الفصل الثاني

ازدهار المصحات في فرنسا

لقد طرح التصويت على قانون ١٨٣٨ ضمنيًّا قضية إنشاء مصحات جديدة، ولكن ما المقصود ﺑ «مصحات جديدة»؟ كان التفكير في الشكل الذي يجب أن يكون عليه — على وجه التحديد — مشفى المجانين، قد بدأ بالفعل قبل التصويت على قانون ١٨٣٨ مع صدور «تعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والعمل على شفائهم في المصحات المخصصة» لهم عام ١٧٨٥. اعتبارًا من هذا التاريخ — وبالتالي قبل إسكيرول وقبل ظهور نموذجه «المصحة: أداة للشفاء» — تم التأكيد على «ضرورة تصنيف الأنواع المختلفة من الجنون وفصل بعضها عن بعض». ولقد رأينا مع ذلك أن معيار التصنيف كان يرتكز بالأحرى على السلوك وليس على علم توصيف الأمراض (النوزوجرافيا).

وحينما لاح في الأفق قانون ١٨٣٨، بدأ تصميم قطاعات التصنيف، بشكل نظري، وكأن كل قطاع منها بمنزلة مصحة داخل المصحة، وحدة معمارية وعلاجية منغلقة على نفسها ومستقلة طبيًّا. إن إضافة هذه القطاعات إلى بعضها البعض، مع تعميم الخدمات، هو ما شَكَّل المصحة، التي كانت تُخصص أحيانًا لجنس واحد، وأحيانًا أخرى للجنسين، مع ما كان يستتبع ذلك من تكرار للنموذج القائم نفسه. فضلًا عن ذلك، سبق أن رأينا، فيما يتعلق بإنشاء مشفى دو مان، أن التصنيف، الذي كان يترنح بين النوزوجرافيا والسلوك، أصبح أكثر تعقيدًا بسبب المعايير المالية. فهناك من جهة، المعوزين، ومن جهة أخرى النزلاء، وبالنسبة إلى هذه الفئة الأخيرة، كان يوجد أيضًا تقسيم داخلي إلى طبقتين أو ثلاث متميزة بعضها عن بعض بحسب القدرة على الدفع.

هناك العديد من المسائل المهمة الأخرى التي طرحت نفسها على مشارف القرن التاسع عشر. ما هي مساحة مصحة الأمراض العقلية؟ كان تونون وكابانيس يفضلان أن تكون المشافي محدودة المساحة (بحيث تسع من ١٠٠ إلى ١٥٠ سريرًا)، لشكهما في فرص الشفاء داخل مؤسسات كبرى وشاسعة. بيد أن هذا ليس ما نصبو إليه، وإنما على العكس، نحن نتجه نحو إنشاء مؤسسات كبيرة، بل كبيرة للغاية بحيث تصبح تكلفتها نسبيًّا أقل، وأيضًا؛ لأن هذه المؤسسات الكبرى هي الوحيدة القادرة على إيجاد حل لمشكلة التصميم المعماري المؤرقة الناجمة عن التقسيم إلى قطاعات بحسب التصنيف. أما عن أولئك الذين لا يؤيدون وجود المصحات على الإطلاق، فهم قلة قليلة لدرجة تدفعنا للإشارة هنا إلى ذلك الصراع الذي شنه عبثًا المدعو مور، محافظ مقاطعة فار في عام ١٧٩١.1 لا لمصحات الأمراض العقلية — هكذا قال — لأنه يفضل وجود الداء على الدواء. بالطبع، المصحات التي يشير إليها هنا هذا المواطن هي المصحات «التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل إسكيرول». بيد أن انتقاداته، التي صاغها وفقًا لمبادئ العلاج المعنوي، هي المبادئ نفسها التي تلقي بالفعل بظلالها الثقيلة على المصحة المستقبلية. فالمختلون عقليًّا، حين يمرون بفترات الصحو، لا يسعهم إلا الشعور بالهلع والرعب واليأس عند رؤية منظر جنون الآخرين، ذلك الجنون الذي يغرقهم أكثر فأكثر في جنونهم الخاص. وفيما يتعلق بالعدد الكبير للمختلين عقليًّا المحتجزين داخل المشفى ذاته، فهو يوضح لنا استحالة الاهتمام فيه بشكل حقيقي بكل مريض على حدة؛ إذ يجب «أن يكون المعالج موجودًا باستمرار مع المريض للاستفادة من هذه اللحظات السعيدة التي تكون فيها روحه لا تزال منفتحة على نور الحقيقة.» أليس من الأفضل توزيع هؤلاء المختلين عقليًّا في المشافي بالقرب من أسرهم؟ ولكن ذلك سيكون باهظ التكلفة. المحافظ هو الذي يتحدث هذه المرة.

مبادئ معمارية

لقد كان عصر المصحات بلا أدنى شك هو عصر اللقاء بين أطباء الأمراض العقلية والمهندسين المعماريين وسط أجواء حماسية من الهندسة المعمارية. كتب إسكيرول قائلًا: «إن المخطط الخاص بمصحة الأمراض العقلية ليس أمرًا بلا قيمة بحيث يتعين تركه للمهندسين المعماريين وحدهم.» ومن ثم، فإن المشروعات التي سيكتب لها النجاح ستكون نتاجًا لهذا التعاون.

بيد أن المهندسين المعماريين أنصار التيار الخيالي لم يفشلوا. فإذا كان السجن، في بداية القرن التاسع عشر، هو التيمة الكبرى للهندسة المعمارية الوظيفية في فرنسا،2 فإن المشفى وبالأحرى مصحة الأمراض العقلية، بسبب أهدافها المزدوجة، يشكلان تجسيدًا لنظرية معمارية، تتسم بالمبالغة والغلو في بعض الأحيان. يضاف إلى المبدأ الأساسي القائم على التماثل التام؛ أيْ صورة الجسم المثالي، مبدأ آخر وهو مبدأ الهندسة المعمارية المرتكزة على المراقبة، التي يُعد المثال الأبرز لها هو نموذج البانوبتيكون الشهير أو النموذج شمولي الرؤية (وهو نوع من السجون يسمح بمراقبة جميع السجناء دون أن يشعروا) الذي صممه جيريمي بنثام (١٧٤٨–١٨٣٢)، وهو فيلسوف نفعي وفقيه قانوني إنجليزي. لنتذكر سريعًا هذا المبدأ: «مبنيان (دائريان) متداخلان أحدهما مع الآخر. يتكون المبنى المحيط من شقق السجناء [مع] وجود زنازين مفتوحة من الداخل […] هناك برج يحتل الوسط، وهو مسكن المراقبين […] يحيط ببرج المراقبة رواق مغطًّى بمشربية شفافة؛ مما يتيح للمراقب أن يتوغل بنظره في أعماق الزنازين، ولكن دون أن يراه أحد […] وسواء أكان غائبًا أم حاضرًا، فإن فكرة حضوره فعالة كحضوره نفسه.»3 ويذكر بنثام صراحةً مصحات المجانين ضمن المؤسسات القابلة للتنظيم على شاكلة التصميم المعماري شمولي الرؤية. في إطار رؤية للجنون «تنتمي إلى مرحلة ما قبل الطب العقلي» حيث كان الاحتجاز هو العنصر الوحيد الذي يؤخَذ في الحسبان (نحن نتحدث عن عام ١٧٩١)، يوضح بنثام أن الحجرات المنفصلة بعضها عن بعض والخاضعة للمراقبة المركزية «تُغني عن استخدام القيود وغيرها من وسائل القمع»، بالإضافة إلى أنها توفر ميزة أخرى تتمثل في حماية المجانين في الوقت نفسه من اعتداءات الحراس؛ لأن كلا الطرفين يجدون أنفسهم خاضعين لنظام من المراقبة التي تتسم بالشفافية المطلقة.
في الوقت ذاته، اتجه بعض المهندسين المعماريين، بوصفهم الورثة الروحيين لكلود نيقولا لودو، الذي تأثر هو نفسه بمفهوم التصميم المعماري شمولي الرؤية، إلى «ذلك البناء القائم وسط الأشعة، حيث لا يفلت أي شيء من المراقبة»،4 كما نرى على سبيل المثال في تصميم مبنى الملاحة الملكية في آرك إي سينان أو لإيتيان لويس بوليه، نحو تصميم مخططات عملاقة ذات نزعة معمارية شمولية. ولقد رسم جان باتيست هارو رومان — المهندس المعماري بكالفادوس — أثناء قيامه ببناء سجن بوليو المركزي الجديد (من وحي التصميم المعماري شمولي الرؤية) في موقع مستودع التسول نفسه القديم بكاين؛ تصاميمَ مصحة الأمراض العقلية ذات الطابع الانعزالي الشبيه بالأديرة؛ حيث نقرأ فوق بوابة الدخول الوحيدة والضيقة، العبارة الآتية على الشاهد: هنا يوجد مختلون عقليًّا.

يظهر هذا الطراز المعماري المزود بإشعاع للمراقبة، الذي نجده بالفعل في مشاريع مصحات القرن الثامن عشر، في مشروع إنشاء «مؤسسة لمعالجة الاستلاب العقلي» (١٨٢٧)، الذي قدمه فيريس — كبير الأطباء بدُور الإيواء في بيستر — بالاشتراك مع بيير فيليبون، المهندس المعماري بالحكومة. يتمثل هذا المشروع في إنشاء أربعة أجنحة مزودة بالإشعاع للمرضى عقليًّا الذين يحتاجون إلى مراقبة خاصة. بحيث يمكث في المبنى المركزي طاقم الخدمة و«المشرفون الرئيسون». «ومن خلال هذه الترتيبات، يصبح الأشخاص القائمون بالخدمة والمكلفون بحراسة المرضى عقليًّا الغاضبين أو الثائرين، أكثر قربًا من بعضهم البعض؛ مما يتيح لهم تبادل المساعدة فيما بينهم عند الحاجة، كما يسهل تحركهم وتنقلهم في أرجاء المكان من دون أن يكونوا مضطرين لقطع مسافات طويلة داخل المؤسسة. وهكذا أصبحت المراقبة العامة أكثر سهولة، وأكثر نشاطًا وحيوية، كما أصبحت تغطي كافة أنحاء المؤسسة، ولم يعد يوجد أي منطقة محرومة منها. وكان من المقرر إنشاء مبانٍ أخرى لاستقبال المرضى المسالمين، في نهاية القسم المكون من حجرات مخصصة للمرضى عقليًّا الهائجين.»

ومع ذلك، كان مقدرًا للمخططات المعمارية الشعاعية — من قبيل التصميم الذي وضعه مونروبير (مهندس معماري في ليون) في عام ١٨٣٥ وأطلق عليه اسمًا جميلًا هو «المخطط الفسيولوجي» — أن تظل مجرد تصاميم على لوحات كرتونية. وتزايدت الانتقادات: إن نظام المراقبة المركزية، وإن كان أساسيًّا في السجون، إلا أنه ثانويٌّ في مصحات المجانين؛ حيث يتعلق الأمر بتفريق المرضى بدلًا من تجميعهم بالأحرى؛ الأمر الذي يؤدي بهم إلى الهياج والضوضاء. كما أن القسم الواحد ليس مجزَّأً بما يكفي إلى عدد من الأقسام الفرعية. فضلًا عن ذلك، يضفي المخطط الشعاعي مظهرًا قبيحًا على الأفنية، ويحتم إطالة الأشعة بشكل مفرط أو زيادة عدد الطوابق متى زاد عدد المحتجزين بشكل كبير. وبمنتهى الجدية الممكنة، يضيف جوزيف جيزلان (١٧٩٧–١٨٦٠) — رائد الطب العقلي البلجيكي (نطلق عليه أحيانًا «بينيل البلجيكي») — بخصوص الشكل الشعاعي، قائلًا: «عند النقطة المركزية، يوفر هذا التصميم تدفق تيارات الهواء.» لقد بُنيت مصحة مونديفيرج، في فوكلوز، عام ١٨٤٣، على الطراز الشعاعي، وكان لها فيما بعد ثقل كبير خارج فرنسا.

من الواضح أن إسكيرول قد أولى اهتمامًا خاصًّا لذلك المخطط الذي كان من المفترض أن يصبح مصحة للمرضى عقليًّا، مَشيدةً خارج المدينة على أرض شاسعة، وقادرة على استيعاب من ٤٠٠ إلى ٥٠٠ مريض. لقد استعان بالمهندس المعماري لويس-إيبوليت لوبا لتنفيذ التصاميم، ثم عرض على المجلس العمومي لدور الإيواء في باريس المخطط الأول لمشروع إنشاء مصحة كبرى للأمراض العقلية، وهي المصحة التي كان مقدرًا لها أن تكون نموذجًا للإنشاءات التي بدأ يتم تنفيذها في العديد من المدن الفرنسية. فوق محور مركزي، حيث نجد المصحة التي تُعد بمنزلة نقطة ارتكاز حقيقية لهذه المدينة داخل المدينة، تقع مباني الإدارة والمرافق (المطابخ، والحمامات، وورش العمل). ولا ننسَ أيضًا ذلك البناء المركزي بكل ما تحمله الكلمة من معنًى، والمتمثل في الكنيسة، ذات الأبعاد الكبيرة في الغالب. من كلا الجانبين، عموديًّا وفي تماثل تام، بحيث يكون الرجال ناحية اليمين والسيدات ناحية الشمال، نجد مناطق التصنيف، وهي عبارة عن «كتل من المباني رباعية الأضلاع ومعزولة، وتمتلك من الداخل فناءً محاطًا برواق مسقوف، [مع] وجود جانب رابع مغلق بقضبان حديدية يطل على حدائق واسعة أو الريف […] كتل معزولة كثيرة لتصنيف جميع المرضى بحسب طبيعة مرضهم وفترة الإصابة […] وكان من المقرر أن توفر جميع هذه المباني المبنية على الطابق الأرضي، مساكن منفصلة ومُجَهَّزة للمرضى عقليًّا: المصابين بالهياج، وبالهوس دون دوافع عدوانية على الإطلاق، وللسوداويين الهادئين، وللمصابين بالهوس الأحادي، وهم عادة يتسببون في صخب كبير، وللمختلين عقليًّا المصابين بالخرف، وللمختلين القذرين، وللمصابين بالصرع وبأمراض عرضية، وأخيرًا، للمرضى في طور النقاهة الذين يتعين أن يكون مسكنهم مجهزًا تجهيزًا معينًا بحيث لا يصبح في إمكانهم رؤية أو سماع المرضى الآخرين، بينما يظلون هم أنفسهم على مقربة من المبنى الرئيس» … ومن جديد، كانت الغلبة والسيادة للتصنيف على أساس المعيار السلوكي.

وفي عام ١٨٦٢، أثناء افتتاح تمثال إسكيرول في شارنتون، أعرب جان باتيست بارشاب (١٨٠٠–١٨٦٦) — وهو مفتش عام على قسم المرضى عقليًّا منذ عام ١٨٤٨ — عن تقديره لهذا الأب المؤسس، وصرح بأن «هذه المعطيات الأساسية، التي تُعد فكرًا طبيًّا، ستكون بمنزلة الأساس الراسخ الذي سيرتكز عليه، من الآن فصاعدًا، المثل الأعلى لمصحة الأمراض العقلية. يتمثل هذا الفكر في تصنيف المرضى وتقسيمهم على مناطق منفصلة ملائمة لاحتياجات ومتطلبات العلاج المعنوي، تبعًا لطبيعة وشكل وحدَّة المرض […] وهكذا، فإن تبعية الهندسة المعمارية للمعالجة، التي تجلت للمرة الأولى في التصاميم المقدمة والمستوحاة من إسكيرول، سترتبط بجميع التطورات المتتالية التي سيجري إدخالها في مجال تأسيس، وإنشاء، وتنظيم مصحات الأمراض العقلية.»5
إذا كان البرنامج الذي اقترحه بنجامين ديبورت — مدير مكتب المساعدة العامة — وعرضه، في عام ١٨٢١، على المجلس العمومي للمشافي ودور الإيواء المدنية في باريس، يُعد بمنزلة تكرار للإرشادات الجوهرية التي سبق أن أوردها إسكيرول، فإنه (البرنامج) تغلغل في بعض التفاصيل الخاصة بالتنفيذ وفي بعض الاعتبارات؛ مما أدى في النهاية إلى إرساء دعائم البناء الاستشفائي في بداية القرن التاسع عشر.6 «إن المصحة المكرسة لمعالجة الاستلاب العقلي هي بمنزلة صرح خيري تفتقر إليه فرنسا.» أو أنه لم يكن في الإمكان محاكاة الدول المجاورة، التي تضحي مؤسساتها بالتنسيق والترتيب الداخلي في سبيل «عظمة التنفيذ». «ينبغي على فرنسا تقديم هذا النموذج.» فلا يتسم مشفى الأمراض العقلية بأي مغالاة معمارية: «تعتمد فخامة مصحات الأمراض العقلية على توفير أكبر قدر من الرفاهة لكل فرد من خلال توفير مكان مريح ونظيف له؛ فيجب ألا تظهر عبقرية المعماري إلا من خلال النسب الدقيقة والخطوط المستقيمة دائمًا والتنسيق المعين للكتل، بحيث تمر عليها العين بسهولة. أما فيما يتعلق بالموقع، فنجد مبادئ إسكيرول: «مساحة واسعة خارج المدن (والدافع الفكرة الواضحة التي تستهدف إبعاد المختلين لإلهائهم عن أفكارهم الثابتة، وفي ذات الوقت عزلهم عن فضول الآخرين) وهواء نقي وموارد مياه وفيرة … على أن يكون مكان المباني ناحية الشرق، كما ينص إسكيرول. وبالتالي يُجَنَّب المرضى «حرارة الجنوب في الصيف وبرودة الشمال في الشتاء»، […] الأمران اللذان يساهمان في تأجيج خيالاتهم.» في حين أن الشرق — بغض النظر عن جودة ونقاوة الهواء «وانتعاشه الذي يهدئ من احتدام الذهن» — يتيح للمرضى الاستفادة من وضوح أشعة الشمس الأولى، التي لها القدرة على تحسين حالتهم وتُهيِّئُهم للخضوع دون مقاومة للرعاية التي يتطلبها وضعهم.»

يسع مثل هذا النوع من المصحات خمسمائة مريض: ثلاثمائة امرأة ومائتي رجل «يفصلهم أكبر قدر ممكن من الفراغ»، لدرجة تحولهم إلى مصحتين داخل واحدة كبيرة، مع الاحتفاظ بإمكانية المرور بسهولة من واحدة للأخرى. ويتكون كلٌّ من هذين الجزأين الكبيرين من اثنتي عشرة منطقة على الأقل؛ أي اثني عشر مشفًى صغيرًا منفصلًا بعضها عن بعض دون أن يستطيع أحد رؤية أو سماع ما يدور في أي منها: «مجانين ثائرين أثناء العلاج ومجانين ميئوس من شفائهم في حالة هياج، ومجانين هادئين في طور العلاج موضوعين في غرف، إلى مجانين في حالة صرع وهياج، ومجانين مصابين بالصرع في مهجع، وأيضًا مجانين هادئين موضوعين في المهجع ومجانين هادئين ميئوس من شفائهم، بخلاف المصابين بالسوداوية والبله والأمراض العرضية ومن هم في طور النقاهة.»

وتعد هذه المناطق الاثنتا عشرة أكثر بكثير مما أنشيء في الواقع، فعادة ما يتعارض تواضع الميزانيات مع المشروعات الطموحة. إلا أن ديبورت يرى وجوب إضافة تقسيمات فرعية أخرى: «توجد بين المجانين فروق، وقد يرغب الأطباء في تصنيفهم منفصلين وفقًا لها»، كما يجب تجنب مشاهدة المجانين لنوع آخر من الجنون غير الذي أصابهم؛ ومن ثم فإن مضاعفة هذه التقسيمات قد يعني مضاعفة وسائل الشفاء في الوقت نفسه. ويعتقد ديبورت أن — في جميع الأحوال — وجود اثنتي عشرة منطقة للتقسيم إنما يعد الحد الأدنى. «أي تقسيم أقل من ذلك قد يعرض الأطباء إلى فشل محاولات العلاج.»

وفقًا لفكرة إسكيرول، فإن تلك المباني لن تُنشأ إلا من طوابق أرضية وقباب مضفية على الأراضي نقاوة أفضل. ويضيف ديبورت أن هذا التصميم يتطلب مساحة أكبر من الأرض، ولكن تكمن ميزته في مضاعفة الباحات والمتنزهات والحدائق. ويكون المحور الرئيس هو «الحاجز الأول للمراقبة بين الجمهور والمرضى.» وبالإضافة لمكوناتهم التقليدية كما في أي مصحة أخرى (كنيسة ومشرحة ومطبخ ومخبز ومغسلة وحجرة للبياضات وأيضًا المباني الإدارية)، ينبغي أن تكون المباني بأقسامها الأربعة والعشرين ظاهرة جميعها للعين، وأن تمتلك خدمة متطورة للاستحمام بصفة خاصة. ويخصص ديبورت كتابات مطولة لما يجب أن تكون عليه المنشآت الخاصة بالعلاج بالمياه، الذي هو العلاج الأمثل للجنون.

يكون لكل مناطق الأقسام تكوين مماثل، يتضمن مهاجع وزنازين وقاعة طعام وغرفة اجتماعات ومشغلًا ورواقًا مغطًّى ورواقًا في الحديقة ونافورة ومراحيض (ويدرس ديبورت بدقة ترتيب وتكوين هذا المكان الحساس في مصحات الأمراض العقلية)، وغرفًا وباحة مخصصة للخدمات. وتقع مسئولية الاختيار بين الاحتجاز في المهجع أو الزنزانة على عاتق الإداري الذي يقدر بأن عدد الزنازين لا بد أن يكون قليلًا قدر الإمكان. ويكون الباقي عبارة عن مهاجع بها أربعة وعشرون سريرًا؛ حيث إن الانفراد هو الاحتجاز في حد ذاته، فيجب ألا يُعزَل أحد داخل المصحة؛ لأن الحياة في مجتمع — وهي النتيجة المنطقية لتلاشي القيود — إنما هي شرط وضمان إعادة الاندماج. ويرى ديبورت في المهجع هذه الميزة (إنه يعطي إحساسًا بالطمأنينة في حد ذاته)، «فهو يساعد على الاحتماء من التقارير التي يعدُّها الموظفون عن المرضى، خاصة وأن هذه الطبقة قد لا تمتلك دائمًا القدرات المطلوبة. فحتى من يمتلكون منهم قدرًا عاليًا من الحساسية، قد يفقدونها في بعض الأحيان ليتحولوا في نهاية المطاف إلى كائنات غير آدمية.»

عندما نشر الطبيب سيبيون بينيل — ابن بينيل الكبير — في عام ١٨٣٦ مؤلَّفه «بحث كامل عن النظام الصحي للمختلين عقليًّا، أو دليل المؤسسات المخصصة لهم»؛ أصبح هو رائد أول النتائج في هذا المجال. ولقد أهَّله اسمه إلى جانب بعض الإضافات (كان برنامج ديبورت أقدم باثني عشر عامًا) للوصول إلى صياغة أكثر تحديدًا للمبادئ الملموسة لعلم الطب العقلي، كل هذا في الوقت الذي أعلن فيه عن التصويت على قانون للتمويل بشأن هذا الموضوع الذي ظل طويلًا موضعًا للنقاش. إلا أن العنوان المزدوج لبحث سيبيون بينيل يؤكد بالفعل على القضية الرئيسة: فالنظام الصحي للمرضى عقليًّا إنما يندرج برمته داخل المؤسسة العلاجية التي هي المصحة. ويستند سيبيون بينيل في البداية إلى برامج ديبورت وإسكيرول، دون إغفال تعاليم والده الشهير. ولقد استقى من هذا كله الخطوط العريضة لخطته التقليدية التي تقوم على ثلاث كتل متماثلة تربطهم ممرات تصل مناطق إقامة المرضى عقليًّا بالمباني المركزية وتعطي للمصحة طابع الوحدة والتماسك. إلا أن خطة سيبيون بينيل كانت تقدم بعض ملامح الإبداع: تكون الكتل الثلاث الرئيسة ثلاثة تجمعات رأسية أكثر منها أفقية. وتُنشَأ الأجنحة في منتصف الفناء وليس حوله. وفي النهاية، يحيط بالأجنحة مزرعة للرجال وغرفة للبياضات والغسيل للنساء، وكأنهما العضوان الفاعلان في هذا الجسد المريض الضخم.

وتعد القضية الأكثر أهمية التي عكف سيبيون بينيل على دراستها طويلًا هي مناطق التقسيم. يتحدث لويس-جاك مورو دي لاسارت عن تصنيفات المرضى «الذين يجري توزيعهم في البلدان المختلفة في مختلف المناطق بحسب نوع الجنون الذي أصيبوا به.» ومن جانبه، يذكر هنري داجونيه «تصنيفًا لا يقل أهمية على المستوى العملي عن النظري.»7 يقترح سيبيون بينيل ست مناطق للتصنيف تضم تقسيمتين فرعيتين أساسيتين: تُخصص أربع مناطق للمرضى عقليًّا ممن هم في طور العلاج (قطاع للتمريض وقطاع لمن هم في فترة النقاهة وآخر للمرضى عقليًّا المسالمين وآخر للمرضى الثائرين داخل الزنازين)، بينما تُخَصص منطقتان للمرضى الميئوس من شفائهم (واحدة للمسالمين منهم والأخرى لمن يعانون من حالات الهياج أو الصرع). للوهلة الأولى، يقدم هذا التقسيم الحل للمشكلة التي ستظل منذ ذلك الحين موضع انتقاد في كافة مصحات الأمراض العقلية؛ ألا وهي السلوك صعب الانقياد للمرضى عقليًّا المزمنين. «فهمنا أخيرًا أن مصحة الأمراض العقلية مُخصصة ليس فقط للعلاج الفعال للجنون، بل وأيضًا للاحتجاز الدائم للمرضى عقليًّا الميئوس من شفائهم»، هكذا كتب سيبيون بينيل. لماذا إذن ستة تقسيمات فقط، بدلًا من الاثني عشر التي اقترحها ديبورت؟ ويبرر سيبيون بينيل الأمر باستدعائه للخبرة المكتسبة من تقسيمات مصحة سالبيتريير وبيستر اللتين أنشأهما ديبورت. ويكون الاقتصاد في النفقات بضم المرضى الهادئين الميئوس من شفائهم إلى المصابين بالبله، وبإلغاء الزنازين الخاصة بالمرضى الهادئين في طور العلاج ونقلهم بالتالي إلى المهجع. والشيء نفسه مع النساء؛ حيث تكون هناك منطقة من الزنازين لا تصلح إلا للمصابات بالهوس الجنسي والهستيريا وأولئك اللاتي يطيب لهن العيش عرايا بين القاذورات. ولكن تلك الحالات ليست بالكثرة التي تتطلب تشكيل قطاع كامل خاص بها، ومن ثم فإن الاحتجاز لا يؤدي إلا إلى تفاقم حالات هؤلاء المرضى: «يجب وضعهم في المهجع طالما كان ذلك في الإمكان، وعند الضرورة القصوى قد يكون لدينا زنازين داخل الأجنحة المعزولة.»

تنقسم المنطقة الخاصة بالمرضى عقليًّا الميئوس من شفائهم، سواء المصابون بالهياج أو الصرع، إلى قسمين يفصلهما جدار لتفادي اختلاط المرضى الذي هو أمر مخالف للتقاليد الطبية. ولقد انشغل سيبيون بينيل بهذه المسألة الخاصة بالجدران خاصة السياج الخارجي، كما اهتم غيره من المعماريين وأطباء الأمراض العقلية أيضًا خلال العقود التالية بدراسة ضرورة إحاطة مستشفى الأمراض العقلية بسور خارجي من عدمه. إنها مسألة نظريَّة بحتة، ولا سيما أن جميع المصحات لها أسوار، ولكنها كانت مفارقة في ذات الوقت؛ لأنها تقدم صورة لمصحة الأمراض العقلية كمصحة وسجن في آن واحد. وبنوع من السذاجة، حاول علم النفس الوليد على الأقل أن يخفي هذه الجدران البغيضة: «بما أن جميع المرضى عقليًّا يقولون ويعتقدون أنهم سجناء لأسباب أخرى غير مرضهم، فيجب قدر الإمكان محاولة محو فكرة وجودهم داخل سجن أو حبس إجباري عن طريق إخفاء الجدران بكتل ضخمة من الأشجار والزهور.»

يتبقى لنا الجزء المركزي للمباني الإدارية، والذي يقوم أيضًا بعدة وظائف خاصة بالعلاج: فقبل كل شيء هو المبنى حيث توجد دورات المياه — التي ثبتت أهميتها العلاجية على مدار مائة عام — وأيضًا قاعة الاستقبال، ويعكس قربها من المكاتب الإدارية الرغبة في منع أي زيارات داخل مناطق المرضى، بل وأيضًا مراقبة أي علاقة بالخارج عن كثب. وتضم هذه المباني أيضًا قاعة الترفيه والمكتبة المخصصة للموظفين وأيضًا للمرضى «الذين يتمتعون بالوعي»: «يمكن للمرضى الذين هم على قدر من التعليم دخول هذه الأماكن عند بلوغهم مرحلة النقاهة للتعود تدريجيًّا على طرق الاندماج داخل المجتمع.» أخيرًا، نظرًا لعدم وجود منطقة للمراقبة كما هي الحال في كافة مصحات القرن التاسع عشر، فكر سيبيون بينيل على الأقل في إنشاء وحدة للاستقبال تكون في المبنى الرئيس، «تكون مكانًا آمنًا يمكن للمريض أن ينتظر فيه حتى موعد الزيارة التي يقوم بها طبيبه في اليوم التالي، وخلالها يقرر الطبيب بعد فحص دقيق نقْلَ المريض إلى القسم المناسب له وفقًا لنوع مرضه. وإذا كان هناك شك في نوع جنونه، يمكن للطبيب أن يبقي المريض عدة أيام في هذه الوحدة حتى يتأكد.»

وفي النهاية، منع سيبيون بينيل — شأنه شأن سابقيه — أي تصميم معماري جديد أو فخم أو فاخر للمشفى. ففخامة المشفى تكمن في نظامه وتجانسه ونظافته. وعلى الرغم من ذلك، فلقد ظهرت بعض المشاريع المعمارية الجريئة، مثل ذلك الذي قُدم في عام ١٨٤٧ في مدينة رون. فلماذا يجب أن يُحرم مشفًى للمرضى عقليًّا تمامًا من «العظمة والأناقة التي تروق للجميع بجودة ذوقها وبساطتها دون إغفال الجانب الاقتصادي. ينبغي أن نمحو من أذهان المرضى أي صورة لدور الاحتجاز الإجباري والتأديبي.»8 وفي الواقع، كان المشروع يقوم على: التقسيم التقليدي للمباني إلى ثلاثة أجزاء تحوطهم مساحات خضراء شاسعة تفصلها ممرات مزروعة بالأشجار مُنسقة على الطريقة الفرنسية في وضع متماثل يضفي بريقًا على المشهد ويضفي طابعًا جليلًا. ومما يزيد من إبداع المشروع وجود جناحي المرضى المقيمين على زاويتي المكان، بالإضافة إلى وفرة عدد الممرات المزينة التي يمكن تغطيتها وتدفئتها خلال فصل الشتاء. ويمتد الشارع الرئيس في هذه المدينة (التي يقيم فيها من تسعين إلى مائة وعشرين موظفًا وما بين ستمائة إلى سبعمائة مريض عقليًّا) لمسافة خمسمائة متر (ويصل عرضه إلى خمسة أمتار)، عبورًا بجميع وحدات الخدمات ليفصلهم وينظمهم في ذات الوقت. كانت تلك هي «الحدود القصوى» للمصحة على حد قول أصحاب المشروع الذي كان بمنزلة تصوُّر أوَّلي لما سيصبح عليه شكل المصحات بنهاية القرن التاسع عشر.
ولا يزال تقسيم المناطق لتصنيف المرضى مثارًا للجدل، على نحو مختلف من مصحة لأخرى، بل وداخل المصحة الواحدة ومن عصر لآخر وفقًا لإمكانيات التنسيق والزيادات المتتالية في العدد. ولا تزال أيضًا قضية التقسيم بين مرضى يمكن علاجهم وآخرين ميئوس من شفائهم تُطرح بقوة أكثر من تلك المتعلقة بالمرضى القادرين على تحمل نفقات العلاج ومن يُعالَجون بالمجان. وتراجعت تمامًا فكرة تخصيص مصحة للمرضى الميئوس من حالتهم (لكونها أليمة للمرضى ولعائلاتهم وللرأي العام وأيضًا للطب).9 ويُلاحظ أيضًا وجود ذات النفور من تخصيص منطقة من المصحة للمرضى الميئوس من شفائهم. إلا أنهم موجودون بكثرة هؤلاء المرضى، ولكن موزعون بين أقسام المصابين بالهياج والمختلين والمشلولين والقذرين وحتى البُلْه؛ باختصار، في كل مكان. ولكن — من ناحية أخرى — ألا يجب أن يحظى البُلْه والمصابون بالصرع بمصحات خاصة بهم؟ ولكن لا يظهر في الأفق إلا المصحة الشاملة التي تجمع كل الأمراض العقلية.
ولقد قدَّم كلُّ طبيبٍ شهيرٍ للأمراض العقلية في نحو مثالي تصورَه عن المصحة العقلية. ففي عام ١٨٥٢،10 عرض جوزيف جيزلان نتائجه في حديث مطول عن مسألة تصنيف المرضى. ولقد قارن بين الطريقة النظرية (التي تقضي بتنظيم المرضى بحسب النوع وتصنيف المرض المصابين به)، والطريقة «العملية والتجريبية التي تقوم على التأثير السلبي أو الإيجابي الذي يمكن أن يحدثه المرضى عقليًّا على بعضهم البعض.» وكتب جوزيف بأن الطريقة الأولى آخذة في الزوال، فالقيام بجمع كافة المصابين بالسوداوية معًا «يعني الحكم عليهم جميعًا بالعيش في محيط تغمره الكآبة.» وعلى المستوى التقليدي للتنظيم الجيد — مع قدر قليل من التنازل — يقترح جيزلان التصنيف التالي: المرضى في حالة النقاهة، «والواعون مع نوبات دورية، والعاجزون وطريحو الفراش، والمرضى المسالمون، والمصابون بالسوداوية، والمرضى في حالات الانتشاء، والمصابون بالهوس السلمي وبالهذيان، والمختلون، والبُلْه الهادئون» (ويكون الشرط الأساسي للوجود ضمن هذا التصنيف هو «القدرة على التصرف تقريبًا مثل الشخص العاقل»؛ ثم المرضى المصابون بالهياج، «المصابون بالسوداوية والقلق، واليأس، والمرضى ذوو الميول الانتحارية، والمتجولون، والمتحركون والمصابون بالهوس والثرثرة وإلصاق التهم بالآخرين، والمغنون، والمصابون بالهذيان والمختلون والبُلْه الماكرون، ومرضى العناد، والمصابون بالصرع لفترات طويلة.» (ولكي يُدرَج المريض في هذا التصنيف عليه ألا يتشاجر أو يمزق ثيابه، بل وأيضًا عليه أن يحسن التصرف ليلًا داخل المهجع)، باختصار عليه «أن يمتلك قدرًا من الذكاء يمكِّنه من الخضوع لنظام هادئ»)، وأخيرًا، المرضى المضطربون والمدمرون «الذين يتشاجرون ويحطمون الأثاث ويمزقون ثيابهم، والخائنون أو الميالون للانتقام، والمصابون بنوبات غضب عنيفة، والأغبياء المصابون بالصرع، والمصابون بالهوس المضطربون الغاضبون، والميالون للقتل»، والمختلون «الذين أُصيبوا بضعف شديد في الوظائف العقلية، والبُلْه والمصابون بالصرع دون هوس أو خرف، و(المصابون بهوس جنسي متعلق بالبول والبراز)»؛ أي إنهما ستة تصنيفات كبرى، معزولة بشدة بعضها عن بعض.

تم التخلي عن فكرة إسكيرول باستخدام الطوابق الأرضية لصالح نظام مختلط دعا إليه جيزلان: وضع المرضى عقليًّا المصابين بالخرف والمضطربين والخطرين في الطابق الأرضي، وباقي المرضى المسالمين في الطوابق الأخرى.

في عام ١٨٥٢، نشر فالريه — تزامنًا مع جيزلان — تصوُّرَه الخاص عن مصحة الأمراض العقلية11 التي ترتكز — بالإضافة إلى مقولة إسكيرول الهامة (إن مصحة الأمراض العقلية إنما هي إحدى أدوات العلاج) — على الشعار التالي: «يجب أن يكون إنشاء مصحة للأمراض العقلية تحقيقًا لمبادئ الطب العقلي أكثر منه عملًا معماريًّا.» ونجد في هذا التصور — الذي يعد في فرنسا مرجعًا في هذا الموضوع — جميع المسائل التي طالما نوقشت وبالتأكيد الإجابات نفسها، ولم يكن ظهور فكرة المهجع محط جدل؛ لكونه يخدم فكرة الحياة المشتركة، مثله مثل إنشاء قاعات الطعام والاجتماعات، بل وأيضًا مبدأ العمل المشترك الذي من شأنه تنظيم إيقاع الحياة اليومية في المصحات. كل شيء خاضع للتحليل والحساب والقياس: مساحة الزنزانة (التي زادت) ومادة تصنيع السلالم والأرضيات وفتحات النوافذ (في ثلاث صفحات على الأقل عند فالريه)، دون إغفال المراحيض: «تعد مسألة المراحيض غاية في الأهمية في أي تجمعات بشرية كبيرة إلى حد ما، وتزيد أهميتها في مصحات الأمراض العقلية؛ بسبب ميلِ المرضى العامِّ إلى القذارة، بل وأيضًا لميولهم الانتحارية، أو بسبب حالات الاستمناء التي تتطلب مراقبة خاصة.»

ماذا عن العلاج المعنوي في كل هذا؟ لا يستخدم فالريه — مثله مثل زملائه — هذا التعبير المشوه بالفعل، وإنما تساءل أيضًا، في خاتمة بحثه، عن مدى عمق فاعلية هذا «العلاج العام» وهذه «الرتابة» في المرض العقلي. وأخذ حينئذٍ يحلم بوضع تصنيفات خاصة أوحت إليه بها الدراسة الطبية وليس المبادئ الإدارية، وبمضاعفة المساحات الصغيرة التي تتيح للمرضى ممارسة تأثير مفيد على بعضهم البعض؛ أي ما يسمى ﺑ «علاج متبادل» حقيقي.

أما بارشاب فإنه يتمسك أكثر بالأوضاع على أرض الواقع، ومن ثم يبدو أكثر عملية. كان متشددًا في ممارسة مهامه بعيدًا عن جمود التفكير، ولم يكن يشغله فكرة «أن تحديد شكل أو نمط معين يُفرض على المصحات بشكل عام أمرًا عقلانيًّا أو ممكنًا.» كان يعتقد بالأحرى في «التحسين المستمر لتصنيف المرضى عقليًّا»، وعندما طُلبت منه وجهة نظره حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه مصحة الأمراض العقلية، أجاب: «أعطوني برنامجكم، وأروني أرضكم.»12 إلا أن هذا لم يمنعه من امتلاك فِكَرٍ جديدة لم يجرِ تنفيذها. كان يريد أن يُحتجز الأغنياء في المصحات الخاصة، وأن يُفصَل الجنسان في مصحات منفصلة، وأن يكون الطبيب هو المدير الوحيد للمؤسسة؛ حيث إن المشاركة في السلطة لها دور كبير في رفاهية وشفاء المرضى، ولكن على حساب النفوذ والفعالية. لم يرد بارشاب — الذي هو من مؤيدي فكرة المساحة المتواضعة للمهجع — أن تكون الزنازين (المخصصة للحبس الانفرادي والإجباري، والمزودة بمعدات خاصة) مخصصة للإقامة الدائمة.

إنشاءات

لا يوجد في فرنسا العديد من مصحات الأمراض العقلية الحديثة والنموذجية. فلمْ يبدأ أثر تنفيذ قانون ١٨٣٨ في الظهور إلا بعد فترة طويلة من الوقت. كان لا بد من الانتظار حتى صدور مرسوم الخامس والعشرين من مارس ١٨٥٢ (مرسوم آخر!) والذي يعطي للمحافظين قدرًا أكبر من الاستقلالية، وأيضًا فترة التوسع الاقتصادي في العقدين التاليين اللذين بدآ مع فترة الإمبراطورية الثانية، كل هذا لنشهد حركة انطلاق حقيقية في إنشاء مصحات الأمراض العقلية.

ويساعد «التقرير العام حول خدمات المرضى عقليًّا في عام ١٨٧٤» — الذي قدمه مفتشو الهيئة (كونستانس ولونييه ودوميسنيل) إلى وزير الداخلية في عام ١٨٧٨ — على قياس التقدم الذي طرأ منذ التصويت على قانون عام ١٨٣٨. حينه كانت فرنسا تضم مائة وأربعَ مؤسسات لرعاية المرضى عقليًّا: ست وأربعون منها خاضعة لإدارة السلطة العامة، وثمانٍ وخمسون تحت إشرافها. هذه الأخيرة كانت إما أماكن للاستضافة (ثماني عشرة)، وإما مصحات خاصة للأمراض العقلية (أربعين؛ منها ثماني عشرة فقط تؤدي دورها كمصحة عامة، أما الباقي فلم تكن تستقبل المواطنين). ويُضاف إلى هذه المؤسسات المائة والأربع المصرح بها، مصحات وأماكن استضافة، كانت لا تزال تستقبل المزيد من المرضى عقليًّا، بالمخالفة للقانون.

كان هناك الكثير من المصحات التي لم تُنشأ من العدم، والتي اجتهدت كيفما اتفق في سبيل تنظيم مناطق تصنيف المرضى وفقًا للتوسعات والزيادات المستمرة، وبالتالي فإنها كانت تتوسع دون أن تكون هناك خطة كاملة لها من البداية. تلك هي الحال مع أكبر مصحة للأمراض العقلية بفرنسا: كليرمونت في مقاطعة إلواز، والتي كانت تضم ألفًا وأربعمائة وخمسة وستين محتجزًا في الحادي والثلاثين من ديسمبر عام ١٨٧٤. فإلى جانب مرضى إلواز، كانت تستقبل الكثيرين من مناطق لاسوم، وسين ومارن، وسين وواز وجزءًا من مرضى منطقة السين. ويتكون المشفى من مبنًى رئيس في وسط المدينة (وهو المبنى الأصلي) وعدة ملحقات زراعية واسعة في الريف (من بينها فيتز-جيمس). ولقد لاقت هذه الملحقات استحسان المفتشين العمومين، على عكس المقر الرئيس بمبانيه القديمة. والأمر كذلك بالنسبة إلى مصحة بون سوفوربكاين: «يمتلك هذا المشفى — المقام على قطعة أرض غير كافية — بعض العناصر الجيدة للغاية: ثلاثَ أو أربع باحات واسعة، ومهاجع جميلة وغرفًا ملائمة للغاية، إلا أن كل هذا كان مكدسًا ومتقطعًا ومتشابكًا، لدرجة أنه لم يكن هناك في الواقع أي تصنيف أو فصل للفئات المختلفة من المرضى عقليًّا.» في الواقع، فيما يتعلق بالنساء، كان يجب الانتظار حتى عام ١٨٨٠ لتُنشَأ أول منطقة خاصة بالمريضات الفوضويات، وحتى عام ١٩٠٠ لتخصيص منطقة خاصة بالمصابات بالهياج، وأخرى خاصة بالتمريض. أما بالنسبة إلى الرجال، فلم تشهد المناطق المخصصة للمرضى تنوعًا في التصنيف إلا ابتداء من عام ١٩٠٥: منطقة الفوضويين، ومنطقة المصابين بالهياج، ومنطقة المصابين بالصرع، ومنطقة من هم في مرحلة النقاهة، ومنطقة الأطفال، ومنطقة العاملين، وأخيرًا منطقة جهاز التمريض (التي تستخدم كمنطقة للمراقبة). ولكن لم تجد المصحات العقلية الخاصة التي أنشئت داخل الأديرة القديمة أيَّ قبول لدى المفتشين، مشاطرين إسكيرول الرأي ذاته؛ ومن ثم، قيل عن المصحة الخاصة بمنطقة كوت دور (دير ديجون سابقًا) — على الرغم من التعديلات الهامة التي أُجريت عليها — إنها: «لا يمكن اعتبارها مؤسسة جيدة، ومن المشكوك فيه أن تصبح كذلك.»

في الواقع، تعد كل مصحة عقلية حالة خاصة؛ ففي مصحة شير بمنطقة بورج، كانت هناك محاولات لاستخدام ما هو متاح بالفعل، إلا أن عدد المحتجزين — الذي لم يكن يتجاوز الأربعين عام ١٨٣٩ — زاد ليصل إلى مائتين وأربعة وثلاثين في عام ١٨٧٣. وعليه كان القرار في العام التالي بإنشاء مصحة جديدة بالكامل (بوروجارد)، ليبدأ العمل بها في عام ١٨٨٢ وهي لا تزال تحت الإنشاء. وفي مصحة أورن بمنطقة ألنسون، تم البدء في إعادة إنشائها في عام ١٨٤١ بناءً على خطة رائعة، إلا أن الإنشاءات توقفت. وأُبقِي على بعض المباني العتيقة، بينما شجعت قلة الأماكن على بقاء الأكواخ والزنازين في مختلف أماكن الاستضافة بالمنطقة. وبحلول عام ١٨٧٤، كان سيعاد بناء كل شيء في مكان ما خارج المدينة. وفي عام ١٨٩٣، أُنشئت أخيرًا وحدة سليمة للعلاج بالمياه (في العام السابق، كانت اللجنة قد لاحظت — بنوع من الفزع — أن عملية الضخ تتم باستخدام أربعة من المختلين يديرون عجلتين هائلتين من داخل قفص مظلم مليء بالرطوبة).

ولقد راقت المصحات العقلية التي أُنشئت خِصِّيصَى خارج المدن للمفتشين العموميين بصورة واضحة. ومن بين أمثلة عدة، نذكر مصحة برون على بعد خمسة كيلومترات من مدينة ليون التي استغرق إنشاؤها الفترة ما بين ١٨٦٨ و١٨٧٥، ولها جناحان منفصلان يتوازيان ويتعامدان على المحور المركزي. وعلى الرغم من قدرتها الاستيعابية التي تتجاوز الخمسمائة (من ألف ومائة وحتى ألف ومائتين)، فإن التصنيف داخلها كان شديد الاقتضاب دون أدنى تعليق من المفتشين: مرضى هادئون وفي مرحلة النقاهة، مرضى ضعفاء ومسنون، مرضى «ثائرون» وفوضويون، وشبه مصابين بهياج. أما إفرو، فهي عبارة عن مبنًى واحدٍ يمتد طوله حتى أربعمائة متر، وبدأ بناؤه عام ١٨٥٨ واستمر حتى عام ١٨٧٤ دون أن ينتهي تمامًا. ويعتقد المفتشون أنه «مبنًى غاية في الجمال»، على الرغم من أنهم ليسوا من مؤيدي المباني المكدسة. وفي مدينة روان، أُنشِئَ مشفيان للأمراض العقلية جنبًا إلى جنب: مشفى سان يون الجديد للنساء، ومشفى كاتر مار للرجال.

ويعد مشفى بايول — الكائن على بعد ثمانية وعشرين كيلومترًا من ليل، والذي فتح أبوابه منذ عام ١٨٦٣ — «أحد أجمل، بل وأفضل، مصحات الأمراض العقلية لدينا وفقًا للعديد من التقارير، حتى وإن بدا تصميمه فخمًا، بل ومغاليًا في الفخامة من بعض النواحي.» كان هذا المشفى مخصصًا للنساء فقط، ويضم ستمائة وعشرين من المعوزات ومائة وأربعين من النزيلات. ولقد خالف تصنيفهن — في سبيل قدر من التنوع — كل معايير تصنيف الأمراض: نزيلات هادئات، نزيلات مصابات بالهياج وفوضويات، نزيلات هادئات في مرحلة النقاهة ونزيلات في حالة هياج، نزيلات فوضويات، نزيلات شبه هادئات، نزيلات مصابات بالصرع (مع تخصيص أجنحة وغرف للنزيلات الثريات). وتعتمد هذه الاختلافات الضخمة في حجم المؤسسات وتصميمها وتوزيعها وتاريخ إنشائها أو إعادة إنشائها الكلي أو الجزئي على السبل المادية الواقعية أو المتفق عليه لكل منطقة.

عادة ما يكون تاريخ أي مصحة للأمراض العقلية أمرًا يتعلق بالأشخاص. كانت هذه هي الحال مع مستشفى أوكسير — الذي انتهى إنشاؤه عام ١٨٥٨ — وهو نتيجة تعاون وثيق بين كبير الأطباء جيرارد دي كايو، والمحافظ هوسمان بعد تعيينه في منطقة إيون في عام ١٨٥٠. كانا شديدي التفاهم أحدهما مع الآخر، تملؤهما الحيوية وحب النظام، مفعمَين بالطموح الاجتماعي. كان هنري جيرارد كايو — شأنه شأن جميع أطباء الأمراض العقلية — يولي اهتمامًا كبيرًا للعمارة، «التي ينبغي أن تزيل من ذهن المريض فكرة كونه محبوسًا»، وتسهل بالتالي تصنيف المرضى وفقًا لتوزيع منظم للمباني. ويروي البارون هوسمان في مذكراته: «كانت روح المبادرة والنشاط الحاد لجيرارد سببًا كبيرًا في نجاح عمله. لم تكن تشغله فكرة أخرى عن عمله، بل ظل يتابعه باجتهاد وإصرار وصبر، متخذًا من مرضاه أصحاب الأفكار الثابتة — المختلين الواعين أو العاقلين — مثالًا يوميًّا له. ولهذا كان يُطلق عليه على سبيل المداعبة: «كبير المرضى».»13 ولقد أضفت كتابات جيرارد دي كايو العديدة نوعًا من البريق على تأثير المعمار على العلاج. وسرعان ما أعطت الدعاية التي قام بها هذان الرجلان لمبنى أوكسير هذا الطابع النموذجي. كان مشفى النساء هو الوحيد الجديد، بينما ظلت مناطق الرجال تابعة للمباني القديمة المتبقية من المبنى القديم الذي كان قبلًا مركزًا للتسول ثم تحول إلى مشفًى عامٍّ. وهكذا كانت الحال مع باقي الإنشاءات الموجودة.

وبعيدًا عن هذه الأمثلة لمصحات الريف، تظل منطقة السين أكثر منطقة شهدت أكبر موقع عمل لإنشاء مصحة للأمراض العقلية؛ نظرًا للزيادة الكبيرة في عدد سكان العاصمة باريس، وأيضًا بسبب نسب الاحتجاز العالية، وهي بدورها مسألة هامة لن نغفلها. في عام ١٨٣٦، كان هناك ألفان وثلاثمائة وستة مرضى عقليًّا محتجزين، وبلغ عددهم ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة في عام ١٨٥٦ … ولم تعد مصحات سالبيتريير وبيستر وشارنتون كافية، على الرغم من التوسعات. فلم تعد شارنتون المؤسسة النموذجية كما كانت وقت إسكيرول. أما بالنسبة إلى بيستر وسالبيتريير، فيشير تقرير عام ١٨٧٤ أنه إذا لم تكن منطقة السين تمتلك اليوم إلا «هذين المشفيين، فلن تحتل في هذا التقرير سوى مركز متواضع للغاية.» في عامي ١٨٤٤ و١٨٤٥، صدر تقرير نشرته جريدة (إيلوستراسيون) حول مصحات الأمراض العقلية بالعاصمة — وكان مليئًا بالصور ويسمى (المرضى عقليًّا في مصحاتنا) — ينتقد بقسوة مصحة بيستر وسالبيتريير، على الرغم من المباني الجديدة بهما: «نصطدم في البداية بالطابع البائس لما هو خارج الزنازين في كلا المشفيين.» وبالنظرة القريبة داخلهما، نجد ما هو أسوأ. وتدعو الجريدة إلى إنشاء «مشفًى يُبنى خِصِّيصَى للمرضى عقليًّا، وليس مشفًى يُقام داخل مبانٍ قديمة.»

وقد لجأت منطقة السين، انتظارًا لإنشاء المصحات الجديدة، إلى اتباع سياسة مكلفة تقتضي القيام بتنقلات داخل مصحات الإقليم (وهي سياسة لن تتوقف). والآن ها هو هوسمان بعد أن تم تعيينه في باريس، يروي في مذكراته المتواضعة: «قبل حركة الإصلاح التي أخذت بجسارة زمام مبادرتها، كانت خدمة المرضى عقليًّا في منطقة السين تتم في ظروف لا تليق بمثل هذا الإقليم وعلى نحو مهين للمحافظ المسئول عنه.» ولأسباب تتعلق بالميزانية، كان لا بد من الانتظار حتى عام ١٨٦٠ للشروع في الإنشاءات. وهنا تذكر هوسمان جيرارد دي كايو الذي أنشئ من أجله منصب المفتش العام لخدمات المرضى عقليًّا بمنطقة السين. هكذا كان بارشاب واضعًا للنظريات، بينما سيكون جيرارد دي كايو المنفذ لها.

كان هوسمان قد فكر في إنشاء ما لا يقل عن اثنتي عشرة مصحة للأمراض العقلية حول باريس تَسع ستمائة مريض. ولكن في الواقع، لم تفتح إلا ثلاث منها أبوابها للعامة تحت حكم الإمبراطورية الثانية: في عام ١٨٦٧، افتتحت مصحة سانت آن المُقامة في مزرعة سانت آن، والتي كانت حتى ذلك الحين فرعًا زراعيًّا لمصحة بيستر، ثم في عام ١٨٦٨، مصحة إفيرارد، على بعد ستة عشر كيلومترًا شرق باريس، وأخيرًا عام ١٨٦٩، مصحة فوكلوز التي تبعد أربعة وعشرين كيلومترًا جنوب باريس. ثم نشبت الحرب في عام ١٨٧٠، وعطلت — ولمدة طويلة — مشروعات الإنشاءات (فقد كان لا بد من سداد ديون الحرب لألمانيا). وتحولت مصحة سانت آن — نظرًا لموقعها داخل باريس ذاتها — إلى مشفًى طبي مخصص للتعليم والبحث (على الأقل في المستقبل؛ لأن عدد المحتجزين ظل ثابتًا منذ ذلك الحين عند اثنين). وأصبحت — وفقًا لشارنتون — المصحة النموذجية التي يتردد عليها بانتظام الأطباء والمعماريون والإداريون وحتى أولئك القادمون من الخارج. ولقد عاب المفتشون فقط على مصحة سانت آن عدم إنشائها في الريف.

زيادة حالات الاحتجاز

لم تكن حركة بناء أو إعادة بناء مصحات الأمراض العقلية — على الرغم من الجهود المبذولة — قادرةً قط على مواكبة العدد المتزايد لحالات المرضى المحتجزين. ودائمًا ما يغلب الطلب على «العرض»، وهذا ما استدعى إنشاء الهيئة. (إلا أنه، كما كتب جِيد: «في النهاية، تدعو الهيئة إلى العمل».)14 «تحتوي كل المصحات تقريبًا على كثافة إشغال تفوق قدرتها الاستيعابية، عادة ما تكون مكتظة بالمرضى.» ومن ثم فإن هناك ضرورة تستدعي إنشاء المزيد من المصحات أو توسيع الموجود منها (تقرير عام ١٨٧٤). في عام ١٨٣٤، حدث أن تخطى عدد المرضى حاجز عشرة الآلاف مريض بعد أن كان العدد لا يتجاوز بضعة آلاف تحت حكم النظام القديم، في عصر «الاحتجاز الموسع» الأسطوري.

تجاوزت الأعداد الخمسين ألفًا في عام ١٨٨٣، وبلغت أكثر من ثمانية وثمانين ألفًا في عام ١٩٣١. وسنرى أن الرقم قد بلغ أوجه في عام ١٩٦٩ عندما تخطى عدد المحتجزين مائة وثمانية عشر ألف مريض. في الفترة من ١٦٩٠ وحتى ١٩٣١، تضاعفت نسبة المحتجزين لعدد السكان الكلي (بنسب ثابتة) ثلاثين مرة، وهو رقم هائل بالفعل، ويفسر بالطبع سبب القصور في الخدمات المحلية. إلا أن هذه النسبة — حتى في أعلى معدلاتها — لم تتجاوز ٠٫٢٣٦٪ من عدد السكان، بما يوازي مريض محتجز لكل أربعمائة واثنين وعشرين مواطنًا (بمعدل ١ لكل ثلاثة عشر ألفًا وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين مواطنًا تحت حكم لويس الرابع عشر، وواحد مقابل خمسة آلاف ومائتين في عام ١٧٨٩). وإذا اكتفينا بدراسة التناسب بين الأعداد، يمكننا نفي وجود ما يسمى بحركة الاحتجاز الموسع في القرن التاسع عشر.

التاريخ عدد المحتجزين نسبتهم المئوية من إجمالي عدد السكان
١٦٩٠ حوالي ١٥٠٠ ٠٫٠٠٧
١٧٨٩ حوالي ٥٠٠٠ ٠٫٠١٩
١٨٣٤ حوالي ١٠٠٠٠ ٠٫٠٣٣
١٨٥١ ٢١٣٥٣ ٠٫٠٥٩
١٨٧١ ٣٧٧١٧ ٠٫١٠٤
١٨٨٣ ٥٠٤١٨ ٠٫١٣
١٩٣١ ٨٨٤٢٧ ٠٫٢١

ويُخفي هذا النمو — الهائل وفقًا للأرقام المطلقة — تفاوتًا كبيرًا باختلاف الأقاليم. وفي أسفل التقييم، نجد أن كورسيكا لا تضم في عام ١٨٧٤ إلا ١٥٫٦ مريضًا محتجزًا لكل مائة ألف مواطن (وأيضًا تضم مناطق اللاند وإيندر وكروز وبيرينيه العليا ولاسوم والألب العليا ما يقل عن أربعين محتجزًا)، في حين تضم منطقة السين على النقيض الآخر ما يقرب من ثلاثمائة وأربعة مرضى لكل مائة ألف مواطن (بينما تضم مناطق الرون وبوش دي رون والسين السفلى أكثر من مائة مريض). فالمدن الكبرى لا تضم فقط عددًا أكبر من المرضى المحتجزين بالتناسب، وإنما تمثل أيضًا مراكز جذب للعائلات التي تقيم بعيدًا وترغب في إبعاد الشخص المريض عن محيط أقاربهم وجيرانهم. وتتأثر هذه العائلات القادرة على تحمل تكاليف إقامة المريض بشهرة المؤسسات العلاجية بالعاصمة (بينما يظل الفقراء في مناطقهم). وتمتلك كل مصحة عقلية نطاق جذب يتجاوز بشدة الإقليم الخاص به، مثلًا: مصحة بون سوفور بكاين، الواقعة في شمال غرب البلاد، وأيضًا المصحات العقلية الكبرى بباريس، فهي تغطي فرنسا كلها على غرار سالبيتريير وبيستر تحت حكم النظام القديم (إلا أن السبب في ذلك العصر، كان يرجع إلى أن هذه المؤسسات كانت هي الأقل تكلفة).

نجد أيضًا هذا التفاوت في النفقات العادية المخصصة لخدمة المرضى عقليًّا (بخلاف الإنشاءات): في عام ١٨٧٤، كانت النسبة ١٧١٫٢٥ مريضًا عقليًّا لكل مائة مواطن في منطقة السين، بينما كانت النسبة ١١٫٦٤ مريضًا عقليًّا في كورسيكا. وفي المقابل، كانت هناك زيادة ثابتة بالنسبة إلى كل المناطق (٤١٪ في المتوسط من عام ١٨٦٤ وحتى عام ١٨٧٤). من ناحية، يسبق هذا النمو الهائل في عدد المرضى المحتجزين — أثناء الثلثين الأوَّلين من القرن التاسع عشر — ظاهرة تعويض وزيادة في عدد الأماكن المتاحة وتراجع نسبة تردد العائلات، خاصة في المناطق الحضرية.

في عام ١٨٧٤، كانت فرنسا تضم مائة وأربعة مستشفيات للأمراض العقلية. لن يزيد هذا الرقم، بل ولن يتجاوز المائة والخمسة عشر كحد أقصى خلال العقود الأولى للقرن العشرين (اثنان وسبعون مستشفًى عامًّا وثلاثة وأربعون مستشفًى خاصًّا). في الأول من يناير ١٨٨٠، شهد عدد المرضى المحتجزين زيادة — في أقاليم الجبال ومنتصف البلاد — بعدد ٢٢١٠١ مريض عقليًّا و٢٤٩٦٤ مريضة عقليًّا (وسنعود لدراسة هذه الزيادة في نسبة عدد النساء، والتي — خلافًا للاعتقاد القديم — لا تعني أن النساء أكثر جنونًا). بالإضافة إلى العلاقة الجلية بين ذلك بالمدن الكبرى؛ حيث تتأثر مناطق الغرب والشمال بصورة أكبر، وسنرى أسباب ذلك، ولا سيما ما يتعلق بإدمان الخمور.

بالطبع يطرح أطباء الأمراض العقلية قضية زيادة أعداد المرضى المحتجزين. وكما يحذر أصحاب تقرير عام ١٨٧٤، فإن «جميع الحضارات كان لها نصيب من المرضى عقليًّا بالتناسب مع معدل نموها. وإذا كانت الأجيال الحاضرة تشهد أعدادًا أكبر من المصابين بهذه الأمراض العقلية، فإنما يرجع هذا إلى أن التيارات السريعة التي تهب على المجتمعات الحالية دافعة إياها نحو الأفضل والجديد، بل والمجهول، إنما تترك أيضًا أثناء مرورها ليس فقط مبادئ أكثر غنًى، بل وتسبب المزيد من الظواهر الفطرية والعرضية.» ويضيف الشهود على العصر على هذا مجموعة مختلطة من الأسباب؛ منها الثورات والسياسة والأزمات الصناعية والمالية وتنقلات السكان وتقدم التعليم، كل هذا دون إغفال دور العاطفة الدائم، وهي التي تشهد نوعًا من الاستثارة لم تشهده من قبل. تلك هي حالة باريس، «مركز كافة الطموحات، ومكان الْتِقاء جميع الأحلام الفانية، ومصدر كل الافتراضات، ومحور جميع المشاعر والمتع، وأيضًا جميع المآسي؛ ولذا فباريس هي صاحبة نصيب الأسد في عدد المرضى عقليًّا في فرنسا.»15
ويشير المحافظون — في تقاريرهم — إلى أسباب أكثر وضوحًا. فبالنسبة إلى العديد منهم، الزيادة ليست في عدد المصابين بالجنون، وإنما في سهولة وتعجل قرار الاحتجاز للإصابة بمرض عقلي. «في الحقيقة، في سبيل تخليص بلداتهم من المتسولين البُلْه والمصابين بالصرع ومن المخبولين من فرط الرذيلة والفساد، وجميعهم تقريبًا غير مؤذين، وإنما لهم مظهر مزعج؛ يعتمد السادة المحافظون بسهولة بالغة الطلبات المقدمة لهم بشأن هؤلاء لإيداعهم المصحة.»16 ولا يقتصر الأمر على المحافظين فحسب، بل وأيضًا العائلات: «فكثير من العائلات في العديد من المناطق، والتي كانت تتحمل قبْلًا نفقاتِ أفرادها المصابين بمرض عقلي، تبحث — بمجرد السماع عن افتتاح مصحة جديدة — عن وسيلة لإيداع هؤلاء المساكين بها وللتملص من النفقات التي تفرضها الإدارة.»17 ودائمًا ما يبرز على السطح «أنانية العائلات التي تتحرر من الواجبات التي تفرضها عليها الطبيعة.»18 فلم تعد خطورة المريض وحدها ضرورية لتقديم طلب باحتجازه، ويبدي الكثير من المحافظين ندمهم على عدم بقاء الحال كما كانت في السابق، خاصة مع استحالة العودة إلى ما كان. «إذا لم تقف السلطة دون هوادة ضد التجاوزات التي تتفشى دائمًا، فستكتظ مصحات الأمراض العقلية بكافة أنواع البشر المعتلة نفسيًّا وكافة العقليات المشوشة — وهي كائنات تعيسة — التي تسبب الحرج والتقزز للمسئولين عنها من عائلاتها، دون أن تشكل في واقع الأمر أي خطر أو قلق للمجتمع.»19
باختصار، ينتقد جميع المحافظين تقريبًا أن طالبي الاحتجاز (العائلات وأيضًا الإدارات المحلية) يعدُّون مصحات الأمراض العقلية أماكن للاستضافة والإيواء. إلا أن كل هذا لم يكن من اختصاص إدارة التمويل العام. وبالتالي، بلغت نفقات خدمة المرضى عقليًّا في كالفادوس — في الفترة من عام ١٨٤١ وحتى ١٩٠٥ — ٥٫٧٪ في المتوسط من إجمالي الميزانية الخاصة بالمنطقة، وهو أمر بالغ الخطورة، ولا سيما أن عدد السكان كان يقل في ذلك الوقت، لدرجة أن التكلفة زادت أربعة أضعاف للفرد.20

لاقت الزيادة الهائلة في عدد المصحات عائقًا من جهة الإدارة ذاتها — أثناء فوكو وما بعده — فيما يتعلق باحتجاز المرضى بدافع المجاملة أو تعسفًا. ومنذ القرن التاسع عشر، لم يعد المحافظون يقبلون — كما رأينا — استمرار الوضع كما هو. بدأت البلديات تتذمر من الدفع، خاصة وهي مجبرة في الغالب على دفع حصتها من خلال التسجيل في ميزانية البلدية. والعائلات أيضًا كانت ترغب في إرسال مريضها عقليًّا ولكن دون أي نفقات؛ مما يعني قيامهم بإخفاء دُخولِهم الحقيقية. كما تسبب ارتفاع تكلفة إقامة المرضى الفقراء إلى ثلاثة أضعاف في نوع من التذمر العام إزاء الدفع. وباتت تكلفة الرعاية الصحية العقلية ضخمة. وابتداءً من عام ١٨٤٠ — أي في أعقاب التصويت على قانون عام ١٨٣٨ — أسهب وزير الداخلية في الحديث عن أماكن إيداع المرضى عقليًّا غير الخطرين، مؤكدًا بالطبع أن القانون يشمل جميع المرضى عقليًّا، ولكن تبعًا لشروطٍ تُحددها المجالس العامة. باختصار، أصبح من الواضح أن أماكن إيداع المرضى عقليًّا ليس مكانًا عاديًّا مثل أي مكان أو إدارة أخرى، ومن ثم فإن طلبات الإفراج لا بد من أن تحظى بمرونة أكبر.

وعُني المحافظون ورؤساء الأحياء بتصفية وفرز طلبات الاحتجاز. وهكذا، في عام ١٩٢١ بلوفيني بالقرب من كاين، تقدمت سيدة وصية على امرأة تبيع البقول — شبه متشردة ومقيمة بالمنطقة — بطلب لاحتجازها كمريضة عقليًّا، مشيرة إلى إدمانها الكحول وقيامها ببعض السرقات من حدائق المنطقة وحياتها البائسة في كوخ قذر. وفي خطابه للمحافظ، أعلن رئيس البلدية موافقته على كل هذا، ولكنه قرر أنه لا يوجد خطر منها على الأمن العام، وبالتالي «فلا يوجد داعٍ لاحتجازها».21 وزادت الردود من هذا القبيل بصورة واضحة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأيضًا العقود الأولى للقرن العشرين.

لا يمنع هذا من الإشارة إلى أنه مع الانتقال التدريجي من فكرة الأسرة الكبيرة والريفية إلى الأسرة الصغيرة الحضرية المحدودة، لم يعد للمرضى عقليًّا مكان بين ذويهم. في «ذكريات الطفولة والشباب» لإرنست رينان — عام ١٨٨٣ — يروي بصيغة الماضي قصة «مجانين تريجييه»: «بدلًا من حبسهم، كانوا يُتركون يتجولون طوال اليوم. كانت الناس تحبهم، وكانوا هم يقومون ببعض المساعدات.» كان أحد هؤلاء المجانين يعتقد أنه كاهنٌ، وكان يقضي أيامًا في الكنيسة: «كانت الكاتدرائية مملوءة طوال الظهيرة بهمهمة ترانيمه، كانت هي صلاة المجنون المسكين التي تساوي الكثير. كان لدى الناس الذوق والحس الراقي في تركه يفعل ما يشاء، وعدم اللجوء لتمييزٍ سخيف بين البسطاء وعامة الشعب الذين يأتون ينحنون أمام الله.» وفي رواية «الكونتيسة سيجور»، تفقِد الأخت جريبوي مكانها لكونها — على الرغم من الضغوط الممارسة ضدها — رفضت استغلال قانون عام ١٨٣٨ لإيداع شقيقها البسيط العقل إحدى المصحات، بعد أن أقسمت على ألا تتخلى عنه. ولنذكر قول دوستويفسكي المأثور: «ليس عن طريق حبس جارك، تتيقن من رجاحة عقلك» بالطبع!

الدفعة الثانية

بمجرد إنشائها، أصبحت مصحات الأمراض العقلية محط انتقادات عديدة، شأنها شأن قانون ١٨٣٨. وسنعود لدراسة مسألة التنديد الطويل بمصحة الأمراض العقلية: انتقادات شديدة من الصحافة ومن الأدب ومن محتجزين سابقين، بل وأيضًا من بعض أطباء الأمراض العقلية، الذين زاد عدد المحبطين منهم من جراء قلة النتائج العلاجية التي تعطيها هذه المصحات الكبيرة الجميلة والمكلفة والمنغلقة على ذاتها. وسرعان ما أدركوا أن المصحة — هذه المؤسسة العلاجية التي كان من المفترض أن تكون في حد ذاتها علاجًا — أصبحت، بسبب نوع من المنطق الفاسد، وسيلة ليس للشفاء كما كان يطالب إسكيرول، وإنما لصناعة المزيد من الميئوس من شفائهم.

منذ الإمبراطورية الثانية، والجدل يدور ما بين مؤيد ومعارض مبدأ عدم القيود، استنادًا إلى نموذج إنجلترا؛ حيث قرر طبيب الأمراض العقلية جون كونولي (١٧٩٤–١٨٦٦) إلغاء استخدام كافة وسائل الحبس في مشفى هانويل منذ عام ١٨٣٩: سُتْرات المجانين أو كراسي الاحتجاز وكل أنواع القيود. ومن هنا نشأ مبدأ عدم استخدام القيود الذي يضعه الإنجليز — بنوع من الاحتقار — كمقابل لنظام التقييد المطبق في المصحات الفرنسية. ولقد أحدثت هذه الثورة الحقيقية هزة في عالم أطباء الأمراض العقلية. وينتقد مورو دي تور بعنف هذه الفكرة «الإنجليزية المنشأ التي ترجع إلى بعض أشباه النظريات النفسية، والتي تغالط جميع فِكَر علم الطب العقلي»22 (ويُذكر أن مورو دي تور كان رائد فكرة الأصل العضوي للأمراض العقلية). «أتظن أن المرضى عقليًّا في إنجلترا لهم طبيعة أخرى غير التي لمرضانا؟ ربما هم أقل هياجًا، وأقل استجابة للاستثارة؟»23 ويستكمل مورو دي تور حديثه بأن كل هذه إنما هي أوهام وأكاذيب؛ ففي حالة إصابة مريض مهووس بنوبة غاضبة، سيتطلب الأمر من الحرس استخدام أساليب أشد عنفًا من مجرد ارتداء سترة المجانين للسيطرة عليه. ويضيف مورو دي تور — بسذاجة فجة — أن استخدام سترات المجانين إنما يعوض نقص العاملين. في الواقع، لم يأخذ مبدأ عدم القيود في الانتشار في فرنسا إلا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، خاصة في سانت آن على يد فالنتين مانيان (١٨٣٥–١٩١٦).
ثم، ما الفائدة من تطبيق مبدأ عدم القيود إذا كان المشفى ذاته — «هذه السترة الحجرية»24 — لم يُحرَّر بعد؟ في عام ١٨٩٦، صدر مقال لمارندون دي مونتييل — كبير الأطباء بمصحة مدينة إفرار — يعرض فيه لحصيلة قرن بأكمله من الاحتجاز لأسباب علاجية: «عندما حطم بينيل قيود المريض عقليًّا، لم يعطِه أيضًا حريته. وأعتقد — مثله مثل من تبعوه حتى الوقت الحاضر — أنه في سبيل علاج مريض، لا بد من إخضاعه لنظام صحي خاص، وكان هذا النظام هو العزل. وأصبحت المصحات مُحاطة جميعها بأسوار عالية […] فقد كان هناك اعتقاد راسخ بأنه يجب وضع المريض عقليًّا في بيئة مختلفة عن التي يغوص فيها عقله ووضعه بمنأًى عن الانفعالات كافة، حتى الأكثر شرعية والأكثر رقة.»25
هل كانت مصحة الأمراض العقلية في طريقها إلى الزوال بناءً على ذلك؟ بالطبع لا! يكفي استبدال نظام الحرية، بنظام العزل: «لا توجد جدران، لا داخلية ولا خارجية، ولا في البدروم، ولا ممرات مغطاة، وإنما فيلات موزعة في متنزه أو مجمعة على هيئة قرية، فيلات لها أبواب ونوافذ مفتوحة لأكثر من ستين بالمائة من المرضى الموجودين بالمصحة، وتُغلق فقط باستخدام قفل صغير وشبكة لمن يشكل ربما تجولهم بحرية نوعًا من الخطورة؛ أي إيجاد مكان يذكرهم بالحياة العادية.»26 بالإضافة إلى زيارات إرادية وعطلات.

في الواقع، جرت بالفعل بعض محاولات لتحرير المرضى عقليًّا: وضعهم في منازل في الريف أو إنشاء مصحات محلية … إلا أن تقرير عام ١٨٧٤ قرر فشل هذه المحاولات: «جرت تجربة هذا النظام على نطاق صغير، ولكننا اضطررنا إلى التخلي عنه سريعًا. بمجرد معرفة أصحاب منازل الريف أن هؤلاء مرضى عقليًّا، سرعان ما جاهدوا للتخلص من الذين كانوا في عهدتهم، أو بدءوا في معاملتهم كدواب؛ ومن ثم كان لا بد من إخراجهم من هذه المنازل.»

عندها، تقرر التوجه إلى المستعمرات الزراعية، ومنذ عام ١٨٤٧، أنشئت المستعمرة الزراعية فيتز-جيمس بمشفى كليرمون (إلواز) بناء على فكرة قديمة لفيريس: جعل المرضى عقليًّا يحيون بالكامل داخل وحدة زراعية مرتبطة بالمشفى، وكأنها مزرعة — مثل المزارع الموجودة في العديد من المصحات — ولكنها أصبحت هي المصحة ذاتها. وفي عام ١٨٦١، صدر كتاب ساهم في جعل فيتز-جيمس نموذجًا «للمستعمرات»: «من وجهة نظر طبية، يقوم الشرط الأساسي للمؤسسة على بعدها عن المصحة […] فعلى المستعمرة أن توفر لمن هم في فترة النقاهة وللمرضى المسالمين الذين هم في طور العلاج، الوسائلَ التي تعجل بتحسن حالتهم؛ فعليها إذن أن تطور من قواهم البدنية من خلال التطبيق الحكيم لهذه الأعمال، وتؤدي جاذبية هذا إلى حدوث تحسن في طبيعة إصابتهم العقلية، وتقود الحرية التي يعيشون فيها إلى تسهيل دخولهم تدريجيًّا في تفاصيل عادات حياتهم الخاصة.»27 ولكن إذا نظرنا عن كثب، فسنجد أن تلك الحياة في المزرعة جبرية مثلها مثل المصحة: فممارسة الأعمال الترفيهية فقط من حق النزلاء الذين سددوا النفقات، أما الفقراء فيُجبَرون على القيام بأعمال إنتاجية. والأسوأ أن المهام المختلفة تُقَسَّم هذه المرة بالنظر إلى الفئات المرضية. ففي بيكريل — الملحق الذي تتم فيه أعمال الغسيل للمصحة كلها — نجد المرضى بالهذيان الصاخب يقومون بطرق الأحواض، بينما يقوم المصابون بالاكتئاب بفرد الغسيل، والمصابون بالهوس بفكرة مسيطرة ولكن يقومون بتطبيقه الهادئون، وأخيرًا يتولى البُلْه والأغبياء مسئولية نقله. فالأمر إذن أصبح يشبه استخدام المرضى عقليًّا بالسخرة، كما تبدو طريقة استغلال أنواع مرضهم أمرًا مثيرًا للجدل. إلا أن المسئول عن فيتز-جيمس لم يكن يشعر بذلك، فما يهم هو «أن يكتسب المرضى الميئوس من شفائهم من النظام وانتظام وتيرة الحياة — وهي العناصر الأساسية التي يُعنى بها — عاداتِ الترتيب والعمل التي تجعل منهم عمالًا مطيعين ومجتهدين.»
في جميع الأحوال اقتصرت الفكرة على التحول من المشفى المقيد إلى المصحة الريفية؛ الأمر الذي غير، ربما جذريًّا، خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ليس المؤسسة العلاجية للأمراض العقلية نفسها، بل تنظيمَها الداخلي ومعمارها. هذا ما يسمى بالأبواب المفتوحة. ولقد أتت هذه الفكرة (لا نجرؤ على القول الموضة) أيضًا من إنجلترا، وهي تقول بفتح، لا أبواب المصحة الخارجية، وإنما على الأقل الأبواب داخلها؛ فقد انتهى عهد المصحات العقلية التي تشبه الثكنة العسكرية. وبدأ إنشاء مؤسسات علاجية ضخمة في الريف. «يجب أن تمتلك المباني المكونة للمصحة طابع منازل المعيشة، وليس دور الإقامة الجبرية. وظهرت تلك الغرف والفيلات المبهجة الأنيقة والمريحة دون أسوار تحجب الأفق، بل ويحيطها الحدائق والحقول الزراعية التي تبعد أي فكرة قيد أو حبس. وتعطي مجموعة هذه المباني بتجمعاتها الرائعة صورة قرية صغيرة وليس مصحة.»28
بالطبع، ما يجب أن تتحول هي المؤسسة ذاتها، وليس مصحة الأمراض العقلية وحدها. فالعزل داخل زنزانة «يضر بطرق مراقبة المرضى».29 فخارج نوباتهم، يكون المرضى عقليًّا أحرارًا في التجول داخل المؤسسة، بل ويمكنهم الخروج منها بإذنٍ لعدة أيام؛ وبالتالي يكون المريض عقليًّا قد ارتفع إلى منزلة المريض العادي.

في مطلع القرن العشرين، لم تنتهِ في الواقع، فكرة المصحة المغلقة إلا نظريًّا فقط. ونظرًا للأسباب المادية (فكان لا بد من إعادة إنشاء كل المصحات على المستوى الوطني) وأيضًا بحكم العادة، لم تبدأ المصحة المغلقة بالكامل في الاختفاء من فرنسا إلا بصورة تدريجية للغاية. ولزمن طويل، لم يعد يبقى منها إلا عدد مخصص لبعض العمليات المتطورة. في أعقاب الحرب العالمية الأولى، افتتح الطبيب إدوارد تولوز (١٨٦٥–١٩٤٧) في عام ١٩٢١ بسانت آن أولَ «هيئة لعلاج المرضى النفسيين الذين لا تتطلب حالتهم وضعهم في مصحات وفقًا لقانون الثلاثين من يونيو ١٨٣٨.» وظهرت أول خدمة مفتوحة من هذا النوع للنور، على الرغم من مسارعة المجلس العام إلى منطقة السين — الذي وَقَّع على هذا القرار التاريخي — بإضافة بند له طابع فرنسي في المادة الثالثة: «يجب عدم الالتزام بدفع أي نفقات إضافية بسبب إنشاء هذه الهيئة الجديدة.» ولقد لاقت هذه المبادرة كافة أنواع المقاومة واللامبالاة. وقبل الحرب العالمية الثانية، كان عدد مصحات الأمراض العقلية التي قررت خوض هذه المغامرة نادرًا للغاية.

ويشرح الدكتور تولوز في مقالة بلاغية بعنوان: «هل علينا تحرير مرضى الأمراض العقلية؟» الصادر في مجلة التثقيف الطبي «جيرير (شفاء)»، قائلًا: «هناك العديد من مرضى الأمراض العقلية محتجزون في المصحات» (١١٠ ألف في عام ١٩٣٨). وبالمقارنة بباقي الأمراض الأخرى، نجد أن تكلفة الرعاية للصحة العقلية هي الأعلى، ويرجع ذلك إلى حركة دائرية على نطاق أوسع. «فالمصحات تحتفظ بمرضاها لفترات طويلة.» لم يتوقع «الميثاق الشهير للجنون» — الذي اهتم بتنظيم كل شيء لوضع مرضى الأمراض العقلية في المصحات ونظامهم — هذا الأمر، ولم يشغله كيف سيستعيد المريض توازنه داخل المجتمع. «والأكثر، أعليهم الخروج؟» على عكس الاعتقاد العام، فإن مصحة الأمراض العقلية تستقبل مرضاها بسهولة، ولكنها تحتفظ بالفريسة للأبد. ويُدين الدكتور تولوز زملاءه الكثيرين الذين يحتفظون بمرضاهم في المصحة؛ «فقط لأنه الإجراء الأكثر أمنًا من وجهة النظر الإدارية.» باختصار، «يجب أن يتحول المشفى القديم السري والمحاط بالأسوار وكأنه سجن، إلى مصحة حقيقية مفتوحة لا يقتضي دخولها إلا الإجراءات المستخدمة في باقي المشافي العادية.»

وفي سبيل مواجهة التكدس داخل المصحات العقلية، جرت محاولات إنشاء جمعيات لتوجيه مرضى الأمراض العقلية الذين نالوا الشفاء والذين هم في طور النقاهة. لم تكن الفكرة جديدة، فلقد أنشأ جان بيير فالريه في عام ١٨٤٣ هيكلًا من هذا النوع بمصحة سالبيتريير، المخصص للمرضى الفقراء في مرحلة النقاهة ولكن على شفا الانتكاسة. في عام ١٨٥٦، أنشئ مشفى-مشغل، وافْتُتِحَت مراكز أخرى لتوجيه وتدريب المرضى في نانسي وبايولولوكيمبر. في الحقيقة، مقارنةً بمدى توسع هذه المراكز في ألمانيا وسويسرا، فإنها في فرنسا لم تحقق تطورًا ملحوظًا، ولا سيما عندما ادَّعت حركة العلمانية — التي بدأت في مطلع عام ١٨٨٠ — أنها جاءت كبديل للجمعيات الدينية. باختصار، فإنه على الرغم من إنشاء «الجمعية الفرنسية لتدريب مرضى الأمراض العقلية الذين تحقق شفاؤهم في منطقة السين» في عام ١٨٩٦، فإن التجربة لم تدُم طويلًا. إلا أنه — بمقتضى قانون عام ١٩٠٢ المنظم للصحة العامة — بدأت حركة من التنسيق بين العلاج الطبي وإجراءات المساعدة للمرضى. وفي أثناء المؤتمر الدولي الثاني لمساعدة مرضى الأمراض العقلية — المُقام عام ١٩٠٦ بمدينة ميلانو — طُرِح مفهوم المصحة النفسية لأول مرة، إلا أنه لم يصل فرنسا إلا في عام ١٩٣٧.

على الرغم من جميع المحاولات الرائدة، لم يكن هناك إلا المصحة المغلقة، تمامًا مثل المصحة النفسية والعقلية التقليدية. فإحداهما تقتضي الأخرى والعكس صحيح. في مطلع القرن العشرين، عرض يوهان ساندريت — المعماري الحكومي — مبادئ جديدة لإنشاء مصحات الأمراض العقلية،30 ولم تكن متعارضة مع التنسيقات السابقة. وظل التصنيف تمامًا كما هو، يقوم على تمييز السلوك والعمر والثروة. واحتفظت الخطة المقترحة بتماثلٍ وتنسيقٍ ذي طابع تقليدي. كان الأمر الجديد الوحيد هو: اتجاه واضح لتقسيم الأجنحة. وتَحَدَّد الحد الأقصى لعدد المرضى المحتجزين بستمائة مريض. إلا أن ساندريت — المعماري المحنك — طرح بصراحة مسألة التكلفة: ماذا سيحدث إذا اضطرت منطقة إلى قبول أكثر من ستمائة مريض عقليًّا؟ أسيكون علينا إنشاء مشفيين يحتوي كل منهما على ستمائة سرير؟ إلا أن ذلك سيكلف كلًّا منهما ٥٤٥٤٠٠٠ فرنك، بينما لن يتكلف إنشاء مصحة واحدة بها ألف ومائتا سرير إلا ٧٦٠٠٠٠٠ فرنك.

واستكمالًا لتفكيره الواقعي، طرح المعماري ساندريت قضية الزنازين، التي «على الرغم من انتقاد بعض أشهر الأطباء لها — استمر إنشاؤها في كل مكان.» بالطبع أصبحت الزنازين أكثر اتساعًا من ذي قبل (٣٫٤٠ × ٢٫٨٠ و٣٫٥٥ أمتار ارتفاعًا)، ولم تعد مخصصة للإقامة الدائمة. ويستكمل ساندريت حجته حول كون الزنزانة مصدرًا لاستثارة المريض عقليًّا عند حبسه داخله، ويقول: ألنْ يكون وضع مريض هائج في المهجع سببًا لاستثارة باقي المرضى؟ في الحقيقة المشكلة لا تتوقف عن النمو، فالخيار ليس بين استخدام الزنازين أم لا، وإنما بين تخصيص منطقة للزنازين ليس لها شعبية، وبين وضع زنازين داخل كل منطقة. على أي حال، فإن كلمة زنزانة ذاتها أصبحت مرفوضة، وتسمى من الآن فصاعدًا: غرف عزل.

ورغم كل شيء، أصبحنا نسير في اتجاه جيل جديد من مصحات الأمراض العقلية، ظهرت بوضوح مع مشروع إنشاء المشفى السابع في منطقة السين عام ١٩٠٧.31 كان مشروعًا ضخمًا، على عكس مشاريع هدم أي مشفًى قديم: ألفا مريض موزعون على خمس خدمات طبية كبرى (ثلاث للنساء واثنتين للرجال)، بمعدل طبيب واحد لكل أربعمائة مريض، في بداية القرن العشرين. وتؤكد الخطة العامة للمشروع الاتجاه الجديد لدمج المناطق المختلفة داخل المصحة وليس ربطها فحسب بعضها ببعض في إطار مشهد منظم، خاصة وأن التصميم الإجمالي للمشروع ظل يحاكي التصميمات التقليدية المماثلة. وجرى تمديد المحور المركزي للمباني — على غرار البيت الأبيض الذي بُني قبل بضع سنوات في عام ١٩٠٠ — من خلال إضافة منحدرين يتيحان — دون فصل الجنسين بجدار مانع — «مراقبة المرضى من كل الجوانب لمنع اختلاط الجنسين». إلا أن الجدار الخارجي كان أمرًا لا غنى عنه.

وخُصصت لكلٍّ من الخدمات الخمس الكبرى ثمانية أجنحة يختلف تصميمها المعماري وفقًا للفروق الطبية المخصصة لها، تفصلها مساحات وأشجار ومشهد لا يحده أسوار أو واجهات أخرى. أنشئ الجناح الأول الذي يضم خمسين مريضًا في الدور الأرضي، وخُصِّص للاستقبال والملاحظة المستمرة (بعد فصل هذين العنصرين). وتم الاحتفاظ بغرف العزل للداخلين. ويمتلك كلٌّ من هذين القسمين صالة للطعام وصالة اجتماعات وقاعة استقبال، بينما تم تخصيص الجناح الثاني — الذي يضم خمسين مريضًا ويمكن عند الضرورة إضافة طابق إليه — مقرًّا لجهاز التمريض. ويمتلك الجناح الثالث، الذي يضم ثلاثين مريضًا، طابقًا خُصِّص للمصابين بالوهن العصبي الواعين والذين يعانون من وجودهم مع مرضى آخرين مصابين بالهذيان. والجناح الرابع مُخصص لخمسين مريضًا ممن في مرحلة النقاهة، وهناك يُتَّبَع «نظام أكثر حرية يقترب من الحياة العادية ويسمح بالحكم على قدرة المريض على الخروج». أما الجناح الخامس، فيضم أيضًا طابقًا يحتوي على خمسين مريضًا من العاملين والمرضى الهادئين. والسادس، وله طابق أرضي، يضم المرضى الضعفاء والمصابين بالخرف كل في قسم مختلف. وتصل قدرته الاستيعابية إلى مائة مريض. كلما زاد عدد المهاجع، زادت القدرة على وضع تصنيف محدد (مثلًا تخصيص مهجع للمصابين بالخرف والهياج). ويختص الجناح السابع — مع إمكانية إضافة طابق — بالمرضى شِبه المصابين بالهياج. وفيه أيضًا تُقَسَّم أماكن الإقامة الليلية إلى الحد الأقصى بغية تجنب انتقال «عدوى الهياج بين المرضى». وأخيرًا، يأتي الجناح الثامن وبه طابق وقسمان، ويضم ستين مريضًا كلهم ممن هم في حالة هياج. ويسمح وجود العديد من الغرف المجاورة للمهجع القيام بتقسيمات داخلية. لم يعد هناك منطقة مركزية للزنازين، وإنما غرف للعزل داخل كل جناح يوجد بها أيضًا قاعة للطعام ودورات مياه غير مركزية.

إلا أنه كان من الصعب اتخاذ قرار بالتخلص من الجناح الفخم «المقدس» المخصص للعلاج بالمياه، الذي خضع — مثله مثل قاعة الاحتفالات — لنظام دقيق وفصل مشدد بين الجنسين. وُضعت قاعة الاحتفالات بالقرب من مدخل المصحة؛ لكي يصل للمرضى الجدد الإيحاء بأن «أبواب المصحة ليست هي بأبواب الجحيم»، وأيضًا حتى إذا ما دعيتْ إحدى العائلات لا يكون عليها الدخول إلى مناطق محظورة.

إذن في النهاية لم يتم إنشاء هذه المصحة السابعة في السين — على غرار المشروع الذي قدمه الطبيبان راينييه ولوزييه32 عام ١٩٣٥ — فيجب أن نرى في ذلك مدى البؤس الأبدي للميزانية المخصصة لهذا الأمر، وليس التخلي عن المبادئ المعمارية التي تظل — على الرغم من كل شيء — الأساس الملموس لطب النفس العقلي. ويعد الدليل على ذلك أنه بمجرد صدور نظرية جديدة خاصة بالمشفى-القرية ذات الأجنحة المنتشرة المتعارضة مع فكرة «المشفى-الثكنة» (وهي أكثر تماثلًا وجمالًا للنظر عن الأخيرة)؛ ظهرت للنور عقيدة معمارية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين؛ وهي المصحة المقسمة إلى مناطق. فيُعاب على المصحة-القرية تبعثر المباني وانتشارها؛ مما يعقِّد عملية المراقبة والإدارة ويطيل من كافة دوائر النظام الذي يظل مركزيًّا في النهاية. في المصحة المقسمة إلى مناطق، يمكن التمييز في البداية بين المنطقة الطبية التي تشكل الخدمة المغلقة الخاضعة لأحكام قانون عام ١٨٣٨. وتنقسم هذه المنطقة إلى قسمين: قسم مخصص للعلاج وللتمريض، وقسم آخر كمأوًى للحالات المزمنة والخرِفين والمرضى بالصرع؛ أي إن الهدف هو الفصل الجذري بين الحالات القابلة للشفاء والحالات الميئوس منها (الأمر الذي كان مرفوضًا قبل ذلك). أما المنطقة الثانية، وتختلف تمامًا عن الأولى، فهي تختص بالخدمات المفتوحة (التي لا تخضع لقوانين ١٨٩٣ و١٩٠٥): الأطفال وضعاف العقول والمسنون والمصابون بالصرع غير الجنوني والمرضى النفسيون غير المختلين والمصابون بالوهن العصبي … من المقرر أيضًا أن يُنشأ في هذه المنطقة مصحة للأمراض النفسية. وإلى جانب هاتين المنطقتين الكبيرتين، توجد أيضًا مناطق أقل مساحةً: مناطق صغيرة للخدمات الخاصة (أطفال غير طبيعيين، خدمات أمنية للمرضى ذوي النزعات الإجرامية أو المنحرفين)، ومناطق للخدمات الطبية الملحقة (جراحة، دار حضانة … إلخ)، ومنطقة للإقامة (لذوي المنح المتوسطة، وانتهت فكرة الإقامة في الأكواخ)، ومنطقة إدارية بالطبع، وفي النهاية، «منطقة خاصة لتجميع الخدمات الاقتصادية» (ورش صناعية، منتجات زراعية) بالقرب من مناطق العمال. كان تخفيض المساحة هائلًا: ١١ ونصف هكتار لكل مائة مريض؛ أي إن عدم كفاية الميزانية كانت لها الكلمة الأخيرة مرة أخرى.

في الواقع، قُبيل الحرب العالمية الثانية، استمرت غلبة فكرة مصحة الأمراض العقلية المغلقة — التي أصبحت على مر السنين المشفى القديم — في كافة أرجاء فرنسا تقريبًا. ويبدو أن كل هذا التقدم المؤسسي والمعماري — الذي لم تتحقق الاستفادة منه مطلقًا — قد أضفى عليها بصورة مفارقة نوعًا من الشرعية: لكونها المصحة بمعناها المعروف؛ أي المصحة التي نحتاج إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤