الفصل الأول

قانون ١٨٣٨ الخاص بالمرضى عقليًّا

بينما كانت ملامح الطب النفسي تتشكل، ظل الجنون والقدرة على السيطرة عليه من الأمور القائمة على أرض الواقع، بينما تزايدت الهوة أكثر من أي وقت مضى بين النظرية والتطبيق. لقد رأينا أن الثورة أجَّلت المسألة إلى أجل غير مسمًّى، وأهملت معالجة الوضع الحرج الذي وصلت إليه الأمور. ومع ذلك، فإن أحدًا لم يُعِد النظر في اعتقال المرضى عقليًّا، على الرغم من أن هذا الاعتقال لا يرتكز على أي أساس قانوني أو إداري. وهكذا ظهرت معضلة جديدة، نابعة من التأكيد لمذهب قابلية الجنون للشفاء: ينبغي منع المرضى عقليًّا من إحداث ضرر (بما في ذلك لأنفسهم)، ولكن لا بد أيضًا من معالجتهم، وأن يتم ذلك داخل المؤسسة نفسها. وقد شجب تقرير صادر عن الإمبراطورية هذا الوضع بوضوح: «من الصعب جدًّا أن نحدد ما إذا كان يجب اعتبار مؤسسات المختلين عقليًّا دور احتجاز أم بالأحرى بيوت إيواء؛ إذ إن وظيفة هذه المؤسسات تقتضي من جهة احتجاز الأفراد الذين يضرون ربما المجتمع، ومن جهة أخرى، توفير سبل الشفاء للأفراد المرضى.»1 في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، برزت هذه الفجوة المؤسسية من خلال ذلك الصراع الذي بدأ يتفاقم بين السلطات: السلطة القضائية، والسلطة الإدارية التي كانت مهمتها تتمثل — من القائد العام للشرطة إبان عصر التنوير إلى المحافظ في عهد الإمبراطورية — في تنظيم كل ما يمس الحياة العامة (بالنسبة إلى المجنون ما يتعلق بالسلامة العامة أو بالمساعدة)، وأخيرًا السلطة الطبية، التي أرضت غرور القضاء بإعطائه سلطة تقرير متى يكون المرء مجنونًا، ومتى لا يكون كذلك. وإذا أضفنا، إلى هذا الخلط بين السلطات، التعثر المالي المتوطن الذي يؤثر بالسلب دائمًا على المساعدة — بما في ذلك مساعدة المرضى عقليًّا — فسنفهم سبب تأخر صدور تشريع بشأن المرضى عقليًّا. ولكن ما أهمية إصدار قانون مماثل؟

تقييم الوضع

ينبغي أن نتساءل كيف كان الوضع في نهاية عهد الإمبراطورية وإبان عصر عودة الملكية. يكفي القول إنه لم يكن ممتازًا. ففي عام ١٨١٨، أُجرِي تقييم شامل، ونُشِرت نتائجه في «التقرير المرفوع إلى الملك بشأن وضع المأوى، والأطفال اللقطاء، والمرضى عقليًّا، والتسول والسجون» على النحو التالي: «من بين جميع الإعاقات التي تصيب الإنسان، يأتي الاستلاب العقلي في المرتبة الأولى التي تستحق أكبر قدر من الاهتمام؛ نظرًا لأنه يحرم الإنسان من جميع ملكاته، كما أنه يصيب جميع الأعمار، وشتى الطبقات، في مختلف الظروف. ومع ذلك، لَم نُولِه إلا أقل القليل من الاهتمام في مجال تقديم المساعدات […] ولم تطَل التحسينات الكبيرة التي أُدخِلت على نظام المشافي إلا القليل من الأماكن المخصصة للمرضى عقليًّا.» ومرة أخرى، تمت الإشارة إلى إنجلترا التي أصبحت مثلًا يُحتذى به في هذا المجال. «لا يمكن لفرنسا أن تظل في الخلف.» تلا ذلك بيان بخصوص «احتجاز المرضى عقليًّا»: ورد فيه أن عددهم يتراوح ما بين ثمانية إلى تسعة آلاف، وهم مُوَزَّعون على ٢٤ مأوًى ومشفًى، و١٥ مستودعَ تسول (وهناك العديد من الحالات التي لم تُسجَّل؛ لأن الجميع لم يقم بإرسال البيانات المطلوبة لهذه الدراسة الاستقصائية)، بالإضافة إلى عدد غير محدد من دور الإيواء الصغيرة والسجون. وإذا أضفنا إلى ذلك المؤسسات الخاصة، التي لم يُذكر بشأنها أي شيء، فسنجد تقريبًا الانتثار نفسه لأماكن الاحتجاز الموروث من النظام القديم. كانت شارنتون، التي لم تخلُ من الانتقادات، تضم من ٤٣٠ إلى ٤٤٠ «مختلًّا»، أما مؤسستا سالبيتريير وبيستر، اللتان أُدخلت عليهما «تحسينات كبيرة»، فكانتا تضمَّان ١٢٠٠ و٥٥٠ مختلًّا عقليًّا. وهكذا كانت المؤسسات الثلاث الكبرى في باريس تضم وحدها ٤٣٪ من إجمالي المرضى عقليًّا المحتجزين في فرنسا. ومن بين المصحات السبع التي خُصِّصت في الأقاليم للمرضى عقليًّا، يُعد أهمها مشفى ماريفيل، الواقع بالقرب من نانسي، والذي بلغ عدد المحتجزين به ٢٥٠ شخصًا. وفي عام ١٨١٤، تأسس مشفى ماريفيل باعتباره «مشفًى مركزيًّا للمرضى عقليًّا» في المقاطعات التالية: مورت، وأردين، ومارن العليا، وموز، وفوج، وموزيل، والراين السفلى، وسون العليا ودُو. بيد أن المستودعات ودور الإيواء هي التي كانت على وجه الخصوص موضع انتقاد في تقرير ١٨١٨: «في كل مكان تقريبًا، كان المختلون عقليًّا يشغلون المباني النائية الأكثر انعزالًا، والأقدم، والأشد رطوبة، والأقذر. وكانت الزنازين، التي يُطلَق عليها حجيرات، بلا تهوية، وضيقة، وذات أرضية مُبلَّطَة بالحجارة كالشوارع. كما كانت توجد غالبًا في مستوًى أكثر انخفاضًا من سطح الأرض، وفي بعض الأحيان داخل أنفاق تحت الأرض أشبه بالسراديب. ولم تكن هذه المساكن تشتمل عادة على أي فتحات باستثناء الباب وثقب مربع أعلى الباب نفسه، ولم يكن الهواء يتجدد داخلها، كما لم يكن النظام والطعام ملائمين على الإطلاق لحالة المرضى. لم يكن المرضى عقليًّا يملكون المساحة اللازمة للتنزه. وكان يتم دائمًا احتجاز مرضى الهياج العصبي؛ حيث كان هؤلاء الأشقياء يُتركون في كثير من الأحيان فريسة لنزوات القائمين بالخدمة وقسوتهم.»

في عام ١٨٠٩، صدر تقرير عن دار إيواء لا بروفيدانس (العناية الإلهية) بسومور يكشف — على الرغم من أنه يعطي الإيحاء بالرضا الذاتي للمؤسسة عن أدائها — واقعًا لاشعوريًّا لهذا الوضع المحزن: فها هي حجرات المختلين عقليًّا، التي قيل عنها إنها «صحية للغاية»، منحوتة في الصخر. «كذلك الحال بالنسبة إلى الغرفة المشتركة التي ليست سوى كهف ضخم يؤوي فقيرات الدار، والبلهاوات، والمصابات بالشلل، والمكفوفات، ومريضات الصرع، وبعض المجنونات المسالمات. تحتوي هذه الغرفة على ثلاثة صفوف من الأسِرَّة موزعة على طول الكهف، بحيث يشتمل الصف الواحد على عشرين سريرًا تقريبًا. جميع الأَسِرَّة نظيفة للغاية ومرتبة بعناية قدر الإمكان بحسب ما تسمح به الظروف. للوهلة الأولى، قد يبدو لنا هذا المنزل غير صحي، ولو حكمنا بناءً على الظلام السائد في هذا المكان وعمقه فحسب، لتأكدت لدينا القناعة بصحة هذا الرأي. ولكن، إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى ما يُقَدَّم من خدمات رعاية للتغلب على المساوئ الناتجة عن اجتماع هذا العدد الكبير من الأفراد في غرفة واحدة، فستتبدد مخاوفنا.» ولقد وصل الأمر لدرجة أن الأماكن الأكثر إثارة للاشمئزاز بدت مدعاة للرضا: «بجوار الكهف الكبير الذي تحدثت عنه للتو، توجد الكثير من الكهوف الأخرى الأصغر حجمًا التي تؤوي عددًا من المجنونات ومريضات الصرع اللائي يصعب تركهن وسط الأفراد الآخرين، من دون أن يشكل ذلك خطورة على أحد. في الواقع، تنبعث من هذه المساكن الصغيرة رائحة نتنة، بيد أن هذه الرائحة ناتجة عن قذارة ساكناتها اللواتي لا يتخيرن أبدًا الأماكن المناسبة لتصريف فضلاتهن، فيتخلصن منها في فراشهن. ولكنَّ حرص الإدارة على عزلهن، والاعتناء بهن وتنظيفهن باستمرار، والسماح لهن بالخروج من وقت لآخر؛ كل هذه التدابير الاحترازية مجتمعة من شأنها الحيلولة دون انبعاث هذه الرائحة الكريهة حتى لا يشمها الآخرون، وانتشار الأمراض المعدية.»2
هذا التقرير ذو قيمة؛ لأنه لا يستنكر ولا يثور على الأوضاع، بل يخفف بحكم العادة من وطأة بشاعة ظروف الاحتجاز. ومع ذلك، تعالت صيحات الإنذار التي سلطت الضوء على فقر الموارد. وقد كتب أحد أعضاء مجلس البلدية تقريرًا عن زيارته لقصر أنجيه (سجن قديم كان تابعًا للدولة في عهد النظام القديم) في العدد الصادر من «صحيفة مقاطعتي ماين ولوار ومايين» بتاريخ ٦ أكتوبر ١٨٣٤: «بعد أن استعرضتُ المسجونين المدانين، طلبت أن أرى المجانين. اقتادوني عبر كومة من الركام والأنقاض إلى مكان، تبلغ مساحته طولًا نحو أربعين قدمًا وعرضًا نحو عشرين قدمًا، تحيط به جدران شاهقة لدرجة تسمح بالكاد بانسياب الهواء، الذي يأتي ملوثًا بفعل مروره على كومة من القمامة الناجمة عن التفريغ اليومي للدِّلاء. نجد ناحية الشمال خمس حجرات، تبلغ مساحة كل واحدة منها عشرة أقدام طولًا وستة أقدام عرضًا. مستوى الطابق منخفض للغاية؛ ولذا يتسلل ضوء النهار الخافت بصعوبة بالغة عبر طاقة صغيرة فوق الباب. تؤوي هذه الغرف حاليًّا أحد عشر فردًا. لا تحوي الحجرة إلا القليل من القش الذي يُجدَّد كل خمسة أيام، ودلوًا، وهذا كل ما بها من أثاث، سواء في الصيف أو في الشتاء. أما عن هؤلاء التعساء، فقد كان بعضهم عرايا بالكامل، والبعض الآخر تكسوهم خرق، وقد تُركوا فريسة للحشرات الطفيلية تنهش فيهم. وكانوا يُكَدَّسُونَ كلُّ ثلاثة داخل هذه الحجرات الملوثة؛ حيث كانوا يرقدون وسط القاذورات على بلاطات من الأردواز رطبة دائمًا؛ نظرًا لعدم تغطيتها بكمية كافية من القش. اثنان من هؤلاء المختلين عقليًّا كانت تنتابهما في بعض الأحيان حالة من الهياج؛ ولذا كان يجري احتجازُهما بصورة مستمرة، كل على حدة في حجرة منفصلة، وحرمانُهما من ضوء الشمس. أما الآخرون فكانوا يتواصلون بحرية بعضهم مع بعض أثناء النهار، ولكن لم يكن هناك أي حارس لمراقبتهم؛ مما يجعل الضعيف عرضة للوقوع تحت رحمة القوي. في الثامنة صباحًا، كان يتم إحضار حساء لهم. وكان يُقدَّم إليهم يوميًّا رطل ونصف من الخبز. ولقد كنت حاضرًا وقت تناولهم طعام العشاء، ووجدته يتكون من نوع من العصيدة السوداء المفرودة على الخبز، التي تسبح فيها بعض قطع البطاطس. ولقد سألت السجان عن طبيعة هذا الطعام، فأجاب قائلًا: «إنها يخنة، وهي لذيذة».» وهكذا رسمَ السجانُ بإجابته عن السؤال الذي طرحه عليه عضو المجلس البلدي صورةً تعبر ليس فقط عن غياب الرحمة والشفقة، وإنما عن العوز التام. «اعترف لي السجان (الذي يعمل بهذا القصر منذ ما يقرب من أربعين عامًا)، والذي أصبح متآلفًا للغاية مع المآسي الإنسانية، أنه كان يشعر بالنفور والاشمئزاز، وأنه بالرغم من تعاطفه مع هؤلاء المرضى وشعوره بالشفقة نحوهم، يمتنع، قدر الإمكان، عن زيارتهم، ويزيح عن كاهله عبء هذا الجزء من الخدمة. وعلى الرغم من نواياه الطيبة، كان من المستحيل بالنسبة إليه إدخال أي تحسين أو تطوير على هذا المكان. فلم يكن هناك أحد معين خِصِّيصَى تحت إمرته لهذه الخدمة. ولم تُعطَ له أي ملابس للمجانين. فلم يستطع أن يمنحهم إلا الأسمال الخاصة ببعض المدانين. ولم يكن يمتلك أي وسيلة للقمع، ولا أي وسيلة وقائية، حيال مَن يقومون بالتكسير والتهشيم، ولكن من دون أن تكون لديهم أي نية خبيثة: فلا شيء إلا القيود الحديدية، ودائمًا القيود الحديدية.»3
ولم يكن المجلس العام التابع لمنطقة ماين ولوار ينتظر هذا التاريخ لإبداء قلقه إزاء وضع المرضى عقليًّا داخل المقاطعة، منددًا بما يلقاه «هذا الفرع من الإدارة العامة» من إهمال تام منذ تدمير دار الرهبان الفرنسيسكان. اعتبارًا من عام ١٨٠٧، إذ أعرب المجلس العام عن انشغاله بمسألة المجانين «المتروكين من جديد في الشوارع وعبر الحقول، والذين يشكلون تهديدًا على حياة المواطنين، وشرف السيدات»؛ قد طرح فكرة إنشاء مؤسسة خاصة بالمقاطعة، بل بأكثر من مقاطعة في الواقع، لاستقبال المرضى عقليًّا المعوزين والقادرين على الدفع على حد سواء، بحيث تغطي المبالغ المالية التي تدفعها الفئة الثانية نفقات الفئة الأولى.4
لقد رأينا إسكيرول يندد بشدة بحالة مشافي المجانين في فرنسا، ومع ذلك، فقد تم إحراز بعض التقدم في الفترة ما بين ١٨١٨، وهو تاريخ نشر تقرير إسكيرول، و١٨٣٨، الذي هو تاريخ إنجازه لجميع مهامه على أكمل وجه. كما أن التقرير المقدم من جيوم فيريس،5 الذي عُيِّنَ في عام ١٨٣٥ مفتشًا عامًّا على مصحات الأمراض العقلية، شهد أيضًا — على الرغم من أنه بدا شديد التحفظ — بتحقيق العديد من الإنجازات في هذا المجال. بيد أن أبرز ما يركز عليه فيريس في تقريره، هو تنوع المؤسسات واختلافها من مقاطعة لأخرى. بانتظار صدور القانون الكبير بشأن المرضى عقليًّا الذي طال تَرَقُّبه في فرنسا، وتأخر بفعل التغيرات المستمرة في النظام الحاكم، كان لا بد من معالجة المشكلة الأكثر إلحاحًا. ففي كل مكان تقريبًا، شرعنا منذ بداية عهد عودة الملكية في إعادة تنظيم، وتوسيع، وبناء المؤسسات. وفي بعض المقاطعات، «كان لا بد من البدء من نقطة الصفر.» كما هي الحال، على سبيل المثال، في بوش دو رون؛ حيث كان المرضى عقليًّا موزعين في دارين من دور الإيواء بمارسيليا: سان جوزيف وسان لازار، ولقد كانت الثورة تمثل كارثة بالنسبة إلى هاتين المؤسستين؛ إذ أدَّى ارتفاع نسبة الوفيات إلى تقليص العدد من ١١٤ في عام ١٧٨٩ إلى ٤٤ في عام ١٨٠٢.6 في عام ١٨٣٢، قفز عدد المحتجزين إلى ٢٠٨، متسببًا في اكتظاظ المكان، لدرجة أنه كان يجري أحيانًا تكديس عدد يصل إلى ستة مختلين عقليًّا في حجرة واحدة. وكانت المباني متداعية. في تقرير مرفوع إلى باريس، عبرت إدارة بيوت الإيواء عن الوضع بالعبارة التالية: «لن تعطي الإدارة أي وصف لمباني مشفى سان لازار؛ إذ ستكون الصورة قاتمة ومؤلمة للغاية.»

كان لا يزال العديد من المرضى عقليًّا في السجون، وكان العدد الأكبر منهم لا يزال في مستودعات التسول. العديدُ من المقاطعات تدبر أمره بطريقة أو بأخرى مع جيرانه. ومن الجدير بالذكر أن تلك المقاطعات التي كانت تعتز بنفسها وتشعر بالرضا عن مستواها لم يكن لديها دائمًا ما يدعو لذلك. فها هو فيريس يعلق على الوضع في مشفى أفينيون قائلًا: «إن المشفى ليس مثاليًّا كما قد نتصور في البلاد»؛ فالأبواب، والنوافذ، والحجرات، جميعها «مسلحة بكمية كبيرة من الحديد».

وماذا عن المؤسسات الثلاث الكبرى في باريس؟ لم تعد سالبيتريير مؤسسة نموذجية، على الرغم من القطاعات الجديدة التي أُنشِئت داخلها. ولقد جرت إزالة صف كامل من صفَّي الحجرات «لإعطاء الآخرين الفرصة لتنشُّق الهواء والاستمتاع بالضوء»، وفتح نوافذ داخل الزنازين، وإنشاء متنزهات، وتغطية البلاطات الحجرية بأرضية خشبية. في بيستر، جعل فيريس — وكان آنذاك رئيس أطباء المشفى — المرضى يهدمون بأيديهم الحجرات القديمة غير الصحية، واستبدل بها صفَّين من الحجرات، يشتمل كل صف منهما على عشرين حجرة مبنية على مستوًى مرتفع بين ساحتين مسقوفتين [باحتين]، إحداهما للشتاء والأخرى للصيف. وقد أُضيفت إلى الأفنية القديمة متنزهات وحدائق مزروعة بالبقول والخضراوات والفاكهة. في «مساء» اليوم الموافق الحادي والثلاثين من ديسمبر ١٨٢٤، كانت المؤسستان الباريسيتان الكبريان تضمان عددًا من المرضى عقليًّا بلغ تعدادهم على التوالي ١٨٤٢ امرأة و٨٣٠ رجلًا. أما عن مشفى شارنتون (فقد بلغ تعداد المرضى عقليًّا به، في الأول من يناير ١٨٢٦، ٤٩٢)، وقد أثنى فيريس على المستوى الرفيع لهذه المؤسسة، ولكنه انتقد بشكل عابر الأسلوب الذي اتبعه إسكيرول في إعداد إحصائيات الشفاء الخاصة به استنادًا إلى هذا المشفى؛ ففي الوقت الذي صرح فيه إسكيرول بأن نسب الشفاء تبلغ ١ إلى ٣، أوضح فيريس أن النسبة تبلغ بالأحرى ١ إلى ٦، ولكن هذه الأرقام مشكوك بها أيضًا على أي حال. وهنا نجد مسألة هامة للغاية تطرح نفسها، ولكننا سنعود إليها فيما بعد.

ومن جانبه، منح إسكيرول مؤسسته شهادات الرضا الذاتي، حتى ولو كانت هذه المصحة تمثل ذلك النمط من المشافي الذي — إذ كان قائمًا بالفعل — لم يكن بالإمكان هدمه وإعادة بنائه من جديد. في الواقع، يُعد المخطط الخاص بهذه المصحة، بصرف النظر عن القطاع الجديد الذي شُيِّدَ للنساء في عام ١٨٢٨، متشابكًا إلى حد بعيد؛ إذ إنه يشتمل على العديد من المباني ذات الطوابق وهو ما انتقده إسكيرول. ولقد أدخلت العديد من التطورات والتحسينات المنتظمة على هذه المصحة: فزُوِّدَتِ القطاعات المختلفة بنظام التدفئة الذي كانت تفتقر إليه، وبدورات مياه جديدة (١٨٢١)، وحمامات جديدة ووحدة تمريض، وحدائق وباحات.

وكلما دعت الحاجة إلى القيام بتوسعات في المصحة، كانت هذه العمليات الإنشائية المتعاقبة تُنفَّذ على وجه الخصوص في المؤسسات الخاصة التي تتولى الجماعات الدينية إدارتها. ولقد استعادت هذه الجماعات قواها في عهد عودة الملكية، بدءًا بجماعة القديس يوحنا الإلهي (سان جون دي ديو) أو جماعة القديسة مريم؛ عذراء الصعود. ويقدم لنا تاريخ طائفة بون سوفور بكاين الخاص بهذه الحقبة مثالًا بارزًا على ما نقول. لقد رأينا كيف صمدت دار الاحتجاز الجبري القديمة ونجت بطريقة ما من الثورة، بمريضاتها عقليًّا «المستترات» البالغ عددهن خمس عشرة، عن طريق المكوث في أحد الأديرة القديمة التابعة للرهبان الكَبُّوشيين. ولقد كانت المباني متداعية للغاية، وسرعان ما بدأت أعمال الترميم والبناء التي لم تتوقف قط. استعادت دار بون سوفور صفتها الرسمية عام ١٨٠٩، مع موافقة الحكومة على قوانينها الجديدة. «تضع فتيات بون سوفور نصب أعينهن الأهداف التالية: (١) أن يعتنين بالمجانين المقيمين بالدار سواء أكانوا رجالًا أم نساءً، ويقدمن لهم خدمات الرعاية مع إظهار أكبر قدر ممكن من المحبة تجاههم.» وهكذا نلاحظ أن هذه الدار أصبحت من الآن فصاعدًا تستقبل كلا الجنسين. اختفت الفتيات سيئات السمعة، ولكن ظلت المدرسة الداخلية المخصصة «للآنسات الشابات» و«دار العجائز المُعَدة للسيدات المسنات اللائي يردن العيش في هدوء وعزلة» مفتوحتين، الأمر الذي كان يوفر دخلًا للجماعة. ومع ذلك، استمرت الصعوبات المالية المتفاقمة حتى عام ١٨١٨ الذي شكَّل منعطفًا؛ إذ إنه العام الذي حَوَّلَ فيه محافظ كالفادوس مستودع بوليو إلى سجن مركزي. ومن ثم، بات من الضروري إخراج المرضى عقليًّا من هذا المكان. في البداية، بدت الراهبات مترددات، ولكنهن وافقن في النهاية على عقد اتفاق مع المقاطعة؛ من أجل إيجاد حل لمشاكلهن المالية. وهكذا أصبحت دار بون سوفور مصحة خاصة تقوم بوظيفة المصحة العامة، بمعنى أن هذا المشفى قد أصبح قادرًا على احتجازه — بالإضافة إلى المرضى عقليًّا الذين يدفعون نفقة إقامة — عددًا غير محدود من المرضى عقليًّا الفقراء من الجنسين، والذين ستتكفل بهم المقاطعة. منحت المقاطعة الجماعة قرضًا بقيمة ٥٠ ألف فرنك لبناء قسم للرجال (سان جوزيف). وخلال ستة وثلاثين عامًا؛ أي في الفترة من ١٨١٧ إلى ١٨٥٣، تزايد عدد المريضات عقليًّا من ٣٧ إلى ١٠٠، بالإضافة إلى وجود ٧٠ مريضًا عقليًّا. ثم قدمت المقاطعة قرضًا آخر مما أتاح القيام بتوسعات جديدة (ولا سيما تشييد مبنًى جديدٍ للنساء، وهو مبنى سانت ماري). وهيأت السياسة المنهجية التي جرى اتباعها لشراء المنازل والأملاك المجاورة إجراء توسع كبير بالمشفى. فأُنْشِئَتْ أجنحة مريحة مزودة بحدائق للمرضى عقليًّا القادرين على دفع نفقات إقامة مرتفعة للغاية. وبطريقة ما، كان الأثرياء يدفعون للفقراء داخل مؤسسة بون سوفور التي أصبحت بمنزلة ساحة بناء كبيرة.

في بلدية كليرمون بمقاطعة إلواز، كانت الثورة قد أغلقت الدير حديث النشأة الخاص بالرهبان الفرنسيسكان؛ وهو دير نوتردام دو لا جارد، الكائن في بلدية نوفيل أون آيز، وأطلقت سراح النزلاء المحتجزين بالقوة، ولكنها ألقت في الوقت ذاته المختلين عقليًّا في الشارع. ولقد استضاف أحد المواطنين، وهو السيد تريبو، ستة من هؤلاء المختلين في منزله الخاص الذي يملكه بالمدينة. وهكذا تشكلت النواة الأساسية لما سيصبح فيما بعد أكبر مصحة للأمراض العقلية في فرنسا في القرن التاسع عشر (مصحة خاصة تقوم بوظيفة المصحة العامة). في عام ١٨٣٢، لم يكن هناك إلا ستة عشر مريضًا عقليًّا من كلا الجنسين، حين عقد الطبيب لابيت، وهو خليفة السيد تريبو وصهره، اتفاقًا مع مقاطعة إلواز، وذلك بعد أن كان قد شَيَّد خلال عامي ١٨٢٢-١٨٢٣ مبنًى مهمًّا مكونًا من طابق واحد (طبقًا لإرشادات إسكيرول) بواجهة يبلغ ارتفاعها ٣٣ مترًا منقسمة إلى جزأين متلاصقين؛ واحدٍ للرجال وآخر للنساء. وبإضافة فناء خلفي شاسع لتربية الدواجن وزريبة للبقر، تتشكل لدينا الباحة الأمامية الرائدة لمزرعة مترامية الأطراف. ثم عقدت مقاطعتا سينواز وسوم بدورهما اتفاقًا؛ نظرًا لأنهما كانتا تفتقران أيضًا إلى وجود مصحة عامة. خلال سبعة أعوام ونصف، وبعد حيازة المزيد من الأراضي والإنشاءات، قفز عدد المحتجزين إلى ما يقرب من الخمسمائة.

ولقد عاب إسكيرول على هذه المؤسسات الخاصة وقوعها في أماكن بعيدة جدًّا، نتيجة لتوسعاتها المتعاقبة؛ نظرًا لأنه ينادي باتباع خطط نموذجية. وقد وجه انتقاداته بشكل خاص للأديرة القديمة: «العديد من مصحات المجانين المنشأة داخل أديرة لا يوجد بها مخطط عام، ولا توزيع مناسب لأولئك الذين يقطنون فيها، ولا وسائل راحة للخدمة، ولا تسهيلات للمراقبة والإشراف.» فالمباني متجاورة للغاية، ولا توجد بها مساحات كافية ولا أفنية، ولا تنظيم داخلي يأخذ في الاعتبار الأسعار المختلفة لنفقات الإقامة والمعايير الطبية العقلية …

لا يزال انطلاق المصحات العامة يحتاج إلى بذل المزيد من الجهود. وهو ما شرحته وزارة الداخلية في التعميم الموجه إلى المحافظين والصادر بتاريخ ٢٩ يونيو ١٨٣٥: «إن العقبات التي تواجهها الإدارة مرجعها سبب واحد: نقص الموارد المتاحة وعدم كفايتها. ولا يمكن التغلب على هذه العقبات إلا بالقانون.» علاوة على ذلك، جميع هذه المصحات تقريبًا لم تُبْنَ من الصفر؛ مما نجم عنه العديد من المشاكل. ففي سان يون، كان هناك دير ثم ألغي في عام ١٧٩٢، ثم أصبح تباعًا سجنًا ثوريًّا، وترسانة، ودار احتجاز، ومشفًى عسكريًّا، ومستودعًا للتسول، إلى أن شرعنا في عام ١٨٢١ في بناء مصحة للمجانين وفقًا للمعايير الجديدة. فضلًا عن ذلك، ذهب إسكيرول وبنجامين ديبورت — مدير دور الإيواء المدنية في باريس — شخصيًّا إلى روان للإشراف على المنشآت الجديدة. وتحولت المباني القديمة ذات الطابع الديني إلى مراكز لإدارة المرافق، وأنشئت حولها خمسة قطاعات حديثة. ومع ذلك، جرى تجهيز مهاجع في الدير القديم، على حساب المخطط العام.

يُعَد ديرُ مان التلميذ الممتاز الوحيد الذي سار على النهج السليم، فهو أول دير يُبنى، ابتداءً من عام ١٨٢٨، من العدم. يشِيد إسكيرول بمزاياه قائلًا: «يستحيل تقديم وصفة لبناء أكثر بساطة، وأكثر صحة، وأكثر ملاءمة لخدمة المرضى عقليًّا، والإشراف عليهم، والاهتمام برفاهيتهم.» ومع ذلك، في هذا الدير أيضًا، يلعب متغير «الملجأ»، بفئاته الثلاث، دورًا مؤثرًا على التصنيف الطبي.

قبل التصويت على قانون ١٨٣٨، بدأت المصحات على الفور في التطور في جميع أنحاء فرنسا، ولكن رافق هذا التطور شيوع فوضى عارمة. ففي بداية عهد ملكية يوليو، بلغ تعداد المرضى عقليًّا المحتجزين ما يقرب من ١٠ آلاف تم توزيعهم على ١٤٠ مؤسسة متباينة على جميع الأصعدة: المعدات، وحالة المباني وحجمها، والنظام الإداري (فقد كان هناك مصحات خاصة للمرضى عقليًّا وحدهم، ومصحات مشتركة داخل المشافي أو دور الإيواء المزودة بقسم خاص للمرضى عقليًّا)، والوضع القانوني (هل هي مصحة خاصة، أم عامة، أم خاصة تقوم بوظيفة العامة)، وتكلفة الإقامة باليوم بالنسبة إلى المرضى عقليًّا المحتجزين، التي تبدأ بسعر معين ثم قد تصل إلى خمسة أضعافه … ويجب ألا ننسى أيضًا المرضى عقليًّا المعوزين الذين بلغ عددهم نحو ٦ آلاف شخص، والذين كانت البلديات ودور الإيواء والعائلات تنتظر الفرصة السانحة لإدخالهم إحدى المصحات. ومن ثم، لم يعد من الممكن تأجيل إقرار قانون، حتى ولو كان العديد من النواب ما زالوا يهددون بشبح الهاوية المالية.

الإدارة والنقاش

بعد سقوط النسور، عاد عهد عودة الملكية إلى نقطة الصفر فيما يتعلق بالتشريع، أو بالأحرى غياب أي تشريع بشأن المرضى عقليًّا. في السادس من نوفمبر ١٨١٥، قَيَّدَ قرار وزاري نفقات المرضى عقليًّا على حساب البلديات تبعًا للمقر المسئول عن تقديم المعونات التابع له المريض، أو في حالة عدم وجوده، على حساب المقاطعة. ومع ذلك، على الرغم من المذكرة الشهيرة التي أرسلها إسكيرول إلى وزارة الداخلية في عام ١٨١٨ والتعليمات الوزارية المليئة بالأحلام الوردية، ظهرت من جديد فجوة مؤسسية وبدأت تتسع إبان العقد الثالث من القرن التاسع عشر (١٨٢٠)، حتى ولو كان الدَّور الذي يضطلع به المحافظون قويًّا بالفعل. فنجد على سبيل المثال أن لائحة ١٨٢٠ الخاصة بمصحة سان فنان — التي أصبحت تخدم المقاطعة بأكملها — وضعها محافظ بادو كاليه بنفسه، وقد نصت على أنه «لن يُقبَل أي مريض عقليًّا لأي سبب من الأسباب إلا بعد صدور أمر من المحافظ ولمدة معينة» (المادة الثانية). كما «سيتولى أحد المديرين تنظيم النواحي الإدارية بالمؤسسة، تحت قيادة المحافظ وإشراف لجنة خاصة، على أن يتولى طبيب إدارة المؤسسة فيما يتعلق بالشق الطبي» (المادة السادسة).

كان لا بد من انتظار مملكة يوليو لكي تظهر من جديد مسألة المرضى عقليًّا على الساحة في عام ١٨٣٢، حين رفض مجلس النواب مشروع قانون قدمته الحكومة بخصوص إدراج نفقات المجانين المعوزين (المشكلة الأبدية) في سجل نفقات مجلس البلدية الإلزامية. تلك هي بداية المسألة المالية، التي ستؤدي بعد جهد جهيد إلى إقرار قانون ١٨٣٨ … في الدراسة الاستقصائية التي بعث بها وزير الداخلية إلى المحافظين في الرابع عشر من سبتمبر ١٨٣٣، غطت المتطلبات المالية على أي انشغال طبي أو حتى خيري. ولقد طُلِب من المحافظين تقديم إحصائية عن المرضى عقليًّا الذين لا يتلقون أي معونة أو مساعدة. وكانت جميع الأسئلة المطروحة تقريبًا، فيما عدا العدد، والسن، والجنس، ومعرفة الأسباب الرئيسة للإصابة بالاستلاب العقلي (متى كان ذلك ممكنًا)، تتعلق بالنواحي المالية: من يدفع؟ (العائلة، البلدية، المقاطعة؟) ما هي أسعار نفقات الإقامة في المؤسسات المختلفة؟ ما هي المبالغ التي تصوت عليها سنويًّا المجالس المحلية لتخصيصها لصالح المرضى عقليًّا؟ كم ستبلغ تكاليف احتجاز المرضى عقليًّا المعوزين، سواء في مصحة عامة أو في مصحة خاصة؟ وأخيرًا، كيف «يمكننا جمع الأموال اللازمة»؟

انطلقت البداية الحقيقية لطرح مشروع قانون بشأن المرضى عقليًّا للمناقشة من خلال المذكرة التي أصدرها وزير الداخلية (أدولف تيير)، في التاسع والعشرين من شهر يونيو ١٨٣٥، والذي يمكن أن نلخصها على النحو التالي: ما زال الأمن العام مهددًا بسبب المختلين عقليًّا المعوزين الذين يجوبون الشوارع بحرية، ويلتمس القضاء «من السلطة الإدارية تقديم المساعدة». غير أن العقبات التي تواجهها الإدارة، وهي عقبات مالية على وجه الخصوص «لم يعد بالإمكان التغلب عليها من الآن فصاعدًا إلا بالقانون.» أما عن النفقات، التي من الواضح أنه سيتحتم على المقاطعات في المستقبل التكفل بها، فيجب أن تُقدَّر قيمتها من أجل التصويت عليها في موازنة ١٨٣٦. لم تُذكَر المسألة الطبية إلا مرة واحدة، عند الانتقال من فقرة إلى أخرى وبأسلوب تقييدي: من هنا ينبع، بالنسبة إلى السلطة الإدارية، الواجبُ أو بالأحرى الحقُّ في مطالبة القانون والمجتمع بتوفير الوسائل اللازمة لفتح مصحات مخصصة لاستقبال المختلين عقليًّا المعوزين؛ بحيث يصبح بإمكانهم تلقي علاج شافٍ، إذا كان مرضهم قابلًا للشفاء، أو — في المقابل — تلقي خدمات الرعاية والمساعدات التي يتلقاها العاجزون، والمسنون الفقراء في دور الإيواء التابعة لنا. ولم تتحرك مجالس البلدية لتلبية النداء، على الرغم من رسائل التذكير شديدة الإلحاح التي بعثت بها الحكومة؛ ومن ثم، تضاعفت الدراسات الاستقصائية. وأخذ مكتب «إحصائيات فرنسا»، الذي تأسس حديثًا، يطالب بإعداد جداول جميلة وكبيرة؛ حيث يأخذ الجانب الطبي-الاجتماعي مكانه أخيرًا على الساحة، وقد اشتملت هذه الإحصائيات على البيانات التالية: مهنة المرضى عقليًّا، وأسباب الاستلاب العقلي وهنا تم التمييز بين الأسباب الجسدية (آثار السن، والعته، والتهيج المفرط، والإرهاق الناجم عن الإفراط في العمل، والفقر المدقع، والاستمناء، والأمراض الجلدية، والضربات والجروح، والزهري، واستسقاء الدماغ، والصرع والتشنجات، والحمى، والسُّل وأمراض القلب، وانبعاث المواد المضرة، والإسراف في شرب الخمر والمشروبات الروحية) والأسباب المعنوية (الحب والغيرة، والحزن، والأحداث السياسية، والطموح، والغرور، والدين الذي يساء فهمه).

ها نحن الآن يفصلنا أقل من شهر عن التصويت على قانون المالية، الذي سوف يُذكَر فيه للمرة الأولى المرضى عقليًّا، وقد أُجري بحث وزاري جديد (تعميم صادر في ٢٥ يونيو ١٨٣٦) في محاولة جديدة لتطويق المشكلة. وهذا البحث هو الأخير في تلك السلسلة الطويلة التي تسعى جاهدة، منذ عهد الإمبراطورية، لتسليط الضوء على مسألة المختلين عقليًّا، إن لم يكن حلها. في ذلك الوقت، كان الفكر الحكومي قد نجح أخيرًا في معالجة قضايا رئيسة؛ كإدراج نفقات المرضى عقليًّا المعوزين في بند المصروفات المتغيرة للمقاطعة (دون المساس بالمساهمة المقدمة من البلدية التابع لها المريض)، وآليات قبول وتوزيع المرضى عقليًّا غير المحجور عليهم، وضمانات حمايتهم من الاعتقالات التعسفية، والإدارة المؤقتة للممتلكات، وطبيعة المؤسسات، والمتطلبات المعمارية والتنظيمية، والخدمات الطبية والدَّور الذي يجب أن يضطلع به كبير الأطباء في هذا الصدد. ومع ذلك، كانت الإحصاءات — على الرغم من تقديم فيريس للعديد من المذكرات وقيامه بعمليات التفتيش — افتراضية، ولا سيما فيما يتعلق بالعدد الإجمالي للمجانين المعوزين، سواء المحتجزون أو غيرهم. كما بدت المعلومات الواردة عن النفقات أكثر غموضًا. فلا أحد يريد أن يدفع: لا الدولة، ولا المقاطعة، ولا البلدية، ولا العائلة.

دامت المناقشات ثمانية عشر شهرًا (من ٦ يناير ١٨٣٧ إلى ١٤ يونيو ١٨٣٨)، وهذا دليل على اهتمام مجلس النواب وديوان البير (أي أهل المشورة الأولى) بهذه المسألة. ولم يرتفع أي صوت قط للاعتراض على مبدأ المشروع نفسه. وبعيدًا عن المسألة المالية، يهدف هذا المشروع إلى التوفيق بين متطلبات الإنسانية والنظام الاجتماعي. يتعين على الإدارة، الممثلة في شخص المحافظ، أن تحل محل القضاء على أن تبقى تحت إشرافه، سواء لتلقي طلبات الاعتقال التي تتقدم بها العائلات، أو لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإصدار أمر احتجاز مباشر. ولم يكن هناك مجال كبير أمام الطب النفسي الناشئ لقيادة المناقشات. فمن بين أكثر من ألف صفحة من المَحاضر، لم يحق لبينيل أن يكتب إلا خمسة أسطر فقط على سبيل الإحالة المرجعية. بالطبع، ذُكِرَت الأسباب الطبية ولكن ليس من وجهة نظر الطبيب، كما هي الحال على سبيل المثال حين أوضح كابانيس «أن الجنون لا يدوم بطبيعة الحال؛ لذا لا يمكن تبيُّنه إلا في اللحظة نفسها التي يُوَقَّع فيها الكشف الطبي على المريض. فعادة ما يستعيد المختل عقليًّا، من وقت لآخر، صوابه، وبالتالي يتعين حينئذٍ إعطاؤه كامل حقوقه المدنية.»7 ولكن مَن سيطالب إذن بإطلاق سراحه؟
ولقد جرت استشارة أطباء الأمراض العقلية العظماء في ذلك الوقت، ولا سيما إسكيرول وفيريس وفالريه. ولم يكتب فيريس تقريرًا بالمعنى الدقيق عن مشروع القانون، وإنما أوضح رأيه بهذا الشأن في كتابه «المرضى عقليًّا»8 … حيث نلاحظ أن جُل ما يهمه هو الحفاظ على الحرية الفردية؛ مما سيؤدي به إلى أن يكون فعليًّا المدافع الوحيد عن مبدأ الإيداع بناءً على أمر من السلطة القضائية. وعلى الرغم من كونه طبيبًا، فإن السلطة الطبية وحدها بدت له خطيرة: «طالما بدت لي تلك السلطة الحصرية للطبيب أمرًا مبالغًا فيه، وأنا على قناعة تامة بهذا الرأي؛ نظرًا لما ألاقيه من صعوبات بالغة عند ممارستها.»
ولقد قدم جان بيير فالريه (١٧٩٤–١٨٧٠) — وهو تلميذ لبينيل وإسكيرول، وطبيب بقسم البلهاوات في سالبيتريير، وعضو بأكاديمية الطب — تقريرًا وفقًا للأصول الواجبة،9 شدد فيه على إجماع الأطباء على رفض الحكم بالحجر المنهجي. على النقيض من فيريس، انتقد فالريه بقوة قلة الحالات التي تجلت فيها السلطة الطبية؛ حيث خبت «أضواء الطب» لصالح السلطة القضائية أو الإدارية. هذه السلطة الأخيرة «تتدخل في عقد ثقة تربط بين الطبيب والأسرة»؛ مما يهدد بدوره نجاح العلاج المعنوي. وفيما يتعلق بالفكرة التي طُرحت، في المذكرة التوضيحية التي عرضها وزير الداخلية أمام مجلس النواب، بخصوص احتجاز «المرضى عقليًّا الذين تم الاعتراف بأن حالتهم ميئوس من شفائها من قِبل مؤسسات أخرى غير تلك التي اختصت بمعالجة الاستلاب العقلي»؛ فقد عارضها فالريه، ولا سيما بسبب الخطورة التي يشكلها ذلك الاستبعاد التعسفي للميئوس منهم؛ مما يؤدي بدوره إلى إعاقة تقدم علم الطب. ويرى فالريه على أي حال أن تسمية هؤلاء المرضى ﺑ «الميئوس منهم» تُعد في حد ذاتها «إهانة للإنسانية». كما صاغ فالريه العديد من الانتقادات الأخرى (من ضمنها معارضته، على سبيل المثال، للمؤسسات المشتركة لصالح المؤسسات الخاصة)، لدرجة أن تقريره أسهم بشكل ملموس في تدمير المشروع الذي اقترحته أساسًا الحكومة، والذي ستجري له لجنة مجلس النواب تحولًا جذريًّا.
لم يظهر تقرير إسكيرول10 إلا في مطلع عام ١٨٣٨، قبل أشهر قليلة من التصويت النهائي، وبالتالي لم يكن له تأثير كبير على المناقشات كتقرير فالريه. إذا كان إسكيرول قد أعرب عن سعادته بتفوق السلطة الإدارية على السلطة القضائية، فإنه لم يقلل من انتقاداته. يرى إسكيرول أن التدابير الاحترازية العديدة التي اتُّخِذَت لمكافحة الاعتقالات التعسفية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الإضرار بحُسن سير المؤسسات وبعلاج المرضى عقليًّا. ولقد ذُكِرت أمثلةٌ على الانتهاكات مستوحاةٌ من إنجلترا. في الواقع، ليس هناك مجال للخوف من حدوث هذا في فرنسا؛ حيث «تضعنا عذوبة أخلاقنا ورقتها، ونزاهة طبعنا بمنأًى عن مثل هذه التجاوزات.» وها هو سيل من الانتقادات ينهمر: فالمؤسسات العامة المخصصة للمرضى عقليًّا يجب ألا توضع تحت قيادة الحكومة، بل المشافي. ليست الحكومة هي المخولة بإعطاء التراخيص للمؤسسات الخاصة، وإنما تتولى السلطات المحلية ذلك. على غرار فالريه، يرى إسكيرول أن مسئولية إصدار الحكم بالاحتجاز المباشر تقع على عاتق عمدة البلدية (شريطة أن يستشير المحافظ)؛ لكونه أكثر قربًا وأكثر قدرة على الحكم على الأمور من المحافظ. ولقد دُعِي عدد كبير جدًّا من السلطات لزيارة المصحات: «يا لَكثرة الزيارات! ويا لكثرة الزوار! ويا لكثرة الأفراد الذين اخترقوا خصوصية مرض يسعى الجميع إلى إخفائه!» لقد أثارت هذه الزيارات فيما بعد اهتياج المرضى، كما تسببت في فقْد «الرؤساء» «لهيبتهم الأخلاقية» (وهو ما قاله فالريه). وفيما يتعلق بخروج المرضى عقليًّا، يقترح إسكيرول أن نحتذي في ذلك بالنموذج الألماني؛ حيث يسبق الخروجَ النهائي خروجٌ مبدئي على سبيل التجربة في نطاق العائلة؛ «حتى يختبر المريض قواه العقلية والعاطفية.» ولكن، لماذا يجب إعطاء المحافظ سلطة السماح بالخروج الفوري لأي مريض عقليًّا أُدخِل طواعية [أي أُودِعَ المصحة بناءً على طلب عائلته] بمجرد أن يطالب المودع بذلك، ودون أن تكون استشارة الطبيب إلزامية؟ وقد بدت العديد من الانتقادات الأخرى كمجادلات في سفاسف الأمور، على نحو غير متوقع، مثل انتقاد وجود سجل للاحتفاظ بالبيانات المتعلقة بكل مريض عقليًّا، بما في ذلك الملاحظات الطبية الشهرية (يصرح إسكيرول بشكل قاطع قائلًا: لا فائدة من هذا السجل؛ لأنه لن يكون دقيقًا). ويختتم طبيب الأمراض العقلية قائلًا: المشروع ليس جيدًا. فنحن لا نضع في الاعتبار بشكل كافٍ مصلحة العائلات. كما أن عدد الالتزامات الكبير للغاية يجعل هذا القانون غير قابل للتطبيق.
وهناك تقرير آخر لم يفطن له أحد تقريبًا، وهو الذي قدمه آديودا فيفر،11 الطبيب السابق بمأوى أنتيكاي في ليون، ولم يُسْتَشَرْ بصورة رسمية. بل لعل هذا التقرير أكثر أهمية من تقارير كبار أطباء الأمراض العقلية الباريسيين. لقد صيغت معظم المواد — ينتقد فيفر — بهدف حماية حرية فردية ليست موضع تهديد، ولكن، في الوقت نفسه، تعوق هذه التدابير عملية الإيداع، ولا تحترم خصوصية العائلات أو السرية الطبية. وندد فيفر، مثل إسكيرول، بالسلطة التعسفية التي تعطي للمحافظ الحق في أن يصدر بمفرده أمرًا مباشرًا بإيداع أو خروج مريض عقليًّا دون الحاجة إلى أي شهادات طبية.

باختصار، لا يسعنا الحديث عن قانون ١٨٣٨، كما هي الحال في كثير من الأحيان، على أنه قانون أملاه أطباء الأمراض العقلية، أو على الأقل أخضعوه لسيطرتهم القوية. بالطبع، يتعلق الأمر في المقام الأول بقانون مالي (لا أنوي مناقشة المسألة الطبية — يقول أحد النواب — فنحن بصدد إعداد تشريع، وليس ممارسة الطب)، ولكن ما زال بإمكاننا التعبير عن اندهاشنا إزاء وضع الطب والأطباء في المرتبة الثانية. لقد أشارت المادة الأولى بالفعل إلى «مؤسسة عامة، معدة خِصِّيصَى لاستقبال وعلاج المرضى عقليًّا» (يظل ذلك أقل القليل)، ولكن لم يَردْ على الإطلاق، حتى ولو كان ذلك من باب التأكيد على مبدأ أساسي، أيُّ ذكر للعلاج المعنوي ولا للدور المحوري الذي يضطلع به طبيب الأمراض العقلية، والذي تحدث عنه إسكيرول قائلًا: «ينبغي أن يكون الطبيب، بطريقة ما، جوهر حياة المشفى. ومن خلاله، يجب أن يتم تسيير كل شيء.» أكان تطبيق العلاج المعنوي في المصحة ضمنيًّا لدرجة أنه لم يكن هناك داعٍ لذكره؟ أم على العكس، كان الاعتقاد الهائل في قابلية الجنون للشفاء متزعزعًا لدرجة أننا لم نعد نجرؤ على التحدث عنه؟

القانون وتطبيقه

بعد أن أقر المجلسُ الأعلى في البرلمان القانونَ بالإجماع، صوَّت عليه مجلس النواب في الرابع عشر من يونيو ١٨٣٨ (٢١٦ صوتًا مقابل ١٦) وصدر القانون في اليوم الموافق ٣٠ يونيو. علام ينص هذا القانون الذي طال انتظاره؟ أصبح لزامًا على كل مقاطعة أن تمتلك من الآن فصاعدًا مصحة للمرضى عقليًّا أو أن تعقد اتفاقًا مع مؤسسة أخرى عامة أو خاصة. وتتولى السلطة العامة إدارة المؤسسات العامة والإشراف على المؤسسات الخاصة، التي ستصبح من الآن فصاعدًا خاضعة للترخيص. ولقد كُلِّفَ المحافظ، ونائبوه، ومفوضو وزارة الداخلية (لم تكن قد أنشئت بعد وزارة الصحة)، ورئيس المحكمة، والنائب العام، وقاضي السلام، وعمدة البلدية بزيارة المؤسسة (بحيث يقوم النائب العام على الأقل مرة كل ثلاثة أشهر بزيارة المؤسسات الخاصة ومرة كل ستة أشهر بزيارة المؤسسات العامة). وأصبحت عمليات الإيداع في المشافي خاضعة لتنظيم محدد وفقًا لنمطين: الإيداعات الطوعية والإيداعات المحكومة بأوامر صادرة من السلطة العامة (التي أطلق عليها فيما بعد «الإيداعات الرسمية»). في الحالة الأولى، ينبغي تقديم طلب قبول موقع من أسرة المريض، وشهادة طبية من طبيب لا يمت بصلة للمؤسسة أو للعائلة. تُرسَل بعد ذلك نشرة دخول يذكر بها المستندات المقدمة خلال أربع وعشرين ساعة إلى المحافظ، مع إرفاقها بشهادة من طبيب المؤسسة. ثم يتعين أن يقوم المحافظ من جانبه بإخطار النائب العام في غضون ثلاثة أيام. وبعد ذلك، يتعين إرسال شهادة طبية ثانية من طبيب المؤسسة إلى المحافظ، في غضون خمسة عشر يومًا، تفيد بتأكيد أو تعديل الشهادة الأولى.

من الواضح أن هاجس الاعتقال التعسفي استحوذ على المشرع، الذي أدخل ثلاث سلطات لتحقيق نوع من التوازن في القوى (وهي سلطة المحافظة، والسلطة القضائية، والسلطة الطبية). في حالة «الإيداع الرسمي»، يأمر المحافظ مع التعليل بإيداع أي شخص — سواء أكان محجورًا عليه أم لا — «قد تشكل حالة الاختلال العقلي لديه خطرًا على الأمن العام أو سلامة الأشخاص.» ويتعين أن يقوم خلال أربع وعشرين ساعة باتخاذ قرار بشأن تدابير الاعتقال المؤقت داخل دور الإيواء أو المشافي، ولكن مع الأخذ في الاعتبار بأن هذا الاحتجاز لا يمكن أن يُنَفَّذ «بأي حال من الأحوال» في أحد السجون. و«في غرة كل شهر»، يقوم طبيب المؤسسة بكتابة تقرير وإرساله إلى المحافظ عن «حالة جميع الأشخاص الذين يجري احتجازهم، وطبيعة مرضهم ونتائج العلاج. ويصدر المحافظ حكمه على كل فرد على حدة، فيأمر ببقائه داخل المؤسسة أو بخروجه منها.»

أيًّا كان نمط الإيداع، كان يتم إعداد سجل — خاضع لإشراف أولئك الذين يملكون حق زيارة المؤسسة — بحيث يشتمل بالنسبة إلى كل مريض على مجمل البيانات الإدارية، وشهادات الدخول، والخروج أو الوفاة، والملاحظات الطبية على أن يجري تحديثها على الأقل شهريًّا. ويحق للمريض في حالة الإيداع الطوعي، الخروج من المؤسسة، حتى دون إتمام العلاج، إذا تقدم المودع بطلب. وإذا بدا أن هذا الخروج قد يهدد الأمن أو السلامة العامة، يمكن حينئذٍ أن يطلب العمدة إلى المحافظ إصدار أمر بالإيداع الرسمي. يحق لكل شخص محتجز في مؤسسة للمرضى عقليًّا، كما يحق لكل والد أو صديق، الالتجاء إلى المحكمة للمطالبة بالخروج.

إلا أنه لا قيمة للقانون وحده دون إرفاقه بالمذكرات المتعلقة بتطبيقه. ولقد ركزت هذه المذكرات بشكل خاص على توضيح النقاط المالية التالية: مساهمات البلديات بالقياس إلى المجالس العمومية التي تستنكف من الدفع، ومساعدات دور الإيواء، وتحديد أسعار الإقامة باليوم …

بعيدًا عن هذه المسائل، هناك جملة قصيرة وردت في المادة ٢٥ من القانون، وأُبعِدَت إلى القسم الثالث (مصروفات قسم المرضى عقليًّا)، ولم يتنبه أحد إليها على الرغم من أهميتها: «يُقبَل أيضًا بالمؤسسة المرضى عقليًّا الذين لا تشكل حالتهم العقلية أي خطورة على الأمن العام أو سلامة الأشخاص.» تفسر المذكرة الصادرة بتاريخ ٥ أغسطس ١٨٣٩ هذا الجزء على النحو التالي: «يبدو أن النصوص الواردة في الفقرة الثانية من المادة ٢٥ من القانون لم تُفهَم بشكل كامل.» أوضح الوزير أن التزام المقاطعات لا يتوقف فقط عند متطلبات السلامة العامة. فالقانون «ليس قانونًا شُرَطِيًّا فحسب، وإنما هو قانون يتعلق أيضًا بالبر والإحسان. هناك مرضى عقليًّا يعيشون في أوضاع مؤسفة للغاية، على الرغم من أنهم لا يهددون بأي صورة أمن المواطنين، فلِم لا يساعدهم المجتمع؟ جميع أولئك على وجه الخصوص، الذين يجدون أنفسهم بصدد الوقوع في براثن المراحل الأولى لداء يستطيع فن الطب مداواته؛ يجب أن يحصلوا على فرصتهم لتلقي معونات العلم والإحسان. فلا يمكن، في الوقت الذي تنتشر فيه المشافي في جميع أرجاء البلاد وتفتح أبوابها أمام الأمراض المختلفة التي تصيب البشرية، أن نحرم أشد هذه الأمراض قسوة، وهو الاستلاب العقلي، من هذا الخير.» وحيث كان النظام القديم يزعم (ببخل) أنه لا يقوم إلا باحتجاز المختلين عقليًّا المصابين بالهياج، نجد القرن التاسع عشر، الذي بدأ يشهد بزوغ الطب النفسي، يضع أمامه هدفًا مغايرًا تمامًا: من الآن فصاعدًا، قانون ١٨٣٨ يُعنى بكل المجانين.

أتاح المرسوم الصادر بتاريخ ١٨ ديسمبر ١٨٣٩ للقانون أن يدخل حيز النفاذ، ولا سيما فيما يتعلق بلائحة وتشغيل المؤسسات. فأصبح يتعين على المؤسسات الخاصة التي كانت قائمة بالفعل الحصولُ على تراخيص في غضون ستة أشهر. وأصبح لزامًا على المدير، إن لم يكن هو نفسه طبيبًا، توظيف أحد الأطباء لمعاونته في مهام الإدارة. أما عن المؤسسات العامة، فسيقوم الوزير بتعيين مدير لها. و«إلى جانب» (وهو التعبير المستخدم) المدير، يوجد رئيس الأطباء الذي يُعَيَّن أيضًا من قِبل الوزير. «يتضمن علاج الاستلاب العقلي رعاية خاصة، ونظامًا يهتم بالجانبين المعنوي والجسدي؛ مما يتطلب بالضرورة أن يتمتع الطبيب بنوع من الاستقلالية تتيح له اتخاذ كافة التدابير التي يراها ملائمة لإعادة المريض إلى صوابه.» ومع ذلك، كانت الإدارة المركزية في ذلك الوقت لا تزال تجهل الكثير فيما يتعلق بحقيقة الوضع داخل كل مقاطعة. ويتعين على المقاطعات، من جانبها، استيضاح كل نقطة من القانون، بدءًا، كما هي الحال دائمًا، بالمسائل المالية. تلا ذلك تنظيم مكثف خلال الأعوام ١٨٤٠، و١٨٤١، و١٨٤٢.

لكن هذه ليست النهاية. فقد نصت المادة السابعة من القانون الصادر بتاريخ ٣٠ يونيو ١٨٣٨ على أن اللوائح الداخلية الخاصة بمؤسسات الأمراض العقلية يجب أن تُعرض على الوزير وتحصل على موافقته. في الواقع، معظم المؤسسات الخاصة لم تكن ترسل شيئًا. أما المؤسسات العامة، فكانت تضع لوائح وقوانين تنظيمية بها عوار لدرجة أن الوزير لم يكن يعتمدها. وهو ما يفسر إعداد لائحة نموذجية نُشِرت بقرار رسمي بتاريخ ٢٠ مارس ١٨٥٧. هذا القانون التنظيمي الكبير، بمواده البالغ عددها ١٨٩ مادة، وجداوله التي تشتمل على ١٥ نموذجًا، ولائحته التنفيذية التي تفسر جميع المواد تفصيليًّا؛ لم يترك شيئًا للمصادفة. وسيكون بمنزلة الكتاب المقدس لمصحات الأمراض العقلية بما يشمله من معلومات عن: الإدارة، والخدمة الطبية (٧ مواد — على سبيل المثال — عن مهام الصيدلي فقط)، والحياة اليومية والجداول الزمنية، والنظام الغذائي وعمل المرضى عقليًّا … ولقد أعلن الوزير صراحة أن هذه اللائحة تُعد مكملة لقانون ١٨٣٨: «بعد تكريس ثمانية عشر عامًا من الخبرة من أجل هذا الإنجاز، يمكن القول إن هذا العمل هو نوع الأعمال التي تستطيع بحق أن تفخر بها الإدارة الفرنسية، التي تقدم مادة ثرية تقتبس عنها التشريعات الأجنبية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤