الفصل الثالث

دُور الاحتجاز الجبري تتسلم الراية

سرعان ما رأت السلطة المَلَكية الحاكمة (أي الدولة) أن الحاجة أصبحت ملحَّة لإيجاد بدائل للاحتجاز. وهو ما قاد في «القطاع العام» إلى إنشاء مستودعات للتسول، في أواخر حكم الملك لويس الخامس عشر، كامتداد مباشر للمشفى العام. وسنتناول هذه النقطة بالتفصيل لاحقًا. أما بالنسبة إلى «القطاع الخاص»، فقد تسلمت دور الاحتجاز الجبري الراية. منذ بداية القرن السابع عشر، بدأت العائلات، ولكن بأعداد قليلة، في إرسال أبنائها أو بناتها السيِّئي السلوك أو المنحلين أخلاقيًّا إلى هذه الدور بغية إصلاحهم، كما كان يُرسل إليها أيضًا الأزواج السيئون السكارى، وذوو السلوك العنيف، والمبذرون، والزوجات السيئات الفاسقات، والأرامل ممن لا يزلن في ريعان شبابهن واللائي يتعرضن لإغراءات قد تؤدي إلى تورطهن في زيجات غير موفقة، والجانحون المستترون الذين على وشك الوقوع في يد العدالة مما سيتسبب في إلحاق الخزي والعار بأهلهم، وأخيرًا المجانين. وهذا هو المكان الذي كان ينبغي، طوال عهد النظام القديم، البحث فيه عن المجانين، بدلًا من المشفى العام حيث لا يوجد إلا المُعْوِزون وفقًا لتعريف الكلمة. يُذكَر أن المشافي العامة المنتشرة في أرجاء المملكة هي أبعد ما يكون عن أن تشكل أماكن ضخمة للاحتجاز؛ فهي لم تكن تحوى في أواخر القرن السابع عشر إلا ٥٪ من الحمقى، وذلك قبل أن تصل هذه النسبة بشكل استثنائي إلى ١٠٪ في باريس في أواخر القرن الثامن عشر (مقابل نسب ضئيلة في الأقاليم)، بالإضافة إلى الأبراج المُشَيَّدة فوق الأسوار والسراديب، والتي كانت لا تزال تُعد أماكن احتجاز لبعض المجانين منذ القرون الوسطى. تلك حقيقة واقعة، ولا سيما أن دور الاحتجاز الجبري هي التي تمثل الجزء المغمور من الجبل الجليدي، في حين تمثل مؤسستا سالبيتريير وبيستر الجزء الظاهر والخَدَّاع منه. اختلفت الإجراءات المتبعة في منازل الاحتجاز الجبري، أو الإصلاحيات، عن سواها؛ إذ كان يتعين على العائلة أن تتقدم بطلب مفصَّل لالتماس قبول الحالة مُرفق بتعهدٍ بدفع نفقات الإقامة.

وكان الخطاب المختوم الذي يحمل أمرًا ملكيًّا استبداديًّا هو الوثيقة القانونية اللازمة لوضع الشخص في إحدى دور الاحتجاز الجبري. إن الأمر الملكي،1 بوصفه إجراءً معقدًا يعبر عن الإرادة الشخصية للملك، لا ينحصر في كونه مجرد أسطورة سوداء تداولتها الألسن. كانت هذه الأوامر المَلَكية مقتصرة في بداية الأمر على المبادرات التي يطلقها الملك وحده، ثم شاع استخدامها أكثر فأكثر في عهد لويس الرابع عشر، وازدهرت بشكل مذهل في القرن الثامن عشر حين اعتاد القائد العام لشرطة باريس (الذي جعل من هذه الأوامر المَلَكية «ملاذًا اعتياديًّا لضعفه») ومن بعده حكام الأقاليم؛ اللجوءَ إليها لاستصدار أوامر من قصر فرساي (بمعنى مقر الإدارة المركزية وليس بمفهوم قرارات مبنية على «إرادة ورغبة» الملك) باعتقال أحد «المرشحين» للإصلاح. ولكن، وراء مظاهر النفوذ المتعددة هذه، كانت العائلات في الواقع هي التي تظهر طوال القرن الثامن عشر باعتبارها المُطالب الرئيس بإصدار الأوامر المَلَكية (في أكثر من ٩٠٪ من الحالات). فعلى سبيل المثال، في منطقة كاين الإدارية (التي تمثل حاليًّا إقليم المانش والنصف الغربي من إقليم كالفادوس)، تُقدَّر نسبة الملفات التي صدر بشأنها أوامر ملكية خلال القرن الثامن عشر بناءً على طلب إحدى الجهات التي تتمتع بالنفوذ (الملك، أو الوزراء، أو الكنيسة) ٢٫٢٪ من إجمالي الملفات البالغ عددها ١٧٢٣، بينما صدرت جميع الأوامر المَلَكية الأخرى في باقي الحالات بناءً على مبادرات فردية تقدمت بها العائلات في أغلب الأحيان والمجتمعات السكانية في أحيانٍ أخرى.

يرجع نجاح الأمر الملكي إلى سرعته وفي الوقت نفسه إلى سريَّته. فالعائلات التي كانت تسعى للحصول عليه، يحركها دائمًا حالة طارئة ورغبة ملحة في إنقاذ الموقف؛ إذ تكون هذه العائلات، على حد قولها، في كل مرة، على شفا تجرع مرارة الخزي والعار: «سيادة الملك، أسرة محترمة من مدينة ليزيو، يتهددها كل يوم خطر الخزي والعار الذي قد يُلحق بها بسبب أحد الرعايا المنحرفين، تلتمس شرف الاستظلال بحمايتكم.»

طلبات الاعتقال

في هذه الدوامة الجديدة، التي تلت دوامة المشفى العام، سوف يتم ابتلاع الحمقى غير المُعْوِزين وغير المشردين، بعبارة أخرى الغالبية العظمى من المجانين. ومع ظهور منازل الاحتجاز الجبري، برزت إمكانية جديدة لإيواء المجانين. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن ممكنًا أن يكون هناك في ذهن مقدمي الطلبات، بل وفي ذهن السلطات العامة أيضًا، أدنى خلط بين «المرشحين» للتأديب والإصلاح الذين يعدون عناصر سيئة يلومها المجتمع، والحمقى، الذين يُنظر إليهم كمرضى يشفق عليهم المجتمع. هذا يعني أنه، فيما يتعلق بهذه الفئة الأخيرة، كان يجري التعامل بحذر شديد وإظهار قدر كبير من التيقظ حيال مقدمي الطلبات.

يجب أن تكون العريضة المرفوعة للحصول على أمر ملكي بسبب الجنون — والمقدمة إلى حاكم المنطقة الإدارية أو إلى وزير الديوان الملكي — مُفَصَّلة وجماعية. فنجد على سبيل المثال أحد الآباء يقوم بسرد السلوكيات العنيفة التي صدرت عن ابنه ذي الخمسة والعشرين عامًا، وتهديداته بالموت. ولا بد من وجود ما لا يقل عن اثني عشر توقيعًا، من ضمنها توقيعات الأقرباء، أسفل العريضة. ثم يشهد كاهن الأبرشية بخط يده على أن الشخص المعنيَّ مصاب ﺑ «اختلال عقلي يصحبه هياج». ونادرًا ما كان يتم إرفاق شهادات طبية بهذا الطلب؛ نظرًا لأن الأمر لم يكن يتعلق بالتشخيص وإنما بالتصرفات والأفعال. نستشهد على سبيل المثال في هذا الصدد بإحدى الوقائع حين اجتمع سكان بلدية لينتو، بمنطقة روان الإدارية، في الكنيسة يوم الأحد الموافق ١٩ نوفمبر ١٧٨٦ عقب صلاة القداس للاتفاق على بنود عريضة مرفوعة للحصول على أمر ملكي ضد المدعوة ماري برونيه، إحدى رعايا الأبرشية. نقتبس بعض العبارات الواردة في نص العريضة على النحو التالي: «لقد أصابها جنون يجعلنا نخشى على حياتها وعلى السلامة العامة. لقد ألقت بنفسها أكثر من مرة في النهر وحاولت أكثر من مرة إضرام النيران في المباني التابعة للأبرشية المذكورة.»

يسعى مقدمو الطلب للحصول على محضر إثبات حالة؛ ولذا نجد أن الألفاظ المستخدمة تدل على حالة جنون بَيِّن، بدءًا بكلمة «جنون» ومشتقاتها المختلفة («خطير»، «نوبات») وأيضًا «بَلَه، وخَرَف، وخَرَف يرافقه هيجان، وهياج، واستلاب واختلال عقلي، والإصابة بفتنة تطير الصواب، وفقدان الرشد، وفقدان تام للقوى العقلية». نقرأ في موضع آخر العبارات التالية: «رأسه (الشخص المجنون) غير متزن تمامًا؛ مما يجعل التعرف عليه سهلًا للناظرين.» من الجدير بالذكر أن المصطلحات الطبية الكلاسيكية مثل الهوس، والمَلَنْخُوليَا، والتهاب الدماغ المسبب لجنون الهياج، و«الاهتياج الرَّحِمِي»؛ كانت شديدة النُّدرة ولم تُذكر إلا في فترة لاحقة، بالإضافة إلى أنها لم تكن متطابقة مع أي تشخيص سريري محدد.

كانت العائلة المُقدِّمة للطلب ترفق به في كثير من الأحيان شهادة من قس أهل للثقة بحيث لا يمكن التشكيك في حسن نيته أو صدقه. فعلى سبيل المثال، في عام ١٧٣٥، أيد كاهن بلدية بريل، التابعة لأبرشية بوفيه، الطلب الذي تقدم به مزارع من أجل اعتقال ابنه «الذي أصيب باختلال عقلي» ونصه كالتالي: «أشهد، أنا الموقع أدناه، القس وكاهن الرعية […] أن المدعو فرانسوا تيبو، قد أصابه منذ ثلاثة أسابيع تقريبًا اختلال عقلي يتجلى لأعين الناظرين من خلال بعض التصرفات الشاذة والمخالفة للصواب التي تصدر عنه، الأمر الذي أصاب والده وعائلته بحزن شديد.»

في بعض الأحيان، كانت السلطة نفسها، ممثلة في شخص قائد شرطة باريس أو حاكم الإقليم، هي التي تتقدم بطلب الحصول على أمر ملكي كبديل عن الأسرة، إذا كانت غائبة أو غير معروفة. نذكر على سبيل المثال قضية مشابهة في باريس، ترجع إلى عام ١٧١٧، وهي حالة المدعو روسو الذي اعتُقِل مرتين من قبل وأثار شفقة المفَوَّض المسئول عن منطقته على النحو التالي: «إنه لا يأكل إلا قليلًا من الخبز ويشرب يوميًّا مقدار نصف ستية من الجعة الممزوجة بالماء، قائلًا إنه لا يشرب إلا الماء. يرتدي هذا الشخص ملابس رثة لدرجة أن الشحاذين في الشوارع يبدون أفضل حالًا منه […] إنه لأمر مثير للشفقة رؤيته بمثل هذا النحول والضعف الشديدين. أعظم عمل خيري يمكن القيام به تجاه هذا الشخص هو الحيلولة دون هلاكه.» وقد اتخذ ضابط الشرطة، بعد تلقيه مذكرات جديدة تتصاعد فيها نبرات القلق، قراره برفع طلب الحصول على أمر ملكي إلى الوصي على العرش.

بعد تلقي العريضة التي يقدمها المُدَّعون، يأمر الحاكم أو القائد العام لشرطة باريس بفتح تحقيق إداري دقيق. في عام ١٧٦٤، كتب الوزير بيرتن إلى الحكام قائلًا: «عليكم أن تحتاطوا كثيرًا فيما يتعلق بالنقطتين التاليتين؛ أولًا: يجب أن تكون المذكرات موقعة من الوالدين، ومن أقرباء الأم والأب. وثانيًا: يجب أن تستفسروا جيدًا عن الذين لم يوقعوا وعن الأسباب التي منعتهم من ذلك، والاستماع إلى وجهة نظرهم بالإضافة إلى التحقق الدقيق من صحة ما يقولونه.»

كان الإجراء المُتبع يقضي بانتقال نائب الحاكم أو أحد ضباط شرطة باريس إلى مكان وجود الحالة. ثم كان يجري استجواب الشخص المعني، والمدعين، والجيران، وأعيان ووجهاء المدينة. في تقرير صادر عام ١٧٤٦ عن الوكيل الموفد لمنطقة ألنسون الإدارية، نجد ما يؤكد ثبوت حالة جنون الابن لوفيفر على النحو التالي: «لقد أصيب منذ عامين بجنون حقيقي ومستمر يتدهور في كثير من الأحيان، فيتخذ صورة هياج متكرر وعنيف، لدرجة أنه كاد أكثر من مرة أن يقتل والده ووالدته. هذه الوقائع معروفة للجميع ولنا. ولقد قمنا بزيارته بحثًا عن مزيد من الإيضاح بما لا يدع مجالًا للشك، ووجدناه على هذه الحال المذكورة أعلاه.» كان الوالدان يقومان برعاية ولدهما ليلًا ونهارًا ويعملان على مداواته، ولكن لم يعد لديهما بنس واحد. قبل ثلاث سنوات، كان الوكيل الموفد عينه قد ذهب ليتحقق عيانًا من جنون رجل دين؛ إذ لم يعد في حالة تسمح له بأن يبقى تحت رعاية الخبازين الذين كانوا قد استضافوه. «يعاني رجل الدين المقصود من خلل ذهني تام وجنون حقيقي يشكل خطورة؛ سواء على صعيد الدار حيث يجري احتجازه عند مقدمي الالتماس، أو على صعيد الجوار في حالة هروبه.» بيد أنه لا يوجد مكان ملائم لاستقباله في منطقة ألنسون الإدارية بأكملها؛ ولذا يقترح وكيلنا الموفد على الحاكم الالتجاء إلى الدور الباريسية، «التي اعتادت استقبال الرجال الذين يصيبهم مكروه مماثل، وخاصة رجال الدين.»

غالبًا ما كان الجنون يتجلى فارضًا نفسه بشكل واضح: «وفقًا للإجابات التي أعطاها (المريض) عن الأسئلة التي طرحت عليه، من المؤكد أنه ما زال مختلًّا عقليًّا.» «من الصعب أن نتصور أن هذه الثرثرة التي تحوي كلامًا غير مرتب ولا تتمة له ليست صادرة عن شخص مختل عقليًّا.» ولكن، نجد مرة أخرى أن تشخيص الحالة تم استنادًا إلى الإدراك السليم والتفكير المنطقي المشترك وليس استنادًا إلى إثبات حالة طبية. وبالطبع، هذا لا يمنع توخي اليقظة. ونظرًا لأن معظم الحالات كانت مستعجلة؛ كان قصر فرساي غالبًا ما يقوم بإرسال الأوامر المَلَكية دون إبطاء ومن دون انتظار ذهاب الحاكم أو ضابط الشرطة للمعاينة، بيد أن هذه الأوامر كان دائمًا ما يُرفق بها توصيات كتلك التي أرفقت بالأمر الملكي الصادر في عام ١٧٧٩ على النحو التالي: «برجاء عدم تنفيذ هذه الأوامر المَلَكية إلا بعد التأكد بالتحديد من أن حالة السيد بلونديل تقتضي فعلًا اتخاذ هذا التدبير الاحترازي حياله.»

ومما يدل على يقظة السلطات، أنه لم يكن من غير المألوف رفض إصدار الأمر الملكي أو على الأقل تأجيله (تم تأجيل طلبات في منطقة كاين الإدارية بنسبة تتراوح ما بين ١٥ و٢٠٪، وفي بروفانس بنسبة تتراوح ما بين ٢٥ و٣٠٪). نذكر على سبيل المثال حالة أحد النبلاء وهو السيد فير، الذي كان منفصلًا جسديًّا عن زوجته، وأرادت عائلته اعتقاله لإصابته بالجنون (فقد كان ينخس خيوله بالسيوف، ويريد أن يتلو صلاة القداس ويقوم بسب وإهانة القس). ولكن التقرير الصادر عن حاكم كاين، في أغسطس ١٧٦٧، يقول شيئًا مختلفًا: «أنا مقتنع أن المصلحة وحدها والعداوة هما الدافع لاتخاذ هذا الإجراء. وعدا ذلك، فإن هذا الشخص يملك عقلًا محدودًا بحيث يمكن مهاجمته مع الإفلات من العقاب، ولكن لن يكون هناك أمر ملكي.» في عام ١٧٦٣، كتب الوكيل الموفد تقريرًا إلى حاكم روان بشأن التحقيق الذي أجراه، قال فيه: «صحيح أن المدعو بليزو يبلغ من العمر حوالي ٧٦ عامًا وأن هذه السن، إضافة إلى ماء الحياة (مادة مسكِرة) الذي يشربه، قد أصاباه بحالة من الهذيان وضعف العقل والمزاج العكر، ولكنه لا يشكل خطورة بالمرة سواء على حياة أي إنسان، أو على حياته الشخصية، كما لا يُخشى أن يقوم بإشعال أي حرائق.» واختتم الوكيل الموفد تقريره قائلًا بأن زوجته وبناته هن اللواتي يُثِرْنَ معظم الوقت، بإهاناتهن، غضبه وانفعاله. ليس هناك ما يدعو بأي حال من الأحوال استصدار أمر ملكي. أما فيما يخص ذاك الشخص الآخر الذي ألقى بنفسه من النافذة، فيبدو «أن إخوته مسئولون عما أصابه بشكل كبير» (فدائمًا ما كانوا يقولون له: «اسْكُتْ! أنت لست إلا بهيمة لا تفقه شيئًا».) خلَص الوكيل الموفد فيما يتعلق بهذه الحالة إلى أنه يمكن استصدار الأمر الملكي، ولكن شريطة أن يجري علاج هذا الشخص ورعايته بعناية مع تقديم تقرير كل ستة أشهر عن حالته الصحية.

على كل حال، كان قصر فرساي دائمًا هو الذي يتخذ القرار النهائي، مطالبًا في كثير من الأحيان بمده بمزيد من المعلومات، بل ومعربًا من جانبه عن الشكوك التي تساوره حول صحة الطلب ومشروعيته. وهكذا في عام ١٧٥٥، فيما يتعلق بحالة المرأة التي أراد زوجها اعتقالها بسبب الجنون: «اعترض الوزير قائلًا: ألا يُعزى السبب الحقيقي والوحيد في فورات الغضب التي تصيب هذه السيدة إلى كونها قد أُجبِرَت على الذهاب للعيش عند أبناء أخيها وهي لا تريد ذلك؟» «إن الإكراه الذي يضغط على الإرادة يمكن أن يدفع الشخص إلى ارتكاب أكثر الأفعال شذوذًا وحماقة، ومن هنا يمكن القول: إن أي غضب عنيف يُعد جنونًا بما أن العقل لا يعمل بشكل سليم، ولكن لا ينبغي أن يدفعنا هذا إلى استنتاج إصابة الشخص بالاستلاب العقلي.»

كان الدفع الإجباري لنفقات الإقامة يشكل عائقًا آخر لا يستهان به؛ إذ كان يجب — في عريضة استصدار الأمر الملكي — تحديد المؤسسة المطلوبة وتكلفة الإقامة المناسبة، بيد أن العديد من مقدمي الطلبات كانوا يعانون من البؤس ويدَّعون احتجازهم للمجانين بلا مقابل. ولكن الإدارة لم تكن تستجيب لهم بهذه الطريقة. فلكَي يأكل المرء من «خبز الملك»، يجب أن يكون الملك هو الذي اتخذ مبادرة إصدار الأمر الملكي، وهو ما يُعد بعبارة أخرى أمرًا مستحيلًا أو شبه مستحيل في الأقاليم؛ ولهذا السبب لم تكن العديد من الطلبات تؤتي ثمارها. وإذا كانت حالة الجنون تشكل تهديدًا خطيرًا على الأمن العام، ينبغي إذنْ اللجوء إلى القضاء.

في بعض الأحيان، قد يصدر قرار اعتقال أحد الحمقى عن طريق السلك القضائي بدلًا من الحصول على أمر ملكي (ربما في ٣٠٪ من الحالات). وتتخذ هذه القرارات أشكالًا متنوعة. يشكل الحكم القضائي بالحجر خطوة تمهيدية مهمة، ولكنه لم يكن شائعًا نسبيًّا؛ نظرًا لأنه يتطلب خوض إجراءات شاقة ومكلفة. كما أنه يفترض أيضًا وجود مصالح مادية على المحك؛ مما يحتم تعيين قَيِّم. بعيدًا عن هذا الطريق الكلاسيكي القديم، كان بإمكان المجالس النيابية، والمحاكم المختلفة (محكمة المشرفين الملكيين، ومحكمة الإقطاعيين، والمحكمة الكنسية) النطق بأحكام الاعتقال. وهو النظام الذي كان يسري على وجه الخصوص في الحالات التي يكون الأحمق فيها واقعًا بالفعل تحت طائلة القانون. ومن المعروف أن مبدأ عدم المسئولية ينطبق دائمًا على المجنون، ولكن في القانون الجنائي، ينطوي هذا المفهوم على العديد من القيود. بادئ ذي بدء، يُحظر على القضاة الأوائل فتح أي تحقيقٍ خلال إقامة الدعوى متعلقٍ بحالة الجنون، وتختص البرلمانات2 وحدها بالنظر في هذه المسألة. ينبغي إذنْ لكي يُنظَر في قضية الجنون أن يتقدم المحكوم عليه باستئناف، وهو ما يُعد — بالنسبة إلى المختل عقليًّا، الذي يكون غالبًا بلا محامٍ وبلا عائلة — إجراءً بعيدًا كل البعد عن المنهجية. ثم هناك ثلاثة أنواع من الجرائم تعفي القضاء من فتح أي تحقيق بشأن الجنون؛ وهي الجرائم التي تكون ضد الملك، أو ضد الدين، أو ضد «الجمهورية» [الدولة]؛3 الأمر الذي أدى إلى الحكم، غالبًا في القرن السابع عشر أكثر منه في القرن الثامن عشر، على أكثر من مجنون مسكين بعقوبة الإعدام. نذكر على سبيل المثال إحدى القضايا التي تعود إلى عام ١٦٧٠، وهي قضية فرانسوا سارازان، ذلك المجنون البالغ من العمر ٢٢ عامًا والمحتجز عند والدته، والذي «ابتدع دينًا جديدًا» وكان يزعم أن ذبيحة القداس الإلهي عبادة أوثان. هرب سارازان، ووصل إلى باريس، ودخل كاتدرائية نوتردام، واستمع في خشوع إلى صلاة القداس الأول، ثم إلى صلاة القداس الثاني. عند رفع كأس القربان، اندفع ممسكًا بالسيف في يده وحاول أن يخترق القربان بالسيف، وأن يقطعه؛ مما تسبب في إصابة القس بجرح وإيقاع حُقَّة القربان. حينما أُلقِي القبض عليه، وتمت محاكمته، أوضح في هدوء أنه أراد أن يمنع عبادة الأوثان. إن جنون سارازان كان بَيِّنًا بما لا يدع مجالًا للشك، وكذلك الحُكم أيضًا. وبعد أن صدر ضده حكم يقضي بإرساله إلى المحرقة، كان يتعين عليه أولًا أن يقر بذنبه ويعتذر جهارًا أمام بوابة كاتدرائية نوتردام؛ حيث قام الجلاد بعدئذٍ بقطع معصمه الذي دنس المقدسات، «ولكن دون أن يصدر عن المجنون أدنى صرخة، بل على العكس ابتسم لدى رؤية ذراعه وقد أصبح بلا يد!»4 لقد أراد بالفعل أن يستغفر الله باعتباره آثمًا، ولكنه لم يرد أن يطلب من الملك الصفح عنه؛ نظرًا لأنه لم يكن يعترف البتة بصحة مثوله أمام القضاء؛ ولذا اقتيد إلى المحرقة وأُشعِلت فيه النيران «ولم يسمعه أحد يشكو». لم يكن المجرم هنا هو مَن يُبتغَى عقابه بقدر ما كان الجُرْم نفسه هو ما يُراد معاقبته عن طريق المُذنِب. ففي ظل النظام القديم، كانت الأخطاء الكبرى يُعاقَب عليها بعقوبات كبرى أيضًا.

بعيدًا عن هذه الجرائم المتعلقة بتدنيس المقدسات، كان القتلة «البسطاء» يفلتون من عقوبة الإعدام في حالة الإقرار بإصابتهم بالجنون، ولكن ذلك كان يتم بعد الحكم عليهم بالموت: هذا؛ لأنه قتل خادمته على خلفية الإدمان المزمن للكحول، وذاك؛ لأنه اغتصب فتاة تبلغ من العمر ١٦ عامًا، وكان — وقت ارتكاب الجريمة — في حالة جنون وهياج شديد، لدرجة تحتم معها ضربه بالعصا ضربًا مبرحًا، أو آخر أطلق الرصاص على أخيه فأرداه قتيلًا، وكانت هناك رغبة في الاعتراف «بالخلل الذي أصاب ألياف مخه». بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من جرائم قتل الأطفال الرُّضَّع، ولكن في هذه القضايا على وجه الخصوص، كان لا بد من أن يكون الجنون جليًّا ومُثبَتًا؛ لأن العدالة لا ترحم حينما يتعلق الأمر بالجرائم الشنيعة. وفي بعض الأحيان، كانت العائلات تحاول أن تأخذ زمام المبادرة، مثلما حدث في قضية ذلك المُزَوِّر الذي كان صدور حكم الإعدام ضده أمرًا محتَّمًا. ما وراء الحُجَّة الكلاسيكية المتعلقة بإلحاق الخزي والعار بعائلة محترمة، تأتي حُجَّة أخرى أكثر مكرًا، تجلت في قضية ذلك النجار نصف المعتوه، الذي انضم، وهو أب لأحد عشر طفلًا، «بالقوة» إلى عائلة في مستوًى اجتماعي أعلى من مستواه، وارتكب جريمة التزوير مدفوعًا بالفقر والبؤس، وضُبِط في أثناء محاولته الأولى لتزوير النقود؛ لأن التقليد لم يكن متقنًا للدرجة التي قيل معها إن مثل هذا العمل لا يمكن أن يصدر إلا عن شخص مجنون. يتضح من هذه القضية أن العائلة (أو بالأحرى المحامي) على دراية جيدة بأسلوب تفكير المؤسسة. فهم يدركون أن المجرم الأحمق، الذي يصدر ضده حكم بالإعدام ثم يجري العفو عنه، يبقى مسجونًا طوال حياته من دون أدنى إمكانية للخروج يومًا ما. وهكذا قضى النظام القديم، استنادًا إلى منطق قد يبدو قاسيًا اليوم، على خطر تكرار الجُرم. ومن ثم، اقترحت العائلة إبقاء مزورها الأبله محتجزًا في أحد السجون. وقد عَلَّق أحدهم بظرافة قائلًا: «لن يُخشى إذنْ أن تسفر محاولاته المتكررة عن زيادة مهاراته.» وبالفعل، حُكِم على مزورنا بالإعدام ثم تم العفو عنه وسجنه مدى الحياة.

العديد من الجانحين اليافعين، سواء أكانوا لصوصًا أم مثيرين للمتاعب أو للشغب، كانوا يرون عائلاتهم تتبع الأسلوب نفسه في استدعاء الجنون أمام المحاكم مع التشديد على السوابق والتاريخ المَرَضي. فهذا متهم «انتابته في شبابه نوبات جنون ودوار مختلفة، ثم عاودت الظهور مجددًا في الآونة الأخيرة بصورة مخزية للأسرة» (يتعلق الأمر بارتكاب سرقة). وذاك مجنون هائج أُلقي القبض عليه للتو، «وقد بدرت منه أفعال تستحق كل لوم وتوبيخ من جانب العدالة إن لم يُبَرَّأ لإصابته بالجنون» (١٧٧٨). بالنسبة إلى القلة التي أُقِرَّت حالتهم الجنونية، كان القضاء يعترف بعدم مسئوليتهم عن أفعالهم ويأمر بالاعتقال.5 تميزت بعض الطلبات بالصراحة، مثل ذلك الطلب الذي تقدم به مدير مدرسة ثانوية ضد جارته قائلًا على حد تعبيره أنها «مجنونة مثيرة للشفقة، ولكنها تسبب نهارًا وليلًا إزعاجًا للمنطقة بأكملها، ولي على وجه الخصوص.»

لا يوجد في القانون ما يُسمى بتنازع الاختصاص بين القرارات القضائية والأوامر المَلَكية. بالمقابل، كلما تقدمنا تدريجيًّا في القرن الثامن عشر، وكلما تحسن أداء أجهزة الإدارة المَلَكية، وجدنا أن قصر فرساي أصبح أكثر فأكثر تساهلًا حيال الموافقة على الاعتقالات التي قامت بها السلطات المحلية، والتي كانت لا تزال كثيرة نسبيًّا، وكان يجري تنفيذها دائمًا بدافع الحاجة الملحة. ومما لا شك فيه أن هذه الاعتقالات كانت تعطي بذلك ضمانات أقل، وتضفي طابعًا رسميًّا في كثير من الأحيان على ما كانت السلطة المَلَكية بصدد مقاومته بشدة وصرامة، والمتمثل في اعتقال شخص ما بالاتفاق بين مقدم الطلب وأحد منازل الاحتجاز الجبري.

من المنطلق نفسه، سعى قصر فرساي فيما بعد إلى مكافحة «أوامر القضاة الخاصة»، والتي كانت تُعد بمنزلة خطابات حقيقية مختومة صادرة عن النواب العموميين أو رؤساء البرلمانات. وقد جرى اعتقال العديد من المختلين عقليًّا بهذه الطريقة، كما حدث في الدور الصغيرة حيث كان للنائب العام لبرلمان باريس اليد العليا. بالطبع كان من شأن هذا الإجراء أن يوفر ضمانات جيدة. ومع ذلك، أثارت «هذه الأوامر الخاصة الصادرة عن القضاة» استياء قصر فرساي بشدة. في الرابع عشر من شهر ديسمبر ١٧٥٧، قام كونت دي سان فلورنتين، وهو وزير الديوان الملكي، بتوبيخ حاكم منطقة روان الإدارية على النحو التالي: «إن جلالة الملك، إذ أُحِيطَ علمًا، أيها السيد، بأن الأشقاء في دار سان يون يذعنون للأوامر الخاصة الصادرة عن القضاة، ويستقبلون بناءً على ذلك أبناء عائلات وآخرين لاحتجازهم بالقوة بحجة تلقي شكاوى من أهاليهم؛ يرى أن الحرية من أغلى وأثمن ما يملكه الإنسان؛ ولذا لا يحق لأي أحد أن يسلب رعاياه حريتهم خارج النطاق القضائي من دون أن يكون القضاء نفسه قد بحث بعناية الأسباب.» خلاصة القول أنه كان لا بد من الحصول على أمر ملكي دون سواه. بعد مرور أسبوع، دُعِيَ رئيس سجن سان يون للتوقيع على تعهد بهذا الشأن.

الدوافع

ولكن، من هو المجنون في نظر النظام القديم؟ أو بالأحرى ما الدافع الذي يؤدي في لحظة ما إلى صياغة طلب اعتقال؟ وما المساحة التي يحتلها الجنون في طلبات الاحتجاز؟ بالتأكيد، يحتل مساحة محدودة؛ بدليل أن العديد من المختلين عقليًّا كانوا من جديد يفلتون من التحقيقات. ففي نهاية المطاف، أولئك الذين ورد ذكرهم في السجلات المحفوظة لا يمثلون إلا الأقلية المضطربة والمزعجة على نحو مفاجئ. هذا من دون احتساب أولئك الذين كانت عائلاتهم تتدبر أمورها بشكل أو بآخر في التعامل معهم، عن طريق احتجاز المختل عقليًّا بصرامة في بعض الأحيان، وإخفائه دومًا عن أعين الجيران. ولا ننسى أيضًا أولئك الذين احتجزتهم أسرهم في بعض الأديرة بالاتفاق مع القائمين عليها.

لقد كان الجنون موجودًا من قبل بصورة شبه دائمة. إليكم جون شاتيل، ذلك الرجل «المصاب بالجنون» منذ سبعة أو ثمانية أعوام. «لقد استسلم لمعاقرة الشراب وأثَّر ذلك على دماغه الذي لم يكن قط غنيًّا بالتفكير السليم.» بعد أن تخلت عنه عائلته منذ ثلاثة أشهر، أصابه «جنون ساخط» وألقي في السجن «حيث صار كالمسعور». وإليكم حالة جاك دولاراك «المختل عقليًّا» منذ عامين، استضافته أخواته «على أمل المساهمة في شفائه»، ولكن بدلًا من أن تخف حدة جنونه، زادت. لقد «رفع سكينًا» على أخواته. وها هي ماري ديزوبرديار التي دفع جنونها أسرتها إلى طلب اعتقالها في عام ١٧٥٦، ثم أُلغي طلب استصدار الأمر الملكي في أثناء سير الإجراءات؛ «لأنها أصبحت أكثر هدوءًا». بعد ذلك بعامين، انتابت المريضة نوبات غضب عنيفة أكثر من مرة في الكنيسة؛ مما اضطر العائلة إلى تجديد إجراءات الاعتقال لسبب وجيه هذه المرة. أما فيما يتعلق بتلك المجنونة الفقيرة واليتيمة التي لم يذكر التاريخ لها اسمًا، بعد أن اندمجت بشكل جيد منذ عدة سنوات في مشفى بواتييه العام، حيث كانت تقوم بعمل نافع في المطابخ؛ إذا بها «تضايق المرضى بالمستوصف وتسيء معاملة الأخوات». في بداية الأمر، تم التعامل معها بصبر، ولكن بالتأكيد لم تستمر الحال هكذا، فلم يعد أحد يريد بقاءها: «لم نعد نريدها»، على حد تعبير أحدهم.

نذكر حالة أخرى تعود إلى عام ١٧٧٨ وهي حالة القس دينيس لوازيل (كانت طلبات اعتقال الكهنة شائعة، ولكن في الحقيقة كانت أفعالهم وحركاتهم، وبالأحرى تصرفاتهم السيئة محل اهتمام عام). «ظهر عليه، في السنوات السبع أو الثماني الماضية، ضلال ذهني.» كان يعيش بمفرده مع خادمته، التي أنجب منها طفلًا. لم يضع حدًّا للفضيحة إلا قرار التعيين الحكيم للقس في أبرشية باريس. ولكن «تملكته رغبة في العودة». وها هو لوازيل يعيش وحيدًا في غرفة، وقد أُعفِي من تلاوة صلوات القداس اليومية، ويحضر مسيرات الزياح مرتديًا القبعة على رأسه (وهو ما يُعد سلوكًا شائنًا على وجه الخصوص)، ومطلقًا شتائم ولعنات، ومدعيًا أنه يقوم بإعطاء دروس دينية، لدرجة أنه كان لا بد في كثير من الأحيان من إلقائه خارج الكنيسة. «وغالبًا ما كان يُلقي عظة أخلاقية متفردة، أو لنقل بالأحرى عبرة صادرة من مجنون.»

يُضاف إلى النمط الكلاسيكي للجنون الذي يعود تاريخه إلى سنوات عدة، ويتجلى فجأة في صورة نوبات انفعالية قد تشكل خطورة أو تضر بالنظام العام، جنونٌ من نوع آخر تعود جذوره إلى فترة أبعد من سابقه، ويتمثل في ذلك الجنون الذي غالبًا ما يكون هادئًا وخاضعًا تمامًا لسيطرة الأقرباء، إلى أن ينقطع رابط التضامن. يندرج تحت هذا الجنون قائمة أَتْرَابِيَّة طويلة تضم «الْبُلْهَ»، والمعاتيه غير المؤذين، والمصابين بالصرع الذين ترعاهم نهارًا وليلًا أمٌّ أو أخت. وعند إصابة هذه بعجز أو موت تلك، يكون لدينا مجنون آخر للاحتجاز. كما حدث مع ماري آن لوجويكس، ذات الخمسة والأربعين عامًا، التي كانت محبوسة في غرفتها منذ ١٤ سنة تحت رعاية والدتها، التي «استنفدت ثروتها سواء لتوفير نفقات رعايتها أو لشراء الأدوية من كل نوع؛ أملًا في التخفيف من شقائها.» بيد أن الوالدة، حين بلغت من العمر ٨٤ عامًا، أصبحت طريحة الفراش، ولم يعد في وسعها الاعتناء بابنتها. هناك أيضًا حالة أخرى تدعو للدهشة، وهي حالة «تلك الفتاة المعتوهة» البالغة من العمر ٢٠ عامًا، والتي كان يرعاها حتى هذه السن جدها الذي توفي للتو، فاقتادها أهالي قريتها حتى أوصلوها إلى مدخل مستشفى سان لو حيث تركوها هناك، مثلما كان يحدث في ذلك الزمان بالنسبة إلى الرُّضع الذين كانوا يُتْرَكون أمام الكنيسة. ونظرًا لأنها لم تعرف ما هو اسمها ومن أين أتت؛ ظلت المسكينة مزروعة في هذا المكان طوال اليوم حتى استقبلتها أخيرًا إدارة المشفى. بعد مرور ثمانية أشهر (كان ذلك في عام ١٧٨٦)، كانت لا تزال في المشفى. «إنها ليست مجنونة البتة، إنما بلهاء فحسب، [لكن] لا يمكن أن تمكث في مكان آخر غير المشفى.»

غالبًا ما كان يرد الحديث عن معالجة طبية سابقة على النحو التالي: «وفرنا لها في المراحل الأولى كل المساعدات الممكنة تحت إشراف طبيب ماهر […] ولكن دون جدوى.» نقرأ في موضع آخر: «لم تكن العلاجات مجدية.» يفسر ذلك سبب ارتفاع متوسط أعمار المرضى لدى دخولهم؛ إذ يبلغ ٣٠، بل ٤٠ عامًا.

في جميع الأحوال، يمكن أن تتلخص نقطة الانتقال الحرجة إلى عالم الاعتقال في العبارات التالية، كانت دائمًا تُستخدم: «لا تسمح له حالته بممارسة حريته»، أو «إنه (إنها) غير قادر (قادرة) على امتلاك زمام نفسه (نفسها).» أما إن أردنا، فيما وراء ذلك، إجراء دراسة تصنيفية لدوافع الاعتقال، يجب أن نستبعد أولًا الجنون الخطير الذي غالبًا ما يمثل الذريعة الأساسية (في أكثر من ٥٠٪ من الطلبات). هناك ذلك الصياد البحري، المدعو جون بيير ميفل، والذي كان مجنونًا ولكنه ليس ماكرًا، وقام في عام ١٧٨٧ بجرح أحد أنسبائه بضربة مجداف. وهناك شارل لوفير، الذي تسبب، في عام ١٧٥٤، في إصابة زوجته بجرح بالغ إثر إطلاق النار عليها في نوبة جنون، كما أطلق الرصاص على معلم بالمدرسة. بل إن بينيل نفسه أصاب زوجته بجرح «نازف»، وقيل عنه إنه: عندما تتملكه نوبات الهياج والغضب، لا يمكن إحصاء أفعاله العنيفة؛ فقد جَرَح حصانه بضربة منجل، وقتل خنزيرًا مملوكًا لأحد الجيران كان قد اشتبه في رغبته في أن ينهب حقله المزروع حنطة سوداء، وهدد شقيقته وكذلك أحد الحُجَّاب بالقتل. كما هدد أيضًا بإضرام النيران في كوخه وهو ما أثار بالأكثر مخاوف سكان القرية فتحالفوا على الإمساك به واعتقاله. نقتبس: «نعلم أنه مختل بما يكفي لينفذ ما هدد به.» في الحقيقة، الآثار التي يحدثها ليست ذات قيمة كبيرة، ولكن المنازل المجاورة ستتعرض لخطر، ومع انتقال النيران من منزل إلى آخر، قد يؤدي ذلك إلى إحراق القرية بأكملها. نذكر حالة أخرى لمجنون أكثر مرحًا ولكنه دفع الرعية إلى تقديم عريضة التماس لاعتقاله؛ لأنه «يريد أن يشعل النيران في القرية للاحتفال بعيد القديس يوحنا». لقد كان الحريق واحدًا من أهم بواعث القلق لدى النظام القديم، وكان يُنظَر إلى المختلين عقليًّا الهائمين على وجوههم باعتبارهم مشعلي حرائق محتملين. بعضهم أشعلوا النيران في منازلهم، ولا يهم الجيران إن كان فعلًا مُتَعَمدًا أم حادثًا عرضيًّا بما أن النتيجة واحدة في الحالتين. آخرون كانوا يشعلون أُتُنًا حقيقية في أراضيهم المُسوَّرَة أو يتجولون ليلًا في مخازن الغلة وفي العَلاليِّ وهم ممسكون شمعدانًا في أيديهم. ماذا نقول إذن، حين نضيف إلى ذلك أن الحمقى كانوا يهددون بإحراق منازل أولئك الذين يحاولون التصدي لتصرفاتهم الجنونية الشاذة، أو معارضة أفعال السلب والنهب والتخريب التي كانوا يقومون بها!

إلى جانب عنف بعض المجانين الذين تخطوا مرحلة القول إلى مرحلة الفعل وهم قلة في النهاية، هناك مجموعة ضخمة ممن يمارسون العنف المحتمل ويركضون، نهارًا وليلًا، في كل مكان، يصرخون، ويَسُبُّون ويهددون بقتل أقاربهم. وقد أضاف أحد هؤلاء المجانين، الذي كان يهدد بصورة منتظمة بإزهاق روح القس، أنه لا يخشى العدالة؛ لأن الناس لا يكفون عن القول له أنه مجنون. وذاك آخَر كان يتجول دائمًا ممسكًا فأسًا في يده. أيتعين أن ننتظر (يجادل أولئك الذين يسعون إلى استصدار أمر ملكي) هذا المخبول حين يقتل أحدًا لكي نحرك ساكنًا، بينما سبق له أن هدد زوجته رافعًا عليها الفأس وهشم نافذته في أثناء إحدى النوبات؟ كانت فورات الغضب التي تنتاب الحمقى غالبًا ما تدفع الجيران إلى تقييدهم. نقرأ في أحد المواضع: «لقد كنا مُجبَرين على ربطه إلى السرير.» وفي موضع آخر: «لقد قيدناه بالجنازير في مخزن الغلة.» كان بعض الحمقى يقومون بتمزيق أربطتهم، وآخرون يلقون أوانيهم من النافذة. نشير في عام ١٧٣٧، إلى حالة المدعو فِرَّان، الذي كان مسالمًا إلى حد بعيد ولكنه مثير للقلق أيضًا، والذي أدت خسارته للعديد من الدعاوى القضائية «إلى المساهمة بقدر لا يُستهان به في إصابته بخلل عقلي». فقد انزوى في منزله، ولم يعد يخرج منه، وزَيَّنه بملصقات شائنة ضد جميع أولئك الذين يريدون إلحاق الأذى به، وهم كثر. وكان يتزود بالمؤن من خلال النافذة عن طريق تدلية كيس إلى أسفل ثم جذبه إلى أعلى وكان يدفع ثمن مشترياته عبر فتحة في الباب. يُقال: «إنه كان دائمًا مسلحًا وكان يُخشَى أن يُقدِم في لحظة يأس على ارتكاب أي فعل يضر بنفسه أو بغيره.»

يشكل المختلون عقليًّا الانتحاريون فئة على حدة؛ إذ يعانون من الاضطهاد، ويكونون فريسة للهلاوس، والهذيان والأوهام من كل نوع، وقلة في الواقع هم مَن كانوا يفشلون في محاولة الانتحار، سواء بإلقاء أنفسهم من النافذة أو بالشنق أو بالغرق. هناك أيضًا «القطع» (على حد تعبير وكيل موفد)، مثل ذلك التاجر من روان الذي قطع عنقه مستخدمًا مُوسى الحلاقة الخاص به، ثم نجا من الموت، وجرى تضميد جراحه ومعالجته، وانتهى به المطاف إلى إلقاء نفسه من النافذة بعد مرور ثلاثة أسابيع وكُتِب له هذه المرة عمر جديد أيضًا. ليست هناك حاجة على الإطلاق لتكرار واقعة مماثلة لتبرير الاعتقال.

هناك شكل آخر من أشكال الجنون، أكثر شيوعًا من الجنون الخطير، أو يُفترض أنه كذلك، يتمثل في الجنون الهائج والمثير للاضطرابات التي تخل بالنظام العام. نذكر على سبيل المثال أولئك الذين يتسببون بفضيحة أمام المكاتب. وأولئك الذين يركضون في الشوارع شبه عراة. والمخابيل على اختلاف أنواعهم. نقرأ في أحد التقارير الصادرة عن شرطة باريس في عام ١٧٠٧، العبارة التالية: «يتعذر تحمل هذا الجنون في أي مكان.» وكثيرًا ما كان ذلك الهياج مقترنًا بإدمان الخمر وبالثمالة، التي غالبًا ما كان يتم إثباتها: «مع استسلامه (أي المجنون) لزجاجة الخمر، فإنه يطلق العِنان لنفسه للقيام في الوقت عينه بكل أنواع التجاوزات»، «ضَعْفٌ يوميٌّ في الذهن يُحدثه الشراب ويرافقه تصرفات جنونية وسلوكيات شاذة من كل نوع.» لم يكن من النادر رؤية بعض المعاتيه غير المؤذين، الذين كان مرتادو الملاهي الليلية يجدون لذة دنيئة في جعلهم يشربون. «حتى الآن، لم يؤذِ (أيِ المعتوه) أحدًا.» أما فيما يتعلق بمدمن الكحول، ذاك الذي كان يعاني من الهلاوس ومن الاضطهاد، وكانت الشياطين تحدق به، فيقوم بإطلاق أعيرة نارية في الهواء لإبعادها، «يُخشَى أن يختلط عليه الأمر يومًا ما فيظن أحد جيرانه شيطانًا.» هناك أيضًا المصابون بالهذيان المميزون، ويُقصد بهم أولئك الذين يُقال عنهم إنهم يملكون «مشاعر استثنائية». أحدهم يظن نفسه غنيًّا، والآخر يحسب نفسه مفلسًا. وتلك حالة أخرى تعود إلى عام ١٧٠٥ لرجل «يتسلط عليه الجِنُّ الجهنمي». في ظل مجتمعٍ متدين بهذا القدر، يقدم الدين تيمة مفضلة للهذيان. «يكمن جنونه في كونه يلقب نفسه بالله الأبدي وحين يناديه أحدهم باسم آخر تأخذه نوبات غضب عنيفة […] لا بد من أن يكون المرء مجنونًا بقدره لكي يقترح تركه طليقًا.» وها هو مصاب آخر بالهذيان قابله لاتود في شارنتون6 يظن نفسه يسوع المسيح. في القداس الإلهي، عند حلول وقت تقديس الخبز والنبيذ، كان يهرب لأنه لم يكن يحتمل أن يرى نفسه على وشك أن يُؤكَل حيًّا. وقد وُصِف في تقرير صادر عام ١٧٥٣ بأسلوب أكثر إيجازًا ولكنه ليس أقل بلاغة على النحو التالي: «رأس تشدَّخ بفعل التَّدَيُّن.» وهناك العديد من أوهام الاضطهاد (وهو مصطلح حديث للغاية بالنسبة إلى هذا العصر) أكثر قتامة مما سبق ذكره، مثل حالة جرمان سوبري، ٣٧ عامًا، الذي «كان يشكو من مخاوف وعذابات يقاسيها منذ عام بسبب بعض الرجال ولكنه لا يعرف هويتهم. إنه يشعر بحرقة شنيعة كما لو أن أحدًا ينتزع أحشاءه ويخرجها عن طريق فمه.»

في أحيان كثيرة للغاية، يكون هذا النوع من الجنون، بالأمس كما اليوم، دافعًا للتقدم بطلب اعتقال أكثر من الجنون الذي يتسم، إن لم يكن بالهدوء بصفة دائمة (قلما يوجد هذا النوع)، على الأقل بفترات هدوء طويلة بما يكفي ليتحمل المحيطون بالمريض الأزمات العابرة. ومع ذلك، لم يختفِ بسطاء العقل، و«البُلْه» من المشهد: فهذا سقط من برج الجرس — «وتسببت السقطة في إضعاف عقله» — وذاك، على الرغم من كونه غيرَ مؤذٍ، «يؤدي حركات بهلوانية ويقوم بالْتِوَاءات بشعة لدرجة أنه يُخشَى على النساء الحوامل من رؤيتها.»

الدُّورُ

في بداية القرن الثامن عشر، وجدت الإدارة المَلَكية نفسها في مأزق، على الرغم من التقدم الذي وصلت إليه، في ميدان الاحتجاز. فلم يكن السجن، باعتباره عقوبة بدنية، موجودًا. وكان المُدَّعى عَلَيْهم في قضايا إجرامية (كانت السرقة تُعَد جُرمًا)، باستثناء أولئك الذين يتم إسقاط التهم عنهم من وقت لآخر، يُعاقبون بالنفي في أفضل الأحوال، وبالأشغال الشاقة أو بالإعدام في أسوئها. ومن ثم كان هناك فراغ قانوني كبير فيما يتعلق بالجانحين المستترين، ومرتكبي الجرائم البسيطة على اختلاف أنواعهم الذين كانت عائلاتهم، الحريصة على عدم تلويث سمعتها، تطالب عن طريق استصدار أمر ملكي بإرسالهم إلى إصلاحية أو ما يُطلَق عليه «منزل احتجاز جبري». بشكل مبدئي، وأيًّا كان ما قد نقوله في هذا الشأن، فلم يكن للحمقى أي علاقة بكل هذا؛ نظرًا لأن حالتهم المَرَضية مُعترف بها؛ ولأنهم، خلافًا «للجانحين»، يستحقون الشفقة. نعم، ولكنهم بحاجة أيضًا إلى أماكن للاحتجاز، وفي ظل غياب الدور المتخصصة، كانت العائلات والمجتمعات السكانية تطالب باستخدام الدُّور عينها المخصصة للجانحين. يبدو المذهب البراجماتي الذي اتبعه النظام القديم في التعامل مع هذا الموضوع صادمًا في أعين عالمنا المعاصر، تلك البراجماتية التي انتهت على عجل إلى الخلط، في نظر أولئك الذين يؤيدونه، بين الجانحين والمجانين. وسوف نرى أن هذا الخلط لم يكن موجودًا على صعيد الممارسة العملية بقدر ما تجلى بالأحرى على الصعيدين القانوني والفكري. لم يحدث إلا ضم أماكن احتجاز المجانين إلى السجون، وهو الوضع الذي كان قائمًا بالفعل في السجون [التي تعادل المُعتقلات اليوم]؛ حيث كان يُعثَر من وقت لآخر على مختل عقليًّا محتجز هنا أو هناك. وفي كل مرة كان يحدث فيها هذا، كان الوضع يُعتبر من قبل السلطات نفسها غير مقبول. وعلى الرغم من ذلك، في سجون بلدة بو، تَعَين في عام ١٧٧٧ إنشاء ثلاث دور «لحبس المجانين» (في الواقع، كانت هذه الدور عبارة عن «ثلاث زنازين في آخر الحديقة» تعلوها سقيفة مائلة). وما مصير الإنسان المختل عقليًّا الذي لا يريده أحد؟ كما هي حال جون كروازيه، الجندي السابق بوحدة بيارن العسكرية، الذي انتهى به المطاف في سجن إبرنيه في عام ١٧٨٤. «نظرًا لعدم توافر مكان ملائم لاحتجاز شخص من هذا النوع، ولعدم وجود مَن يرعاه»؛ تقاطعت مراسلات السلطات المختلفة وتكدست دون جدوى. وقد كان وزير الحرب يريد تخصيص ١٥٠ جنيهًا سنويًّا كنفقة إقامة ورعاية بإحدى المؤسسات. ربما بيسَتْر؟ ولكن في ذلك الوقت، كان قد مضى بالفعل عامان وكروازيه لا يزال مُحتجَزًا في سجن إبرنيه.

أمام فشل المشفى العام وتكاثر طلبات استصدار الأوامر المَلَكية، ونظرًا لأن الدولة لم تكن تمتلك إلا أربعين سجنًا (أشهرها سجن الباستيل) مخصصة أساسًا للسجناء السياسيين وحدهم، بدأت الإدارة المَلَكية تشجع على التحويل المَنْهَجيِّ لأماكن تجمعات الطوائف الدينية إلى سجون أو دور احتجاز جبري. تمتلك هذه الأماكن الدينية ميزة مزدوجة؛ فهي، من جهة، منتشرة في جميع أرجاء المملكة، ومن جهة أخرى، قادرة بحكم تعريفها على احتضان نزلائها في جو يسوده الصمت، والصلاة، والانضباط، والعمل، الذين هُم في أشد الحاجة إليه. كما أنها تمتلك ميزة أخرى، وهي أنها تضم فئات متباينة يتفاوت مستواها الاجتماعي بين الغنَى والفقر، ومن ثم ستكون تكاليف الإقامة مناسبة لمختلف الميزانيات. بالطبع، لم يكن هذا الإجراء جديدًا وإنما تعود جذوره إلى القرون الوسطى، ولكنه لم يكن ينطبق في ذلك الوقت إلا على عدد محدود للغاية من الأفراد؛ إذ لم يكن المكان الواحد يستوعب غالبًا سوى فرد أو اثنين على الأكثر. لم يكن هناك داعٍ إذنْ لتسمية هذه الدُّور «دور الاحتجاز الجبري».

في هذا الصدد، تُعد دار رعاية (المخلص الصالح) بمدينة كاين مثالًا بارزًا على قوة النفوذ الملكي خلال هذه الفترة. لقد تم إنشاء هذه الدار عام ١٧٢٠، وكانت تتكون من مجموعة صغيرة مكونة من أربع راهبات، تعمل في منزل متواضع على رعاية وإغاثة الفقراء. من أجل البقاء، بدأت الدار في استقبال نزلاء لقاء دفع مبالغ مالية (فتيات يلتحقن بالدار من أجل تلقي العلم) بالإضافة إلى سيدات مسنات، مقابل دفع نفقات أيضًا، يرغبن في عيش أيامهن الأخيرة بسلام في ظل الإيمان المسيحي. ولكن، كان لزامًا على الدار، أن تأخذ تصريحًا عن طريق الحصول على براءات مَلَكية. في عام ١٧٣٣، مارس قائد شرطة مأمورية كاين ضغوطًا مباشرة على أسقف بايو حتى توافق الدار على «احتجاز الأشخاص المنحلين لكي يعيشوا حياة منضبطة». وأضاف بتهكم قائلًا: إن قبول هذا العرض من شأنه التعجيل بالموافقة على طلب استصدار البراءة المَلَكية المتعثر. بالإضافة إلى أن خدام الدار سيتم إعفاؤهم من أداء الخدمة العسكرية. أما بالنسبة إلى الدار التي ترفض استقبال أحد الجانحين، فستجد نفسها مُرغَمَة على استضافته بموجب الأمر الملكي عينه الذي ينص على الاعتقال.

في النهاية، وافقت دار بون سوفور؛ لأن تلك كانت هي الطريقة الوحيدة لتأمين ميزانية كافية. وقد وصلت البراءات المَلَكية، التي كان من المنتظَر إصدارها منذ ثلاثة عشر عامًا، اعتبارًا من العام التالي على الرغم من خوض معركة مع بلدية كاين بسبب التأخير في إرسال البراءات، زاد من حدتها «وجود اعتقاد راسخ على حساب الحقيقة بأن جنس هذه المدينة فاسق لدرجة أن النساء والفتيات يحترفن الدعارة.» لم يكن يتعلق الأمر في البداية إلا بتقويم وإصلاح «الفاجرات». بيْد أن دار بون سوفور، التي انتقلت إلى مقر أكثر اتساعًا، كانت تحوي في عام ١٧٨٥، إضافة إلى ٣٠ راهبة، ١٢ «فتاة يجري تعليمهن وتهذيبهن»، و١٥ سيدة متقاعدة، و٢٤ نزيلة مُحتجَزة بالقوة، من بينهن ١٢ امرأة «مختلة عقليًّا». تمثل هذه النسبة المرتفعة للمختلات عقليًّا (لم يكن أي من الدور الموجودة آنذاك يستقبل مجانين بشكل حصري) بداية مرحلة «التخصص»، كما تدل على ذلك اللوائح الأولى للدار (حوالي عام ١٧٨٠). كانت دار بون سوفور مقسمة إلى أربعة «قطاعات» على النحو التالي: «قسم المجنونات، قسم الفقراء، قسم التعليم والتربية، قسم الآثمات التائبات»، وكان كل قسم من هذه الأقسام يشمل غرفًا منفصلة ومستقلة تمامًا بعضها عن بعض.

في أواخر القرن الثامن عشر، بلغ تعداد دور الاحتجاز الجبري بالمملكة ما يقرب من ٥٠٠ دار، أكثر من ثلثيها خاصٌّ بالجماعات الدينية. شكلت مثل هذه الشبكة بما توفره من ضمانات الإحسان والتعامل الأخلاقي، على الرغم من كونها تُقدم خدماتها نظير دفع مبالغ مالية، مكانًا مُخصصًا بالفعل لاحتجاز المختلين عقليًّا الذين كانوا يمثلون ١٥٪ من إجمالي المُحتجَزين قسرًا. في الواقع، يخفي هذا المتوسط وجود تفاوت كبير؛ نظرًا لأن بعض هذه الدور لم تكن تستقبل فعليًّا حمقى كغيرها، مثل دار بون سوفور بكاين التي بلغ تعداد المجانين بها ما يقرب من نصف عدد النزلاء لديها. وكانت تكلفة الإقامة متفاوتة داخل هذه الدُّور ذات المساحات و«وسائل الراحة» المتباينة للغاية؛ حيث كانت تتراوح، في أواخر القرن الثامن عشر، ما بين ٢٠٠ و١٥٠٠ جنيه سنويًّا (وذلك في الوقت الذي كان أجر العامل فيه عن كل يوم عمل يساوي جنيهًا أو أقل).

على غرار دار بون سوفور، بدأت بعض الجماعات الدينية تدريجيًّا، ولا سيما جمعيات الرجال بالنسبة إلى الأغلبية العظمى، تتخصص في استقبال المختلين عقليًّا (ولكن، نشدد على أن استقبال النزلاء لم يكن قط قاصرًا على المختلين عقليًّا وحدهم) كما هي حال جماعة «إخوان الرحمة» التي أسسها القديس يوحنا الإلهي (سان جون دي ديو) وتعددت منشآتها في أوروبا. في فرنسا، في نهاية القرن الثامن عشر، كانت جماعة «إخوان الرحمة» تمتلك وتدير، إضافة إلى ما يقرب من ثلاثين مشفًى، عشرَ دُور مخصصة لاحتجاز «النزلاء المصابين باختلال عقلي أو الجانحين الخاضعين للإصلاح». وكانت هذه الدُّور تحتجز وحدها ما يقرب من ٤٠٪ من مجمل المختلين عقليًّا بالمملكة، سواء بأوامر ملكية أو أحكام قضائية. وكانت أبرز هذه الدُّور الجمعيات الخيرية بكاديلاك، وبونتورسون، وشاتو تييري، وسينليس، وبالأخص شارنتون. من جهة أخرى، نجد أن العدد المطلق للمختلين عقليًّا ليس كبيرًا (بل إنه يعد ضئيلًا بالنظر إلى ما ستصبح عليه المصحات في القرن التاسع عشر). في دار شاتو تييري، التي أصبحت دارًا للاحتجاز منذ عام ١٦٧٠، بلغ عدد المُحتجَزين بناءً على أمر ملكي، في عام ١٧٧٨، ٢٩ شخصًا فقط، من بينهم ٢١ أحمق. في سينليس، التي زاد عدد «النزلاء» بها من أربعة في عام ١٦٧٥ ليصبح ٨٠ في نهاية القرن الثامن عشر، ولم تتجاوز نسبة المختلين عقليًّا الثلث. أما شارنتون، قبل أن يصبح اسمها مرادفًا لمشفى المجانين، فتُعَد دارًا باريسيَّة كبيرة للاحتجاز الجبري يعود تأسيسها إلى عام ١٦٤١، بينما لم تكن في الأصل إلا مشفًى يحوي سبعة أسِرَّة. في القرن الثامن عشر، كان تعداد نزلاء دور الحجز يتراوح في المتوسط ما بين ١٢٠ و١٣٠ نزيلًا، من ضمنهم ما بين ٨٠ و٨٥ أحمق.

وقد استقبلت أيضًا أديرة الرهبان الفرنسيسكان المنتشرة في المملكة، والتي بلغ تعدادها نحو ٤٠ ديرًا، نسبة كبيرة من المختلين عقليًّا (٢٥٪ تقريبًا). في دير نوتردام دو لا جارد، الكائن في بلدية نوفيل أون آيز [في مقاطعة إلواز]، كان يوجد في المتوسط حوالي ثلاثين شخصًا محتجزين بالقوة يشغلون المؤسسة، نصفهم من المختلين عقليًّا المعزولين بشكل صارم في غرف فردية. وفي بعض الأديرة الفرنسيسكانية الأخرى، كان عدد المختلين عقليًّا أقل بكثير، خاصة فيما يتعلق بحالات الاحتجاز الرسمية. فعلى سبيل المثال، في عام ١٧٤٦، لم يكن يوجد في دير فيك لو كونت (منطقة ليموج الإدارية) إلا مختل واحد محتجز بناءً على أمر ملكي. ولكن الوكيل الموفد الذي زار المؤسسة في عام ١٧٣٥ كتب تقريرًا قال فيه: «يوجد في هذا الدير حجيرات مُحكَمَة الغلق مصممة خِصِّيصَى للمصابين بالهياج. كما نجد بالدير أيضًا غرفًا لا بأس بها صالحة لِلسُّكْنَى مُجهزَة لذوي السلوك الهادئ الذين لا تستدعي حالتهم المستقرة مراقبتهم عن كثب.»7 هناك إذنْ آخرون؟ تلك هي المسألة التي ستشغل بال الإدارة المَلَكية في أواخر القرن الثامن عشر، والمتعلقة بحالات الإيداع المباشر من قِبل العائلات.

نذكر في هذا الصدد أيضًا، بالنسبة إلى الرجال كذلك، دار بون فيس (الأبناء الصالحون)، التي كانت تضم سبعَ دُورٍ للاحتجاز منذ القرن السابع عشر، بالإضافة إلى رهبانية إخوة المدارس المسيحية. أما عن دور الاحتجاز الخاصة بالنساء، فلقد كانت أقل عددًا وفي الوقت عينه أكثر تحفظًا، بل وأشد معارضة حيال استقبال المختلات عقليًّا، فيما عدا بيوت روفوج (المأوى)، وبعض المنازل التابعة لرهبانية الأخوات أورسولين أو دار بون سوفور في كاين التي كانت تشكل استثناءً.

بيد أن دور الاحتجاز التي كانت تديرها الجماعات الدينية لم تكن هي الأماكن الوحيدة التي تستقبل المختلين عقليًّا. ولكي نفهم بشكل أفضل تنوع المؤسسات، ينبغي أن ندرس توزيعها الإقليمي. ولن نتناول بالطبع إلا بعض الأمثلة. في منطقة روان الإدارية، تُعد دار رهبانية إخوة المدارس المسيحية بسان يون بمنزلة دار المختلين عقليًّا «الكبرى». ففي عام ١٧٧٦، كانت تضم ٣٠ مختلًّا، جرى احتجازهم جميعًا بموجب أمر ملكي (من بين إجمالي المحتجزين الذين بلغ عددهم ٧٧). نجد أيضًا بعض المختلين عقليًّا، ولكن بأعداد قليلة للغاية، في العديد من دور الاحتجاز الأخرى مثل: أخوية القديسة بربارة في قرية كرواسيه، ورهبانية الثالوثيين، ودير نوتردام دو روفوج في روان الخاص بالنساء. كتبت رئيسة هذا الدير في عام ١٧٧٧ إلى الحاكم قائلة: «إن ديرنا ليس سجنًا، ولم يُنشَأ ليُحتجز أحدٌ داخله.» وعلى الرغم من ذلك، كان هناك نزيلة محتجزة داخله بموجب أمر ملكي، منذ عام ١٧٦٩؛ «نظرًا لأن عقلها ما زال مختلًّا وهي في حالة لا تسمح لها فعليًّا بإدارة ممتلكاتها» (كانت هذه النزيلة موضوعة تحت القوامة). كما تم إيداع بعض المختلين عقليًّا، منذ أواخر القرن السادس عشر، في المزرعة التابعة لأبرشية سانت أوبن لا كومباني، بالقرب من روان. وقد كانت بمنزلة سجن زراعي. كان المختلون عقليًّا المحتجزون بهذه الدار، والذين بلغ عددهم حوالى خمسة عشر شخصًا، ينعمون بحريتهم إلى حد ما، ولم يكن هذا الوضع مقبولًا لدى الجميع، كما يشهد على ذلك الاحتجاج الذي تقدم به السيد الإقطاعي في عام ١٧٨٥ على النحو التالي: «من الضروري احتجاز المجانين بطريقة أخرى غير تلك التي يجري بها احتجازهم؛ إذ إن الحرية التي يتمتعون بها ليست في محلها. ولا يمكن أن تكون نية الحاكم تهديد السلامة العامة، كما أن أبرشيتي يجب ألا تتعرض أبدًا لأي من الحوادث المؤسفة التي قد تنشأ عن لقاء غير متوقع مع هؤلاء الناس.»8 وهذا ليس كل شيء؛ منذ نهاية القرون الوسطى، تمت مواصلة احتجاز المختلين عقليًّا المُعْوِزين في أحد الأبراج المُشيدة فوق السور المحيط بمدينة روان. وشهد القرن الثامن عشر حدثًا جديدًا تمثل في احتجاز بعض المختلين عقليًّا في مشفى روان العام بموجب أمر ملكي؛ مما يعني في الوقت نفسه إضفاء طابع السجن، ولكن بصورة هامشية، على هذا النوع من المؤسسات، وهو أمر لم يكن ذا تأثير يُذكر في مدينة روان والمدن الأخرى بالمملكة، بينما كان له عظيم الأثر — كما سوف نرى — على مؤسستي بيسَتْر وسالبيتريير.
نجد هذا التنوع وذلك التعقيد في جميع أرجاء المملكة. منطقة كاين الإدارية وحدها كان بها حوالي ثلاثين دار احتجاز، من بينها ستة منازل كانت تقبل استضافة المختلين عقليًّا. وكان هؤلاء يشكلون ١٨٪ من إجمالي عدد النزلاء المحتجزين بالنسبة إلى النساء، و٢٥٪ بالنسبة إلى الرجال. كما كان من المتوقع إيجاد المختلين عقليًّا في الجمعيات الخيرية، ولا سيما في جمعية بونتورسون (في عام ١٧٧٤، كان هناك ١٦ مختلًّا عقليًّا من بين إجمالي النزلاء البالغ عددهم ٤٧) أو في جمعيات الرهبان الفرنسيسكان في بايو. بيد أن دير الدومينيكان ببلدية مينيل جارنييه، في جنوب كوتانس، بالإضافة إلى سجن الدولة الموجود بجبل القديس ميشيل والمعروف باسم باستيل البحار، كانا يستقبلان كلاهما أيضًا بعض المجانين. وبتحليل المائة والثلاثة والخمسين أمرًا ملكيًّا التي جرى تسليمها في الفترة ما بين ١٦٦٦ و١٧٨٩، نلاحظ أن9 ٣٥ أمرًا فقط صدر بناءً على مبادرة السلطة المَلَكية، بينما ٢١ أمرًا صدر بناءً على مبادرة السلطات الكنسية (ضد بعض رجال الدين)، و٩٧ أمرًا صدر بناءً على مبادرات العائلات، من ضمنها ١١ حالة بسبب الجنون. نحن إذنْ بعيدون كل البعد عن «آلاف السجناء» الذين كانوا يعانون اليأس والملل والغم في الباستيل. وقد كانت القدرة الاستيعابية، في السجن كما في سائر الأماكن، أقل بكثير من الطلب.

أما مدينة كاين، عاصمة المنطقة الإدارية، فقد كانت تحتجز المختلين المُعْوِزين في برج شاتيموان. يقدم هذا البرج المُشيد فوق أحد الحصون، والذي بُني في أواخر القرن السادس عشر وسرعان ما أصبح عديم النفع من وجهة النظر العسكرية، مثالًا جيدًا على «أبراج المجانين» التي نجدها منذ نهاية العصور الوسطى تقريبًا في كل المدن الكبرى بالمملكة، حتى لا نقول في أوروبا بأكملها، والتي استمر استغلالها لهذا الغرض طوال عهد النظام القديم. (هكذا، في تورناي، تلك المدينة التي تارة ما تكون فرنسية، وتارة نمساوية، كان يتم استخدام بوابة مارفي كبرج للمجانين اعتبارًا من القرن السادس عشر وحتى هدمه في عام ١٧٧٠.) يعترينا الذهول أمام برج شاتيموان الماثل بارتفاعه البالغ ٣٠ مترًا، ومستوياته الثلاثة وجدرانه التي يبلغ سُمْكها سبعة أمتار؛ حيث جُهِّزَت غرف مصممة على شكل شبه منحرف لوضع قطع المِدْفَعيَّة الجديدة. في القرن السادس عشر، كان يجري حبس أسرى الحرب داخل هذا البرج بينما كان المشفى الرئيس بالمدينة يضع المجانين في برج آخر أقرب، وهو برج ماشار. ثم بدأ برج شاتيموان، خلال القرن السابع عشر، يحتكر تدريجيًّا احتجاز الحمقى الذين لا يريدهم المشفى الرئيس، ولا حاكم القصر (حينما يتعلق الأمر بالجنود العسكريين)، ولا السجن (حينما يتعلق الأمر بالمختلين عقليًّا الذين أُلقِي القبض عليهم بسبب تصرفاتهم السيئة). ٨٠٪ من هؤلاء كان يُنظَر إليهم باعتبارهم يشكلون خطرًا على الأمن العام أو يثيرون شغبًا يخل بالنظام العام. في القرن الثامن عشر، تضاعفت عمليات الاعتقال في «برج المجانين»؛ لأن العائلات كانت تتوجه مباشرة إلى سلطة البلدية. في عام ١٧٢٠، عُين حارس للمبنى. وقد وَقَّع في ذلك التاريخ إيصالًا باستلام سبعة جنيهات، و١٧ فلسًا، وستة دنانير «للتكفل بمصاريف رعاية تسعة أشخاص من المختلين عقليًّا، بالإضافة إلى خمسة وأربعين فلسًا من أجل القش.» وكان المشفى الرئيس يتولى إعالة المختلين عقليًّا من الفقراء. أما الآخرون فكانت عائلاتهم تتكفل بمعيشتهم بدفع نفقة إقامة ضئيلة للغاية. وكان مستوى «الرفاهية» يتفاوت نسبيًّا تبعًا للقيمة المدفوعة. كان الاثنا عشر مختلًّا المحتجزون هناك (رجال، وبشكل استثنائي، بعض النساء) يتم توزيعهم فيما بين القاعة العليا؛ حيث أُعِدَّتْ غرف خشبية، والزنازين المُصَممَة داخل تجويف الحائط السميك، وغَيَابَة السجن، حين لا تكون السراديب مغمورة بالمياه. منذ منتصف القرن الثامن عشر، بدأت العائلات تشكو من أوضاع الاحتجاز في البرج، مُتَّهِمة الحارس بترك المختلين عقليًّا «مفتقرين إلى كل شيء» (إلا في حال إعطائه مزيدًا من المال مقابل الطعام، والتدفئة، والإضاءة). كما اتهمت العائلات الحارس «بأنه يقوم بعرض المختلين عقليًّا للمتفرجين لكسب المال.» لقد كانت ظروف الاحتجاز مضنية ومحزنة، لدرجة أن تقريرًا صادرًا عن السلطات المحلية في عام ١٧٦٦ أشار إلى وَضْع أحد هؤلاء المحبوسين على النحو التالي: «لقد نسينا هذا الرجل الذي ليس مجنونًا، ولكنه قد يصبح كذلك.»

نجد النِّسَب مماثلة في غالبية المناطق الإدارية الأخرى، كما في بلدية ريوم (منطقة أوفيرني) التي بلغ تعداد دور الاحتجاز بها حوالي عشرين دارًا، من ضمنها خمس أو ست دور كانت تستقبل حمقى. الأمر نفسه في بريتاني (التي لم تكن مقسمة إلى مناطق إدارية، ولكنها كانت عبارة عن مقاطعة كبرى مؤلفة من ولايات، وتحظى بقدر أكبر من الاستقلالية)؛ حيث نجد الدار الواقعة في بلدية سان ميان، بالقرب من مدينة رين، التي كانت تستقبل الحجاج منذ القرون الوسطى والتي جعلها وضعها المختلط أشبه بالمشفى العام وبدار الاحتجاز في الوقت نفسه (حيث كانت تضم ٤٥ محتجزًا بموجب أمر ملكي في عام ١٧٨٧، من بينهم ١٨ مختلًّا). في الأقاليم الجديدة، كما في دوقيات لورين وبار، كان احتجاز المختلين عقليًّا أكثر تمركزًا؛ حيث تركز بالأكثر في ماريفيل، بالقرب من نانسي، بالنسبة إلى الرجال، وفي نوتردام دو روفوج في نانسي، بالنسبة إلى النساء.

في منطقة ميدي (جنوب فرنسا)، كانت المؤسسات الكبرى الأكثر تخصصًا تشكل أيضًا أماكن جذب للمنطقة بأسرها. وقد سبق أن رأينا ذلك فيما يتعلق بمشفى الحمقى في مارسيليا، وألبي، أو حتى في مشفى لا ترينيتيه (الثالوث الأقدس) بإكس آن بروفانس، والذي كان يُعَد مشفًى عامًّا ودارًا للاحتجاز في الوقت نفسه. ينبغي أن نذكر في هذا الصدد أيضًا مشفى أوفر دو لا ميزيريكورد (عمل الرحمة) بأفينيون الذي تأسس في عام ١٦٨١ بإيعاز من نائب المفوض الباباوي. بعد «توظيف» محدود في المدينة، تضاعفت عمليات الاحتجاز خلال القرن الثامن عشر. في عام ١٧٧٩، تلقت العائلات التي تعيش في هذه المقاطعة وتحتجز مختلًّا لديها (مما يدل على أن مثل هذه الحالات كانت موجودة بالفعل) منشورًا باباويًّا يأمر بإحضاره إلى المشفى. وانطلقت صرخات مدوية تطالب محاكم التفتيش بضرورة تعديل المنشور. كان مشفى أفينيون، الذي يُعد بالتأكيد سابقًا لعصره، يطلب شهادة طبية لدى احتجاز أحد المختلين عقليًّا. تعود أقدم شهادة طبية معروفة إلى عام ١٦٩٠: «أقر أنا الموقع أدناه، طبيب حاصل على شهادة الأستاذية في الطب من جامعة أفينيون، لمن يهمه الأمر، أن المدعوة فرانسواز جوساند مختلة عقليًّا، كما تبين لي من خلال توقيع الكشف الطبي عليها.»

أما في باريس، فلا بد على الرغم من ذلك الخروج من الإطار الإداري الوحيد والمعقد الذي أحاط بدور الاحتجاز الجبري لفهم مدى تنوع المؤسسات التي كانت تستقبل المختلين عقليًّا. ما هذه الدُّور التي انتشرت في أواخر القرن الثامن عشر؟ وما عامل الجذب لديها؟ لقد سبق أن حظينا بالفعل بفرصة للحديث عن العلاقة المتداخلة التي ربطت بين المشفى الرئيس بباريس والدور الصغيرة، التي كانت بمنزلة مشفًى ملحقٍ مخصص للحالات المعدية والميئوس من شفائها. في المشفى الرئيس، الذي كان يحوي خمسة وعشرين جناحًا مخصصة على وجه التحديد للمرضى على اختلاف أنواعهم (أطفال مرضى، ومصابين بالجدري، وغيرهم)، نجد «المجانين القابلين للعلاج» في جناحين بعيدين تمامًا أحدهما عن الآخر. الرجال في جناح سان لويس المكون من ٤٢ سريرًا، والنساء في جناح سانت جونفياف المكون من ٣٢ سريرًا. ولم يفصل بين هذا الجناح الأخير وبين ذاك المخصص «للمهتاجات» إلا حاجز. وفي جميع أرجاء المشفى الرئيس، كانت الأسِرَّة، الموروثة عن القرون الوسطى، في معظمها كبيرة بحيث تَسَعُ أربعة أفراد. بإمكاننا أن نتخيل ما هي فرص شفاء المجانين (وبالأخص «المهتاجين») في ظل وضع مماثل يرغمهم على النوم أربعةً في سرير واحد. ولكي يحظى الفرد بسرير منفصل ينام عليه وحده، يتعين أن يكون ذلك بناءً على توصية، مثلما حدث في عام ١٧٦٨ بالنسبة إلى ذاك القس «المختل العقل»، الذي أُوصِيَ «بوضعه في سرير منفردًا». في مشفى باريس الرئيس على وجه الخصوص، مقارنة بالأماكن الأخرى، كان «المجانين يعانون من الضيق وعدم الراحة»، ولا سيما أن المشفى كان يستقبل الحالات الآتية من جميع الأقاليم. «منذ ما يقرب من عشرين عامًا — نقرأ في سجل المداولات، بتاريخ ١١ أغسطس ١٧٨٠ — تزايد هذا المرض لدرجة أن الأجنحة المخصصة للمرضى من الجنسين لا تفرغ مطلقًا، وتزايد بالتبعية عددُ الحالات التي يمكن إرسالها إلى بيسَتر.» ورغم ذلك كان نظام العمل بالتناوب يسير بإيقاع سريع للغاية. وكان الحمقى يمكثون هناك شهرين على أقصى تقدير، قبل أن يُصرَّح لهم بالخروج أو بالالتحاق بالمشفى الرئيس بباريس أو بالدور الصغيرة.

تُعد هذه المؤسسة الأخيرة (التي كانت تضم، في عام ١٧٨٧، ٤٤ مختلًّا عقليًّا، من الرجال والنساء) بالأحرى مأوًى لا يتلقَّى المجانين فيه أي علاج. فضلًا عن ذلك، كان لا بد من إعداد شهادة تفيد بأن المختل العقلي تمتْ معالجته وبأن مرضه غير قابل للشفاء. وكان الحد الأدنى لنفقة الإقامة يستلزم دفع ٣٠٠ جنيه. لقاء هذا المبلغ الزهيد، «الغرف أفضل بقليل من تلك الموجودة ببيستر». نحن هنا على أي حال في سياق تقديم خدمات رعاية بعيدة عن نمط الاحتجاز المؤسسي (أي خارج إطار المشفى العام ومنازل الاحتجاز الجبري). هذه هي حال ما يقرب من ٢٠ نزلًا خاصًّا ومدنيًّا في باريس، تلك الدور التي نشأت في نهاية القرن الثامن عشر لتلبي الطلب المتزايد من قِبل العائلات القادرة على دفع تكلفة إقامة مرتفعة. وقد تركزت هذه المنشآت الصغيرة — والمتفردة في استقبال المختلين عقليًّا حصريًّا — في ضواحي سان أنطوان، وسان جاك، ومونمارتر. بعض هذه الدور لم يكن يستقبل سوى عدد محدود من النزلاء، والبعض الآخر — كل دار على حدة — كان يستقبل حوالي ٣٠ نزيلًا. بلغ عدد النزلاء إجمالًا حوالي ٣٠٠ مختل، كان «البُله» (ندر وجود «مصابين بالهياج») هم الذين يشغلون في الأغلب هذه الدور في ظل انعدام الرقابة الإدارية.

يبقى إذن، فيما يتعلق بشق الاحتجاز هذه المرة، دور الاحتجاز الجبري والمشفى الرئيس. كانت دار شارنتون، على الرغم من بعدها النسبي، تتبع العاصمة. وقد كانت تكلفة الإقامة فيها مرتفعة (إذ كانت تتراوح ما بين ٦٠٠ و١٢٠٠ جنيه) تبعًا للفئات المختلفة: النبلاء، والبرجوازيين، ورجال الدين، والجنود العسكريين، وقد كانت مصاريف إقامة هذه الفئة الأخيرة على نفقة الملك. وكانت هناك وحدة تمريض — مما يعد حدثًا نادرًا — للمختلين عقليًّا المرضى وحدهم. وكان سجنا الباستيل وفنسين يتخلصان من المجانين الذين يثيرون الشغب لديهم بإيداعهم دار شارنتون. وبالفعل كان يوجد مجانين في هذين السجنين الكبيرين.

لقد احتجز الباستيل وحده — ذلك السجن المتعدد الاستعمالات — خمسين مختلًّا في الفترة ما بين ١٦٦١ و١٧٨٩.10 في القرن الثامن عشر، كان قد تم وضع المختلين عقليًّا في السجون لعدم وجود أماكن أخرى (ذُكِر في بيان يعود إلى عام ١٦٤٣ — وهو يعد أحد أوائل البيانات الصادرة عن الباستيل — أن عدد المختلين عقليًّا بلغ ثلاثة من بين إجمالي المسجونين البالغ عددهم عشرين سجينًا، من ضمنهم «كاهن مخبول» و«رجل شرير مملوء خبثًا»). هؤلاء المختلون عقليًّا الذين «كنا نحظى بشرف استقبالهم في سجن الباستيل»، كانوا يأتون أحيانًا من إحدى دور الاحتجاز البعيدة؛ حيث لم يعد أحد يطيق وجودهم (وهذا دليل على القابلية العالية للاختراق المؤسسي). فكانوا يُنقلون إلى الباستيل ريثما يهدئون. «هذا القصر ليس مخصصًا لحبس هذه الأنواع من البشر»، يُذَكِّر بذلك وزير الديوان الملكي في عام ١٧١٥. ولكن، نجد أيضًا في سجن الباستيل، وبأعداد لا حصر لها، جميع أولئك الذين سُجنوا لاعتبارهم أشباه مجانين (الجواسيس الكذَبة، وكاشفي المؤامرات الكاذبين، والمحتالين والنصابين، والقَصَّاصين، و«أصحاب المشروعات»)، والذين أصبحوا مجانين بالفعل فور إغلاق بوابات الحصن الضخمة عليهم. نذكر على سبيل المثال، عام ١٧٦٤، ذلك المدعو بوكيه الذي أمطر الوزراء وماركيز دي بومبادور برسائل فضح المؤامرات، أو ذلك النائب العام الأسبق بشاتليه الذي كتب في عام ١٧٧١ إلى الملك «اثني عشر خطابًا بأسلوب ذميم للغاية»، وقد نُقِل هؤلاء، فور إقرار إصابتهم بالجنون، إلى شارنتون. وقد رحب القائد العام لشرطة باريس بهذا القرار ولا سيما أنه «سيسفر عن تقليل النفقات التي يدفعها الملك» (فليس هناك بالتأكيد كلفة إقامة واجبة الدفع في سجون الدولة؛ حيث إن السجناء ينتمون إلى طائفة «مَنْ يعيشون على خبز الملك»). وفي الوقت عينه، حرص هذا القائد نفسه على ألا تنطلي عليه ألاعيب المجانين الكذبة الذين يَنْوُون الفرار من سجن الباستيل. «لا يَخْدَعَنَّنا عبوس وجوههم وتعابيرها المصطنعة»، تلك هي النصيحة الصادرة من فرساي. في بعض الأحيان، كانت تنجح الحيلة بشكل يفوق توقعات الشخص المُدَّعي: «لقد تظاهر بالجنون وأصبح مجنونًا بالفعل.»

بالإضافة إلى دار شارنتون، كانت دار سان لازار هي دار الاحتجاز الباريسية الأخرى التي تتولى حبس الحمقى، مبدئيًّا بموجب خطاب مختوم يحمل أمرًا ملكيًّا فقط. فمقابل دفع نفقة إقامة قدرها ٦٠٠ جنيه بحد أدنى (كانت هناك أيضًا نفقات إقامة تبلغ ١٠٠٠، بل ١٢٠٠ جنيه)، كان هذا المنزل، الذي تديره جماعة «قساوسة الإرسالية» التي أسسها فنسان دي بول، مخصصًا للعائلات الميسورة على غرار دار شارنتون. كما هي الحال في دور الاحتجاز الأخرى بالمملكة، كانت دار سان لازار تحتجز أيضًا جانحين خاضعين للإصلاح (على نمط الفارس دي جريو، بطل إحدى الروايات الأدبية). في نهاية القرن السابع عشر، كانت الدار تحوي ٤٨ غرفة للجانحين و٣٨ غرفة للمختلين عقليًّا الذين تضاعف عددهم خلال القرن الثامن عشر.

أما مشفى باريس العام، فقد استمر في العمل خلال القرن الثامن عشر باعتباره مشفًى ودار احتجاز جبري — وهي الخطوة التي شكلت انحرافًا ملحوظًا في الأقاليم — عن طريق حبس الجانحين والمختلين عقليًّا بناءً على طلب العائلات. ولقاء دفع تكلفة إقامة قدرها ٢٠٠ جنيه سنويًّا، كانت هذه الدار تُعد أرخص دار احتجاز في المملكة. وتبعًا لذلك، كانت الأوضاع المعيشية متردية داخلها بما رافقها من ضيق وعدم ارتياح وازدحام نتج عنه اختلاط غير مرغوب فيه، وقد ظل «المشفى» كما هو محتفظًا بهيبته بحيث كان اسمه وحده يثير الذعر في نفوس القاعدة العريضة من الفقراء (ولفترة طويلة كانت عبارة «الانتهاء في المشفى» تُعد في اللغة الشعبية مرادفًا للموت بؤسًا). «هذا مكان لا يليق بكاهن»، يذكر قصر فرساي في عام ١٧٣٩. وكانت العائلات، من جانبها، تستنكف من طلب المشفى من أجل المختلين عقليًّا لديها (لأن اسم المشفى يجرح مخيلتهم)، ولكن هناك أيضًا تكلفة الإقامة التي لا مفر منها، والتي تزيد قيمتها خمسين جنيهًا بالنسبة إلى الطلبات القادمة من الأقاليم؛ مما يدل على وجود محاولات للحد من هذه الطلبات. ومع ذلك، على الرغم من تشديد الإجراءات، حدث «تدفق» عظيم خلال القرن الثامن عشر من جميع أرجاء المملكة نحو بيستر وسالبيتريير. أُضيفت إلى طلبات الإيداع المباشرة تحويلات عديدة قادمة من دور الاحتجاز الجبري الأخرى؛ حيث كانت العائلات تعجز عن دفع تكاليف الإقامة المقررة مع عدم وجود إمكانية في الوقت نفسه لإطلاق سراح المختل عقليًّا.

وهذا هو ما يفسر العدد الكبير للمختلين عقليًّا المحتجزين، وليست اعتقالات المشفى العام، وهو عدد يجب من ثَمَّ عدم مقارنته مع عدد سكان باريس. في نهاية القرن الثامن عشر، بلغ عدد المحتجزين في بيستر ثلاثمائة مختل عقليًّا على النحو التالي: ٩٢ «مجنونًا هائجًا مقيدون بالسلاسل»، و١٣٨ «مجنونًا معتوهًا أو ضعيف العقل»، وأقل بقليل من مائة مريض بالصرع، وهؤلاء كان يتم تمييزهم بعناية عن المختلين عقليًّا، وكان يجري تسكينهم بشكل منفصل متى كان ذلك ممكنًا، ولكن كان من الصعب للغاية إحصاؤهم؛ لأننا كنا نجد بعضهم أيضًا في القطاعات الخاصة «بالعاملين أو بالأطفال». وأولئك الذين كانوا يوضعون في قطاع المجانين هم المرضى الذين كانت تنتابهم فقط نوبات صرع خطيرة. بالإضافة إلى ذلك، كان لا بد من إخفاء «هذا المرض المرعب والقادر على زرع الفوضى والاضطراب والذعر كل يوم في نفوس المرضى» عن الأعين. أما فيما يتعلق بالمجنونات ذائعات الصيت في سالبيتريير، فقد بلغ عددهن سبعمائة (من بينهن ٣٠٠ مريضة بالصرع)، ولكن، لا ننسَ أن هذا العدد الإجمالي للمحتجزين في ذلك الوقت كان يبلغ ٧٨٠٠ شخص. كانت المؤسسة مترامية الأطراف، لدرجة أننا حين نقول «المشفى»، فإننا نقصد بذلك مشفى سالبيتريير. لم يكن قطاع المجنونات، المسمى ﺑ «الغرف»، حتى إذا أُضيف إليه مبنى سانت جان للمعتوهات ومريضات الصرع، سوى واحدٍ من ضمن ١٤ قطاعًا داخل مؤسسة سالبيتريير، وكانت جميع هذه القطاعات معزولة بعناية بعضها عن بعض. بعيدًا عن أي مقارنة، كان يتم احتجاز الجانحين في «قسم الحبس القسري» الذي أنشئ عام ١٦٨٤ (حيث كان بالإمكان دائمًا رؤية المبنى الذي يشمل هذا القسم في نطاق مجمع لا بيتييه-سالبيتريير الاستشفائي). وكانت هناك أربعة أجنحة منفصلة مخصصة للاحتجاز على النحو التالي: جناح «العامة» (للعاهرات اللواتي لا أمل في تقويمهن)، و«الإصلاحية» (للعاهرات أيضًا ولكن لأولئك اللواتي هناك أمل في إصلاحهن)، و«جناح الحجز المشدد» (الذي يضم المُحتجَزات بناءً على أمر ملكي)، و«السجن» (للمذنبات المَوسُومات بالعار اللواتي تمت إدانتهن). يتعلق الأمر بالفعل هذه المرة بالنساء اللائي اقترفن جريمة؛ حيث كن يخضعن لنظام أشد صرامة عما كان سائدًا في القطاعات الأخرى. ينطبق الأمر عينه على بيستر. إنهما عَالَمان مختلفان لهما جغرافيا مشتركة. ولن يتسع المقام للخوض في تفاصيل أكثر لإبراز هذه الفكرة بشكل أقوى.

كانت المشافي العامة تحتجز وحدها بصفتها دُورَ احتجاز جبري ربع المختلين عقليًّا في فرنسا، مع وجود الأغلبية الساحقة منهم في سالبيتريير وبيستر. وقد دارت عجلة النظام بشكل أسرع في أواخر القرن الثامن عشر، على الرغم من الحل الآخر الذي لجأت إليه الإدارة فيما بعد كوسيلة لتدارك الأمور، والمتمثل في: مستودعات التسول …

الحياة اليومية

ربما نستطيع أن نتوقع أن مستوى الحياة اليومية للمختلين عقليًّا داخل دور الاحتجاز الجبري يختلف وفقًا لتكلفة إقامة الفرد، سواء كانت ٢٠٠ جنيه أم ١٢٠٠ جنيه. وغالبًا ما كانت الأسعار تختلف داخل المؤسسة الواحدة تبعًا لقوائم الخدمات. وفي حالة تحديد سعر موحد، تكون هناك دائمًا مبالغ إضافية تُدفَع نظير خدمات أخرى وليس فقط للكماليات، مثل: الخشب لتدفئة للنزلاء الذين يتَّسمون بالهدوء والأثرياء بما يكفي ليُسمَح لهم بتملك مِدْفَأَة (إذ كانت الغرف خالية بالطبع من المَدافِئ) والشمعدان للإنارة، ومزيد من الطعام، وتغيير الملابس أو فرش الأسِرَّة أو القش، والتمتع بقدر أكبر من حسن المعاملة ورقتها بفضل البقشيش الذي يقدم إلى الحارس أو التبرعات المقدمة إلى القسيس. علاوة على المبالغ الأخرى التي كان يتم دفعها للزيارات الطبية والأدوية، بالنسبة إلى المرضى القلائل الذين لا يزال هناك بصيص أمل في شفائهم.

على أي حال، كانت حياة المختل عقليًّا، بصرف النظر عن تكلفة إقامته، تختلف جذريًّا وفقًا لهدوئه أو حالة هياجه. ففي الحالة الأولى، يتمتع النزيل بحرية التنزه في الباحة أو الفناء، ولا يعود إلى مهجعه أو غرفته إلا في أوقات الغذاء أو النوم. أما في الحالة الثانية، فبالإضافة إلى تعيين موظفين لإخضاعه للمراقبة المشددة، قد يجري عزله وحبسه بشكل دائم. في بعض المؤسسات، كما في مشفى لا ترينيتيه بإكس آن بروفانس، كانت هناك محاولات للاستعاضة عن الجنازير بقيود تتيح للمختلين عقليًّا مع ذلك أن يتحركوا ويتنقلوا في الفِناء، فضلًا عن الحبس والتقييد بالمعنى الحرفي، كانت هناك العديد من الأدوات التي يتم استخدامها بصورة منتظمة للعقاب: الأغلال أو القيود الحديدية، والأقفاص كما في شارنتون.

يبقى أن نعرف ما إذا كان المختلون عقليًّا يتلقون عمومًا معاملة جيدة أم سيئة. إذا صدقنا ما ورد في اللوائح والتقارير الصادرة عن دور الاحتجاز الجبري، نجد أن كل شيء كان مُعدًّا لتحسين حالة المختلين عقليًّا (ليس هناك إلا مشفى باريس العام الذي لم يتكبد حتى عناء محاولة تطبيق هذا النظام في تقاريره). في شارنتون، كان يتم اصطحاب ذوي السلوك الهادئ من المختلين عقليًّا في نزهة تصل أحيانًا إلى الريف. أما ذوو السلوك العنيف، فكان يتم حبسهم في زنزانة لا تتضمن «سوى غرفة صحية مُؤَمَّنة أكثر من الغرف الأخرى». وكان يتم إخضاعهم لحمامات، وعمليات فصد، وعلاجات مختلفة لمعالجة الجنون (سنعود إلى هذه المسألة لاحقًا). وكان المستوصف يستقبل أولئك وهؤلاء لدى إصابتهم بأي تَوَعُّك. وكانت هناك مكتبة منتقاة بعناية مُجهزة لأولئك الذين لديهم الحق في القراءة. وكانت وجبة الغداء (الفطور بالنسبة إلينا) تتكون من «قطعة من أجود أنواع الخبز ومقدار نصف ستية [٢٥ سنتيلترًا] من النبيذ(!)» أما وجبة العشاء (الغداء بالنسبة إلينا)، فتشمل «قطعة لحم بقري أو لحم ضأن مسلوقة، أو شريحة لحم خنزير مطبوخة بالماء المملح مع التوابل، وطبق مقبلات، ومقدار نصف ستية نبيذًا». وفي وجبة المساء، كان يُقدَّم «لحم العجل أو الضأن المشوي، ونصف ستية من النبيذ». في سان يون، كانت قائمة الطعام تتغير يوميًّا، وهناك أيضًا كانت تُقدم اللحوم في الوجبتين، عدا يوم الجمعة بطبيعة الحال؛ إذ كان يُقدَّم فيه «سمك القد أو غيره من الأسماك المملحة» في العشاء والبيض كوجبة مسائية. «وكانت تُقدم الحلوى جميع الأيام ما عدا ثلاث مرات في الأسبوع؛ حيث يتم استبدال السلطة بها.» في دور الاحتجاز الجبري ذات الميزانية المتواضعة، يبدو أنه كان هناك اقتناع بأن «ثلاثة أرغفة من الحنطة زِنَة اثنتي عشرة أوقية [٣٦٦ جرامًا]، وثلث كأس نبيذ [٦٠ سنتيلترًا] وحساءً سميكًا نهارًا وليلًا، مع خضراوات، ولحومًا ومعكرونة» تمثل حصة غذائية كافية يوميًّا.

ومن ثم، لن يكون مفاجئًا الحصول على صدًى متباين للغاية في الخطابات التي أرسلها بعض المختلين عقليًّا القادرين على صياغة شكاواهم. في الواقع، كان يحق لأي مسجون بموجب أمر ملكي، سواء أكان سجينًا سياسيًّا، أم جانحًا، أم مختلًّا عقليًّا، رفْعُ شكوى أو تظلم، ويجب تحويل مذكرته للعرض على فرساي. ينطبق الأمر عينه على المعتقلين بناءً على أحكام قضائية، الذين كان بإمكانهم مراسلة النائب العام لبرلمان باريس وكان يتم إجراء تحقيق إثر تلقي شكاواهم، خاصة إذا كان الشخص المعني يحتج على اعتقال تعسفي أو حجز متعنت. ولكن، هل كانت تتم دائمًا إحالة هذه العرائض، بالنظر إلى أن رؤساء الديوان الملكي كانوا يقومون أولًا بفرز الكتابات التي يرونها جنونية؟

الشكاوى التي وصلت إلينا تقدم لنا صورة مختلفة تمامًا لحياة يومية مليئة بأنواع شتى من الحرمان، مع إجبار المحتجزين على تناول الخبز الجاف والماء عند ظهور بوادر انحرافات سلوكية، وتقييدهم وحبسهم دون مبرر، وضربهم من قِبل الخدم السود، بل والرهبان. وكان المُتظلِّمون يرفقون شكاوى جماعية ومذكرات دفاعية بخصوص هذه الاتهامات. في عام ١٧٦٧، قدم أحدهم شكوى إلى رئيس أساقفة تولوز يلوم فيها الآباء الرهبان الفرنسيسكان بدير سان بيير دو كانون على قيامهم باحتجاز المختلين عقليًّا لتحقيق منفعة خاصة، منتهزين فرصة أن المختلين عقليًّا، خلافًا للجانحين الآخرين، يمكن أن يظلوا محتجزين مدى الحياة ومحرومين من كل شيء بما أن وضعهم لا يسمح لهم بالشكوى. وفقًا لمذكرة دفاع نُشِرت في عام ١٦٩٧، كان المختلون عقليًّا المحتجزون بسان لازار يتعرضون لإساءة المعاملة مثلهم مثل الجانحين: «يقوم الإخوة الخدم أو الحراس بأخذ المختلين عقليًّا في نزهة في ساحة الدار في فترات العصر وفي أيام العمل. إنهم يقودونهم جميعًا والعصا في اليد كما يقاد قطيع من غنم، وإذا انسل أحد خارج القطيع، أو كان لا يستطيع السير بسرعة الباقين نفسها، تنهال عليه العصي بمنتهى القسوة والوحشية لدرجة أن بعضهم يصاب بعجز أو تشوه، وآخرون تُهشَّم رءوسهم ويموتون من فرط ما تلقوه من ضرب.»11
حتى لو لم يجب التسليم تمامًا بما جاء في هذه المذكرة التي تُعد مقالة نقدية لاذعة موجهة ضد سان لازار (وهو ما فعله، على الرغم من ذلك، ميشيل فوكو فيما يتعلق بهذا النص)، فإن هذا لا يمحي السمعة السيئة التي شاعت عن الآباء الرهبان خلال القرن الثامن عشر. لقد كان السوط سمة مميزة للمؤسسة، لدرجة أن الرهبان أُطلِقَ عليهم لقب «الإخوة المُعَاقِبون بالضرب».12 العديد من الجانحين كانوا يشتكون من هذه المعاملة، كما هي الحال بالنسبة إلى نزلاء سجن جبل القديس ميشيل الذين كانوا يشكون أنهم «يتعرضون للضرب» و«يوضعون في أقفاص» من قِبل الرهبان. ولكن يتعلق الأمر بالجانحين الذين يجب بحق، في نظر الرأي العام، تأديبهم. تكمن المسألة في معرفة إلى أي مدًى — في ظل حياة يومية تتسم بالتفاهة والابتذال — يعي الرهبان القائمون على إدارة دور الاحتجاز الجبري الفرق بين الجانحين والمختلين عقليًّا، بحيث يحتفظون لأنفسهم بحق إساءة معاملة الجانحين وحدهم، واضعين نصب أعينهم أن المختلين عقليًّا مجرد مرضى. شتان ما بين فرساي وهذه العقول المستنيرة.
في منتصف الطريق بين هذين المصدرين المتناقضين، من المؤسف عدم امتلاكنا لشهادات مباشرة ﻟ «مستخدمين». هناك بعض الأقوال، شديدة الندرة بالنسبة إلى المؤرخ، رواها بعض الجانحين، مثل ذلك الكاهن الذي كان محتجزًا في لاسيليت، على حدود منطقة أوفيرني الإدارية، وكتب في عام ١٧٣٦ رسالة إلى حاكم المنطقة قال فيها: «جميع أولئك الذين أتعسهم الحظ وسكنوا في سجن لاسيليت الشنيع حيث يسمعون اسم الله القدوس يُجدَّف عليه نهارًا وليلًا من قِبل الحمقى، يعانون ليس من الطعام البشع والمقزز فحسب، بل أيضًا من الضَّجَّة المتواصلة التي يحدثها المختلون عقليًّا المذكورون، الذين وصل بهم الأمر إلى حد تهديد المُصَلِّين يوميًّا بالقتل.»13
إن شهادة لاتود،14 الذي نُقِل من الباستيل إلى شارنتون في عام ١٧٧٥، مثيرة للاهتمام، حتى ولو كان لا ينبغي التسليم بها بشكل مطلق. إن مذكراته، التي ظهرت في بداية الثورة، جعلت منه «واحدًا من أكثر ضحايا الاستبداد الملكي إثارة للشفقة». لقد سجنه الملك منذ عام ١٧٤٩ وحتى عام ١٧٨٩. بعد أن أصبح هذا السجين لا يُطاق في الباستيل — السجن نفسه الذي هرب منه في عام ١٧٥٦ — نظرًا لأنه كان مصابًا ﺑ «هَوَس الكِتابَة»، وقد وصل به الأمر إلى حد الكتابة على قميصه بدمه (يمكن الاطلاع على المستند الذي يثبت هذا الكلام والموجود في أحد صناديق المحفوظات بمكتبة الترسانة)؛ جرى نقله إلى شارنتون «بسبب إصابته بخلل عقلي». بالطبع لا يعتبر لاتود نفسه مجنونًا، وهو على الأرجح ليس مجنونًا تمامًا، ولكن ما يهمنا هنا هو تلك العلاقة التي يبرزها لنا، نَوْعًا ما كخلفية، عن المجانين في شارنتون. «صُمِّمَت دار شارنتون خِصِّيصَى لتكون بمنزلة مصحة للمجانين: بعضهم يكون في حالة مستمرة من الجنون والهياج والغضب الشديد مما يجعلهم خطرين؛ ولذا يجري حبسهم وتقييدهم بالسلاسل في أماكن مغلقة أشبه بالحجرات، حيث لا يخرجون منها أبدًا. وآخرون لا تنتابهم فورات الغضب ونوبات الهياج إلا بصفة دورية وفي أوقات معينة من السنة، وفيما خلا ذلك ينعمون بالهدوء والاتزان العقلي، ومن ثم تُترَك لهم الحرية الكاملة داخل الدار حيث لا يتم احتجازهم إلا حينما يكونون على وشك الانزلاق في هذه الحالة المؤسفة. وأخيرًا، هناك أولئك المصابون بجنون هادئ ومسالم بل ولطيف في بعض الأحيان، وغالبًا لا يثير جنونَهم إلا فكرةٌ واحدة أو شيء وحيد، وفيما عدا ذلك يبدو أنهم يتمتعون بذهن صافٍ وحاضر. هؤلاء، يُسمح لهم عادةً بالخروج من غرفتهم والالتقاء بالآخرين والتجمع والتنزه في جميع أرجاء الدار، بل إن بعضهم يحصل على إذنٍ بالخروج من الدار خلال النهار.» في موضع آخر، يضيف لاتود: «لقد قلت إنه كان هناك بالفعل مجانين تأتيهم نوبات الهياج والغضب بشكل دوري: وحين تنتابهم تلك النوبات، كان يتم إنزالهم في حجرات سفلية أو سراديب تحت الأرض أشبه بالمقابر حيث كان يجري تقييدهم، وأحيانًا كان يتم وضعهم في أقفاص حديدية. وحين تنقضي نوبة الهياج، كان يجري اصطحابهم إلى المبنى الرئيس الذي يحوي غرف النزلاء الآخرين.» في عام ١٧٧٧، أُلقِيَ لاتود، الذي كان قد أفرِج عنه ولكنه سرعان ما أُدِينَ في قضية احتيال أخرى، في بيستر. وهو أمر مؤسف بالنسبة إلى التحقيق الذي نجريه، فلم يتم وضعه هذه المرة لدى المجانين وإنما لدى الجانحين. «ما زلت أرتعد حين أنطق اسم بيستر.» زنازين الحبس الانفرادي، ضربات العصي، القمل والبراغيث، الجَرَب، الإسقربوط، المجاعة على وجه الخصوص … أين أيام الباستيل «الجميلة»، حين كان يُسمَح لنا بمناقشة قوائم الطعام، وأين أيام شارنتون بحدائقها، ومكتبتها وصالة البلياردو التابعة لها؟ ولكن في حقيقة الأمر، إن دار بيستر للمجانين لا يمكن أن تكون أكثر راحة من الإصلاحية.
ولكننا يجب ألا نستنتج من ذلك أن الحمقى المُحتجَزين كان يجري تسليمهم إلى دور الاحتجاز الجبري دون رقابة. إذ إن سجلات الدخول والخروج، والوفيات، والتقارير المنتظمة، وعمليات التفتيش التي كان يقوم بها القائد العام لشرطة باريس أو النائب العام أو حكام الأقاليم بشكل شبه سنوي؛ تشهد على أنه كان هناك حرص دائم على عدم التخلي عن المختلين عقليًّا وتركهم لمصيرهم. إن عمليات التفتيش تلك، التي كان يتم إجراؤها دائمًا بمنتهى الدقة، تُعد دليلًا قيمًا على الجنون، ليس في المرحلة السابقة للاحتجاز، بل بالأحرى في أثناء فترة الاحتجاز. هذه هي الحال في شارنتون وسان لازار على وجه الخصوص. العديد من البيانات تكتفي باستخدام بعض التعبيرات المختصرة على شاكلة: «مختل العقل دائمًا»، «مجنون هائج على فترات»، «أصبح معتوهًا»، بعض التقارير الأخرى تتكلف عناءَ إجراء مقارنات بين الملاحظات التي يبديها كل مختل على حدة والمطابقة بينها، زيارة بعد أخرى، مع رصد تطور الجنون. كان القاضي يدخل كل غرفة، وكل حجرة، ويستجوب شخصيًّا الأحمق. ومرة أخرى، نجد أن الجنون لم يكن يتم الحكم عليه استنادًا إلى التقييم الطبي، وإنما استنادًا إلى الخلفية السلوكية التي أفضت إلى الاحتجاز في المقام الأول. في الواقع، للتعرف على المجنون، نحن لسنا بعيدين تمامًا عن الصيغة التي وردت بأحد كُتَيِّبات محاكم التفتيش في أواخر القرون الوسطى: «وكيف للمرء أن يعرف أنه يتعامل مع مجنون؟ الغبي يتحدث بغباء.»15 هذا «يتحدث عن ملايين»، وتلك «تنادي لويس الخامس عشر، ولويس السادس عشر، وجميع الأمراء واحدًا تلو الآخر.» يُضاف إلى ذلك ما نتبيَّنه عند النظر إليه للوهلة الأولى: «يبدو السبب الكامن وراء حبسه مطبوعًا على وجهه ومتغلغلًا في كامل شخصه.» في بعض الأحيان، تمثل عمليات التفتيش فرصة لنقل أولئك الذين يبدو عليهم بشكل واضح أنهم ليسوا مجانين (أو إذا أردنا، أولئك الذين لا يَظهر الجنون في تصرفاتهم بما فيه الكفاية) إلى الإصلاحية التي يجري فيها حبس الجانحين: «لا يمكن أن نعده في مصافِّ المختلين عقليًّا دون أن يكون في ذلك إجحاف بحقه وإهانة لعقله.»

ها هو السيد دوكلو دي بوسار في شارنتون: «إنه أحمق أكثر هياجًا من غيره. يقول: إن جميع مَن يراهم مُسَمِّمين […] وإنه هو الوحيد الذي لديه القدرة على السيطرة على الأرواح والجن. يبدو لي أن خطابات مماثلة هي عناوين دالة إلى حد ما على الجنون.» في عام ١٧٠٩، «إنه أكثر هياجًا من أي وقت مضى.» وفي عام ١٧١١، «يتحدث الآن قليلًا جدًّا ويفكر أقل، وهكذا سرعان ما سيقتاده جنونه إلى بَلَه معتاد سينتهي بالموت.» ها هو سيمون دو لوبيل في سان لازار: «إنه مخبول وهائج في كثير من الأحيان، والألمان يعذبونه.» في عام ١٧٠٦، كان يظن نفسه القديس فيلبس، وفي عام ١٧١٠، لويس الرابع عشر. تدهورت صحته تدريجيًّا، وفي عام ١٧١١، بات قريبًا جدًّا من نهايته. ودائمًا في سان لازار، هناك ذلك المدعو ميشيل أمبرواز، الذي «يتجلى جنونه في تحدثه باللاتينية كلامًا غير مفهوم وغير مترابط […] ولكنه وديع إلى حد كبير، وكل ما نستطيع أن نأمله هو ألا ترتفع درجة حرارة مخه.» في عام ١٧٠٨، «وصلت حالة البله لديه إلى ذروتها. كان غالبًا ما يرفع دعوى على نفسه ويترافع فيها. وحين يشعر بالسأم، كان يمضي أيامًا بأكملها دون أن يفتح فمه ودون أن تكون لديه أي رغبة في تناول الطعام.» لم يحدث أي تغيير حتى عام ١٧١١. هناك أيضًا بول لوكوك دو كوربوي، «مختل العقل الذي لا يتحدث إلا عن الأمور المالية والعقارات». في عام ١٧٠٢، ازداد جنونه: فكان «يغني دائمًا ولا يَشغَل مخيلتَه إلا الكنوز المزعومة، أو الشمبانيا أو متعة الصيد». «تكرر الشيء نفسه في الأعوام ١٧٠٩، و١٧١٠، و١٧١١ وتحسنت صحته عن المعتاد». فيما يتعلق بالصحة الجسدية، حين تكون بحالة جيدة، تأتي الملاحظات تهكمية أحيانًا. هناك ذلك الكاهن الذي لم يرد أن تتم تدفئة غرفته وقضى هكذا فصل الشتاء الرهيب لعام ١٧٠٩، وأثارت حالته التعليق التالي: «ولكن صحته لم تكن يومًا أفضل حالًا وتهدد بأنه سيعيش طويلًا.» وعن آخر، قيل: «إنه على خير ما يرام.» وعن آخر أيضًا: «لقد أصبح سمينًا جدًّا على نحو يثير الدهشة، ولكن يُخشى ألا تدوم حياته لفترة طويلة.»

هناك أيضًا الذين يصمتون بعناد، بحيث لا يريدون (أو لا يستطيعون) قول اسمهم ولا سنهم. هذا الرجل العسكري، الذي كان الملك يدفع نفقة إقامته، «يريد بشكل مطلق المكوث في غرفته، والتزام الصمت كيفما يشاء، ولكن هذا الإفراط في السكوت أظهر أن حالته الذهنية تتدهور وتزداد سوءًا.» وهناك الذين يرفضون الأسرار المقدسة؛ مما يعد — في ظل مجتمع مسيحي متشدد — مؤشرًا غير جيد. وهناك أيضًا الذين يصرون على وجه الخصوص على هذيانهم بشكل متعنِّت سواء فيما يتعلق بجنون الدين، أو العظمة، أو الاضطهاد، أو الثراء: «إنه يظل متشبثًا بهذه الخرافات.» يكمن نمط الاحتجاز الأكثر كلاسيكية في الانتقال التدريجي، مع مرور السنوات، من حالة الجنون الذي يرافقه اهتياج إلى حالة «البَلَه»: «بعد أن كان مجنونًا هائجًا حين اقتيد، صار معتوهًا وصَموتًا. ضعيف الذهن» … «يغفو طوال الوقت، لم يستيقظ إلا في أوقات الوجبات» … «لقد أصبح في الفترة الأخيرة عبارة عن كتلة من اللحم لا حياة فيها» … «لم يعد يعيش إلا على لحوم البهائم» … وفي كثير من الأحيان، تأتي هذه العبارة المقتضبة والقاطعة في الختام؛ «في مرحلة الطفولة». وفي بعض الأحيان، تأتي نوبات عرضية من الغضب والهياج لتقاطع حالة الخمول هذه: «عقل مختل على فترات ينتابه اهتياج حينما نحدثه عن والدته» … وذاك أحمق آخر في سان يون، «فيما عدا الأوقات التي يكون فيها في حالة ثورة واضطراب شديدين حين نضايقه، هو عادة هادئ للغاية ومنضبط في سلوكه.» تلك الحمقاء نزيلة السالبيتريير ليست هائجة بالمعنى الدقيق، ولكنها تمزق دومًا أغطيتها وملابسها. «ينبغي حتمًا تقييدها بالأصفاد إذا أردنا أن نجعلها تتنشق الهواء.»

معظم المختلين عقليًّا هناك منذ فترة طويلة للغاية، بعكس الجانحين، الذين لا يبقى أغلبهم إلا بضع سنوات. في سان لازار وشارنتون، أكثر من نصف المختلين عقليًّا موجودون هناك منذ ما يزيد على عشر سنوات، وبعضهم منذ أكثر من عشرين عامًا. بل إن بعض «العمداء» يتجاوزون الثلاثين عامًا في الحجز. بالنسبة إلى أولئك، لا ينتهي الاحتجاز إلا بانتهاء الحياة، جميعهم يموتون «دون أن يتعرفوا إلى أنفسهم». وهو ما يفسر، بالإضافة إلى العدد المحدود للأماكن المتاحة، أن معدل التناوب، هناك كما في الأماكن الأخرى، ضئيل للغاية، مع دخول بعض الحالات الجديدة سنويًّا. لم تستقبل مؤسسة شارنتون، في الفترة من ١٦٨٦ إلى ١٧١٤، إلا ٣٤٧ مختلًّا، بينما لم تستقبل سان لازار، في الفترة نفسها، إلا بالكاد مائة مختل تقريبًا. وفي عام ١٧٧٦، بلغ عدد المختلين عقليًّا الذين دخلوا مشفى سان يون (في روان) قبل عام ١٧٧٠ اثنين وعشرين شخصًا، وبعد هذا التاريخ، سبعة فقط. كان الجانحون يمضون والمختلون عقليًّا يبقَون، ويشغلون ببقائهم الأسِرَّة القليلة المتاحة.

بصرف النظر عما قاله النقاد ومُتَصيِّدو الأخطاء عن هذه الحقبة (لقد كانوا موجودين بالفعل، ولكنهم كانوا قلة)، لم يكن يتم الإبقاء على الشخص مُحتجَزًا في حالة انتفاء المُبرِّر لذلك، ولا سيما أنه كان هناك طلبات احتجاز مُعلقة موضوعة على قائمة الانتظار للأسِرَّة القليلة المتاحة. خلال عمليات التفتيش، تفرض مسألة الخروج نفسها على نحو منتظم. إذا كنا نقرأ أحيانًا بعض التعليقات مثل: «يبدو الآن وديعًا ولكن التغيير الذي طرأ عليه ربما يكون في حاجة إلى اختبار أطول»، فإننا غالبًا ما نقرأ ملاحظات أخرى مثل: «علمت أن دماغه بحالة جيدة جدًّا [بعد سنة واحدة]. ومن ثم، أظن أنه يمكن إطلاق سراحه.» وبالفعل يخرج المختل بعد هذا التصريح. أما نيقولا دوبويسون — ٤٥ عامًا — المحتجز في شارنتون منذ عام ١٧١٠ (نحن الآن في عام ١٧١٢)، فنقرأ عنه «لا تظهر عليه مخايل الضعف الذهني إلا في رغبته في التحدث إلى الملك، ولكنه لا يشرد أبدًا عند التحدث في مواضيع أخرى، وطالما بدا شديد التدين والوداعة. وبناء عليه، أظن أننا يمكن أن نخلي سبيله إذا استطعنا تعيين شخص من أهل الثقة بحيث يكون على استعداد لإعادته إلى بلده.» في الواقع، عاودته نوبات الهياج في العام التالي، لكي يخرج مع ذلك في عام ١٧١٤، على الرغم من الملحوظة التي نقرؤها بشأنه والتي جاء فيها: «البلاهة المعتادة دومًا، والتي يبدو أنه لا أمل في شفائه منها أبدًا.» فما حدث هو أن عائلته اتخذت في غضون ذلك قرارًا باسترجاعه؛ إما بدافع التعاطف وإما على الأرجح بدافع توفير نفقة الإقامة. وهكذا فإن العديد من الحمقى، الذين كانوا لا يزالون غير قابلين للشفاء ولكنهم استعادوا هدوءهم، كانوا يخرجون بعد بضع سنوات بناءً على طلب عائلاتهم. في الأقاليم، كان الحاكم والعائلة يُقدِّمَان في كثير من الأحيان طلبات مشتركة لإلغاء الخطابات المختومة الصادر بموجبها أوامر ملكية: «لقد أمضى الفصول الأربعة دون أن تظهر عليه علامات الجنون» (مون سان ميشيل، ١٧٨٤). وكانت الأفضلية تُعطَى بصورة منهجية للطلبات القابلة للنجاح. لا يُقصَد بالضرورة ﺑ «قابل للنجاح» الحمقى الذين نالوا الشفاء (فقد كانت الأغلبية الساحقة منهم ميئوسًا من شفائها منذ دخولهم)، ولكن يُقْصَد بهذا التعبير المختلون عقليًّا القادرون على «العودة إلى المجتمع دون التسبب بأي ضرر». في عام ١٧٦٠، أراد زوج استعادة زوجته، التي احتُجِزَتْ في سالبيتريير بموجب أمر ملكي لأنها مجنونة؛ ولذا توجه إلى القائد العام لشرطة باريس، الذي ذهب بدوره إلى رئيسة «المشفى» التي أجابت قائلة: «هذه المرأة لديها دومًا الأفكار نفسها ولكنها ليست مصابة بالهياج، ولا شريرة. ومن ثم، بما أنها هادئة، فأعتقد أنه لا مانع من بقائها مع عائلتها.» لم تكن الإدارة توافق دائمًا على خروج النزيل: «أظن أنه لو لم يكن في هذه الدار، لوجب إيداعه بها. وأعتقد أن مطالبات أنسبائه من ناحية الأم بالإسراع في إخراجه لن تبدو لهم صائبة إذا رأوا وضعه الحالي.» وفي كل الأحوال، كانت مسألة التصريح بخروج المجانين الذين يُنظر إليهم باعتبارهم خطرين غير واردة بالمرة.

في أغلب الأحيان، يكون الخروج مرتبطًا ببعض الشروط الواجب استيفاؤها، أولها أن تتعهد العائلة المُطالِبة بخروج المريض بمراقبة مريضها جيدًا، بل وإبعاده عن الأماكن التي ارتكب فيها أفعالًا جنونية. فها هي تلك الفتاة الشابة التي غرقت في «سوداوية عميقة» استدعت حبسها، بعد أن تسببت في «مصرع الرجل الأكثر وسامة في الوحدة العسكرية» بمدينة لاون، أردنا إخلاء سبيلها بما أن حالتها الصحية تحسنت، ولكن بشرط ألا يتم ذلك في بلدية لاون؛ حيث إنه «ما زال فيلق الجيش التابع للملك متمركزًا في مواقعه الدفاعية بالحامية العسكرية.» وحين يُصرَّح لشخص ما بالخروج مع وجود بعض التحفظات من جانب الإدارة (سيكون في حالة يُرثى لها، إذا خرج من المشفى)، لا يكون الانتكاس مستبعدًا أبدًا؛ مما قد يؤدي إلى التقدم بطلب احتجاز جديد: «منذ أن تمتع بحريته، صدرت منه الكثير من التصرفات الجنونية الشاذة» (تكسير الأبواب، ضوضاء ليلية …) «بعد أربعة أشهر، عاودت نوبات الهياج الظهور لديه وأصبح من الضروري حرمانه كليًّا من حريته» (وفقًا لما ورد في طلب الاحتجاز الثاني في بيستر، ١٧٧١).

نحصي بعض عمليات الهروب ولكنها أقل شيوعًا بكثير عما هي عليه لدى الجانحين. نذكر على سبيل المثال حالة أحد كهنة كاتدرائية أوتون الذي فر من سان لازار في عام ١٧٠٥، «ولكن نظرًا لأنه لم يتصرف على نحو عاقل بما فيه الكفاية، لم تكن هناك صعوبة في إعادته مرة أخرى إلى المشفى.» نتج عن عمليات الهروب أو محاولات الفرار العديد من عمليات النقل بين دور الاحتجاز الجبري ذات الأنظمة المختلفة. في عام ١٧٧١، هرب المدعو دو لاجونكيير — ذو الثلاثين عامًا — من دار سان بيير دو كانون حيث كان مُحتَجزًا، ولم يخلُ هروبه من محاولة إحراق الدار. بعد أن أُلقِيَ القبض عليه وثَبَت أن «السياج المحيط بدار سان بيير دو كانون لم يكن مُؤَمَّنًا جيدًا»، تم حبسه في سجن الدولة بجزيرة سانت مارجريت. بدأت سجون الولايات تنفر أكثر فأكثر من استقبال المختلين عقليًّا الثائرين. فقد أعرب رهبان مون سان ميشيل عن اعتراضهم قائلين: «هذا القصر ليس مُعَدًّا لإرسال المختلين عقليًّا إليه»، وذلك حين تمكن مجنون هائج في إحدى الليالي، بعد أن تخلص من قيوده، من تكسير كل شيء في غرفته، بما في ذلك الباب والنافذة ثم قَذَف السكان الموجودين بالأسفل بالحُطام المتنوع.

وكانت هناك تحويلات أيضًا تتم بناءً على طلب العائلات؛ أحيانًا على أمل أن يؤدي التغيير إلى حدوث تحسن، وغالبًا لأن نفقة الإقامة تزداد غلوًّا مع مرور السنوات. وهكذا نرى العديد من المختلين عقليًّا يتنقلون بلا هوادة من دار احتجاز إلى أخرى إلى أن ينتهي بهم المطاف في بيستر أو في سالبيتريير. وينتج عن كل هذا مسارات معقدة في أغلب الأحيان. فهذه البلهاء احتجزت بادئ ذي بدء في يونيو ١٧٣٧ في دار شاريتيه بكاين، حيث أشعلت النيران. وها هي في سبتمبر في دار سانت بيلاجي بباريس، ثم في دار رهبانية الأخوات أورسولين بكرافان (بالقرب من أوكسير) في عام ١٧٤٣، ثم انتقلت إلى دار رهبانية الأخوات أورسولين في أفالون في ١٧٤٨. أما عن تلك الأرملة المدعوة كرونييه، فيُظهر مسارها بشكل واضح مدى تعقيد وبراجماتية اعتقالات المختلين عقليًّا في ظل النظام القديم. كاترين كرونييه — التي لا نعرف عمرها، ولكن من المؤكد أنها كانت لا تزال شابة — أرملة منذ عام ١٧٦٠؛ ولذا «داهمتها الأبخرة». وهذا، بالإضافة إلى ما أظهرته من «سلوك غير سوي تمامًا»، دفع عائلتها إلى تركها في رعاية والدها. ولكن هذا الأخير توفي. ومن ثم، قضى الأمر الملكي الصادر بناءً على الطلب الذي تقدمت به العائلة باحتجازها في عام ١٧٦٩ بأحد الأديرة في كودبيك. وهناك، أدت فورات الغضب والهياج التي كانت تنتابها إلى نقلها في عام ١٧٧٢، بموجب أمر ملكي جديد، إلى دار بون باستور (الراعي الصالح) في روان؛ حيث أصابتها «نوبات هياج حادة لدرجة أنه كان لزامًا تقييدها.» ثم جرى نقلها من جديد في عام ١٧٧٦ إلى دار بون باستور بليزيو، وفي عام ١٧٨١ إلى بيرناي. في ذلك العام، حصلت العائلة على حكم بالحجر عليها بناءً على طلب تقدمت به. وهكذا وُضِعَت كاترين في دار بون سوفور بكاين. وفي عام ١٧٨٥، كتبت رئيسة الدار عنها قائلة: «حالة الجنون لديها تكون — في بعض الأوقات — حادة بما يكفي لجعلها غير قادرة على العيش في العالم، على الرغم من مرورها بفترات صحو وجلاء ذهني.» ومع ذلك، فهذه هي الحقبة — وسنتناول ذلك باستفاضة — التي عكفت فيها الإدارة المَلَكية بهمة ونشاط على تنظيم عمليات الاعتقال التي تمت بموجب الأوامر المَلَكية. وفي الواقع، منذ عام ١٧٧٢، لم تكن هناك أي أخبار جديدة بخصوص الخطابات المختومة أو الأوامر القضائية (لم يكن الحكم بالحجر كافيًا). كانت كاترين كرونييه في الحجز منذ سبعة عشر عامًا حين أرسل حاكم منطقة كاين الإدارية، في عام ١٧٨٦، خطابًا شديد اللهجة ليس إلى رئيسة دار بون سوفور، التي لم تلتزم بضرورة وجود أمر ملكي فحسب، بل أيضًا إلى محل إقامة العائلة: «إنني أتساءل باندهاش كيف لا يوجد، وسط هؤلاء الاثني عشر شخصًا [يقصد العائلة، وهم: أخ، وعم، وعشرة أبناء عم] الذين عرفوا جيدًا كيف يجتمعون للحجر على امرأة مسكينة تئن تحت وطأة الأسر؛ شخصٌ واحد على استعداد لاختبار ما إذا كانت الحرية تُحقق بالنسبة إليها نجاحًا أكثر مما حققته خمس سنوات من الحبس» (لا يتحدث الحاكم هنا إلا عن السنوات التي تولت الرئيسة خلالها المسئولية). أعارت العائلة أذنًا صماء للحاكم ولكنه أصر على موقفه. لماذا لا «نقوم بتهدئة أبخرة الحزن أو الغضب لديها بمنحها متعة الحرية؟» بعد مضي بضعة أشهر، بعد أن استبد الغضب بالحاكم؛ نظرًا لعدم تغير أي شيء، حضر بنفسه أمام بوابة بون سوفور، وأمر بأن تُفتح له البوابة وبأن يتم إرشاده إلى غرفة كاترين كرونييه. وهناك، أمام الراهبات المذعورات، قال لها: إن بإمكانها الخروج وقتما تشاء. منذ ما قبل الثورة، بدأ شيء ما يتغير …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤