العقابي نفسه […] فباختراع فضاء الحجز داخل الهندسة الخيالية للأخلاق، اهتدت الحقبة الكلاسيكية إلى وطن، وإلى مكانٍ للخلاص المشترك من الخطايا المضادة للجسد ومن الأخطاء المنافية للعقل.» ربما تبدو هذه الجدلية جذابة ولكن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. في الواقع، كان النظام القديم ينظر إلى المصابين بالأمراض التناسلية باعتبارهم آثمين ومذنبين، ولكنه لم يكن ينظر إلى المجانين النظرة عينها. ما يثير اهتمام فوكو ليست الحقيقة بقدر ما هو الإدراك. ولم لا؟ ألا يملك الحرية التي يملكها الفلاسفة؟ تلك الحرية، التي من أجلها، يُغلِّب الفيلسوف الحسَّ (إدراكه الخاص وحسه الشخصي) على الحق. نأمل أن يطرح ذلك إشكالية في التاريخ.

تحول اهتمام فوكو عن المصابين بالأمراض التناسلية ليصبح منصبًّا على اللوطيين، الذين يمثلون فئة كان مصيرها الحتمي القمع الشديد في ظل النظام القديم (إلا إذا كان المتهم باللواط ينتمي إلى علية القوم أو إلى طائفة الأمراء الإقطاعيين). ما يريد فوكو إظهاره هنا هو تلك الصلة التي تربط الشذوذ الجنسي بالجنون: كان العصر الكلاسيكي قد رسم معالم الانقسام بين «حب العقل وحب اللاعقل». «ينتمي الشذوذ الجنسي إلى الفئة الثانية. وهكذا بدأ يشكل شيئًا فشيئًا درجة من درجات الجنون، ويحتل في العصر الحديث موقعه ضمن اللاعقل.» وهذا يعني إغفال حقيقة أن النظام القديم لم يكن يَعُدُّ الشذوذ الجنسي مماثلًا للجنون إلا بقدر محدود للغاية؛ لدرجة أن القضاء كان يعاقب على الفعل الأول باعتباره جريمة (كما يتضح ذلك على أي حال من خلال النصوص ونادرًا من خلال الوقائع الفعلية)، بينما لم تراوده قط فكرة معاقبة مجنون على خلل عقله.

أما فيما يتعلق بالحالات التي يُطعِّم بها فوكو أطروحته، فغالبًا ما جرى تفسيرها طوعًا على نحو خاطئ. هكذا يجسد تورين «ذلك المصير المثير للشفقة الذي طواه التاريخ في صمته»، «افتراض بائس لمرور عابر يرفضه المستقبل.» توحي هذه العبارات بأن تورين هذا لم يكن مجنونًا. بيد أن هذا الخادم العامل بالمنزل الكبير كان قد سمع أصواتًا تدعوه لقتل الملك، وذلك عقب هجوم داميان3 مباشرة. وقد حُبِس تورين في سجن الباستيل، واشتُبِه في البداية بتظاهره بالجنون، ثم تبيَّن أنه مجنون بالفعل، وبالتالي وجب نقله فيما بعد إلى شارنتون. يذكر فوكو حالة أخرى متمثلة في ديشوفور، الذي حُكم عليه بالإعدام في عام ١٧٢٦ لاتهامه باللواط، ولكن فوكو أغفل أن يضيف أن المُدان المذكور كان مقتنعًا (هذا ما أكده وهو على حبل المشنقة) أنه كان يقوم بتدبير وتنظيم عمليات اغتصاب جماعية لقاء المال لشباب كان يقوم أولًا بإسقائهم خمرًا ممزوجًا بأفيون. وقد نجا شركاؤه عبر قضاء بضعة أشهر في سجن الباستيل.4 ليس بالإمكان كتابة التاريخ إلا باحترام الوثائق والسجلات، في مجملها.

استكمالًا لعملية استكشاف الممارسات الجنسية المحكوم عليها بالانتماء إلى عالم اللاعقل في العصر الكلاسيكي، يضيف فوكو — إلى ما سبق ذكره — البغاء والفجور. يلي ذلك المتهمون بتدنيس المقدسات، سواء بالتجديف والقذف أو بالمس بالمقدسات الدينية وانتهاك الحرمات، حيث وُضِع هؤلاء أيضًا ضمن «عادات الاعتقال». وأخيرًا، نود أن نتمكن من تتبع فوكو حين يتطرق لاحقًا إلى معالجة قضية السحرة والمشعوذين، الذين أصبحوا في عصر العقل، «سحرة كذبة». هنا، تم اتخاذ خطوة فعلية أدت إلى حدوث انقسام وثورة، إن لم يكن في العقول، على الأقل على صعيد القانون. بيد أن فوكو يؤكد أن السحر «في ذاته لا يعد جريمة، ولا عملًا تدنيسيًّا»، ولم يعد يُحكَم عليه إلا «وفقًا لما تكشف عنه من غياب العقل.» بعيدًا عن الشيطان وبعيدًا عن أي دلالات لاعقلانية، أصبحت معاقبة المشعوذين الدجالين تتم بموجب القانون العام باعتبارها جريمة كفر وإلحاد وتدنيس مقدسات. وهكذا فإن النظام القديم، وبالأخص شرطة النظام القديم، لن يريا بعد الآن في السحر والشعوذة جنونًا، ومن هنا جاءت الصرامة في التعامل حيالهما. غير أن مثل هذا الخلط من شأنه أن يخدم أطروحة ميشيل فوكو، والتي وفقًا لها يكمن الخيط الرئيس للحجز في إصلاح الجنون بجميع أشكاله وصوره؛ حيث أصبح ينظر إليه على أنه صورة سلبية للعقل لا يمكن احتمالها.

بالإضافة إلى ذلك، يبدو لنا من الخطأ تاريخيًّا الحديث في القرن السابع عشر عن خطاب جديد بشأن العواطف. سوف نرى أن هذا الخطاب لم «يُفسَّر من منظور الطب النفسي» إلا في نهاية القرن الثامن عشر، ولم يكن له في البداية أي صلة بقضية الاحتجاز. في الواقع، يوجد هنا أمرٌ — من وجهة نظرنا — لا يسير على ما يرام. أيريد فوكو وضع المجانين بين جميع أولئك الحمقى الذين تستهدفهم عمليات الحجز والاعتقال؟ سنرى أن الحجز، بصرف النظر عن كون الكاتب يعزي إلى هذه الحركة أهمية لم تكن يومًا لها، لم يكن يهدف إلى معالجة قضية الجنون، وإنما إلى مواجهة مشكلة متأصلة تعود إلى وقت بعيد متمثلة في التسول والتشرد. أيرغب فوكو في أن يُظهر شخصية المجنون على نحو مفاجئ؛ وبالأخص المجنون المُبطَل عنه صفة القداسة؟ لقد رأينا أن المجنون بالمعنى المرضي كان موجودًا منذ أوائل العصور القديمة، وأنه لم يجرِ قطُّ إضفاء طابع القداسة عليه في مجتمعاتنا الغربية.

إن فك رموز خطاب فوكو يبدو أمرًا بالغ الصعوبة، حتى وإن كنا نمتنع عن إبراز التناقضات والتفسيرات الخاطئة، على الرغم من كونها مرتبطة جدليًّا بسياق الخطاب وبالبراهين المستخلصة منه (على سبيل المثال، يطلق فوكو مصطلح «ساخط» على المجنون والمجرم دون تمييز، بينما يُستخدم هذا التعبير للدلالة على المجنون الثائر، وذلك بالرجوع إلى الأصل اللاتيني للكلمة furor التي هي بمعنى «جنون»). وهكذا فإن القرنين السابع عشر والثامن عشر لا يكفَّان عن التداخل أحدهما مع الآخر، على الرغم من كونهما يمثلان فترتين مختلفتين تمامًا فيما يتعلق بالاحتجاز؛ ولذا اعتُمدت التقارير الصادرة (في وقت لاحق) عن تونون وهوارد وديبورت وبالأخص عن إسكيرول، والتي تحتوي على تصريحات إنسانية تعبر عن شعور كاتبيها بالاستياء والغضب حيال الوضع الإنساني المتردي لمؤسسات الحجز، باعتبارها مصادر تصف بموضوعية احتجاز المجانين. كما يتناقض تأكيد تلك «الحساسية الطبية» المبهمة، التي لم تنشأ إلا في ظل النظام القديم كتمهيد لتأكيد حالة الجنون الطبية التي ستصبح نتاجًا للفلسفة الوضعية في مطلع القرن التاسع عشر، مع الاكتشاف الذي ينسبه فوكو خطأً إلى عالَم فقهاء القانون والمتعلق بنمط تفكير طبي أصيل بشأن الجنون، ذلك التفكير، كما نكرر، الذي بدأ مع الثراء الذي نعرفه قبل عدة قرون من ميلاد المسيح.

ومن ثم سيكون عالم المختلين عقليًّا ابتكارًا خاصًّا بالعصر الكلاسيكي يجمع في طياته بين الجنون واضطرابات السلوك، بحيث يكون هذان الاثنان مرتبطَين به ارتباطًا وثيقًا ومدانَين عما يصدر عنه من أخطاء. وقد عزز من هذا الرأي الفكرة القائلة بأن العقل والجنون في العصر الكلاسيكي كانا يتبعان الحكم الأخلاقي، بحيث يكون الجنون «حتمًا سلوكًا لا إنسانيًّا»؛ ولذا لا يمكن معالجته بأسلوب إنساني. ويستفيض فوكو في الحديث عن الطبيعة الحيوانية للمجنون وما يرافقها من أقفاص وقيود، قائلًا: «في العصر الكلاسيكي، شكَّل هذا الطابع [أي الطبيعة الحيوانية للمجنون] تجليًا مدويًا تحدد داخله المجنون باعتباره ذاتًا غير مريضة.» هذه أكذوبة تامة. وقد تحققنا منها في القرون الوسطى، كما سنفعل الأمر عينه بالنسبة إلى النظام القديم.

هناك فكرة أخرى أكثر عمومية، ولكنها محورية لدى فوكو: «إن اعتقال المختل عقليًّا مع المنحرف أو المهرطق يحد من واقعة الجنون، ولكنه يكشف عن إمكانية اللاعقل الأبدية. وهذا التهديد، في شكله المجرد والكوني، هو ما حاولت ممارسات الحجز التغلب عليه.»

في الجزء الثاني من أطروحته، ينحي ميشيل فوكو جانبًا قضية الاحتجاز (الاعتقال الكبير) ليتعمق في التفكير الإبستمولوجي المعرفي بشأن معرفة الجنون في العصر الكلاسيكي. في الفصل الأول (المجنون في حديقة الأنواع)، يؤكد فوكو أن الجنون الذي كان سائدًا في القرن الثامن عشر (وهذه المرة نحن نتحدث بالفعل عن الجنون بمفهومه المَرَضي)، والذي «فقد الكثير من صفائه»، لا يمت بصلة لذاك الجنون القائم على «الفصل الصارم» في عصر النهضة. وهكذا «فإن فضاء التصنيفات ينفتح دون صعوبة على تحليل الجنون، والجنون بدوره يجد موقعه بشكل ذاتي من داخله.» للحفاظ على هذا الموقع، لا بد من حجب مرض الروح من جديد في العصور القديمة: «إن التساؤل حول الفصل بين الروح والجسم لم يولد داخل الطب الكلاسيكي، إنه قضية تم استيرادها حديثًا استنادًا إلى قصدية فلسفية.» وهو ما يؤكده فوكو بجعله من ذلك «الشيء الذي يضع الجسم والروح كليهما موضع تساؤل»، «إشكالية أضيفت، بشكل متأخر نسبيًّا، إلى تجربة الجنون» (!) مما يبرر إذنْ «تركها جانبًا». إن إدراج الجنون في النوزوجرافيا الطبية لم يتم إلا في القرن الثامن عشر. بيد أن فوكو يجد صعوبة في شطب مساهمة القدماء بجرة قلم ويشير إليها، على الهامش، كأنها تتلخص في وضع «مفاهيم اصطلاحية بسيطة» (!) هكذا، تم اختزال النظريات الفكرية الرائعة بشأن المرض النفسي، والتي تمثل النتاج الفكري لأفلاطون وأرسطو ولوكريسيوس وسينيكا وجالينوس وكثيرين غيرهم في هذه العبارة.

يختتم فوكو هذا الجزء الثاني بالحديث عن «المواجهة بين الطبيب والمريض في العالم الخيالي للعلاج» (الفصل الرابع: «أطباء ومرضى»)، موضحًا أنه، كما كان الحجز والاستشفاء منفصلين عن الطب، كذلك «لم يكن هناك تواصل حقيقي بين النظرية والعلاج» داخل هذا المجال العلمي نفسه. على العكس من ذلك، رأينا من قبل إلى أي درجة كانت الممارسة العلاجية للجنون قديمة ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنظريات الطبية، ولا سيما نظرية الأخلاط البشرية: حيث كانت العلاجات المُفَرِّغَة أو الأدوية المكملة تُستخدم لعلاج الاضطرابات الكمية، وكانت طرق المعالجة الإخلافية تُستخدم للسيطرة على الاضطرابات النوعية. ليست هناك حاجة للتأكيد على الاتساق النظري للاستجابة العلاجية، بيد أن هذا الاتساق ليس بالضرورة مرادفًا للفاعلية. لم يظهر أي من هذا لدى فوكو الذي رأى، بالطبع، أن مثل هذه الاستمرارية تتعارض وما يقدمه في أطروحته. فجُل ما كان يهمه هو التأكيد على الطابع الوهمي لهذه الطرق العلاجية، مذكرًا في هذا الصدد باللجوء إلى «ترياق» لم يكن له وجود قط في تاريخ الجنون (حتى الخربق، الذي تكرر ذكره لدى لافونتين، لم يشكل قط ترياقًا ناجعًا، إنما انتقل من كونه دواءً مطهرًا قوي المفعول إلى كونه مجرد صورة رمزية). كما يضيف فوكو إلى ما سبق الأفيونَ المعروف بخصائصه المهدئة منذ العصور القديمة، والمكونات الشعبية المختلفة (مثل مسحوق عظام الجماجم، والأحجار الكريمة) التي ورد ذكرها في البحوث الطبية الخاصة بالصيدلة والمستحضرات الدوائية في ذلك الزمن. على أي حال، ما يثير اهتمام الفيلسوف، ليس هو استعراض تاريخ الطب الثابت والمقرر (وإلا، فما الفائدة من بحثه وتناوله؟) وإنما «المخطوطات الرمزية التي ظلت حية تعاند الزمن، في طرق العلاج في العصر الكلاسيكي.» في الفصل الذي يتناول «معالجة الجنون»، سنتوقف مطولًا عند هذه المسألة، وخاصة لبحث المعالجة المعنوية التي ينفي فوكو وجودها في القرن الثامن عشر، ليضعها بالأحرى في سياق القرن التاسع عشر في إطار الاتجاه «الأخلاقي» والمذهب «الوضعي» (وهو ما يشكل هدفه الأساسي)؛ حيث «ستنتظم السَّيْكولوجيا (علم النفس)، باعتبارها وسيلة للشفاء، حول العقاب.»

•••

أما الجزء الثالث والأخير من أطروحة ميشيل فوكو، فقد كُرِّس لظهور الطب النفسي في «القرن التاسع عشر الوضعي». وسوف نقرؤه بالتفصيل عندما يحين الوقت لذلك، حرصًا منا على الحفاظ، في هذه الدراسة الممتدة على فترة زمنية طويلة، على مخطط زمني بحت. وسيتعين أيضًا وضع النتاج الفكري للفيلسوف المتمثل في هذا المُؤَلَّف ضمن نطاق الموجة المضادة للطب النفسي التي امتدت فيما بين عامي ١٩٦٠ و١٩٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤