الفصل الثاني

مداواة الجنون

ربما يكون وضع المجانين الذين تم احتجازهم في عهد النظام القديم — إذا استثنينا من ذلك الإصلاحات التي أجريت بعد فوات الأوان، إلى جانب ذلك الوضع الذي خلفته الثورة الفرنسية، بمجرد أن توقفت أعمال لجنة التسول — يدفعنا إلى التصور أنه، فيما عدا خدمات الرعاية المبهمة التي كانت تُقدم للبعض، لم يكن هناك أي تفكير حقيقي جدير بأن يُسمَّى تفكيرًا بشأن الجنون أو معالجته. ولكن هذا ليس صحيحًا، وهي ليست بمفارقة بسيطة حين يتكشف أن المجانين والجنون قد سلك كل واحد منهما بطريقة أو بأخرى طريقًا منفصلًا عن الآخر. لقد كوَّنا — في نهاية الثورة — عالمين استمرا متوازيين. وقد سادت حالة متبادلة من الإنكار والتجاهل بين ردود الفعل الاجتماعية والاستجابات الطبية، والدليل على ذلك قلة حالات الاحتجاز الناتجة عن تشخيص الطبيب. ولكن هذا ليس المقياس الذي يتم على أساسه الحكم على الجنون. وتعبير «الحكم على» مناسب لمقتضى الحال، بما أن القاضي هو الذي يقرر في النهاية مَن يُعَدُّ مجنونًا، ومَن ليس كذلك. أما فيما يتعلق بالرعاية التي كانت تقدم إلى المريض في المشفى الرئيس بباريس وفي المشافي الأخرى بالمدن الكبرى، فقد اقتصرت — مع توافر حُسن النوايا — على دستور العقاقير والحمامات اللذين يتم التوصية بهما منذ العصور القديمة. بيد أن البحث (إذا كان لدينا الجرأة على قول ذلك) حول الجنون كان ثريًّا للغاية وأسهم، أكثر بكثير مما هو شائع، في ميلاد الطب النفسي. ومع ذلك، لم تسفر هذه النظريات في زمانها — لتعددها ولجرأتها في كثير من الأحيان — عن ممارسات تطبيقية. وقد عبرت لجنة التسول عن أسفها الشديد حيال هذا الوضع على النحو التالي: «مما لا شك فيه أنه قد نُشِر عدد كبير من المؤلفات العلمية الهامة والغنية بالمعلومات حول هذا الموضوع الشائق، ولكن هذه المذاهب لم تحقق أي نفع ولا فائدة لهذه الطبقة البائسة ولم تخفف من آلامها.»

تأملات نظرية

إذا أردنا حقًّا أن نتحدث عن القرن السابع عشر بوصفه لا يمثل ميلاد تاريخ الجنون، على حد قول فوكو، وإنما إحدى مراحله (متسائلين في الوقت نفسه بصورة أعم عما إذا كان التقسيم التاريخي للجنون يشكل في حد ذاته ضربًا من ضروب جنون المؤرخ)؛ فسيتعين تناول هذا الموضوع بالنظر إلى سياق الثورة الفكرية، التي اندلعت شرارتها مع ديكارت. إن عدم التسليم في العلوم إلا بما يتفق مع العقل، يعد المبدأ الذي شكل بصورة صارخة قطيعةً مع الفلسفة المدرسية (الإسكولاستية) … مع ظهور المُؤلَّف الذي نشره ديكارت في عام ١٦٤٩ بعنوان «انفعالات النفس»، نشأت ثنائية الجواهر (ماهية المادة) والفسيولوجيا العَصَبِيَّة النظرية التي منحت الغدة الصنوبرية [الجسم الصنوبري] دور «الرقيب»: فعن طريق هذه الغدة يتلقى الجسم الأوامر من الروح. يرى ديكارت باعتباره معارضًا لفكرة ازدواجية النفس، التي تقول بوجود نفس عاقلة وأخرى حسية، أنه لا يوجد إلا نفس واحدة فقط، وهي النفس المفكرة المتحدة اتحادًا وثيقًا بالجسد، بحيث ينتج عن اتحادهما في الجوهر كيان ثالث وهو الإنسان المادي الملموس. أما فيما يتعلق بنظرية الأهواء، التي تُعَد قديمة قِدَم القدماء أنفسهم، فهي تسمح بالتمهيد لفكرة «حركات النفس» التي تقدم تعريفًا، إذا جاز التعبير، للطابع النفس-جسمي للانفعالات.

يدحض سبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧) — المؤمن بمذهب الواحدية — الثنائية الديكارتية، والتي شكلت فيما بعد مصدر إلهام لقطاع كبير من الطب النفسي المعاصر. يرى سبينوزا أن التعارض بين النفس والجسد ليس إلا تناقضًا بين إدراكين لواقع واحد. ويشير كورو دو لاشامبر (مؤلف كتاب «سمات الأهواء»، ١٦٤٠) إلى المنفعة الاستراتيجية التي حققها الأطباء والفلاسفة بتفضيلهم للأهواء، لكي يتمكنوا بذلك من الحفاظ على موقفهم كأخلاقيين مع بقائهم في الوقت ذاته في حقل الفلسفة، وكاختصاصيين في علم النفس بتطرقهم إلى الطب.

بخلاف النظامين الطبيين-الفلسفيين اللذين تشاركا التفكير الطبي السائد إبَّان القرن السابع عشر (العناية الطبية الآلي والعناية الطبية الكيميائي)، واللذين تركا فيما بعد بصمة على الطرق العلاجية، استمر الطب في عدم الفصل بين دراسة أمراض الجسد ودراسة أمراض النفس. فكما تصيب الأمراض الكبرى الأشخاص موفوري الصحة، تُبتَلى أيضًا العقول العظيمة والممتازة بأفظع ضروب الجنون، التي تحدث اضطرابًا في القوة الجسدية لدرجة تجعل الإنسان يفعل أشياء غريبة واستثنائية، ومن ثم يتم استدعاؤنا لإبداء رأينا حول هذا الاختلاف، ولمعرفة ما إذا كان مصدر هذه الأفعال خبث المريض أم غلبة المرض. وللحكم بدقة على الحالة وكتابة تقرير أمين عنها، لا بد من تفحص المريض ودراسة جميع عاداته وسلوكياته لمعرفة ما إذا كانت سوداوية أم صفراوية، وسؤاله عن العديد من النقاط، ولكن بأسلوب دقيق ومحدد ينم عن مهارة وذكاء؛ لأنه يجب ألا يتوقف المرء عند الرأي أو الاعتراف الذي يدلي به شخص مصاب بالسوداوية؛ إذ إنه غالبًا ما يقول ما لا يعرف، ويظن أنه يرى ما لا يراه فعليًّا، وحين يتصور أشياء خاطئة، فإنه يتشبث بها بحزم لدرجة قد تجعله يفضل بالأحرى مكابدة الموت على أن يغير موقفه أو يناقض كلامه، وهنا تتجلى قوة حركة مخيلته المختلة1 (١٦٠٩).

للبقاء على أعتاب القرن السابع عشر الذي ما زال قريبًا من عصر النهضة، لا بد من التوقف برهة عند مُؤلَّف هام وفريد من نوعه، كتبه بيير دو لانكر، أحد قضاة بوردو. ونحن لا نقصد هنا كتابه الشهير المعنون «جدول تَقَلُّب الأرواح الشريرة والشياطين» (الذي أبدى فيه تأييده العنيف لمطاردة الساحرات والمشعوذات، ولكن يتعلق الأمر، بالنسبة إليه كما يتعلق بالنسبة إلى العديد من العقول بأي شيء آخر غير الجنون)، وإنما المقصود هو مُؤلَّف آخر أقل شهرة من سابقه، وهو كتاب «جدول تَبَدُّل وتَقَلُّب الأشياء؛ حيث يتجلى أن الله وحده هو مصدر الثبات الحقيقي الذي يجب أن يهدف الإنسان الحكيم إلى الوصول إليه» (١٦٠٧). هذا المُؤلَّف الأخلاقي، كما يتضح من عنوانه، يتناول بأسلوب غاية في السلاسة واليُسر بعض التأملات والأفكار الطبية الأصيلة، والدليل على ذلك أن المرء يستطيع إذنْ (ولكن لفترة قصيرة فحسب) أن يكتب بحثًا قيمًا عن الجنون دون أن يكون طبيبًا ولا فيلسوفًا. الحكمة لا تأتي إلا «بشكل عابر»، بينما «تكمن بذرة الجنون داخل كل واحد منا.» بإيجاز، منذ الجنون الأول والأعظم؛ أي جنون حواء «حين أكلت الثمرة المُحرَّمَة»، أصبحنا جميعًا «جنسًا من المجانين». ولكن هذه الاستعارة سرعان ما دخلت في نطاق المقارنة بالجنون الطبي: «أحد أكبر التهديدات التي اعتاد الله توجيهها إلى البشر الخَطَأَة، وإحدى المصائب العِظام التي يبتلى الإنسان بها، هو الجنون؛ أي تركنا لهلاكنا لنسقط في هوة الخطيئة السحيقة.» يتناول دو لانكر في خطابه الهلاوس (بالتأكيد، من دون استخدام المصطلح نفسه) التي تنتاب المهتاجين الساخطين، ويتحدث أيضًا عن المخ باعتباره مقر الجنون ومسكنه. وبدأ يؤسس على استحياء نظامًا حقيقيًّا لتوصيف الأمراض على النحو التالي: «الجنون أشبه بشجرة […] تتفرع منه أنواع وأشكال متعددة كما تتدلى الأغصان والفروع من الشجرة وترتبط بها. فهناك الحمقى، والمصابون بالهياج والهوس والسعار، والمعاتيه ذوو المزاج المتقلب، وسريعو الانفعال […] ولا أريد أن أغفل أيضًا اليائسين […] بالإضافة إلى عدد من المصابين بالسوداوية والحالمين.» علاوة على ذلك، يشير دو لانكر أحيانًا بشكل صريح إلى الجنون المَرَضي، الذي يطلق عليه «الجنون الطبيعي»، والذي يصاب به الإنسان بالولادة أو عن طريق المصادفة، وفي هذه الحالة الأخيرة يحدث ذلك بسبب «العواطف المفرطة»، التي تمثل في حد ذاتها أشكالًا متنوعة من الجنون؛ كالهوس، والسوداوية، والحب، والغضب، وغيرها من المشاعر. وأخيرًا، يتناول دو لانكر بوضوح شديد مسألة تشرد المجانين، معربًا عن استيائه بشكل خاص من «ترك المجانين يتجولون بحرية في جميع الأماكن من دون أن يُقَيدوا بإحكام، حتى ولو كانوا في الكنائس؛ وذلك لأن المجانين، إضافة إلى كونهم دومًا خطرين، يُخشى أن يأتوا بأي فعل مذموم ينم عن وقاحة، ولا سيما في حق القربان المقدس.»

لم يكن روبرت بيرتون طبيبًا ولكنه كان عالمًا لاهوتيًّا وعميدًا لكلية أوكسفورد. وقد حقق كتابه «تشريح السوداوية»، الذي نُشِر في عام ١٦٢١، نجاحًا باهرًا في زمانه.2 يُعد هذا المُؤلَّف كتابًا جامعًا لكل ما كُتِب قبله عن السوداوية، كما أنه يقدم في الوقت ذاته — على الرغم من الدلالات الخرافية والمتطيرة — تفكيرًا أصليًّا بشأن الاكتئاب (قبل ظهور الكلمة نفسها)، يتعلق في جزء كبير منه بسيرة الكاتب الذاتية (في الواقع، سيلقى بيرتون مصرعه منتحرًا). يدل النجاح الفوري الذي حققه هذا الكتاب على أن الاهتمام بالسوداوية لم يتناقص. فقد اتسع مجال هذا المرض — الجذاب قطعًا — ليشمل حقولًا جديدة، مثل سوداوية الحب، التي أفرد لها بيرتون فصلًا كبيرًا في كتابه تحت عنوان (الحب-السوداوية). بعد ذلك بعامين، نشر جاك فِرَّان في باريس «داء الحب أو السوداوية الشَّبَقِيَّة». لم يكن هذا المُؤلَّف، الذي ورد به مصطلحا الهوس والسوداوية باعتبارهما مترادفين، ليحظى باهتمام كبير لو لم يُطَعَّم ببعض التأملات الفكرية البديعة، التي استحقت لروعتها أن يرد ذكرها في القصص والحكايات (الطريفة) الخاصة بهذه الفترة: «حب النساء أعظم وأسوأ من حب الرجال.» يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب؛ من بينها، لدى المرأة، «تقارب الأوعية المنوية». على النقيض، دفعت الطبيعة هذه الأوعية، عند الرجال، «بعيدًا خارج البطن؛ خوفًا من أن تصاب قوى النفس الرئيسة، والمخيلة، والذاكرة ومَلَكَة الحكم على الأمور، باضطراب شديد نتيجة لتأثرها بالأعضاء التناسلية وقربها منها.»
ولكن يتعين أن نعود إلى اثنين من الإنجليز الرواد في هذا المجال؛ وهما بالتأكيد توماس سيدنهام (١٦٢٤–١٦٨٩) وتوماس ويليس (١٦٢١–١٦٧٥)، لقب الأول ﺑ «أبقراط الإنجليزي»، واشتهر في البداية بأبحاثه في النقرس (فقد لاحظ هذا المرض ودرسه على نفسه شخصيًّا)، ويعد من أوائل الذين نظروا إلى الهستيريا على أنها مرض مختلف عن الأمراض الأخرى؛ إذ إنها تستطيع وحدها محاكاة سائر الأمراض المزمنة في مجملها. «هذا المرض مُتَلوِّن ويتخذ عددًا لا حصر له من الأشكال المختلفة، فهو أشبه بالحرباء التي تغير ألوانها إلى ما لا نهاية.»3 إن نظرية الأبخرة، التي جعلت الهستيريا تحظى بكل هذا الاهتمام والعناية، قد وُضِعَتْ لرصد مظاهر هذا المرض التي لا يمكن التنبؤ بها. بعد شارل لوبوا (١٥٦٣–١٦٣٣)، كان سيدنهام، بالإضافة إلى ويليس، واحدًا من أوائل المدافعين عن الأصل الدماغي للهستيريا التي لم تعد، وفقًا لما كانت قد ساقته نظرية الرحم المتجول، حكرًا على النساء. في الواقع، كان لا بد من الانتظار قرنين حتى تعتمد الكلية بشكل رسمي مفهوم الهستيريا الذكورية. أما عن الثاني؛ أي توماس ويليس — طَبيبٌ سَريرِي وعالِم متخصص في تشريح الجهاز العصبي — فقد أعَدَّ أول خطاب عقلاني ومُتَّسِق في الوقت نفسه حول الباثولوجيا النَّفْسِيَّة،4 واضعًا حدًّا لمسألة الشيطانية، ورافضًا العلاقة السببية بين الركيزة الخِلْطِيَّة والجنون، ونابذًا الطابع الديكارتي الميتافيزيقي للنفس والعقل. يرى ويليس أن العقل كَفَّ عن أن يكون مطلقًا، وحلت الوظيفة (دور أحد الأعضاء وعمله) محل المَلَكة (العقل).5 وقد طرح ويليس أيضًا، بعد أريتايوس وروفوس الأفسسي، احتمالية وجود روابط بين الهوس والسوداوية.

شهد القرن الثامن عشر، المختلف اختلافًا جوهريًّا، ظهور ظروف مواتية لبزوغ فكر علمي جديد. بعد ديكارت ونيوتن، أصبحت الطبيعة تُكتَب بلغة الرياضيات. وكما يؤكد فولتير، ليس من الملائم بالنسبة إلى هذا القرن المستنير أن يَتَّبِع خطى هذا الفيلسوف أو ذاك؛ فلا وجود بعد الآن لمؤسس مذهب معين، وإنما المؤسس الحقيقي هو البرهان. ها قد أتى العصر الذي شهد بزوغ نجم لافوازييه وبوفون، ولينيه وكوفييه، الذين شرعوا عن طريق وضع تصنيفات واسعة في تنظيم الطبيعة. حذا الأطباء حذو الباحثين في علم التاريخ الطبيعي وخاطروا بوضع أولى التصنيفات الكبرى للأمراض. أقدم فرانسوا بواسييه دو سوفاج — طبيب من مونبلييه — على الخطوة الأولى من هذا النوع حين أصدر في عام ١٧٣٢ مقالاته البحثية الأولى تحت عنوان «صنوف جديدة من الأمراض»، ثم وردت هذه التصنيفات من جديد بشكل موسع في كتابه الصادر عام ١٧٦٣ تحت عنوان «علم تصنيف الأمراض المنهجي». يحتوي هذا المُؤلَّف على وصف لما لا يقل عن ٢٠٠٠ مرض؛ حيث جرى تقسيم هذه الأمراض إلى فئات، ورُتَب وأنواع. خُصِّصت إحدى الفئات العشر — القسم الثامن — ﻟ «الذهان العقلي أو الجنون على اختلاف أشكاله وأنواعه: ويُقصَد به الخلل العميق نوعًا ما، الذي يصيب ملكات الفهم والإدراك.» نجد في الفئة الأولى الهلاوس أو الضلالات الذهنية «التي يجب أن تنشأ عن عيب بعضو ما خارج الدماغ، ومنه تأتي الضلالات التي تصيب المخيلة.» يندرج تحت هذه الفئة الدوار، والغشاوة، والعثرة، والارتباك (طَنينٌ بالأذن يرافقه هلاوس سمعية يعاني منها الشخص المصاب)، وعُصَابُ تَوَهُّمِ المَرَض والسرنمة. في الرتبة الثانية، نجد الكآبة والمزاج العكر [غرابة الأطوار] التي تتجلى في صورة «شهوة منحرفة أو اشمئزاز وكراهية شاذة». يندرج تحت هذه الرتبة، القَطَا (الرغبة الملحة طويلة المدى في اشتهاء أكلة واحدة أو أكثر من المواد غير الصالحة للأكل لمدة شهر على الأقل) أو شهوة الغرائب [اشتهاء مواد غير صالحة للأكل بشكل مَرَضي]، والنُّهام أو الشره المَرَضي، والعُطاشُ النَّفْسِيُّ المَنْشَأ [العطش المفرط]، والنفور، والحنين أو الشعور بالغربة، والرُّهابُ الشامِل [الهلع]، والشَّبَق، والغُلْمَة أو شدة الشهوة الجنسية عند الإناث التي يُطلق عليها (الاهتياج الرحمي)، والرَّقْوَصَة [مرض عصبي كان سائدًا في جنوب إيطاليا، ويظهر في صورة رقص هستيري متنوع، وتسببه لدغة حشرة الرتيلاء]، ورهاب الماء أو دَاء الكَلَب. نجد في الرتبة الثالثة الهذيانات التي تُعرَّف على أنها «أرقٌ أو تشويش في الحكم على الأمور منشَؤهما خلل في الدماغ.» يندرج تحت هذا التصنيف الهذيان (نقلة أو اغتراب، بمعنى هذيان عابر يحدث بفعل السُّمِّ أو غيره من الأمراض)، والهَبَل أو العته، والسوداوية، والهوس (الجنون) وهَوَس الشَّياطين. سوف نلاحظ أن بواسييه دو سوفاج قد صنف بحكمة، على غرار ابن سينا، أنواع الجنون الرئيسة ووضعها في الرتبة ذاتها. وأخيرًا، تأتي الرتبة الرابعة التي تشمل أشكال الجنون اللانمطية (ذهان عقلي شاذ) المتمثلة في فقدان الذاكرة والأرق. تنقسم كل فئة بدورها إلى العديد من الفئات الفرعية؛ حيث يشتمل العُصابُ المُراقِيُّ (عُصَابُ تَوَهُّمِ المَرَض) على عشر فئات فرعية، والعته على اثنتي عشرة فئة فرعية، ويندرج تحت السوداوية — بما أن لكل مقام مقالًا — أربع عشرة فئة فرعية.

كانت هذه التوصيفات المَرَضية العامة تعاني تارة من ارتباطها بشكل حصري بمَبْحَث الأَعْراض (بواسييه دو سوفاج، أو كولين، كان هو أول مَن استخدم في عام ١٧٦٩ مصطلح العُصاب للدلالة على الأمراض غير المصحوبة بالحُمَّى أو بالآفات الموضعية)، وتارة من كونها «سيكولوجيَّة» (على سبيل المثال، مَيَّز فايكهارد في عام ١٧٩٠ بين نوعين من الجنون: جنون العاطفة وجنون العقل). وقد حاول مؤلفون قليلون، مثل توماس أرنولد في إنجلترا،6 التوفيق بين الاتجاهين.

ومن بين الابتكارات التي تُعزى أيضًا إلى القرن الثامن عشر ابتداع الدراسات السريرية المكرسة حصريًّا للجنون، وذلك في إطار التيار الأوروبي واسع النطاق الذي تميز بالثراء والذي لا يتسع المقام الآن لتناوله بشكل كامل. وتجدر الإشارة إلى الإنجازات التي حققها الإنجليز في هذا المجال، ولنبدأ بذكر ويليام باتي (١٧٠٣–١٧٧٦)، وهو أحد أوائل مَن شهدوا على الجمع بين النظرية والتطبيق — إن لم يكن أولهم — في كتابه «أطروحة حول الجنون» (١٧٥٨). وسوف نرى ما هو الدور المحوري الذي اضطلع به في مجال إصلاح تقديم خدمات الرعاية الطبية في المشافي للمرضى عقليًّا في إنجلترا، وفي نشأة العلاج المعنوي. فيما يتعلق بمفهوم الجنون، يرى باتي أن الجنون هو اضطراب في الحس والشعور والمخيلة (الجنون، أو خطأ الإدراك) أكثر من كونه انحرافًا في العقل والذكاء. نذكر أيضًا ريتشارد بلاكمور الذي درس السَّوْداء في عام ١٧٢٥، وجورج تشين الذي نشر في عام ١٧٣٣ كتاب «المرض الإنجليزي» (المرض الإنجليزي أو أطروحة حول الأمراض العصبية على اختلاف أنواعها مثل السوداء، والأبخرة، والاكتئاب، والأمراض المتعلقة بالعُصاب المُراقِيِّ وبالهستيريا). حقق هذا الكتاب الأخير نجاحًا عظيمًا وبدا عصريًّا بشكل مثير للدهشة؛ نظرًا لأنه أرجع كل هذه الأمراض «العُصابِيَّة» إلى أسباب مثل الخمول البدني، وفَرْط التَّغْذِيَة، والاكتظاظ في المدن المزدحمة.

في إيطاليا، تمَيَّزَ مورجانيي (١٦٨٢–١٧٧١) — أحد مؤسسي الباثولوجيا التَّشْرِيحِيَّة — بدراساته العديدة التي أفردها لفحص المخ في حالات الشلل والعته. ولقد ثَبَتَ ابتداءً من هذا العصر أنه لم يُعثَر على أي آفات في الدماغ يرجع السبب فيها إلى الإصابة بالجنون، ولكن هذا الكشف لم يخلق جوًّا تنافسيًّا يلهم آخرين للسير على الدرب نفسه. شياروجي (١٧٥٩–١٨٢٠)، وهو طبيب ممارس أُسنِدَت إليه في عام ١٧٨٨ مسئولية رعاية المختلين عقليًّا بمستشفى القديس بونيفاس في فلورنسا؛ ونُشِر له فيما بين عامي ١٧٩٣-١٧٩٤ المجلدات الثلاثة من «أطروحته حول الجنون» (في شأن الجنون وتصنيفاته)؛ حيث وضع أسس الملاحظة العلمية للجنون، محاولًا أن يأخذ في الاعتبار الآفات التشريحية والاضطرابات الفكرية.

لقد كان للفرنسيين بصمة أيضًا في هذا المجال بظهور للو كامو (مؤلف كتاب «طب العقل»، ١٧٥٣) أو دوفور، الذي تظاهر للمطالبة بإنشاء «منزل خاص لعلاج الجنون» بعد حريق المشفى الرئيس بباريس في عام ١٧٧٢. ولقد أشرنا من قبل إلى المقالة البحثية التي كتبها بعنوان «دراسة حول عمليات الإدراك البشري والأمراض التي تصيبها بالخلل» (١٧٧٠). يعرض هذا المُؤلَّف، الذي يقدم تمثيلًا نموذجيًّا لعصره، اقتراحًا جريئًا يتمثل في «التقريب بين الأقوال الأكثر إثارة للاهتمام التي صرح بها الفلاسفة من جهة والأطباء من جهة أخرى بشأن هذه المواد وتشكيل نوع من الفسيولوجيا المَرَضِيَّة للإدراك البشري.» في الحقيقة، لم يَفِ هذا المشروع الجميل إلا بالقليل من وعوده. فيرى دوفور، حاذيًا في ذلك حذو أستاذه بورهاف — الأستاذ بجامعة ليدن — أن مقر الأمراض العقلية ليس في الدماغ، إلا في حالة إصابته بالخلل بفعل التوادِّ (أي العلاقة بين الجسم والعقل، التي تؤدي إلى تأثر أحدهما بالآخر). «إن العيوب الموجودة في مختلف أجزاء الجسم الأخرى تتسبب أيضًا في حدوث خلل وبلبلة في أفكار العقل» (نذكر على سبيل المثال تأثير الخَثْلَة في حالة عُصَاب تَوَهُّمِ المَرَض أو في العديد من الاضطرابات العقلية الأخرى)؛ «ولذا ليس من المستغرب عدم إحراز الطب لأي تقدم يُذكَر في علاج تلك الأمراض؛ نظرًا لأنه كان يبحث عن أسبابها في الدماغ.» ولا تُعد هذه النظرية المتعلقة بالأصل الوُدِّيِّ للجنون (ويُقصد بالأصل الودي أو التعاطفي للجنون: «تضامن فسيولوجي يتم عن بُعد»؛ بحيث يؤثر إصابة عضو ما في الجسم بتضرر أو خلل على إصابة الإنسان بالجنون أو الاختلال العقلي) نظريةً معزولةً.

نشر سيمون تيسو (١٧٢٨–١٧٩٧) — وهو طبيب أيضًا — بحثًا بعنوان «دراسة حول الصرع»، وهو الجزء الثالث من الأجزاء الستة التي يضمها كتاب «أطروحة عن الأعصاب وأمراضها»، ولكنه اشتهر بكتابه «بيان للشعب بشأن صحته» الذي صدر في عام ١٧٦١، والذي يُعَد أحد أوائل المؤلفات التي اهتمت بالتثقيف الطبي، كما اشتهر بكتابه «الاستمناء — دراسة حول الأمراض التي تسببها العادة السرية». وقد حقق هذا المُؤلَّف، الذي تُرجِم إلى لغات عدة، نجاحًا باهرًا، وصدر منه ما يزيد على ٣٠ طبعة فيما بين عامي ١٧٦٠ و١٨٤٢. لم يكن الطب النفسي قد نشأ بعد وها هو يتوغل ليغزو أراضيَ جديدة. بسبب الاستمناء، وبشكل عام، «الكمية الكبيرة من المني التي تُبدَّد بغير الطرق الطبيعية»، وقعت حوادث أسوأ وأفظع بكثير بالفعل من تلك «التي تصيب الأشخاص الذين يفرغون ما بداخلهم في الاتصال الجنسي الطبيعي.» بطريقة أو بأخرى، إنها الحماقة التي تجعل الشخص مجنونًا … وبعيدًا عن كون هذه الآراء تشكل نظرية بلا مستقبل، سوف يسيطر هاجس الدمار البدني والعقلي الناجم عن «الرذيلة الفردية» على القرن التاسع عشر بأكمله.

كان مجتمع القرن الثامن عشر — ولا سيما صفوة المجتمع وأهل النخبة — في حالة وفاق مع علمائه، أكثر مما كان عليه الوضع في القرن السابق، مبديًا اهتمامًا كبيرًا بأبحاثهم. ما زلنا حتى الآن بعيدين عن تلك المرحلة التي كانت فيها المعرفة غير متاحة إلا للمتخصصين؛ ومن ثم، كانت المؤلفات العديدة التي خُصِّصت للجنون تخاطب قاعدة عريضة من الشعب المستنير ولم تكن مقتصرة، كما ستكون عليه الحال في القرنين التاليين، على المتخصصين المحترفين فقط. أما عن المعاجم أو القواميس والموسوعات، فقد حظيت بقدر من الاهتمام من جانب عامة الشعب، حتى لو لم تكن في طليعة المعارف والإشكاليات في ذلك العصر. من المثير للاهتمام إجراء مقارنة، مع الأخذ في الاعتبار بالفارق الزمني الذي يزيد عن نصف قرن، بين «المعجم العام» الذي ألفه فورتيير (١٦٩٠) و«الموسوعة» (١٧٦٥ بالنسبة إلى المجلدات التي تهمنا) فيما يتعلق بالجنون. نجد في معجم فورتيير نحو عشرة تعريفات موجزة للغاية تبدو، حتى مع ارتدائها عباءة حقبة أواخر القرن الثامن عشر، قديمة. فعلى سبيل المثال، يعد الهوس «بحسب التعريف الطبي، مرضًا يسببه حلم يقظة، ويكون مصحوبًا بسخط وهياج من دون حمى، وهو ينشأ عن مزاج سوداوي ناجم عن التهاب المرارة أو السَّوْداء، أو حرق الدم.» في «الموسوعة»، نجد عشرين بيانًا مستفيضًا يشمل معلومات محددة ومُعَرَّفة بدقة في مجال الطب. نذكر من بين المصطلحات الجديدة التي وردت بالموسوعة المخ/الدماغ، والأهواء (خُصِّص لهذا الموضوع تسعة أعمدة)، وأيضًا هوس الشياطين، الذي هبط بالضرورة إلى مرتبة الأمراض العقلية. والأطباء الذين كانوا لا يزالون يتجرءون على إثارة مسألة تأثير الشيطان كانوا يُوصَفون بالفلاسفة السيئين، بل والأسوأ من ذلك كانوا يوصفون بكُتَّاب التراجيديا الفاشلين، الذين يستغلون هذا الموضوع «كمدد غيبي لمسرحية لا يعلمون كيف يسطرون نهايتها.» نجد من بين المصطلحات الجديدة أيضًا الأبخرة، بوصفها «مرضًا مراقيًا مشتركًا بين الجنسين؛ حيث يتأثر الدماغ بفعل التواد بتَهَيُّج الألياف العصبية للأحشاء، الرحم بالنسبة للنساء والمَراقَّان بالنسبة إلى الرجال.» لم يغفل «الاهتياج الرحمي»؛ إذ ورد ذكره على أنه مرض يصيب «الجنس» [بمعنى مجموع النساء]، وتم تعريفه كهذيان تتجلى من خلاله «رغبة جنسية مفرطة تدفع المرأة بعنف إلى إشباع ذاتها.» ويؤدي عدم إشباع هذه الشهوة إلى هياج (ومن هنا جاء اسم «الاهتياج الرحمي» أو الغُلْمَة). المعادل الذكوري لهذا المرض هو «الشبق» الذي قيل عنه إنه أقل شيوعًا؛ نظرًا لأن الرجال يستطيعون بسهولة إطلاق العِنان لنزعاتهم التناسلية ولشهواتهم الجنسية. ولقد تم تعريف المصطلحات الكلاسيكية المعروفة منذ العصور القديمة بأسلوب تقليدي وكلاسيكي للغاية. ولكن، في الواقع، ما هو الجنون في نظر المؤلفين الموسوعيين؟ قد يكون الجنون أخلاقيًّا أو طبيًّا: «حين يحيد المرء عن العقل ويكون مدركًا لذلك وشاعرًا بالندم؛ لأنه تحت نِير عبودية هوًى عنيف، فهذا معناه أنه ضعيف. أما حين يبتعد المرء عن العقل بثقة وباقتناع تام بأنه يتبع طريق الصواب، فهذا فيما يبدو هو ما نطلق عليه الجنون. هؤلاء هم على الأقل أولئك المساكين الذين يتم احتجازهم، والذين ربما لا يختلفون عن سائر البشر إلا لأن جنونهم من نوع أقل شيوعًا ولا يدخل في نطاق نظام المجتمع وأمنه.»

عَرَّف فولتير في مُؤَلَّفه «القاموس الفلسفي» (١٧٦٤) مصطلح «الجنون» على النحو التالي: «الجنون هو ذلك المرض الذي يصيب أجهزة الدماغ ويجعل الإنسان بالضرورة غير قادر على التفكير أو التصرف مثل الآخرين. وبما أنه لا يستطيع إدارة ممتلكاته، فإننا نحجر عليه، وبما أنه لا يملك أفكارًا ملائمة للمجتمع، فإننا نقصيه عنه. وإذا كان يشكل خطورة، نقوم باحتجازه. وإذا كان هائجًا، نقوم بتقييده […] المجنون هو شخص مريض يعاني بسبب تضرر دماغه، كما يعاني مريض النقرس بسبب الآلام التي يشعر بها في يديه وقدميه.» ومن جانبه، يشرح ديدرو إلى صوفي في أحد خطاباته (رسائل إلى الآنسة فولاند) ما هي السَّوْداء، أو «الأبخرة الإنجليزية». كما ألهمت هذه الأبخرة نفسها مرسييه في كتابه «لوحة باريس»: «إن الخيال هو الذي يفتح المجال للألم؛ لأن هذه القوة العقلية، حين لا تجد ما يجذب اهتمامها ويستحوذ عليه، تمتلك المقدرة على تحويل كل ما يحيط بها إلى مصادر للألم والوجع.»

عصر الباروك العلاجي

بالطبع، كان كل هذا التفكير النظري حول الجنون مصحوبًا بإرشادات علاجية. نادرة هي المؤلفات التي لم تتطرق إلى الجانب العلاجي. ولقد كانت الإرشادات العلاجية وافرة في هذه الحقبة أكثر مما كانت عليه في العصور القديمة أو العصور الوسطى، لدرجة أن غزارتها، وليس غيابها، هو ما بدا بالنظر إلى الماضي أمرًا غير مُطَمْئن. في الواقع، كان جدول الطرق العلاجية في أواخر القرن الثامن عشر مستفيضًا بقدرِ ما كان متنوعًا. نجد في المقدمة الطرق العلاجية الكلاسيكية المنصوص عليها في أواخر القرون الوسطى. في العديد من المقالات البحثية كما في منشور التعليمات الصادر في عام ١٧٨٥، تنوعت أساليب المداواة تبعًا لأنماط الجنون المختلفة: الهوس، والسوداوية، والوساوس المرضية، والتهاب الدماغ المسبب لجنون الاهتياج، والعته والبَلَه.

أصبحت عملية الفصد رائجة أكثر من أي وقت مضى منذ بروز أعمال هارفي المتعلقة بالدورة الدموية، وكانت تُوصَف تقريبًا في جميع حالات الجنون، ولكن بدرجات متفاوتة. فكلما كان الجنون حادًّا (هوس، جنون الاهتياج)، وجب «إجراء عملية الفصد بجرأة». ويتم التخفيف من حدة الفصد إذا كان المريض مصابًا بالسَّوْدَاوِية، خاصةً إذا كانت الحالة قديمة. ولكن لا بد من توخي الحذر، وفق ما ورد في «تعليمات» ١٧٨٥، وعدم «الإفراط» في الفصد في حالة الهوس؛ لأن هذا قد يؤدي إلى «إضعاف المريض وإصابته غالبًا ببَلَه غير قابل للشفاء». ورد في دورية الطب الرسمية تقرير بشأن العلاج الذي خضعت له في السابع والعشرين من سبتمبر ١٧٧٨ الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعًا المصابة ﺑ «هوس حقيقي لا تصاحبه حُمَّى». يتحدث الطبيب المعالج قائلًا: «جعلتني حالة الفتاة أُشَخِّص هذا المرض فعليًّا على أنه هوس وراثي يسببه تدفق دم الحيض نحو الأعضاء التناسلية [لم تكن الفتاة المعنية قد حاضت بعد]. ولإجراء عملية التفريغ الأولى، أوصي بالفصد من القدم.» بيد أن المريضة اهتاجت جدًّا، وباستشارة أحد الجراحين، اقترح استخدام العَلَقَات. وبصعوبة استطعنا وضع ست عَلَقَات «متعطشة للدم» على قدمي المريضة المغمورتين في الماء. بعد مرور بعض الوقت، قطع الطبيب أذناب العلقات. «كلما كان الدم يخرج، كان رأسها يتحرر من وطأة الجنون. وبعد ذلك بأربعة أيام، حين قبلت طواعية بأن يتم إجراء فصد لها من القدم، استعادت عقلها في النهاية.»

وفي المقابل، لماذا لا نلجأ إلى نقل الدم؟ لقد لاقت النظرية، بل وأيضًا التطبيق، رواجًا في باريس في الفترة ما بين ١٦٦٠ و١٦٨٠، وكان بطلهما هو الدكتور ديني، الذي ادعى أنه قد شفى العديد من المجانين بهذه الطريقة، بينما أكد المغتابون أنه قد قتلهم. في يوم الإثنين الموافق ١٩ ديسمبر ١٦٦٧، أجرى الطبيب دينيس تجربة علنية على مجنون حقيقي كان يركض نصف عارٍ في شوارع ماريه وبات أضحوكة الحي. حضر هذه التجربة «بعض الشخصيات المحترمة من ذوي الوجاهة والمقام الرفيع، وطبيبان، وسبعة أو ثمانية فضوليين، وجَزَّاران وهما اللذان أحضرا العجل.» حيث يتعلق الأمر في الواقع بنقل دم العجل إلى المريض؛ إذ إن هذا الدم «قد يسهم بعذوبته وطزاجته ونقائه في التلطيف من حدة فوران وغليان الدم الذي سيختلط به.» وقد تكررت عملية نقل الدم بعد مرور ٤٨ ساعة «بمعدلات كبيرة». بل لقد كان هناك تفكير في إخضاع المريض قبل إخلاء سبيله لعملية نقل دم للمرة الثالثة (لإنهاء ما بدأته العمليتان السابقتان). «لقد أصبح حاليًّا في حالة من الهدوء التام.» تبول المريض ملء كوب كبير بولًا ذا لون داكن للغاية كما لو كان قد مُزِجَ بسخام المدخنة. وتُعَد هذه البِيلَة الهيمُوجلُوبينِيَّة [وجود دم في البول بسبب تكسر كُرَيَّات الدَّمِ الحَمْراء الناجم عن عدم التوافق بين دم المتبرع ودم المتلقي] مؤشرًا جيدًا بتفسيرها على النحو التالي: «يرجع السبب في وجود خِضاب الدَّم في البول إلى تعرض المِرَّة السَّوْداء للتفريغ وتصريفها عن طريق الأَبْوال، وذلك بعد أن كانت مُحْتَبَسة قبلًا داخل الجسم وكانت تبعث بأبخرة إلى الدماغ؛ مما كان من شأنه أن يؤثر في وظائفه ويُحدث بها خللًا.» ونحن لا نعلم ما إذا كان هذا المجنون المسكين قد نجا أم لا، ولكن عمليات نقل الدم الأخرى التي أجريت لاحقًا كان لها عواقب وخيمة؛ مما أسفر عن إدانة هذه الممارسة اعتبارًا من بداية القرن الثامن عشر، فضلًا عن ذلك، بدأ يظهر تيار قوي لمعارضة إجراء عملية الفصد للمجانين، ولا سيما إذا كان الجنون مستعصيًا. وخُصِّصت كتب بأكملها لتناول هذا الموضوع، ولكن تجدر الإشارة إلى أن ما تم التنديد به بالأحرى هو الإسراف في اللجوء إلى هذه الطريقة العلاجية وليست الممارسة في حد ذاتها.

وفيما يتعلق بطرق التفريغ العلاجية الأخرى، فلم يطوها النسيان. فقد اتفق جميع أطباء هذا العصر على ضرورة تصريف المِرَّة والأخلاط الحمضية (خصوصًا حالة السوداوية)، وإفراغ الجسم منهما، و«تخليص الاقتصاد الحيواني» منهما، على أن يكون كل هذا مستندًا بالطبع إلى الخلفية الراسخة لمذهب البُقْراطِيَّة. كان الأطباء يصفون المطهرات والمُقَيِّئات في جميع الحالات. وتشير «تعليمات» ١٧٨٥ إلى أن «استخدام المطهرات كانت أهم بكثير من إجراء عملية الفصد.» وهناك عدد لا حصر له من وصفات المطهرات، بدءًا بالرَّاوَنْد والسَّنامَكِّي (أصبحا فيما بعد من العلاجات الشائعة) وانتهاءً بالوصفات الغريبة والعجيبة إلى أقصى الحدود، على سبيل المثال: «خذ ثلاث ملاعق من مرق ديك عجوز، بعد حشوه ﺑ …» أما عن المقيئات، فتمتلك خاصية إضافية، وهي أنها تهز المريض وتجعله يرتجف وينتفض، وسرعان ما أثارت هذه الهِزَّة اهتمام الأطباء المتخصصين في علاج الجنون؛ نظرًا لما تحدثه من إلهاء في «الاقتصاد الحيواني».

بدأ استخدام هذه الطرق العلاجية القائمة على الصدمة، قبل إقرار صورتها النهائية، منذ العصور القديمة (لدى سيلسوس، على سبيل المثال) ثم في القرون الوسطى. يشير أمبرواز باريه (١٥٠٩ تقريبًا–١٥٩٠) — الأب الروحي للجراحة الحديثة — إلى إحدى الحالات التي تمت معالجتها بهذه الطريقة في الفصل الذي خصصه في مؤلفاته ﻟ «سبل الشفاء المتنوعة».7 «مؤخرًا قام مريض يُدعى جاسكون، مصاب بحمى حادة، وبالتهاب في الدماغ المصاحب لجنون الاهتياج إثر تدهور حالته، بإلقاء نفسه في الليل من نافذة بالطابق الثاني، فسقط على البلاط وأصيب بجروح في مواضع متفرقة من جسده. وقد استُدْعِيتُ لتطبيبه، ووجدت أنه بمجرد أن وُضع على السرير، بدأ يستعيد عقله وهدوءه وزال عنه جنون الاهتياج تمامًا.» وبخلاف «الملاحظة» العارضة، بدأت فكرة إحداث صدمة لغرض علاجي تشق طريقها نحو التطبيق. فقد أشار كولين في هذا الصدد إلى العقوبات البدنية. وقال ويليس: إنه في حالة الهوس، تكون الآلام والأوجاع أكثر فائدة من الأدوية والعقاقير. انطلاقًا من هذا المبدأ، نجد من بين الوسائل المتبعة، التي كان القدماء قد أوصوا بها، الحَمَّام المفاجئ والحَمَّام الإجباري. في عام ١٧٨٣، قام أحد القساوسة باستدعاء الطبيب؛ لأن الطاهية التي تعمل لديه مصابة بالجنون. لم تفلح مع حالتها العلاجات الكلاسيكية كالفصد، وعمليات التطهير وإفْرَاغِ الأَمْعَاءِ بالمطهرات، والحقن الشرجية. وأمام نوبات الهياج والسخط التي تضاعفت، لم يجد الطبيب بدًّا من إلقاء المريضة في النهر المجاور، بعد ربطها أولًا بحبل. وبالفعل، شُفِيت المريضة.8 ثم بدأ الحديث يكثر عن حَمَّامات البحر المرعبة: «كانت الحَمَّامات البَحْرِيَّة رائجة، سواء في حالة الهوس أو رُهاب الماء/داء الكَلَب. بيد أنها لم تكن تحدث سوى خوف يضر أكثر مما ينفع» (تعليمات ١٧٨٥). كفى، فهذا كثير.
كان القرن الثامن عشر يعد رائدًا باختراعه الصَّدْمَة الكَهْرَبِيَّة، في الوقت الذي كانت فيه الكهرباء قد تم للتو اكتشافها، فكيف لنا أن ننكر هذه الحقيقة؟ تلك الحظوة التي نالها «السائل الكهربائي»، والتي استحوذت على اهتمام المجتمع وانعكست بالتالي على الطب. في البداية، بدت حالات الشلل مؤهلة لتطبيق تلك الطريقة العلاجية عليها، بل وأيضًا الأمراض العصبية والاضطرابات التي يصاحبها تشنجات. ولم تكن هناك إلا خطوة واحدة تفصل هذه الأمراض عن الجنون. بدأنا ﺑ «كهربة» المريض بوضعه بالقرب من مصدر انبعاث شرارات،9 ولكن نظرًا لأن «هذه الحمامات الكهربائية» لم يكن لها تأثير كبير، فكرنا فيما بعد في «الصدمة الكهربائية». وقد نص منشور التعليمات الرسمي الصادر في عام ١٧٨٥ على اللجوء إلى هذه الطريقة في حالات البَلَه والهوس، «ولكننا ما زلنا لا نستطيع الاستشهاد فعليًّا بأي حالات عولجت بهذه الوسيلة.»

لنَعُدْ إلى العلاجات المُفَرِّغَة، ماذا حدث للخربق؟ يبدو أن الاهتمام بعشبة أنتيسيرا الشهيرة أصبح من الآن فصاعدًا أدبيًّا أكثر منه طبيًّا. بيد أن «تعليمات» ١٧٨٥ نصت على استخدامه، ولكن ربما كان الدافع لذلك يتمثل بالأحرى في وجوب عدم إغفال أي شيء. لقد شكلت المطهرات التي توصف بجرعات عالية، خاصة في حالة السَّودَاوِية، إحدى طرق العلاج بالصدمة؛ نظرًا لما تحدثه من هزة مِعَوِيَّة عنيفة. بعد العلاجات المُفَرِّغَة، كانت المُهيِّجات أيضًا مسئولة، ولكن بوصفها قرحًا مُفتَعلة، عن إتمام عمليات التفريغ الصعبة. فقد كانت عمليات الكي، والخِزَامَة، والقرح المصطنعة تسبب تقيحًا أو طفحًا بغية جذب الأخلاط الفاسدة، ومن ثم طردها خارج الجسم (لم يعد يشار إلى أبقراط إلا قليلًا، ولكن مذهب البقراطية ظل سائدًا). حين كان يُعزى سبب الإصابة بالجنون إلى «فيروس نَقيلِي» [فيروس يعني إذن سُمًّا]، كان يتم في بعض الأحيان التلقيح بالجَرَب، اعتقادًا بأن هذه التقنية من شأنها طرد نوع من السموم لسم آخر.

استطاعت المرطبات، المتوافقة أيضًا مع نظرية الأخلاط البشرية، أن تفرض نفسها وتحتل مكانة متميزة على الساحة وتحقق فائدة أكثر من أي علاج آخر استُخدِم لمداواة الجنون في القرن الثامن عشر. كما يعد العلاج بالتبخير باستخدام المرطبات هو العلاج الذي نجح بامتياز في جميع حالات الجنون. وقد ورد هذا في الأطروحة التي قدمها الطبيب بيير بوم وحظيت بنجاح كبير في أواخر عهد لويس الخامس عشر.10 إن «استرخاء الجهاز العصبي» يعززه استخدام المرطبات والمشروبات المغلية التي تحتوي على أعشاب أو نباتات، وشرب الماء بكميات كبيرة (بدءًا بمياه الينابيع الحرارية التي كانت رائجة للغاية في هذه الفترة)، والاغتسال وبالأخص في الحمامات، سواء أكانت نهرية أم منزلية، وساخنة أم دافئة أم باردة، والتي «تمنح الألياف قوة ومتانة. فقليلة هي الوسائل التي تعزز بصورة فعالة الجهاز العصبي وتستعيد مرونة أنسجته العضوية.» بالطبع أشعل بيير بوم، الذي أصبح طبيب البلاط الملكي، نار الغيرة في نفوس زملائه، الذين نشروا شائعات تفيد بأنه قد تسبب في موت بعض مريضاته الشهيرات. ولكنه وجد مدافعًا ممتازًا عنه في شخص فولتير، المريض الدائم بوسواس المرض. بوم ليس هو الوحيد، على أي حال، الذي امتدح المرطبات؛ فحين يصبح التهاب الدماغ وما يصاحبه من جنون الاهتياج، مرضًا مزمنًا، يُوصَى كذلك بترك الماء البارد يتدفق على رأس المريض. تكشف لنا تعليمات ١٧٨٥، التي أوصت أيضًا باستخدام المرطبات، عن «قلنسوة أبقراط» الغريبة التي كانت توضع على رأس المختل العقلي الحليق منذ بداية غزو المرض. وهي عبارة عن عِصابَة يُشَد بها رأس المريض مع الحرص على أن تكون مبللة دائمًا بترطيبها بإسفنج مغموس في خليط من الماء البارد والخل.

لم يغفل دور المُهَدِّئات والمُخَدِّرات في معالجة الجنون. فقد شاع استعمال الأفيون وشهد بذلك جميع الكُتاب في أواخر القرن الثامن عشر، ولا سيما في حالات جنون الهياج. بالإضافة إلى ذلك، نجد السيكران، والبِلادونَّا، والداتورَة، والكافور. مع هذا المُهَدِّئ الأخير، نستعيد مُضادَّات التَّشَنُّج التي ترجع إلى العصور الوسطى، وأصبحت رائجة على وجه الخصوص في القرن الثامن عشر. يُضاف إلى إفرازات القندس والمسك الكلاسيكيين الحلتيت وخصوصًا «زهور الزنك» (أكسيد الزنك)، الذي أقرت إنجلترا استخدامه بحماس ولم تستحسنه فرنسا في بادئ الأمر ثم أثنت عليه لاحقًا بدورها.

ولقد كانت المُقَويات والمُنَبِّهات أقل عددًا؛ لأن استخدامها كان يأتي في المرتبة الثانية بعد المُهَدِّئات. ولكن، ما الذي كان يتم إعطاؤه للمصابين بالسَّوْداوِية، وللمعاتيه؟ في القرن الثامن عشر، كان الاهتمام منصبًّا على نبات الكينا. فقد كان يوصَف في البداية كمضاد للحمى خلال القرن السابع عشر، ولكنه رُفِعَ في القرن التالي إلى مرتبة المُقَوِّيات، والمهدئات، ومضادات التشنج. وتوجد بعض أنواع المنبهات الداخلية الأخرى، مثل الخردل، وفجْل الخَيْل البري (المِلْعَقِيَّة)، ومسحوق الذُّرَّاح (الذُّباب الإِسْبانِي المُجَفَّف) الذي كان معروفًا بأنه مثير للرغبة الجنسية، ولكن كان يوصف أحيانًا في بعض حالات العته. أما عن المُعَطِّسات المعروفة بالفعل، والتي يمكن تصنيفها ضمن فئة المُهيِّجات، فقد كان لها أيضًا أنصار. وقد تشتمل المقويات على فَرك بعض النباتات (الكينا والجِنْطِيان؛ «كينا الفقراء»)، والحمامات المضاف إليها طحين الخردل، أو الحمامات الكبريتية … علاوة على ذلك، ظل الأطباء متمسكين للغاية بالوصفات الطبية المتعلقة بالأنظمة الغذائية الملائمة لكل حالة على حدة.

كل ما تم ذكره حتى الآن من طرق علاجية ما هي إلا أساليب كلاسيكية لمعالجة الجنون. لقد حان الوقت لنتساءل عما إذا كانت هذه الترسانة تدخل تحت بند النظرية أم التطبيق، وفي الحالة الثانية، مَنِ المستفيد؟ مما لا شك فيه أن المرضى الأثرياء استفادوا، إذا جاز القول، من هذه الأدوية والأساليب العلاجية التي لا تُعد ولا تُحصى. وكانت استشارة الطبيب تقتضي الحصول على وصفة طبية، وهو الغرض الذي لأجله استُدعِيَ الطبيب في المقام الأول. ومع ذلك، فلا مجال لطرح مثل هذا السؤال المُبْتَذَل حينما يتعلق الأمر بالنتيجة، حتى ولو كانت جميع الحالات المذكورة، على سبيل المثال في «دورية الطب، والجراحة، والصيدلة» — التي ظهرت في القرن الثامن عشر، والتي ربطت بشكل وثيق بين الأوصاف السريرية والمؤشرات العلاجية — تبدو وكأنها تنتهي دائمًا نهاية سعيدة: «أتاه النوم»، «قَلَّتِ الأزمات»، «شُفي المريض»؛ مما قد يضفي طابعًا أكاديميًّا بعض الشيء على جميع هذه القصص.

وماذا عن المجانين الآخرين، المختلين عقليًّا الذين تَعِجُّ بهم المشافي ودور الاحتجاز الجبري؟ سواء أكانوا قد احتُجِزُوا مباشرة في إحدى دور الاحتجاز الجبري أم «مروا أولًا على أحد المشافي الرئيسة بالمدينة»، كانت توصف لهم العلاجات الأكثر شيوعًا: الفصد، والحمامات ومن ضمنها الحَمَّامات الإجبارية، والشَّرْبَة بمختلف أنواعها. في عام ١٧٦٧، قدم دُسْتورُ الأَدْوِيَة الخاص بمشفى باريس الرئيس عددًا من الصيغ المتعلقة بعلاج المختلين عقليًّا. نجد من بينها «مستخلصًا مَغْلِيًّا لحالات الهوس أو الهياج» (يُضاف إليه الخربق الأسود، وهذا دليل على أن هذه العُشْبَة الشهيرة لم تختفِ تمامًا)، و«حبوبًا مضادة للسَّوْدَاوِية»، و«شَرْبَة ضد الهوس» (مليِّنًا) و«مسحوقًا ضد الصرع» يشتمل بشكل أساسي على هَدال البلوط أو الدبق، والفاوانيا أو عود الصليب، والناردين، والكونفالاريا المسمى أيضًا زنبق الوادي والزَّيزَفون. ومع ذلك، يتدخل عنصران هامان لحفظ التوازن؛ أولًا: العلاجات التي كان يتم وصفها لمختلين عقليًّا — ولا سيما المعوزين — كان يتم التقليل بالضرورة من كميتها ومن معدل تكرارها (بالنظر إلى هذه العلاجات اليوم، نجد أنها لم تكن بالتأكيد سيئة تمامًا). ثانيًا، والأهم من ذلك: أن هذه العلاجات وخدمات الرعاية الصحية لم يكن يتم توفيرها للمريض إلا في «بدايات الجنون». تتكرر هذه العبارة باستمرار. فإذا لم تتحسن حالة المريض في غضون ستة أشهر إلى ثمانية أشهر من المعالجة، يخيم شبح الإقصاء الرهيب ويُوضَع المريض في مصاف الميئوس من شفائهم. أقصى ما كان يتم عمله هو تجربة علاج جديد في وقت لاحق، عند نقل المريض من مكان إلى آخر، خاصة إذا كان الشخص المعني لا يزال شابًّا.

يُضاف إلى هذه البانوراما الواسعة من الطرق العلاجية الكلاسيكية العديد من العلاجات التي تبدو مجنونة بقدر الجنون نفسه. تعرض مجموعة الأيقونات والصور التي تمثل القرنين السادس عشر والسابع عشر أحد هذه الأساليب العلاجية المجنونة: استخراج حصوات الرأس، أو حجارة الجنون. ويصور لنا بيتر برويغل الأكبر على وجه الخصوص وأيضًا جيروم بوش في رسومهما إحدى هذه العمليات الهزلية؛ حيث نجد طبيبًا يبدو كأحد الدجالين أو المشعوذين يُحدِث شقًّا، عند مستوى الجبهة، في فَرْوَة رأس مريض مقيد إلى كرسي ثابت ومتين، حتى يستخرج منه حَجَرًا صغيرًا ومستديرًا، وهو حصوة الجنون. نظن أن الأمر لا يعدو أن يكون قصة رمزية، ولا سيما أن العملية تتم غالبًا في جو احتفالي أشبه بالكرنفال. في رسوم بوش، نجد الجراح الذي يجري العملية يرتدي قمعًا على رأسه. وقد انضمت حصوة الجنون — ذلك الضيف غير المرغوب به — إلى القائمة الطويلة التي تشمل النُّعَرَة، والزُّنْبور، والجُعَل، وعنكبوت السقف. ألا نقول في فلاندر: «فلان لديه حَجَر في رأسه»؟ بيد أن واقعية تفاصيل العملية نفسها (كما تتجلى بالأخص في رسم جون تيودور دو براي) قد تجعلنا نفترض أن عمليات مماثلة أجريت في بداية عصر النهضة، في المعارض والأسواق التي كان الناس يتوافدون عليها أيضًا لخلع أسنانهم. ربما كان لدينا أمل في شفاء ذلك المجنون، الذي أظهر له الدجال بحيلة ما الحصاة المسئولة عن جنونه. لم ينسَ أمبرواز باريه أن يذم «أولئك الجراحين المدعين، الذين هم في حقيقة الأمر مخادعون ومحتالون، وفاسقون ولصوص.»

في وقت لاحق من القرن السادس عشر، صورت لنا الأيقونات والرسوم ممارسة طبية أخرى غريبة لمعالجة الجنون متمثلة في المواكب الراقصة. لم تختفِ رحلات الحج العلاجي التي كانت رائجة في القرون الوسطى، ولم تكن لتختفي بالأحرى بعد انقضاء عهد النظام القديم. يقدم لنا بيتر برويغل الأكبر من خلال بعض النقوش الرائعة صورة حية لإحدى رحلات الحج العلاجي في مولنبيك (فلاندر). وهنا أيضًا قد تعطينا واقعية المشاهد الإيحاء بأنها قد رُسِمَت على الطبيعة: نساء يَتَلَوَّيْنَ، وقد أمسكت بأذرعهن بقوة ممرضتان في كل جانب، يَسِرْنَ في موكب راقص يشرحه برويغل على النحو التالي: «هؤلاء هم الحجاج الذين يتعين عليهم الرقص في يوم عيد القديس يوحنا في مولنبيك، بالقرب من بروكسل. وحين يرقصون أو يقفزون من أعلى الجسر، ينعمون بالشفاء من داء القديس يوحنا لمدة عام كامل.» نشير في هذا الصدد أيضًا إلى المرضى المصابين بداء رقص القديس غي (وفقًا للمفهوم الشامل آنذاك، الذي يضم العديد من المتلازمات العصبية و«النفسية» المختلفة، وذلك قبل أن يبدأ سيدنهام بعزل داء الرقص في ١٦٨٥، وكان أول من وصفه ولذا سُمي برَقَص سيدنهام). وكان لداء رقص القديس غي موكب راقص خاص في اشترناخ (لوكسمبورج)؛ حيث توفي القديس غي في عام ٦٩٨. وكان إيقاع الرقص يستلزم اتخاذ ثلاث خطوات إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف، حتى الوصول إلى ضريح القديس ويليبرورد [القديس غي]. ما زال هذا الطقس موجودًا إلى يومنا هذا، ويتكرر في يوم الثلاثاء من عيد العنصرة.

اتسمت بعض هذه الطرق العلاجية بالشذوذ لدرجة قد تجعلنا نتساءل عن حقيقة وجودها الفعلي (ولكننا لن نعلم ذلك أبدًا؟) نذكر على سبيل المثال بيانو الهررة المثير للفضول الذي وصفه الأب كيرشر — اليسوعي الألماني إبَّان القرن السابع عشر — والذي افتُتِنَتْ به الأوساط الطبية. من المرجح أن يكون هذا البيانو قد اختُرِع لتبديد السَّوْدَاوِية والكآبة عن أحد الأمراء العِظَام. تعتمد فكرة هذا البيانو على اختيار تسعة هِرَرَة وفقًا لصوت موائها واحتجازها داخل الخانات الضيقة لصندوق متصل بمفاتيح البيانو التسعة. ينتهي كل مفتاح بطرف حاد وقاطع لوخز ذيل أحد تلك المخلوقات المسكينة؛ مما ينتج عنه صدور صوت المواء المرغوب. وبما أن الأمر يتعلق بالموسيقى، كان يُحرَص على وضع القطط وفق ترتيب معين من الصوت الأغلظ إلى الصوت الأكثر حدة. تبنَّى جوهان كريستيان راي (١٧٥٩–١٨١٣)، وهو اختصاصي ألماني شهير في تشريح الجهاز العصبي ويُعَد ممثلًا بحق للطب النفسي الألماني في الحقبة الرومانسية، فكرة بيانو الهررة موضحًا بدقة ضرورة وضع المريض «بالشكل الذي يتيح له رؤية تعابير الحيوانات وإيماءاتها».11 واقترح أيضًا اتباع طريقة «التعذيب بلا ضرر»، التي تقتضي ضمن أمور أخرى تعليق المريض عقليًّا على ارتفاع معين بواسطة الحبال وتركه على هذا النحو سابحًا بين السماء والأرض. كان يتم أيضًا ترويع المريض عن طريق إطلاق بعض الأعيرة أو تفجير بعض الألعاب النارية بالقرب منه. وإذا لم يكن كل ذلك كافيًا، فلنُسمعه بعض المقطوعات الموسيقية الأوبرالية!
قد يتصور البعض أن القرن الثامن عشر كان أقل «رجعية»، ولكن الأمر ليس كذلك. فقد كان الأطباء الذين يستشهدون بالعلاجات التقليدية القديمة؛ بغية التنفير منها وإبراز أهمية وفعالية العلاجات الحديثة مقارنةً بها هم الأقل عددًا. بينما كان الباقون يكتفون بالإشارة من جديد إلى تلك العلاجات القديمة؛ متسببين بذلك في زيادة الفوضى وتفاقم الوضع. من بين العلاجات التي كانت تُستخَدم لمعالجة الصرع وحده، نذكر دون ترتيب «دود الأرض (الذي كان يُؤخَذ على الريق في شهر يونيو قبل شروق الشمس)، وحافر حيوان الموظ، وعَقِب الأرنب البري، ومخ الغراب، وقرن الكركدن، وعُظَيماتُ أذن العجل، وصفراء الكلب الأسود الطازجة، وزبل الطاوس، وروث الأسد، وشَوكَة (بنية تشريحية عظمية) للعمود الفقري لسحلية متآكلة في عش نمل.» أما عن «القاموس الدوائي» الذي ظهر في عام ١٧٥٧ بتوقيع طبيب مشكوك في أمره وهو الدكتور جيه جي،12 فإليكم الدواء الذي يقترحه لعلاج الهوس: «خُذ مخ كلب، وقُم بإذابته في ثُمْن جالون من النبيذ الأبيض، ثم بعد مرور أربع وعشرين ساعة قُم بتقطيره. ويُعطى المريض ملء ملعقة صغيرة من هذا الخليط مضافًا إليه دم حمار بالمقدار نفسه، في كوب من مَغْلِي البطونيقا، كل صباح.» بل لقد كان من الممكن في بعض الأحيان استخدام مكونات من أصل بشري مثل: كشاطات فقرات ودماغ رجل مات ميتة عنيفة، والمشيمة أو الحبل السري لطفل حديث الولادة. ولكننا نقترب هكذا من السحر الأسود، وتلك قصة أخرى. فقد كان يُطَلب من الساحر أو المشعوذ أي شيء، بما في ذلك شفاء أحد المجانين، ولكن الطلبات من هذا النوع كانت قليلة للغاية، وهي أقل بكثير من طلبات الرغبة في الفوز بقلب أحدهم أو موت والد ما للحصول على الميراث.

قد يصعب تفهم ما يشيعه البعض اليوم عن سذاجة النظام القديم دون أن نأتي على ذكر «أنصار المدرسة التجريبية». فالنظام القديم ليس ساذجًا، ولكنه مؤمن. إن جميع فئات المجتمع على اختلاف مستوياتها، تؤمن بالله، والشيطان، والمعجزات الكبيرة والصغيرة. وكان أنصار المذهب التجريبي، الذين لا يُحصَى لهم عدد، يتباهون بقدرتهم على الشفاء دون الحاجة إلى مساعدة الأطباء الذين ليس في وسعهم الكثير. كان لكل مؤمن بالمذهب التجريبي سره الخاص. كان هناك اعتقاد في قوة الأسرار. كان الجميع يلجَئون إلى التجريبيين، بالرغم من الحرب التي كانت دائرة على استحياء بينهم وبين الأطباء. «الطبيب — كما كتب مرسييه في مُؤَلَّفه «لوحة باريس» — بوجه شاحب وصوت مزماري النغم، وعين حائرة، يجس نبضكم بفتور، وينطق بتلك الجمل اللبقة التي تشعركم مع ذلك بالفراغ والخواء. ويبدو وكأنه يريد المماطلة مع المرض […] أما التجريبي، فيتمتع على العكس من ذلك بجرأة في الكلام، ويملك نظرة واثقة […] الطبيب بارد، أما الآخر؛ ذلك التجريبي الدافئ والعاطفي والمتقد الحماس، فيقول لك: خُذ، ولتنعم بالشفاء!» يُعَد الجنون حقلًا مناسبًا تمامًا لأنصار المدرسة التجريبية. في عام ١٧٧٢، كتب حاكم كاين تقريرًا في منتهى الجدية إلى وزيره يخبره فيه بوجود أحد أتباع المدرسة التجريبية في المنطقة الإدارية الخاضعة لسلطته؛ حيث كان ذلك الشخص الشهير معروفًا بقدرته على شفاء داء الكَلَب «بواسطة سر قديم للغاية متوارث في عائلته». «السيد دوميسنيل لديه أيضًا سر خاص بشفاء الجنون، ولكنه يمتلك من النزاهة والأمانة ما يجعله يعترف بأن النجاح لا يكون حليفه دائمًا. في الواقع، من بين عشرة أشخاص مصابين بالجنون، لم يَشْفِ العلاج إلا خمسة فقط. أعرف بشكل شخصي مثالين بارزين وحديثين للغاية لحالتين حظيتا بالشفاء بتلك الطريقة.» وأخيرًا، ألم يرغب الملك في امتلاك هذا السر؟ في مكان آخر، كان هناك قس هو الذي «يعالج بنجاح الصرع»، وكان يطلب أيضًا مساعدات من الملك.

لا يمكن للطب إلا أن يكون تجريبيًّا. لقد أبرأ شيراك — الطبيب الأول للويس الخامس عشر — رجلًا إنجليزيًّا من السَّوْداء بواسطة رحلة على متن عربة خفيفة يجرها حصان. وهنا يطرح السؤال نفسه، أيرجع الشفاء إلى السفر أم إلى العربة؟ ينبغي أن نشير في هذا السياق إلى أن كاليوس كان يقوم بالفعل بهدهدة مرضاه في أسِرَّة معلقة، أو كان يَهُزُّهم بقوة باصطحابهم للتنزه في طرق وعرة (الرَّجْرَجَة). تجدر الإشارة إلى أن خاصية الارتجاج والتحرك كانت توفرها «كراسي الاهتزاز» الأولى (١٧٣٤) التي كان بوسع المرضى الأغنياء استخدامها في المنزل. وقد ذكر فولتير تلك الكراسي في رسالة موجهة إلى كونت أرجنتال. وماذا عن اللجوء إلى الحيلة والخديعة في علاج الجنون؟ ألا يعني ذلك تشجيع الجنون بغية محاربته؟ سوف تكون هذه المسألة محل جدال في القرن التاسع عشر ولكن ليس تحت مظلة النظام القديم. يروي أمبرواز باريه — الجراح الكبير في القرن السادس عشر — أنه شفى أحد المختلين عقليًّا كان يعتقد أن هناك ضفادع داخل بطنه، وذلك بإجراء عملية تطهير له (من خلال إفراغ الأمعاء بالمطهرات)، وألقى خلسة بعض الضفادع في وعاء موجود بغرفته. إنه المبدأ نفسه، ولكن بصورة أقل إيلامًا، الذي تنبع منه عملية حصوات الجنون.

أبإمكاننا الحديث عن المدرسة التجريبية فيما يتعلق بمِسمر (١٧٣٤–١٨١٥) وﺑ «المغناطيسية الحيوانية» التي تمثل الخطوة الأولى على طريق التقدم العلمي الذي تم إحرازه في اتجاه التطور اللاحق الذي شهده فيما بعد الطِّبُّ النَّفْسِيُّ الدِّينامِيكي؟ تأكدت الخصائص الطبية للمغناطيسية، التي تم استشعارها منذ العصور القديمة، إِبَّان القرن السابع عشر، وأشار إليها في القرن الثامن عشر فرانز أنطون مِسمر — الطبيب النمساوي — بعد أن عَرَّج على اللاهوت والفلسفة والقانون. وضع مِسمر نظريته بشأن «المغناطيسية الحيوانية» في فيينا؛ حيث رفع زواجه من امرأة ثرية من قدره وجعل منه طبيبًا اجتماعيًّا مرموقًا متخصصًا في معالجة أهل النخبة والأغنياء. يقول مسمر: إن الكون مفعم بسائل رقيق، يعمل كوسيط بين الإنسان والكون. سوء توزيع هذا السائل هو المسئول عن إصابة الإنسان بالمرض ويكفي توجيه السائل المذكور نحو مراكز معينة عن طريق إحداث «أزمات» لتحقيق الشفاء. مثل هذه النظرية، المتناغمة تمامًا مع نظرية الأبخرة، كان مُقَدَّرًا لها النجاح في باريس، حيث وصل مِسمر في عام ١٧٧٨. هرعت سيدات الطبقة الراقية «المصابات باضطرابات وخلل عقلي بفعل اختلال الأخلاط وتصاعد الأبخرة السيئة إلى الدماغ» إلى عيادته الفخمة الكائنة في حي لويس لو جراند [ميدان فوندوم]. وقد ساعده شارل ديسلون — الطبيب الأول للكونت دارتوا — الذي ربطته به علاقة وثيقة، على أن يحظى بإنعامات البلاط الملكي، على الرغم من العداء الواضح الذي أظهرته الكلية تجاهه. في شقة فسيحة مزينة بديكور أنيق، حيث يتسلل ضوء خافت رقيق قائم على تقنية الجلاء والقتمة، وُضع «سطل» (أصبح فيما بعد أربعة)، وهو عبارة عن إناء معدني كبير ذي فُوَّهَة مغلقة مستوحًى من قوارير ليدن [المكثفات الكهربائية الأولى] تنبثق منه القضبان الموصلة التي يمسك بها المرضى. يتيح هذا الجهاز العبقري معالجة عدد من المرضى يصل إلى عشرين مريضًا في وقت واحد، حيث يُربطون بحبل حول الخاصرة، ويشكلون دائرة ممسكين بعضهم بأيدي بعض. ثم يقترب مِسمر، مرتديًا زيًّا رائعًا من الصوف المطرز بالوَرْدِ الأرجواني بألوانه المتباينة، وواضعًا شعرًا مستعارًا مصففًا بعناية، برفقة المساعدين المتخصصين في المِسْمَرِيَّة أو العلاج بالقوة المغناطيسية، شباب وسيم وقوي يُطلَق عليهم «الخَدَم ذوو اللمسة الشفائية». يوجه مِسمر بعصاه الحديدية، السحرية بقدر ما هي مُمَغْنَطة، السائل نحو أحد المشاركين، متسببًا في إحداث الأزمة الشافية. وهكذا دَشَّنَ مِسمر أسلوب العلاج الجماعي الذي كان ينتظره مستقبل مشرق. ثم يندفع أحد «الخدَم من ذوي اللمسة الشفائية» ليسيطر على المريض الذي انتابته التشنجات ويقتاده إلى غرفة مجاورة؛ حيث يُسمَح للأزمة المُخَلِّصة بالتعبير عن نفسها بمنتهى الحرية. «كانت هناك بعض النساء اللاهثات اللاتي تعرضن لخطر الاختناق؛ ولذا كان لا بد من فك وثاقهن. وهناك أخريات كن يضربن الجدران أو يتدحرجن على الأرض، كما لو كان هناك ما يُطبِق على حناجرهن، وكن يشعرن بتدفق الأبخرة الباردة أو الملتهبة في ثنايا الاقتصاد الحيواني، تبعًا للمسار الذي رسمته العصا القادرة.»13
لا تقتصر المغناطيسية الحيوانية على علاج الهستيريا الاجتماعية، ولكنها تشمل أيضًا الأمراض العصبية كافة، وكذلك جميع الأوجاع والآلام بشكل عام، ويمكن تطبيقها على الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء على حد سواء. وقد خصص مِسمر للفقراء سطلًا، وذلك قبل أن يقوم بمَغْنَطَة شجرة من أجلهم تقع في نهاية شارع بوندي. وقد جنى ثروة تُقدَّر ﺑ ٣٤٠ ألف جنيه في عام ١٧٨٣ بعد أن أسس جمعية الانسجام، التي كان يحق لكل مساهم فيها أن يُكشَف له عن «سر» من أسرار المغناطيسية، بشرط أن يقسم على أن يحتفظ بهذا السر لنفسه ولا يبوح به لأحد. وكان رسم الانضمام إلى هذه الجمعية يبلغ مائة لويسية (٢٤٠٠ جنيه). انتقد مرسييه بشدة نزوع الإنسان الطبيعي إلى كل ما هو عجيب وخارق وساحر ومثير للدهشة (فالفضول هو ما جعل الناس يتهافتون على الذهاب إلى المُنَوِّمين المِغْنَاطيسِيين). وبدأت الكلية في التحرك. ففي عام ١٧٨٤، عَيَّن لويس السادس عشر لجنتين لتقصي الحقائق. وكانت إحدى هذه اللجان تضم لافوازييه، وبنجامين فرانكلين وطبيبًا يُدعى جيوتن، كان يشغل حينئذٍ منصب أستاذ بكلية الطب في باريس، وكان مشهورًا «بتفانيه في خدمة الإنسانية المُعَذَّبَة». جاءت النتائج الختامية للتقارير حاسمة؛ فلا وجود للسائل المغناطيسي الحيواني، وجميع الآثار المُلاحَظة «تحدث بفعل اللمس، والخيال». وهكذا انتهت مسيرة مِسمر المهنية وغادر فرنسا في عام ١٧٨٥. وسنترك كلمة النهاية لشارل ديسلون: «إذا كان طب الخيال هو الأفضل، فلِم لا نمارسه؟»14

«انطلاق» العلاج المعنوي

بالتوازي مع ما سمحنا لأنفسنا بتسميته بأثر رجعي «عصر الباروك العلاجي»، الذي كان يُعَد — وينبغي أن نشدد على ذلك — متوافقًا مع التفكير الطبي السائد في ذلك الوقت؛ بزغت — منذ العصور القديمة — فكرة «العلاجات المعنوية»، التي مهدت الطريق ﻟ «المعالجة الأخلاقية أو العلاج المعنوي». وكان كاليوس أوريليانوس قد نصح بالاستعانة بكل ما يؤثر في علاقة المريض بالطبيب وبالبيئة المحيطة به: التعليم، والسلطة، بل والإكراه من جهة، والرقة والوداعة، وتجاذب أطراف الحديث، والترفيه من جهة أخرى. بإمكاننا الحديث عن نوع من العلاج التَّرَابُطِي، وخاصة فيما يتعلق بتطبيق مبدأ «يُشفى الضد بالضد» (كأن نتحدث مثلًا مع مرضى السوداوية عن أشياء مفرحة). في القرن السادس عشر، عكف خوان لويس فيفيس — واضع نظرية المساعدة، والعالِم الإنساني واللاهوتي، وعالِم الاجتماع — ضمن أمور أخرى على دراسة مسألة المختلين عقليًّا؛ «لأنه لا يوجد في العالم ما هو أكثر تميزًا من الإنسان، ولا يوجد في الإنسان نفسه ما هو أكثر تميزًا من العقل.» ينبغي أن يكون العلاج ملائمًا لكل حالة على حدة: «فالبعض يحتاج إلى تناول مُهَدِّئات واتباع نظام غذائي، والبعض الآخر يجب التعامل معه برفق وعطف حتى يتم ترويضه رويدًا رويدًا كوحوش البرية، وآخرون بحاجة إلى أن يتم تعليمهم وتثقيفهم وتوعيتهم، وهناك مَن ينبغي إخضاعهم بالاحتجاز والسلاسل.»15
لم ينسَ باجليفي — طبيب إيطالي من القرن السابع عشر — بعد أن قام بإعداد لائحة طويلة تتضمن أساليب المعالجة الفيزيائية الخاصة بمداواة الجنون، أن يضيف إلى هذه القائمة تأثير «الانطباعات المعنوية»، المبهجة، أو الرقيقة أو الانفعالية تبعًا لكل حالة على حدة. وهكذا انساب مصطلح «الجانب المعنوي» في مجال العلاج إلى ميدان تاريخ الجنون، وذلك في الوقت نفسه الذي أعاد فيه هذا التاريخ إحياء الخطاب حول الأهواء. يُعد هذا المصطلح، الذي سنلاقيه مرارًا، مبهمًا. وسيظل محاطًا بهالة من الغموض. يُقصَد به في المقام الأول كل ما له علاقة بالنفس أو العقل، ونشير في هذا السياق إلى التناقض بين العلاجات المعنوية والعلاجات الفيزيائية، مثلما نفرق بين البؤس المادي والبؤس المعنوي. وفقًا لهذا المعنى، علينا أن نفهم التصريح التالي بشأن إحدى المختلات عقليًّا التي أُدخِلت مشفى شيربور العام في سنة ١٧٨٦: «النظام الغذائي والعلاجات المعنوية قد جعلاها تتحسن ومنحا الأمل في شفائها.» ولكن، أمام الاتصال النشط بالمشاعر والأهواء، طوال القرن الثامن عشر، اكتسب الجانب «المعنوي» إشراقةً وحيوية، وأصبح يشمل أيضًا بعدًا أخلاقيًّا يُقصَد به كل ما هو منضبط، وعادل، ونزيه وخير في مقابل الشر. وتحول النعت moral «معنوي» إلى اسم morale «مبادئ أخلاقية» في القرن السابع عشر، ولكن وفقًا للمعنى المعياري الذي نعرفه اليوم، والذي يتوافق مع إحياء الفلسفة الرواقية. نُذَكِّر بأن الجنون، من وجهة نظر الرواقيين، ليس إلا التهاب المشاعر؛ أي عدم القدرة على ضبط النفس أو التحكم في الأهواء وانعدام الرقابة الذاتية. وهكذا فالمرء مسئول بشكل ما عن جنونه، بما أنه مسئول عن عواطفه. ومن ثم، بالنسبة إلى القرن التاسع عشر، سنجد أن ذروة التقدم — أو لنقل التجسد النهائي للعلاج المعنوي — سيتمثل في «توبيخ ووعظ» المريض عقليًّا.
أقر القرن الثامن عشر الفلسفي، الذي أعاد قراءة مؤلفات القدماء، هذه الأفكار، كما تشهد بذلك «الموسوعة» التي ورد فيها أن الأهواء «تنزع عن الإنسان الحرية تمامًا، وتجعله في حالة تصبح فيها النفس بشكل ما سلبية passive، ومن هنا جاءت تسمية العاطفة بالهوى passion.» وهكذا يجد الإنسان المُثقَل نفسه «لا يملك حرية التفكير في أي شيء إلا فيما له صلة بهلاكه؛ ولذا تُعد الأهواء أمراض الروح.» ولا يعني هذا أن الأهواء غير ضرورية، كلا، فهي تمثل «المحرك الرئيس لكل شيء»، وإنما لا بد من السيطرة عليها.
من ثم، تراجعت مدرسة الجَسْدَنَة (التي عادت فيما بعد) لصالح مدرسة علم النفس. «إيقاظ حساسية الروح وإحياء ذوقها وشجاعتها اللذين انطفأت جذوتهما، وذلك من خلال الاستعانة بكثرة بعوامل الإثارة والتحفيز وجذب السرور الذي تستطيع الروح تذوقه: وبهذه الوسيلة نثير داخل الدماغ فكرة أقوى بحيث تقوم بمحو تلك الفكرة السخيفة التي تحتل النفس» (دوفور). إن خدمات الرعاية التي يقدمها الطبيب غالبًا ما تكون غير مجدية؛ لأنه لا يعرف بما فيه الكفاية «معنويات» مريضه (تيسو). «إذا كان سبب الداء معروفًا، فأين نجد الدواء؟ في مصدر الداء نفسه — أي في المخيلة — فهي التي قدمت السم، ومن ثم لا بد من أن نجد عندها الدِّرْياق.»16 أوضح الأب شارل ليون روبن، الذي ترجم من الإنجليزية مُؤَلَّفًا عن مشفى بيت لحم (بدلام) للمجانين بلندن،17 أن «فن شفاء المجانين لا يزال في مهده». لا بد من الاهتمام بدراسة «معنويات المرضى» غالبًا أكثر من الاهتمام بصحتهم الجسدية، ومتابعة أي فِكَر تطرأ على بالهم أو أي استدلالات منطقية، وتمييز اللحظات والمناسبات التي تنقطع فيها هذه السلسلة الفكرية، و«علينا أن نكتشف أي شعور عنيف من شأنه إحداث فوضى واضطراب، وأن نعرف كيف نتقرب من وجهات نظرهم وأذواقهم وأهوائهم؛ بحيث يتسنى لنا دائمًا إخضاع إرادتهم وإجبارها على الرضوخ، والسيطرة على مشاعرهم وأفكارهم وتأملاتهم […] هذا الفن المجهول هو ما سيحث المختل عقليًّا بشكل تدريجي ودون أن يشعر على معرفة الأفكار والاستدلالات المنطقية التي تزعجه وتسبب له تشويشًا واضطرابًا.»

انضم جوزيف داكين (١٧٥٧–١٨١٥) — محب للأعمال الخيرية وعضو بالجماعة الماسونية، وطبيب غامض من شامبيري — إلى هذا التيار حين نشر في عام ١٧٩١ «فلسفة الجنون». العنوان وحده بمنزلة بيان تأسيسي لتيار جديد. ما الذي يقصده داكين بكلمة «الفلسفة»، التي يرى أنها «ربما تمثل المساعدة الوحيدة التي يمكن تقديمها في علاج الجنون»؟ يقدم داكين نفسه — وهو ما لا يرد في العنوان — بصفته ممارسًا يواجه المشكلات التي يطرحها المجانين الميئوس من شفائهم الذين يتولى علاجهم في مأوى شامبيري، وليس بصفته عالمًا نظريًّا. كما يشير إلى نفسه أيضًا باعتباره من أنصار تيار الإنسانية وحب العمل الخيري؛ نظرًا لأنه يهدي كتابه للإنسانية، «ذلك أن الجنون هو اللوحة التي تجسد أعظم شر يصيب الحياة، والإحسان هو أعظم دواء له.» «هلموا إذن، أيها البشر الفخورون والمتغطرسون، يا مَن تحتقرون نظراءكم، ادخلوا معي هذه الحجرات الضيقة البشعة […] تحسروا على ما أصاب النظام الطبيعي من تشوه وتدمير مماثل!»

يقر داكين بأن احتمال شفاء الجنون ضعيف. وتقع مسئولية ذلك في المقام الأول على عاتق الأطباء. «بعض الأطباء لديهم، لعلاج هذا المرض، نمطٌ معين يتبعونه في جميع الحالات تقريبًا، وحين يستنفدون كل علمهم، ويُنفِّرُون المرضى سواء بسبب كمية الأدوية أو بسبب صرف أدوية خاطئة لهم، وحين يُصابون تمامًا كمرضاهم في نهاية المطاف بالضجر والإرهاق؛ فإنهم يتخلون عن المرضى ويتركونهم يواجهون مصيرهم المشئوم، إلى أن تقرر العناية الإلهية إراحة العالم منهم.» بيد أن داكين لم يرفض كُلِّيًّا طرق علاج الجنون الرئيسة (باستثناء الخربق)، ولكنه يرى انعدام قيمتها إلا إذا اقترنت ﺑ «صحة الروح»، التي «من المفترض أن يكون لها وحدها تأثير كبير على عقل هؤلاء المرضى أكثر من كل العوامل الفيزيائية التي تم الاستعانة بها حتى الآن.» ويشكل كلٌّ من النظام الغذائي الذي يَتَّبِعه المجانين و«نمط المعيشة» بشكل عام جزءًا أساسيًّا من العلاج، تمامًا كإنشاء مصحات خاصة، ولم يستفِض داكين في تناول هذه النقطة. وتركزت تطلعاته على الطبيب بالتأكيد، الطبيب الفيلسوف. «لن أقول أبدًا، مثل جان جاك روسو، إن الطب يأتي من دون الطبيب. وإنما أزعم على العكس من ذلك أن الطبيب يأتي مع الطب، ولكن مع ذلك الطب المجرد من الهراء ومن الدجل والشعوذة، ولا سيما من العقاقير والتراكيب. أود أن يأتي الطبيب مزودًا بفكر الملاحظة الذي يتيح له مراقبة مسار الطبيعة؛ من أجل تعزيز سبلها، وتيسير خطاها في حال سيرها على الطريق السليم، أو تقويم انحرافها في حال سلوكها طريقًا خاطئًا.»

يعود داكين، في ختام مُؤلَّفه، إلى ما يعنيه ﺑ «فلسفة الجنون»، التي يقصد بها اجتماع وسائل يكون معها «أقل عدد من أدوية الصيدلة» لازمًا. فلا بد من إظهار قدر من الصبر، والرفق، والاهتمام والتقدير، و«الحذر المستنير»، و«الأفكار المنطقية والأقوال المعزية» خلال «فترات الصحو التي يتمتع بها المرضى في بعض الأحيان […] وأزعم أن المساعدات المعنوية ربما يجب أن تكون هي الوسائل الوحيدة التي ينبغي الاستعانة بها.»

النموذج الإنجليزي

يثني داكين، مثل أغلبية زملائه الفرنسيين، على الأطباء الإنجليز قائلًا: «ما من أمة حتى الآن وفرت مثل ما وفره الإنجليز من رعاية طبية، ولا حققت مثل ما حققوه من نجاح باهر في شفاء المجانين.» وقد أقرت لجنة التسول بأن «فرنسا متأخرة كثيرًا فيما يتعلق بهذا النوع من العلاج عن جميع الممالك المجاورة وخاصة إنجلترا. أمامنا، في هذا الصدد، دروس عظيمة لنتعلمها من إنسانية الإنجليز المستنيرة؛ إذ تجمع مشافي المجانين لديهم كافة المزايا، وكل وسائل الراحة، وجميع وسائل الشفاء التي قد يبتغيها المرء أو يتوقعها.» ولقد أرسلت اللجنة في الثالث والعشرين من أبريل ١٧٩٠ استبيانًا إلى الدكتور هانتر، أحد مؤسسي مشفى المجانين بيورك، لمعرفة الطريقة المتبعة لعلاج الجنون؛ حيث «تجري الاستعانة بالوسائل الأكثر رفقًا التي أثبتت نجاحها في تحقيق الشفاء، حتى بالنسبة إلى المرضى عقليًّا الأشد هياجًا.» ولم تتلقَّ اللجنة جوابًا عن هذا الاستبيان، على الرغم من أنها عاودت إرساله بعد ذلك بستة أشهر.

لماذا تتمتع إنجلترا بهذه السمعة الطيبة؟ يُعزى ذلك جزئيًّا إلى إسهامها النظري، بدءًا بما قدمه ويليس في هذا المجال، ولكن قدرتها على ربط الجانب النظري بالجانب العملي هي التي حظيت على وجه الخصوص بالإشادة في جميع أنحاء أوروبا.18 لم تكتفِ إنجلترا بتمني امتلاك مشافٍ مخصصة للمجانين، وإنما حولت الحلم إلى حقيقة ببنائها إياها. وكانت البداية في القرن السابع عشر مع إنشاء المشفى الأشهر بين المشافي جميعها، وهو مشفى بيت لحم بلندن، المعروف باسم بدلام، والذي أصبح مرادفًا لمشفى المجانين في جميع أرجاء البلاد. كان مشفى بدلام ديرًا تأسس في القرن الثالث عشر، ثم صادره الملك هنري الثالث ومنحه إلى مدينة لندن. وقد بدأ في استضافة المجانين منذ نهاية القرن الرابع عشر، وذلك قبل أن يصبح في القرن السابع عشر المشفى الوحيد للمجانين في إنجلترا. على غرار مشفى باريس العام، كان مشفى بدلام مركزًا يتدفق عليه المختلون عقليًّا من جميع أنحاء المملكة. على الرغم من الأعمال الإنشائية الهامة التي تم إنجازها فيما بين عامي ١٦٧٥ و١٦٧٦، كانت قائمة الانتظار طويلة. مقابل ٥٠ مريضًا عقليًّا محتجزين، كان هناك ما بين مائة إلى مائتي مريض ميئوس من شفائهم ينتظرون أحيانًا خمسة أو ستة أعوام لدخول المشفى. وكما هي الحال في فرنسا، تزايدت عمليات الاحتجاز بشكل ملحوظ إبَّان القرن الثامن عشر. وفي عام ١٧٣٠، بلغ تعداد المجانين في بدلام ٢٥٠ مجنونًا إجمالًا، سواء القابلون للشفاء أو الميئوس من شفائهم، ومن ثم تجلت ضرورة إجراء توسعات جديدة. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وُزِّعَت ٢٧٥ حجرة على خمسة أروِقة مسقوفة. ومُنِعَ مرضى الصرع والمعاتيه من دخول المشفى. وكان الصيدلاني يمر يوميًّا على المشفى، والطبيبُ ثلاث مرات أسبوعيًّا. «يُعد مشفى بيت لحم أثرًا بارزًا ومشهورًا للإحسان البريطاني. وسواء أخذنا في الاعتبار فخامة المبنى التي تليق به، أو التصميم الداخلي المناسب وتوزيع الغرف بشكل مريح، أو الراحة التي يوفرها للبؤساء المقيمين فيه؛ فإننا نستطيع أن نؤكد أن هذا المشفى لا مثيل له في الكون كله.»19 وبمتابعة هذا الإطراء المبالغ فيه، نجد أن أحمقين من بين كل ثلاثة «كانا يستعيدان عقليهما» بعد الخضوع لعلاج لمدة عام واحد. ومع ذلك، ترسم لنا بعض الروايات المرعبة التي تصف بدلام صورةً مناقضة تمامًا لما ذكرناه سابقًا. فعلى سبيل المثال، لم يُلغَ عرض المجانين — حيث كان المتفرجون يدفعون المال لقاء مشاهدة المختلين عقليًّا — الذي كان يشكل موردًا رسميًّا لا يُستهان به لدخل المشفى إلا في عام ١٧٧٠. وقد ألهم هذا العرض العديد من الفنانين مثل ويليام هوجارث. وتبين اللوحة التي صور فيها هذا المشهد في عام ١٧٣٥ أن هذه المؤسسة لم تكن يومًا ميناءً لراحة المرضى عقليًّا. فيما وراء الهجاء اللاذع، يعكس لنا الفنان ببصره الحاد صورة من وحي الطبيعة لما قد يُعد بالنسبة إلى المجنون أبشع من جنونه الخاص: وهو مشهد جنون الآخرين، الذي يجد نفسه مرغمًا على معايشته في نطاق مساحة ضيقة للغاية.

من الواضح أن بدلام كانت هي المؤسسة الوحيدة المخصصة لاستقبال المختلين عقليًّا؛ إذ كنا نجدهم في جميع مؤسسات الاحتجاز غير المتخصصة مثل السجون في حال ارتكابهم جريمة، وبيوت العمل، والإصلاحيات، والمنازل التي توفر المسكن والمأكل نظير دفع نفقة إقامة (وهي منازل للرعاية وليست للعلاج) … وهو الوضع الذي يذكرنا، حتى منتصف القرن الثامن عشر، بمثيله في فرنسا. في إنجلترا أيضًا، توالت التشريعات في البداية على استحياء. كنا نرى بُلهًا أثناء عمليات مطاردة المتسولين، التي لم تكن أمرًا خاصًّا بفرنسا وحدها. وقد خُصِّصت للمختلين عقليًّا مادة في قانون ١٧٤٤، الذي جاء في أعقاب أعمال لجنة برلمانية كانت مكلفة بإعادة النظر في قوانين التشرد. وكان السؤال الأبدي الذي يطرح نفسه دومًا هو: مَن سيتكفل بمصاريف رعاية، وحراسة، وعلاج هؤلاء المختلين عقليًّا أو المجانين (العائلة، أم الأبرشية، أم المدينة، لم يرد أي ذكر للملك)؟ أما عن الجملة التي نقرؤها مرارًا بشأن أحد المجانين: «تم احتجازه سالمًا في مكان آمن»، فهي تشدد على فكرة الاحتجاز الآمن، ولكنها تظل غامضة حيال تحديد مكانه. كنا في انتظار ميلاد مشافي المجانين، باستثناء مشفى بدلام الذي بدا وكأنه مأوًى أكثر منه مشفًى للمجانين.

كان مشفى بدلام مكتظًّا على أي حال؛ ولذا كان من المنطقي تمامًا إنشاء مشفى القديس لوقا للمجانين في لندن، عن طريق الاكتتاب العام. يرتبط ميلاد هذا المشفى الخاص ارتباطًا وثيقًا بشخص الدكتور ويليام باتي (١٧٠٣–١٧٧٦)، الطبيب الأول بالمشفى وعضو الكلية الملكية للأطباء، ثم رئيسها. لقد سبق أن ذكرنا «أطروحته الهامة حول الجنون»، والتي عرض فيها وسائل العلاج التي كان بصدد تطبيقها في مشفى القديس لوقا. لماذا — يتساءل باتي — أنشأْنا في لندن مشفًى آخر للمجانين؟ يتعلق الأمر بتزويد هذا المشفى بعدد من الأطباء الشباب وبفريق عمل مؤهل؛ من أجل «دراسة وممارسة واحد من أهم فروع الطب». علام يرتكز علاج الجنون في مشفى القديس لوقا؟ كان علاج الجنون يجري باتباع الطرق العلاجية التقليدية، ولا سيما العلاجات المُفرِّغَة ومضادات التشنج. بيد أن ما وضعه باتي في المقدمة وسلط عليه الضوء هو «الإدارة» بما تشمله من [سلوك، وحُكْم، وتوجيه]: الإدارة تفعل أكثر مما يفعله الطب في هذا المرض. لا يمكن معالجة الجنون إلا في مصحة خاصة؛ حيث يتم الاعتناء بالمجنون ورعايته بشكل كامل في كل ساعة من اليوم. فالمصحة التي تنتزع المجنون من بيئته المُتَسَبِّبة في مرضه تسمح باسترداد الجسد لعافيته، وفي الوقت نفسه كبْح جماح الغرائز المنحرفة وتبديد الفِكَر الثابتة المتسلطة على رأس المريض. وهكذا استقر العلاج المعنوي لأول مرة — بالطبع قبل ظهور المصطلح نفسه — في المصحة وأصبح جزءًا لا يتجزأ من عملية الاستشفاء.

حاول جون مونرو — طبيب ببدلام — أن يسخر من المذهب الجديد (ملاحظات على أطروحة دكتور باتي عن الجنون)، مدافعًا عن الطرق العلاجية التقليدية (العلاجات المُفرِّغَة وبالأخص المطهرات المعوية)، ومؤكدًا أن أطباء بدلام، الذين يرى أنهم تعرضوا ضمنيًّا لهجوم في بحث باتي، يقومون أيضًا بتطبيق «الإدارة» والاحتجاز العلاجي. ولقد ذهب مونرو — إذا صدق القول — إلى أبعد من زميله في اتباع الطرق العلاجية غير الفيزيائية، وذلك من خلال العمل على التأثير في المختلين عقليًّا باللين وليس بالخوف، وذلك بعد البحث عن سبب الجنون عند كل واحد منهم. أما عن مبدأ استبدال عاطفة بأخرى، الذي تركه باتي لتقدير الممارس، فقد كان مونرو معارضًا له؛ إذ يرى أنه خطأ شائع منذ العصور القديمة. فهجمات عاطفة ثانية لن يكون لها إلا آثار سلبية على عقل المريض الذي أضعفته العاطفة المستحوذة عليه. تكمن أهمية هذا الجدال بين طبيب بدلام وطبيب مشفى القديس لوقا في أنه أثار نقاشًا حول فِكَر معالجة الجنون، وهو نقاش ظل مرتبطًا بشكل ملموس ببناء مشافي المجانين. أُنشئت مشفى مانشستر للأمراض العقلية في عام ١٧٦٣، ومشفى نيوكاسل أبون تاين في عام ١٧٦٧، ومشفى يورك في عام ١٧٧٧، ومشفى ليفربول في عام ١٧٩٠، والعديد من المشافي الأخرى. واعتبارًا من عام ١٧٥٣، أصبح يُسمح لأطباء مشفى القديس لوقا بتعليم وتدريب تلاميذ في مشفاهم؛ «من أجل الصالح العام»، مجسدين بذلك حلم باتي الأساسي الذي عُدَّ رائدًا للتعليم السريري للطب النفسي.

لم يكن هذا العمل الخيري الإنساني مصحوبًا دائمًا بشفقة مبالغ فيها. فيما يتعلق بمشفى مانشستر، تمت الإشارة بشكل حاسم في أحد المؤلفات المترجمة إلى الفرنسية في عام ١٧٧٧20 إلى ضرورة إنشاء مشافٍ متخصصة ومجانية للفقراء؛ ليس فقط لأن المجنون جدير بالشفقة والرحمة ولذا يستحق مشفًى، وإنما أيضًا لأنه مثير للإزعاج، ومن ثم يجب أن يتوارى عن أعين الجميع. «وبتجميع عدد من المختلين عقليًّا في مصحة مشتركة، يصبح بالإمكان التقليل من عدد المشرفين.» وأضاف المُؤَلِّف قائلًا: «إنه تفكير محزن حقًّا، حين نظنُّ أن الأمل نادر في الشفاء التام من هذا المرض.» يتطلب علاج الجنون «إدارة» قاسية: «ففي فن المداواة يجب أن يكون الاهتمام منصبًّا بشكل كامل على وسائل اكتساب سلطة حقيقية على الطبع والأهواء، وذلك من خلال الاستعانة بالعواطف والأفكار العقلية المناقضة؛ وهي مهمة تقتضي ملاحظة مستمرة، وخبرة كبيرة، في التعامل مع الحالات المماثلة، بالإضافة إلى الحزم والأمن اللذين تستطيع العادة وحدها توفيرهما.»

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، افتُتِحت مصحات عامة أو شبه عامة للأمراض العقلية في غالبية المدن، لتُضاف بذلك إلى المؤسسات الخاصة المتعددة، التي كانت تستقبل منذ القرن السابع عشر، خلافًا لدور الاحتجاز الجبري الفرنسية (وعلى غرار الدُّور الخاصة الباريسية)؛ المختلين عقليًّا دون غيرهم من المرضى. بيد أن هذه المصحات كانت أكثر تنوعًا؛ فبعضها، مثل مؤسسة السير جوناثان مايلز الكبرى في شرق لندن، كان يحتجز المجانين المعوزين الذين يتكفل بهم المسئولون القائمون على تنفيذ قانون الفقراء. والبعض الآخر كان يضع قائمة بالأسعار المختلفة لنفقة الإقامة، التي قد تصل أحيانًا إلى خمسين ضعفًا للسعر الأساسي المقرر لتكلفة إعالة المعوزين، كما هي الحال في دار تايسهرست هاوس (ساسكس)، التي ظلت تديرها لما يقرب من قرنين عائلة نوينجتن، وكان يعمل بها مائة وخمسون خادمًا وحارسًا لخدمة ورعاية أقل من نصف هذا العدد من النزلاء. كان يوجد أيضًا دور عديدة ذات مساحة صغيرة للغاية؛ حيث كان يقوم المالك غالبًا بإيواء اثنين أو ثلاثة من المختلين عقليًّا في بيته الخاص. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تعالت الأصوات منددة بما أُطلِق عليه «تجارة الجنون». وقد أثار العديد من حالات الاحتجاز المشكوك فيها الصحافة وهيَّجَت الرأي العام. لم يستطع أحد أن ينسى أنه في ظل هذه المملكة، وليس في مكان آخر، تم التصويت رسميًّا في عام ١٦٧٩ على قانون المثول أمام القضاء، الذي يحق بمقتضاه لكل مواطن محبوس أن يمثُل أمام القاضي الذي وَقَّع على أمر توقيفه؛ حتى يتم بالدليل القاطع إثبات وجود دافع للاعتقال [عليك إحضار الشخص بشحمه ولحمه للمثول أمام القاضي]. وفي حالة عدم توافر هذا الدليل، يصبح لزامًا على القاضي إصدار أمر بإطلاق سراح الشخص المُحتجَز. لقد كان تيار العمل الخيري الإنساني الذي كان ساريًا إبَّان القرن الثامن عشر أكثر رسوخًا في إنجلترا منه في فرنسا، وقد حلت محله بقوة الماسونية التي أوجدها كذلك في إنجلترا مذهب الفلسفة النفعية، ولا سيما الطوائف البروتستانتية، مثل الكويكرز (جمعية الأصدقاء الدينية) أو الإنجيليين.

في عام ١٧٧٤، صوت البرلمان على قانون تنظيم مشافي المجانين الخاصة الذي نظم عملية احتجاز المختلين عقليًّا في المصحات الخاصة وقَنَّنَها. بموجب هذا القانون، لم يكن ممكنًا افتتاح أي مؤسسة أو تشغيلها دون الحصول على ترخيص من السلطة العامة، التي يتعين إعلامها بجميع حالات الدخول المستجدة. وكانت جولات التفتيش التي يقوم بها المفوضون المعينون من قِبل البرلمان، والذين تتولى كلية الطب الملكية دفع رواتبهم، تستهدف التأكد من أن عمليات الاحتجاز قانونية وأن المختلين عقليًّا يُعاملون بإنسانية. في الواقع، كان لا بد من الانتظار عدة أعوام لتصبح هذه التدابير فعالة، ولكن هذا لا ينفي أنه قد أُعطيت دفعة قوية أولية لتشريع خاص بشأن المرضى عقليًّا. بالإضافة إلى أن جنون الملك جورج الثالث، الذي أصبح واضحًا ابتداءً من عام ١٧٨٨، وما استتبعه من عراك بين الخبراء، كان من شأنهما تعزيز انشغال الرأي العام بهذه المسألة.

بلغ هذا «النموذج» الإنجليزي أوج ازدهاره وتجلَّى في أبهى «صوَرِه» مع إنشاء مأوَى ذا ريتريت في يورك، الذي أسسته عائلة توك المنتمية إلى طائفة الكويكرز. في عام ١٧٩١، لقيت إحدى سيدات الكويكرز مصرعها في ظروف مريبة داخل مشفى المجانين بيورك، الذي كان قد أُنشئ قبل ذلك بعشرين عامًا. وقد استنكر ويليام توك (١٧٣٢–١٨٢٢) — وكان يعمل تاجرًا للشاي والقهوة — الأوضاع المعيشية السيئة داخل مشفى يورك، وانتهى بإقناع أعضاء طائفة الكويكرز بتمويل بناء دار مخصصة للمصابين بالجنون، بحيث تكون هذه الدار — التي لا تعد مشفًى ولا ملجأً ولا سجنًا — بمنزلة مؤسسة إنسانية، أو بالأحرى بيت خلوة، ومن هنا جاءت تسميته ذا ريتريت. فتحت المؤسسة أبوابها في عام ١٧٩٦، وكانت تضم في ذلك الحين ثلاثين مريضًا وسبعة موظفين. وقد أسهم هؤلاء الموظفون السبعة، من الطبيب إلى الحارس، في تطبيق نظام الإدارة بأسلوب غاية في الإنسانية. فكما ترتدي اليد الحديدية قفازًا مخمليًّا، ينصهر الطابع التربوي والمعياري للاحتجاز في بوتقة الإحسان والرحمة والرِّفق التي يغلفها هيكل شبه عائلي.

شارك هنري، الابن البكر لويليام، في حياة المؤسسة الجديدة، ولكنه تُوفِّي قبل الأوان. ثم خلفه ابنه الأكبر صموئيل (١٧٨٤–١٨٥٧) الذي قدَّم للعالم الغربي «بيت الخلوة»، في عام ١٨١٣، من خلال كتابه «وصف بيت الخلوة، تلك المؤسسة الواقعة بالقرب من يورك والمخصصة للمرضى عقليًّا التابعين لجمعية الأصدقاء. لمحة تاريخية عن أصل هذه الدار، وإنجازاتها، وطرق العلاج المتبعة فيها، وعرض للحالات.» بعد عَرض تاريخ «ذا ريتريت» وإعطاء وصف دقيق للأماكن وللائحة الدار، خُصِّص فصلان؛ أحدهما للعلاج الطبي، والآخر — تقريبًا أطول من مثيله بثلاث مرات — للعلاج المعنوي الذي برز بوضوح كمرادف للإدارة. في هذه الأثناء، ظهر المصطلح في كتابات فيليب بينيل، الذي كان صموئيل توك يستشهد به في كثير من الأحيان، وسنتطرق بالطبع إلى هذه النقطة فيما بعد. علام يرتكز العلاج المعنوي في «بيت الخلوة»؟ بما أن الجنون مصدره الذهن، يتعين أولًا التأثير في العقل. يملك المختلون عقليًّا («المجانين»، ولكن صموئيل توك أعلن عن استعداده لتبني مصطلح «المريض عقليًّا» المقتبس من الفرنسية) درجة من التحكم في «ميولهم السيئة». إن حسهم الفكري والأخلاقي غالبًا ما يكون مشوهًا أكثر منه مدمرًا. ومن ثم بإمكاننا التأثير في عقل الأحمق عن طريق كسب ثقته وتحويل انتباهه إلى أغراض مناقضة لجنونه. ينقسم العلاج المعنوي إلى ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول، لا بد من مساعدة «المريض» على ضبط نفسه. الخوف ليس محظورًا، ولكن ينبغي التحكم في جرعته كما يحدث عند تربية الطفل. فيجب أن تسبقه التربية والسلطة. تساهم العديد من العوامل المتمثلة في الحياة المنضبطة، والعمل، والدين؛ في تعزيز ضبط النفس. يتوقف الجزء الثاني عند وسائل الإخضاع: التقييد في السرير، وفي الغرفة، والحبس في غرفة مظلمة، والتغذية القسرية بالنسبة إلى العديد من المختلين عقليًّا الذين يرفضون تناول الطعام، والأحزمة الجلدية وسترات المجانين المخصصة لتقييد المهتاجين والسيطرة عليهم (باستثناء سلاسل العار)، ويتم تطبيق هذا النظام بدقة وبصورة منتظمة مصحوبًا بكلمات الإقناع. يعقب هذه المرحلةَ الثانيةَ، التي وطدتها المرحلة الأولى، المرحلةُ الثالثةُ التي تقتضي استكشاف سبل الترويح عن النفس والتعزية والراحة المتمثلة في الحوار المناسب لكل مريض على حدة، والأنشطة الترفيهية التي تهيئ المناخ الملائم للتواصل الاجتماعي، والقراءات المنتقاة ما عدا الروايات، وزيارات الأصدقاء التي تعد سلاحًا ذا حدين؛ ولذا لا يتم السماح بها إلا للمرضى اللذين هم في طور النقاهة.

ولكن، بما أنه لا كرامة لنبي في وطنه، فإن وصف بيت الخلوة، الذي سرعان ما حظي فيما بعد بأهمية كبيرة لدى أطباء الأمراض العقلية في العالم أجمع باعتباره نموذجًا، أثار جدلًا واسعًا في إنجلترا، بتحريض من مصحتي بدلام ويورك اللتين اعتبرتا أنفسهما موضع نقد، وهو ما حدث بالفعل. نتج عن هذا الجدل تحقيق برلماني أسفر في عام ١٨١٥، بعد أن تقدم السيد ويليام توك الهرِم للإدلاء بشهادته شخصيًّا أمام مجلس العموم، عن انتصار «بيت الخلوة» وعلاجه المعنوي الذي أصبح أخيرًا نموذجًا رسميًّا في بلاده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤