الفصل الثالث

جدران المصحة

كما جاء في التقارير الرسمية والصحافة المحافظة في عهد حكومة يوليو الملكية والإمبراطورية الثانية، وجد المرضى عقليًّا أخيرًا في مصحة الأمراض العقلية — الذي طالما أراده مؤسسو الطب النفسي — الرعايةَ الجيدة التي طالما افتقدوها. كان ذلك هو عصر الحكايات المبهرة التي كان يعدها الزائرون للبلد التي بها تلك المصحة. ويكتب أحد الزائرين: «قمنا بزيارات طويلة لكلٍّ من مصحة بيستر وسالبيتريير.»1 «وبمجرد رؤيتنا لبعض الأشخاص المحتجزين هناك على كراسي مربوطين بأحزمة وسيور، انشغل باقي المرضى في هدوء تام بالقيام بأعمال مختلفة، وإذا لم نكن بالفعل نعلم ما هو الوضع النفسي لهؤلاء البائسين لاعتقدنا أننا داخل إحدى الورش الصناعية العادية.» وقد حضر زائرنا تقديم الوجبات ومعها الشِّوَك والسكاكين في قاعة الطعام. «رأينا النظام الرائع والصمت الذي يخيم على القاعة.» كان الخبز جيدًا واللحم أيضًا ومعه المرق. اتسمت المهاجع بالنظافة الرائعة، والسرائر النظيفة والمنظمة والأغطية الدافئة. «كم تغيرت الأوضاع إلى الأفضل!» كانت هناك أيضًا نزهات في الهواء الطلق وأعمال صباحية، وأيضًا أغانٍ وموسيقى في المساء، وهكذا «انمحت الفكرة الثابتة في عقل المريض تدريجيًّا.» كان الشفاء أكيدًا، ما عدا بعض الحالات الاستثنائية؛ ففي أي مرض دائمًا ما تكون هناك حالات مستعصية، يتطلب شفاؤها معجزة. ولكن يجب عدم المبالغة …
كان الحماس في العلاقات أمرًا مقبولًا: «جميع المرضى دون استثناء — المستكينين والمصابين بالهياج — كانوا يستمتعون بالهواء الطلق والشمس والمساحة والحرية التي يشوبها الحذر، والتي تتناسب مع طبيعة هلوستهم ومتطلبات علاجهم ونظام المؤسسة. وتحت الشروط نفسها، كانوا يراسلون عائلاتهم ويتلقون زيارات من ذويهم وأصدقائهم.» الفراغ والخضرة و«المهاجع الممتازة وقاعات الطعام عالية النظافة» والأعمال المفيدة ووسائل الترفيه المسلية و«الانشغال بالعمل»؛ كلها كانت باختصار «الصورة الممكنة الكاملة للأحوال العادية للحياة العائلية؛ كانت هذه هي الصورة الحقيقية لمصحة الأمراض العقلية.»2

هناك شكوك في أن واقع المصحة كان مغايرًا تمامًا. بالتأكيد كانت الثقة في الدور العلاجي للمشفى العقلي في منتصف القرن التاسع عشر راسخة لدرجة تدفع إلى تخيل مثل هذه الصور المثالية الرقيقة (الصورة الحقيقية لمصحة الأمراض العقلية)، بل ويبالغ أحد الزائرين الموثوق بهم في التعبير عن رضاه عن المشفى لدرجة أنه يتساءل: «أين هم المجانين؟» إلا أن المرضى كانوا هناك بالفعل خلف الجدران العالية للمصحة، كما كان يمكن ملاحظتهم يوميًّا في بداية القرن العشرين، العصر الذي بلغ فيه علم الطب العقلي أقصى سرعاته في التقدم. وسنرى لاحقًا من كانوا من الناحية الطبية، إن كانوا يشفون أم لا إذا ما جرى احتجازهم لفترات طويلة. ويكفي الآن رؤية كيف كانت المصحات العقلية في ذلك العصر تنظم حياتها اليومية.

«نظام ثابت وانتظام لا يتغير»

الفزع الحقيقي في مصحة الأمراض العقلية هو الفراغ. فيجب عدم ترك أي دقيقة من اليوم للمصادفة، فيجب إذن توجيه المرضى لكيلا يترك لجنونهم الفرصة في السيطرة عليهم. الأمر الذي يتفق عليه جميع أطباء الأمراض العقلية: «يجب أن يكون هناك نظام ثابت وانتظام لا يتغير داخل جميع أجهزة المصحة. فهذا الانتظام يجب أن يكون مشددًا مثل حركة الساعة؛ بمجرد أن ينطلق يسير دائمًا دون توقف. ويكون لكل فترة من فترات اليوم مهمة وواجبات.»3
يكون الاستيقاظ في السادسة صباحًا خلال فصل الصيف وفي السادسة والنصف في فصل الشتاء (تختلف المواعيد بشكل طفيف من مصحة إلى أخرى). ويقوم الحراس والراهبات الممرضات بفتح أبواب المهاجع وغرف العزل. وإيقاظ المرضى ليس بالأمر الهين؛ فيجب عمل جرد سريع بالخسائر الليلية: ملابس ولوازم فراش ممزقة وخدوش في الأثاث والأشياء وأسِرَّة متسخة. إنه «اختبار القش» (مرتبة القش)؛ حيث يجب التأكد من أنه لا توجد قشة واحدة على الأسِرَّة. كما يجب مساعدة العاجزين والكسالى على الخروج من الفراش، والتأكد من أن من لا يزالون في فراشهم هم مرضى بالفعل وسيُحَوَّلُونَ إلى قسم التمريض، وليسوا متمردين. تتم مساعدة كل مريض على ارتداء جميع ملابسه «برقة وحزم». في جميع الأحوال، تشدد اللائحة على هذا الأمر. تُخصَّص نصف ساعة للنظافة الصباحية. هناك مرضى يذهبون إلى لأحواض بمفردهم، ولكن يجب مراقبتهم لمنع أي تدافع أو شجارات، وأيضًا لاكتشاف من يتظاهرون فقط بالاستحمام. وهنا تكمن أهمية دور الحراس، والذين أصبحوا ممرضين بالفعل الدلالي منذ بداية القرن العشرين. فيتعين عليهم إجبار المريض — دون عنف — على النظافة الشخصية الجيدة، دون إغفال أي منطقة: الفم والأذنين (فهناك مرضى اعتادوا الاحتفاظ ببعض القاذورات داخل القناة السمعية) والعيون والأعضاء التناسلية. ويجب عدم إغفال البحث عن أي طفيليات؛ «فالممرض الجيد يعرف من هيئة مرضاه إن كانت أيديهم قذرة، وأيضًا ما بين أصابعهم وأعضائهم التناسلية؛ فهذا يعني أن الممرض مهمل وغير نظيف.»4
وبينما يتم اقتياد المرضى إلى صالة الطعام، يجري تنظيف المهاجع والغرف بالمياه وإخراج القمامة ووضع المراتب والملابس المبللة لتجف، وأيضًا تفريغ وتنظيف أوعية غسل الثياب وتطهير المراحيض ومحاولة إزالة الرائحة الكريهة الموجودة في كل مكان. يجب أيضًا التأكد من أن الملابس ليست متسخة أو ممزقة؛ ولذلك فإن استهلاك الملابس والبياضات يكون هائلًا. ويذكر تقرير صدر في منتصف القرن التاسع عشر: «هناك مرضى يحتاجون إلى تغيير الملاءات والملابس الداخلية يوميًّا، بل وقد يحتاجون إلى أكثر من قميص يوميًّا. ويوجد منهم من يتسبب في خسائر كبيرة: فيكسرون الفراش، ويحطمون الزجاج ويمزقون أحذيتهم وملابسهم ويلقون بها أو بطعامهم على الحائط.»5
وفي دورات المياه، لا بد من وجود مراقبة خاصة: «على الأقل يجب أن تكون هناك حارسة (نتحدث عن مستشفى ماريفيل) لتراقب المراحيض بصفة خاصة، ولا سيما عند خروج المرضى من المهجع؛ لأنه في تلك اللحظة قد تحدث أحداث جانبية في بعض الأحيان أثناء التكدس؛ مناقشات أو شجارات بين المرضى ويكون لها عواقب وخيمة. يجب ألا يغفل أحد في أي وقت من اليوم عن دورات المياه؛ لأن هناك أيضًا محاولات الانتحار تحدث، أو قد يستسلم أحد المرضى لبعض الممارسات الغريبة، مثل أكل فضلاته على سبيل المثال … إلخ.»6

•••

تسبق الصلاة الصباحية الإفطار، وتُتلى عادة داخل قاعة الطعام؛ حيث يرددها بصوت عالٍ أحد المرضى أو الحراس، وتتكرر قبل كل وجبة وأيضًا قبل النوم. وكما أن الصلاة اليومية تعتبر مفيدة، هكذا أيضًا بالنسبة إلى صلاة القداس والتناول. وفي هذا الشأن يجب التفريق بين فترتين مختلفتين؛ فحكومة يوليو الملكية والإمبراطورية الثانية اتسمتا تمامًا بالطابع الكاثوليكي، وفي هذه الفترة أقر كبير الأطباء فالريه الصلاة كركيزة من أهم ركائز الشفاء النفسي. أليست هي في ذاتها إجابة لكل شيء؟ ولكن، حينما أصبحت الجمهورية الثالثة علمانية وسادت موجة الهجوم على الكنيسة — وعلى الرغم من أن المصحات العقلية الخاصة (ذات الطابع الديني على الأغلب) ظلت تعتبر الدين محور الحياة اليومية — حاولت المشافي العامة السير دون جدوى في اتجاه العلمنة. «لم يعد الكثير من الأطباء الكبار يريدون وجود كنيسة وكهنة داخل مصحة الأمراض العقلية […] ولا يسعنا إلا التفكير في أن وجود كنيسة وخدام قد يكون له أثر ضار في تفاقم حالات الهوس بالفكرة الواحدة التي تتخذ طابعًا دينيًّا وتطورها إلى صور وأشكال غريبة، خاصة في البلاد التي لا تزال تخضع لسلطة دينية كاثوليكية.»7

على أي حال، فإن القرار يرجع لكبير الأطباء في حضور المراسم الدينية من عدمه، مع العلم بأنه داخل الكنيسة يكون هناك فصل صارم للجنسين، بل ويُفصَل المرضى أنفسهم عن باقي المشاركين في الصلاة. وفي خطاباتهم — التي تخضع للرقابة — يشتكي العديد من الكهنة أو الراهبات المحتجزين لإصابتهم بأي نوع من الهذيان الديني من عدم قدرتهم على حضور صلاة القداس والتناول على الأقل. فعندما يأتي كاهن المنطقة لزيارة المرضى والعاملين، كان يمتنع عن التعامل مع المرضى الذين حذره منهم كبير الأطباء لكونهم مصابين بهذيان ديني.

كان الإفطار الذي يوزع في كل منطقة يتكون من خبز وقهوة باللبن، وأحيانًا تبعًا للأوقات أو المناطق كان يُوَزَّع حساء أو جبن. وهنا أيضًا يجب أن تكون هناك مراقبة يقظة؛ حيث يجب منع أي مشاجرات وإجبار المرضى الرافضين للأكل على الإفطار، وعلى العكس منع المرضى الشرهين من الإفراط في الطعام والاستيلاء على نصيب الآخرين. كما يجب إطعام العاجزين، وإحضار الطعام إلى الملازمين الفراش، ثم عَد أدوات المائدة عدة مرات لكيلا تُستخدم لأغراض سيئة.

بحلول الساعة السابعة في الصيف، أو السابعة والنصف في الشتاء، يكون موعد العمل. في الأساس، من وجهة النظر العلاجية النفسية، فإن هدف العمل هو «الإلهاء عن الجنون» (بمعنى إبعاده أو انتزاعه أو على الأقل الابتعاد عنه). ويجعل كابانيس من العمل «المنظم الحقيقي للطبيعة النفسية»، ويرى أن لا داعي للتخوف من ترهيب من يرفض العمل في سبيل إجباره عليه.8 ودون النزوع لهذا النهج الثوري، يشاطر سيبيون بينيل باقي أطباء الأمراض العقلية الرأي: «إن العمل الدائم يغير من تلك الحلقة المفرغة للأفكار، ويصلح مهارات التفاهم عن طريق النشاط، ومن ثم يستطيع بمفرده الحفاظ على النظام بين مجموعة من المرضى عقليًّا …»9

ولكن على مر العقود، أصبح العمل لغاية علاجية عملًا فقط بل وثقيلًا أيضًا: حتى عشر ساعات يوميًّا (ثمانٍ فقط في النصف الأول من القرن العشرين). وبغض النظر عن طبيعة جنونهم، كان معظم المرضى يمارسون داخل المؤسسة نشاطًا فعالًا (وليس بهدف «شغلهم» كما يتضح لاحقًا). في عام ١٨٦٧، كانت نسبة المرضى الذين يعملون بدوام كامل في مصحة بون سوفور بكاين تبلغ ٦٨٪ للرجال و٧٨٪ للنساء. في عام ١٨٩٣، أُنجِز ٦١ ألف يوم عمل؛ خُصص ثلثها لأعمال التنظيف، والثلث الثاني للخدمات: المطبخ والغسيل. وانقسم الثلث الثالث — الذي يخضع لمراقبة لصيقة من الموظفين الخارجيين — ما بين الورش والمزرعة. ولا يمكن التصديق بأن هذا العمل كله كان لأهداف علاجية؛ فمزرعة أو مزارع بون سوفور كانت تنتج في عام ١٩٢٦ ثمانية وعشرين طنًّا من البطاطس، وسبعين طنًّا من الخضراوات الأخرى (مثل الكرنب)، وخمسة وثمانين طنًّا من التفاح، وثلاثة آلاف دستة من البيض، ومائة وخمسة آلاف لتر من اللبن، وثلاثة عشر طنًّا ونصف طن من لحم الخنزير، كل هذا لم يكن يكفي إلا بالكاد لإطعام المشفى الضخم (الثالث على مستوى فرنسا عام ١٨٧٥، والذي يضم ١٠٢٣ مريضًا).

وتستلزم رعاية الحدائق والمساحات الخضراء — اللازمة لأي مصحة — عددًا كبيرًا من المرضى. كما تتطلب أعمال الخبز وإصلاح الأحذية وورش الصيانة وترميم المباني جهدًا ورجالًا أشداء. أما المريضات، فكنَّ يُستخدمنَ بكثرة في أعمال نظافة وتقشير الخضراوات وغسل الملابس والأواني، وأحيانًا كن يعملن في الورش لأعمال التريكو وإصلاح الملابس والتفصيل والتطريز. في عام ١٨٥٣، في مصحة سالبيتريير، كان تسع وستون بالمائة من المريضات يعملن ويُنتجن ما يقرب من نصف مليون قطعة مصنوعة: قمصان وسترات المجانين وملابس داخلية وجوارب ومناديل وتنورات داخلية ومفارش … إلخ. ويمكن القول بأنه بالنظر إلى قلة ما يُدفع لهؤلاء المرضى العاملين، لن تكون ميزانية المصحة قادرة على التخلي عن أيدي عاملة بهذه الضخامة. واستمرت هذه الحال حتى العقود الأولى من القرن العشرين — حينما بدأ هذا التناسب في الانخفاض — خاصة بعد أن أصبح استغلال المصحات للمرضى في أعمال «تسخيرية» واضحًا للعيان. فلم تكن الجرأة الشديدة التي سادت في القرن التاسع عشر حيال هذا بالأمر «السليم سياسيًّا».

كان الضغط الذي تمارسه المصحة على المرضى لتحفيزهم على العمل قويًّا للغاية، ولأن من يرفض العمل كان يتعرض لعقوبات عديدة: الحرمان من بعض الحريات في التحرك، أو منعه من التدخين أو أي طعام أو نبيذ إضافي، بل وقد يصل الأمر إلى توقيع عقوبات حقيقية عليه. ويبدو هذا الخطاب الاحتجاجي الذي أرسلته مريضة في عام ١٨٨٠ مفيدًا لنا في هذا الشأن وإن كان من جانب واحد فقط: «حينما كنت في الجناح الثاني (في مصحة أوكسير) كنت أعمل في تصليح البياضات، وكنت أنجز ما يقرب من ثلاث مُلاءات جديدة يوميًّا، وكنت أصنع أيضًا أغطية للرأس تستخدم أثناء الليل. وكنت أعمل أيضًا في تصليح القمصان النسائية وأغطية الوسادات والمناشف والأقمشة، ولم يكن يشوب عملي أي خطأ. (في المنطقة الرابعة) جاءت الراهبة آر … — المسئولة عن قسم الطي — لتحضرني لأصبح مسئولة عن طي الملاءات، وهي واحدة من أصعب المهام، وكانت تبقيني واقفة على قدمي لما يقرب من سبع ساعات؛ حيث كنت أقوم بطي حوالي مائتي ملاءة لأضعها في آلة الكي ثم أقوم بطيها أو أمررها للتصليح. في شهر أبريل، قلت للراهبة آر … إني أعاني من آلام في قدمي، وإني لم أعد أرغب في طي الملاءات. فأعادتني إلى قسم التصليح. (كان النقل إلى مصحة بون سوفور في كاين «كنا جميعًا مستقرين جيدًا».) كنت أجلس في غرفة كبيرة يعمل بها ما بين أربعين إلى خمسين شخصًا تحت إشراف الراهبة إم … وكنت أعمل على إصلاح الملابس الداخلية لقضاء وقتي، ولكني بمجرد أن شعرت أن هذا العمل إجباري رفضته على الفور. قالت لي الراهبة إم … إنه إذا أصررت فسيتم إرسالي إلى عنبر المصابات بالهياج. أجبتها بأني سأذهب إلى هناك. وبالفعل ذهبت، وهناك قمت بتطريز ما يقرب من أربعين مترًا من الدانتيل للسيدة إف … صاحبة العمل.» للأسف، لا يوجد مثل هذه الخطابات التي تشرح كيف كانت الحياة اليومية هناك إلا نادرًا. ففيما يمكن اكتشافه من مراسلاتهم، يظل مرضى الأمراض العقلية حبيسي عالَمِهم الخاص وهذيانهم، وبالتالي نادرًا ما يأتون على ذكر الحياة الواقعية.

كانت القدرة على العمل معيارًا محايدًا للخروج؛ حيث يثبت أن المريض أصبح قادرًا على الاندماج ثانية في المجتمع (مما يثبت ثانية أن السلوك الاجتماعي يعد عاملًا مهمًّا، بل وأكثر أهمية من المقياس «النفسي»). وعلى العكس، فإن المريض الفقير العاجز عن العمل أو الرافض له تندر فرص خروجه، والدليل على ذلك ما كتبه كبير الأطباء في عام ١٨٤٨ بنوع من الخبث بخصوص مريض في مصحة بون سوفور بكاين: «يقول المريض: إنه شُفي وإنه على استعداد تام للعمل، بل ويطلب أي وظيفة، ولا سيما وظيفة المحافظ.»

في الأساس، يحدد كبير الأطباء، وليس سواه، من هم المرضى القادرون على العمل، إلا أن الحقيقة والواقع يختلفان تمامًا. نظريًّا، تكون زيارة الطبيب يوميًّا قبل بدء العمل داخل المصحة، إلا أن جميع الشهادات أجمعت على أن هذه الزيارات كانت تتم مقابل مبلغ مالي. وبمصاحبة كبير المراقبين والمتدربين معه والطبيب المساعد إن وجد، كان كبير الأطباء يمر بالمرضى المصطفِّين بطول الجدار. وكما يروي ماكسيم دي كامب في تحقيقه الموسع حول باريس — والذي درس فيه بإسهاب وضع مصحات الأمراض العقلية10 — «فإن المرضى لديهم كلمة معتادة، تعبير لا يتغير يلقنوه لنا؛ فكانوا يقولون: الطبيب يمر، الطبيب سيمر. كان الطبيب يمر بالفعل، لم يكن بمقدوره فعل شيء آخر؛ لأنه لم يكن له الحق في التوقف.» ويجري دي كامب حساباته بأن كل طبيبِ أمراضٍ عقلية في منطقة السين يكون لديه مائتان وواحد وستون مريضًا لزيارته، وفي حين أن اللائحة الداخلية بتاريخ العشرين من مارس ١٨٥٧ تحدد أن تلك الزيارة لا بد من أن تكون يومية. وفي الواقع، فإن الأطباء أنفسهم هم أكثر من يبدون أسفهم لهذا الإهمال. في عام ١٩٠٥، كتب أحدهم: «أنريد رفع المرضى عقليًّا مصافَّ وكرامة المرضى العاديين أم لا؟»11 إذا كانت الإجابة بنعم، «فإن المرضى في حاجة إلى أطباء!» وينعى هذا الطبيب أن كبير الأطباء — نظرًا للظروف — لا يعتني إلا بالمرضى الجدد (حيث يكون عليه تقديم شهادات إجبارية لقبولهم بالمصحة) وبالحالات الحادة، تاركًا المرضى بأي مرض عقلي مزمن. «وبالتالي، بطريقة غير محسوسة، قد يصل به الأمر إلى إقناع ذاته بأنه لا يمكن شفاء هؤلاء المرضى؛ لأنه لا يرى أيًّا منهم قد شُفي.» رهيبة هي الكلمات التي خطتها ريشة ماكسيم دي كامب: «لدينا علماء على أعلى مستوًى، ولكن على الرغم مما لديهم من علم، ينقصهم الإيمان، ومن ثم يَبدون غير واثقين من قدراتهم، وهذا هو أخطر شيء.»
في منتصف القرن العشرين، كان كبير الأطباء «يمر» — على ما يبدو — بسرعة شديدة. ولقد تمكن أندريه سوبيران — طبيب ومؤلف كتاب «الرجال ذوو المعاطف البيضاء»، أحد أشهر الكتب في عصره — من إجراء زيارة طويلة لمصحة سانت آن للأمراض النفسية، وعلى وجه الخصوص قسم التمريض المتخصص الشهير الذي أُنشئ في عام ١٨٧٢؛ حيث كانت الشرطة تودع «الأفراد المشتبه في إصابتهم بمرض عقلي» لإخضاعهم للملاحظة. ولقد حوَّل الدكتور سوبيران هذه الجولة إلى رواية12 قد تتسم حبكتها ببعض الشحوب، ولكن تكمن قيمتها في الوصف الذي تقدمه لهذه الحياة داخل المصحة. في قسم التمريض المتخصص، يوضع المرضى بالطبع في زنازين، ثم يحل موعد زيارة كبير الأطباء بصحبة مساعده وكبير المراقبين واثنين من الممرضين. «يدوِّي صوت فتح الأقفال، ثم يُسمع سؤال: «كيف الحال؟ ما الجديد؟» موجه سؤاله ليس للمريض وإنما للحارس. وبعد انقضاء الوقت المخصص لرد الحارس وتقرير الطبيب المتدرب، يُسمع صوت غلق الباب والأقفال. وتُستَكمَل الزيارة بهذا المعدل السريع.»

في الظهيرة، تبدأ «خدمة الطاولات» المخصصة للمرضى في النظام العادي، ويَليهم النزلاء من أبناء «الطبقات العليا». تضم مصحة بون سوفور بكاين خمس درجات، وتختص الدرجة الخامسة بمرضى المنطقة. أما الأربع الأُخَر، فتُقَدَّر تكلفة الإقامة وفقًا لوجود طاقم للخدمة ومكان إقامة مريح وقوائم طعام متنوعة. ويُقدَّم الطعام لنزلاء الدرجتين الأولى والثانية في حجراتهم، بل في «أجنحتهم». ولا يتناول المرضى الوجبات جماعيًّا إلا ابتداء من الدرجة الثالثة. «وأيضًا تتسم مائدتهم بالوفرة.» بالنسبة إلى الدرجة الرابعة، «تكون وجباتهم وفيرة أيضًا ولكن دون تكلف أو مبالغة.» وسنهتم بدراسة ماذا كان يأكل أو ماذا كان من المفترض أن يأكل مرضى الدرجة الخامسة. وتحدد اللائحة الداخلية لعام ١٨٥٧ بدقة شديدة قوائم الطعام والكميات (والتي تكون قليلة أيام الجمعة والسبت، ودسمة باقي الأيام). نظريًّا، تبدو الوجبات كافية، خاصة بالمقارنة مع ما كانت تأكله الطبقات العاملة خارج المصحة: في الظهيرة، يُقدم طبقان أحدهما به لحم والآخر خضراوات أو بيض أو جبن؛ وفي المساء، حساء أو مرق لحم (يُقدم ما يعادل ٢٥٠ جرامًا من اللحم يوميًّا)، وأيضًا طبقٌ من الخضراوات الطازجة أو المجففة. وعلى مدار وجبتي الظهيرة والمساء، يُقدَّم الخبز (ما يعادل ٦٠٠ جرام يوميًّا) والنبيذ (ما يعادل ٠٫٦٠ لتر يوميًّا، ويمكن زيادة الجرعات بنسبة ٠٫٢٥ لتر للعاملين من الجنسين). وطوال مدة حكم النظام القديم، ظل الخبز واللحم سائدين في نظام التغذية. والأمر كذلك بالنسبة إلى النبيذ الذي كان يُقدم بكميات قد تكون مفاجئة (في البلاد المنتجة للكروم، كان يمكن للنزلاء إحضار النبيذ الخاص بهم). ويمكن تفسير هذا التساهل الشديد — على الرغم من أن إدمان الخمور يعد أحد أهم أسباب الاحتجاز داخل مصحات الأمراض العقلية — بأنه في ذلك العصر كان هناك فرق واضح بين النبيذ «كمشروب للطاقة» أو «مشروب صحي» (وقد ينضم إليه الجعة وخمر التفاح في بعض المناطق) الذي يَمنح لمرضى الأمراض العقلية المزيد من القوة؛ وبين «المشروبات الكحولية» (القوية) التي تُعرف بأضرارها. لم تُفَنَّد هذه المسألة الخطيرة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن يجب ألا ننسى أن المياه ذاتها (التي تأتي من الآبار) كانت حينها مشروبًا خطيرًا لكونها تنقل التيفويد والكوليرا.

يبقى الآن السؤال عما إذا كانت هذه الوجبات المحددة بالجرام كانت تقدم بالفعل للمرضى. يُظهر المفتشون العموميون تشككًا واضحًا إزاء هذا الأمر: «كنا عادة إذا لاحظنا — خلال جولاتنا التفتيشية — عدم كفاية كمية اللحم المقدمة للمرضى، كانوا يُجيبوننا بأن المرضى ربما يحصلون على أكثر مما يكفي؛ ولذلك فهم يتركون أو يلقون بعضها. ولكن في الواقع، نادرًا ما يحدث هذا إذا كان اللحم من نوعية جيدة ومطهيًّا ومتبلًا جيدًا.»13 (إنها مسألة الإسراف نفسها سواء في الشراء أو «الاستقطاعات» التي تتم داخل المطبخ.) وتنعي جولة تفتيشية أخرى أن ما يتبقى من مائدة المرضى النزلاء يُقدَّم للمرضى الفقراء. كما أنه عادة ما يكون طول المسافة بين المطبخ وصالة الطعام سببًا في تناول الطعام فاترًا وليس دافئًا. ولقد اشتكى بالفعل بعض المرضى من هذا الأمر في مراسلاتهم الخاضعة للرقابة بالطبع. هناك بالتأكيد بعض منها يصل، ولكن تكون نسبتها ضئيلة للغاية كما سبقت الإشارة. وفيها يروي المرضى بشكل خاص مدى تعسف احتجازهم، ولكن ما يهم في هذا الجزء هي التفاصيل التي يروونها حول حياتهم اليومية داخل المصحة. وبالتالي، يصف أحدهم — جرى احتجازه لمدة سبعة وخمسين يومًا عام ١٩٠٢ في مصحة شارنتون قبل اتخاذ قرار باعتباره غيرَ مريض (هناك بالفعل حالات من هذا النوع) — «العار المعتاد» الذي يَصِمُ المؤسسة: «دائمًا ما نجلس في صالة الطعام الكئيبة، حيث تفوح من المطبخ رائحة كريهة تملأ الهواء الخانق. كانت رائحة سيئة وقوية تشبه الغسيل وبقايا طعام محروق. يا للقرف! كم كنت أتمنى أن أهرب منها […] لا توجد أطباق، ويُقدم الطعام في أوانٍ بشعة على هيئة أطباق صغيرة مستديرة لها أطراف عملاقة. كنت أرى أمامي كتلة سوداء تسبح في سائل أبيض مائل للاخضرار، يشبه أنقاض «بازار الصدقة» بعد أن داهمه الحريق. وفي طبق آخر، كانت توجد مكرونة على هيئة شرائط متلاصقة، ذكرتني بمحتويات أواني الصيدلي. وكانت هناك قطعة خبز إلى جانب هذه الأشياء البشعة؛ التي لم أبدأ في تناولها إلا بعد مضي بعض الوقت. إلا أنني كنت أبذل جهدًا لمضغ الخبز ولبابه الذي يشبه الصمغ وقشرته المطاطية كالجلد. واحتسيت رشفة من زجاجة نبيذ لها طعم يشبه الحبر الممزوج بالخل […] كان اللحم قاسيًا وله مذاق يصعب وصفه، فمن المستحيل التمييز بين لحم الثور والضأن والعجل. فهذه القطع من الأعصاب والعظام اللزجة تكون مغطاة بخليط أبيض أو بني غامض ذي رائحة ومظهر وطعم يثير التقزز. وحتى الخضراوات، التي عادة ما تكون فاسدة، فإنها تأتي مبللة بمياه لزجة. مرتين في الأسبوع، يكون هناك ثمرة كمثرى أو تفاح فاسدة على سبيل التحلية.»14 من المستحيل أن يقترب هذا الوصف من القوائم الرسمية المكتوبة.

ويجب أن نأخذ في الاعتبار الجو العام لصالة الطعام … بالطبع، يكون هناك عدد من المرضى الذين يتسببون في فوضى رهيبة ولا يأكلون حصصهم. بالإضافة إلى المرضى شديدي الهياج أو المصابين بالشلل غير القادرين على المضغ، وبالتالي يجب إرغامهم على شرب اللبن أو الحساء والمرق أو الطعام المهروس ولو حتى بصعوبة. وفي المقابل، يخشى المرضى الشرهون من أن يسرق أحد طعامهم، فنجدهم يبلعونه مرة واحدة لدرجة تجعلهم يقاربون على الاختناق؛ ولذلك، فإنه من المعتاد أن يكون للحارس عصا محنية تسهل له إخراج الطعام الذي يسد التنفس لدى أي مريض. ولكن يستدعي هذا الأمر ملاحظة سريعة؛ ولذلك يكثر وقوع بعض هذه الحوادث المميتة. بينما يرفض بعض المرضى تناول الطعام، إما لاعتقادهم أنه مسمم، وإما لاعتقاد بعضهم أنهم موتى بالفعل، وإما لإصابة بعض المصابين بالهذيان المتعلق بالحواس بانسداد الأمعاء أو إنهاك المعدة، إلى جانب بعض المرضى في حالة من الوهن تعجزهم عن الإمساك بالملعقة ورفعها إلى فمهم. ومن ثم تكون حياتهم في خطر؛ ولذلك يموت الكثير منهم بسبب نقص التغذية على الرغم من المراقبة.

إلا أن كل الوسائل تستخدم لحملهم على تناول الطعام: من توسلات وتهديدات وحتى استخدام القوة في النهاية. في منتصف القرن التاسع عشر، كانت تستخدم «الزجاجة-المكممة» لتجنب استخدام القوة لفتح الفكين بواسطة ما يشبه اللجام. و«الزجاجة-المكممة هذه عبارة عن أداة خشبية تثبت اللسان بقوة وتُثبت خلف الرأس بلجام من المطاط.» يوضع المريض عقليًّا في مغطس مغلق، ويتم إرجاع رأسه إلى الخلف لربط «الزجاجة-المكممة»، «وإذا رفض المريض الشرب مباشرة، يُمَرر سلك فضي داخل الزجاجة يتيح وصول السائل إلى اللهاة، ثم يُسد الأنف ليصبح المريض مجبرًا على البلع رغم إرادته.»15 وينتقد الدكتور بلانش — مدير المشفى الباريسي الشهير وطبيب الأمراض العقلية المعروف — بقسوةٍ هذه الممارساتِ «الوحشيةَ»،16 كما يعيب تقرير عام ١٨٧٤ من جانبه أنه في بعض الحالات — حتى وإن كانت نادرة — تُنزَع سن أو أكثر للمرضى للسماح بدخول المسبار داخل فَمِهم: «إنها وسيلة وحشية لا يسعنا الموافقة عليها.» ولكن، سرعان ما أصبح المسبار البلعومي هو الوسيلة المتفق عليها في كل مكان. فكان يجري إدخاله عن طريق التجويف الأنفي وحتى فتحة الحنجرة، وفي بعض الأحيان حتى المعدة. وهناك العديد من المرضى الذين يقبلون تناول الطعام فقط خوفًا من المسبار، فليس هناك ما يمنعه من الأكل، ثم التوجه مباشرة إلى دورة المياه ليتقيأ كل ما أكله. في النهاية، من لا يريد أن يأكل فلن يأكل، وسنرى لاحقًا أثر هذا الأمر على نسبة الوفيات.
تدوم فترة الراحة والترفيه التي تعقب ذلك ساعة ونصف. بحلول الساعة الواحدة والنصف، بينما تعج المصحة بضوضاء الغسيل والتنظيف، ويستعد النزلاء من المرضى الأغنياء للتنزه في الحدائق وللألعاب الاجتماعية، يتوجه المرضى العاملون إلى ورش عملهم. أما المرضى العاجزون عن العمل، فإنهم يعودون إلى القاعة المشتركة (غرفة التدفئة القديمة؛ وسميت كذلك لأنها قديمًا كانت هي الغرفة الوحيدة التي بها جهاز للتدفئة). «يمكث هناك ثلاثون رجلًا لمدة اثنتي عشرة ساعة يوميًّا […] وفي غضون لحظات، أخرج من معي على الطاولة جميعَ أدواتهم السرية من علب ألوان وقوائم وآلة لف السجائر، وبدءوا في العمل. ونظرًا لأنه لم يكن مسموحًا لنا باستخدام أعواد الثقاب؛ كان يوقَد قنديل غاز طوال اليوم لنتمكن من إشعال السجائر. وعلى الفور أحاط به البُلْه، وأخذوا يذيبون الغراء للقيام بأعمال غاية في الأهمية، مثل تغطية نشافة المكتب بورقة نظيفة عن طريق لصق ورقة أخرى فوقها لئلا تتسخ، وأخرى على الورقة الثانية للسبب لنفسه. بينما انشغل آخرون برصِّ أعقاب السجائر فوق جهاز التبريد. ومضى آخرون يتشاركون في هدوء في بعض جرائد الأطفال.»17

تدق الساعة السادسة في الصيف أو الخامسة في الشتاء معلنة موعد وجبة المساء — مثل جميع المصحات — والتي تتكرر فيها كافة مراسم الوجبة الصباحية. وتتلوها استراحة أطول. ويكون هذا هو وقت السلام النسبي؛ حيث يخرج المرضى المسالمون — قبل التوجه إلى المهجع — للعب الورق أو الشطرنج أو الدومينو. بينما يُحظر القمار بأنواعه كافة بتاتًا، إلى جانب أنه يُمنع اللعب مع الحراس. لدى الرجال، يمكن إشعال الغليون أو السيجارة (في الواقع يكون الحارس هو من يشعلهما؛ لأن الثقاب والقداحة من الأشياء المحظورة تمامًا). بينما تعمل النساء في التطريز أو التريكو. أما المرضى الأغنياء — الأكثر ثقافة — فيمارسون القراءة. كما تتميز وسائل الترفيه عندهم بنوع من الرقي، فيمتلكون طاولة للبلياردو وبيانو. تفتخر مصحة شارنتون — من بداياتها — بروعة مكتبتها. إلا أن المكان — على حد وصف بعض الشهادات — يبدو أبعد ما يكون عن السكون؛ حيث يقرأ العديد من المرضى بصوت عالٍ، بل ويصيحون، بينما قد يتشاجر آخرون مُلقِين بالكراسي والكتب.

وبحلول الساعة الثامنة في الصيف أو السابعة في الشتاء، يجب أن يكون المرضى جميعهم في الفراش. وتتلى صلاة قصيرة قبل الشروع في هذا الحدث الأخير في اليوم. ويعد هذا الأمر وقتًا صعبًا للحراس الذين يتعين عليهم «التأكد من خلود مرضاهم إلى النوم بلياقة وهدوء قدر الإمكان.» فيجري التفتيش على الملابس وإغلاق مكان حفظها بالمفتاح (فمن الصعب الهروب أثناء ارتداء ملابس النوم). كما تُغلَق النوافذ والأبواب بعناية. إلا أن مفهوم الفراش لا يزال يُحدث جدلًا؛ فقبل انتشار الفراش الحديدي في كل مكان، كان السرير الخشبي المقوَّى هو السائد، وكان يحتجز المريض بالمعنى الحقيقي للكلمة. في المقابل، حولت بعض المصحات الخاصة هذه الأسرَّة إلى نوع من الخزانات الشفافة التي تغلق بمفتاح طوال الليل، وبالتالي فهي تترك مكانًا لمزيد من الأسرَّة داخل المهجع. إلا أن هذا النظام لاقى هجومًا بالإجماع من المفتشين، مثله مثل نظام الستائر الذي كان «يمنع تجديد الهواء ويجعل المراقبة أكثر صعوبة».

يتنافس أطباء الأمراض العقلية في المهارة، ويسعون للتعريف باكتشافاتهم في الدوريات الطبية المختلفة. ولقد وضع الطبيب ليلو بمصحة سالبيتريير تخيلًا لفراش مخصص لمرضى الصرع. فكان فراشًا معدنيًّا شديد العمق (يشبه الجرن)، ويمكن نزع وتركيب جانب الرأس وجانب القدمين لإخراج المريض أو إدخاله بسهولة. «وتوضع عليه وسادات سميكة، ويمكن ترك المرضى فيه أثناء أعتى النوبات التي قد تصيبهم دون أدنى خطر عليهم.»18 أما فيما يتعلق بإجبار الخرِفين على النوم، فلقد خُصصت الكثير من المؤلفات لهذا الصدد. وفي غالبية الأحيان، استُخدِم سرير يمتلئ قاعُه بأخاديد يؤدي منحناها إلى ثقب يسمح بخروج البول إلى داخل درج من الزنك. في المجمل، يكون القاع مصنوعًا من القش الرقيق، «وليس من القش الخشن لئلا يجرح المريض».19 ولا يساعد هذا النظام إلا على حل مشكلة التبول بالطبع.
لا تمتلك معظم المهاجع نظامًا للتدفئة، ما عدا المخصصة للتمريض: «لا توجد ضرورة لتجاوز الخمس عشرة أو الست عشرة درجة مئوية، ويجب قدر الإمكان ألا يهبط مؤشر الحرارة عن اثنتي عشرة درجة مئوية.»20 وتشهد اللوائح — التي تذكِّر الحراس بأن المرضى يجب ألا يتعرضوا للبرد بسبب أضراره وخطورته — بغياب نظام التدفئة الموجود لدى غالبية الفرنسيين في ذلك الوقت. في عام ١٩١٧، نجد شقيقة أحد المرضى الأغنياء بمصحة بون سوفور بكاين تشكر بشدة المدير لموافقته على منح أخيها غرفة مدفَّأة طوال فصل الشتاء، في مقابل زيادة مائة فرنك. وتخضع أجهزة التدفئة — إن وجدت — لحراسة مشددة. وتوضح رسوم دانييل فيرج الأخاذة عن مصحة سالبيتريير أن هذه الأجهزة كانت محاطة بشبكات ساخنة ضخمة. وداخل المصحة، لا تكون المأساة مستبعدة؛ «ففي عام ١٩٠٠، بمصحة فيلجويف، نجحت إحدى المريضات في فتح باب الشبكة، وذهبت لتجلس بملابس النوم على القدر الضخم المشتعل، فاحترقت حية.»21

كان الالتزام بالتوقيت اليومي شديدًا، وأيضًا بجدول العمل الأسبوعي والشهري والسنوي. يبدأ الصيف في الخامس عشر من مايو، والشتاء في الخامس عشر من أكتوبر. كان من الممكن أن تندلع حروب وثورات أمام جدران المصحة دون أن يتم المساس بأي شيء في الحياة اليومية بالداخل. فانتظام الأمور والوقت هو أول علاج لفوضى العقول. كل يوم جمعة، يحين موعد حلاقة لحَى وشعور المرضى وتقليم أظافرهم. وأيام السبوت وليالي الأعياد، تُخصص لتوزيع بياضات الأسبوع وملابس يوم الأحد. تسهل الأزياء الموحدة للمرضى عملية المراقبة، بفضل غطاء الرأس المميز الذي يختلف من مصحة لأخرى. يكون هنا عبارة عن قبعة أو منديل للرأس، وهناك طاقية أو قطعة قماش. وفي الأقدام، يتم ارتداء أحذية بدلًا من القباقيب الخشبية التي قد تتحول — في يد مريض عقليًّا مهتاج — إلى سلاح خطير.

يسمح للمرضى، يوم السبت كل أسبوعين، بكتابة مراسلاتهم، ولكن بالطبع يُمنع المصابون بهوس الكتابة من حضور هذا اليوم؛ لكيلا يسترسلوا في إخراج هذيانهم الطويل على الورق. وتستعيد جهة الرقابة على الرسائل كل هذه المراسلات دون صعوبة، كما تمارس مراقبة قاسية على أي مراسلات غير مصرح بها؛ لكيلا تتسبب في قلق العائلات التي يكون تدخلها ضارًّا في بعض الأحيان، ولا سيما حينما تستقبل خطابًا سريًّا من مريضها يدعي فيه شفاءه ويدعوهم لإحضاره من المصحة على وجه السرعة. في الواقع، تمنع الرقابة دخول أي بريد سري، مثلما تشير جهة التفتيش على الطرود إلى وجود حركة للتهريب تقوم بها العائلات بانتظام أثناء الزيارات.

عادة ما تكون للزيارات العائلية أثر كارثي على المريض: «كان هناك نوع من التحسن، إلا أنه عقب زيارة تطفلية قامت بها أسرتها، أصيبت السيدة بحالة ذهول ولامبالاة وصمْت لم يستطع شيء إخراجها منها. فلم تعد تعتني بنفسها، بل وأصابها نوع من الخرف» (مصحة بون سوفور — عام ١٨٦٣). وفي الأغلب تُسبب هذه الزيارات نوعًا من الاهتياج للمريض؛ ولذلك لا يَسمح بها كبير الأطباء إلا في أضيق الحدود. وتتم فقط في بهو الاستقبال أو في الحدائق خلال الفصول ذات المناخ الجيد وتحت إشراف أحد الحراس. ويجب أن تتوقف فور ظهور أي أثر اضطراب على المريض.

وعلى النهج نفسه، تُعطى تصريحات الخروج (داخل نطاق العائلة فقط) بالأحرى بتضييق شديد، ولم تُتَحْ أبدًا إلا في بداية القرن العشرين. ويجب — من أجل الحصول على مثل هذه الميزة — أن يكون المريض قريبًا بالفعل من الشفاء ومن مرحلة الخروج. وتكون مدتها وجيزة للغاية، بل وتقتصر في بعض الأحيان على يوم واحد؛ مما يجبر المريض على العودة إلى المصحة قبل حلول الليل. أما تصاريح الخروج الأطول، فتكون هناك تجارب قبل التصريح بخروج المريض. وفي جميع الأحوال، يجب أن يكون أحد أفراد العائلة ضامنًا للمريض، ويعد تصريح الخروج أحد أكثر الوثائق إلزامًا: «سيادة المدير، أرجو التكرم بإخراج والد زوجتي — السيد س. — اليوم لقضاء اليوم معنا، وأتعهد بمراقبته، وأخلي المصحة من أي مسئولية تجاهه. كما أتعهد بإرجاعه في ذات اليوم قبل الساعة السادسة مساءً.» على ظهر البطاقة عادة ما يكتب إشارة كاملة موجهة بوضوح إلى الشرطة في حالة هروب المريض توضح: العمر، الطول، ولون العيون والشعر، والملابس: «معطف رمادي قديم، وبنطلون أزرق قديم ولكن في حالة جيدة، أحذية عمل بأربطة وواقيات للساق من الجلد وقبعة من القش (بالمصادفة يكون ارتداء القبعة هو علامة يوم الأحد).»

لا تكون اتصالات المريض مع الخارج (العائلة فقط) إلا في أضيق الحدود، بل ولا تشكل حقًّا له أمرًا كبيرًا: فيمكن لمريض أن يجد نفسه ممنوعًا من أي علاقات مع العالم الخارجي لشهور أو لأعوام، بل ولعقود. و«العالم الخارجي» هو كلمة سحرية، كوكب بعيد بالنسبة إلى من يقيمون بين جدران مصحة الأمراض العقلية.

حفلة راقصة للمريضات عقليًّا

على خلاف النظام الصارم للحياة اليومية في المصحة، وفيما قد يبدو كصدًى بعيد لأعياد المجانين في العصور الوسطى، كان إقامة حفلة راقصة للمريضات عقليًّا تبدو كنوع من الترويح السريالي عن النفس؛ حيث يكون الجنون هو محور الاحتفال. وتبين لنا بعض الرسومات من نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر «الحفل المقام للمريضات المصابات بالهستيريا في مصحة سالبيتريير». وفي إحداها، تظهر مريضة كبيرة مصابة بهستيريا شديدة وهي تلوح بما يشبه عصا الطبلة الكبيرة وتفتتح بقوة عرض الحفل التنكري. وفي رسم آخر، تظهر بداية الحفلة في جو من البهجة والنظام. وفي الخلفية، تقف الحارسات بقبعاتهن وملابسهن البيضاء ليرقبن القاعة، إلى جانب الأطباء بزيهم الأبيض فوق ستراتهم. وفي المقدمة، على اليمين نلحظ، بصعوبة، حارستين تصطحبان مريضة في حالة هياج شديد، وإن ظلت متماسكة مكتفية بتسديد ضرباتها إليهما.

كل هذا قد يكون موضوعًا للوحات تصويرية متعارف عليها، إلا أن الأمر ليس كذلك. ففي عام ١٨١٢، أقيم حفل للمرضى بمصحة شارنتون انتقدته مذكرة دعوى قضائية في ذلك الوقت بشدة:22 «أما بالنسبة إلى الحفل الذي يعقد كل خميس، فإنه ضرب من المبالغة لا يضاهيها شيء […] ففي المصحة — التي يجب فيها إضعاف الأهواء التي سببت المرض — لا يتورع من هناك عن إذكائها بالجمع بين الجنسين وتحت تأثير الموسيقى والرقص والتلامس والأوضاع المختلفة … إلخ! ومن يقمن بالرقص هن النساء الأكثر استثارة من الناحية العصبية وخاصة المريضات بالهيستريا والهوس الجنسي!» على العكس الحفل المقام في سالبيتريير لأفراد الجنس الواحد، يجمع شارنتون باستخفاف بين الرجال والنساء. في عام ١٩٠٠، يذكر مدير المصحة أن هذه الحفلات قد استمرت فيقول: «سيصدم الغريب من الزي الرائع ومن التنسيق الشديد للراقصات والفرسان. وباستثناء حالات نادرة ترجع إلى نوبات مفاجئة، يدور كل شيء بالشكل الأمثل.»23 لا يرى الجميع الأمر بتلك النظرة المثالية نفسها: «تجلس سيدة على البيانو تحرك أصابعها بطريقة تشبه تلغراف «شاب»، وتعزف رقصة البولكا، بينما أخذ عدد قليل من المخبولين يدورون بوتيرة واحدة […] فكان مشهدًا مثيرًا للشفقة أكثر من كونه حفلًا، كان حفلًا كئيبًا. يظل بعض ممن يرقصون الفالس يقفزون بصورة رهيبة، وفي كل لفة، يرتطم فكَّا أحدهما محدثًا صوتًا تعسًا. بينما يحرك آخر من اليمين إلى اليسار عينيه التائهتين، موجهًا في ذات الوقت «لامرأته» عبارات رقيقة، بل وقد تكون غزلية […] وعلى الضوء المرتعش الباهت لقناديل الغاز الرديئة، تكتسي القاعة بجو كئيب. ولقد لاحظت أنه كلما ازداد اضطراب عقل المريض، ازداد استمتاعه بالحفل. في حين تستحوذ على المصابين بالخرف السلمي — وهم الأكثر عددًا في القاعة — حالة من الكآبة تشق على النفس رؤيتها. وتمكث غالبية المريضات في صمت، جالسات في صفين وكأنهن في قداس. قد تتمتم بعضهن بصوت خافت بعبارات كالصلوات. أما من يرقصن فيبدو عليهن التيه، ويوحي شكلهن بوضعهن المقلق.»24
ويتذكر ماكسيم دي كامب هو الآخر حفلًا للمريضات بمصحة سالبيتريير: «مرة أخرى حضرت حفلًا تنكريًّا للمريضات عقليًّا، حيث فُتح له متجر الملابس، وتنكرت كل منهن على ذوقها في زي ماركيزة أو بائعة حليب أو مهرجة. عادة ما يكون جنون النساء أكثر إثارة من جنون الرجال، الذين يصبحون أكثر عنفًا أو انغلاقًا، يفكرون حتى في ظل غياب عقلهم. أما النساء، وهن الأكثر انفتاحًا فالواحدة منهن تبالغ في دورها، تتحدث وتومئ وتروي قصصًا، وكأنها تفتح منذ الوهلة الأولى أبواب كل خبايا وأسرار جنونها. وأذكر في تلك الليلة رؤيتي لعجوز حدباء؛ كانت تذهب وتجيء تعاني بوضوح من فرط النشاط الجنسي، فكانت تحوم حول رجلين أو ثلاثة كانوا هناك، وتمد يديها النحيفتين ناحيتهم بتعبير يائس. كان الأمر يسير على ما يرام مع باقي المريضات، كانت إحداهن تدق على البيانو، بينما أخذت ترقص الفتيات القائمات على الخدمة مع المريضات بنظام وضعته بتدقيق إحدى المريضات التي ألبسوها قبعة ذات ريشة كرمز للقيادة. وكانت شديدة الفخر بالمهام الموكلة إليها وبقبعتها البيضاء، وكانت تجول منظمة أي مكان في حاجة إليها.»25
قدمت بعض العائلات شكوى — مثل زوجة أحد المرضى — عند قراءة الجريدة المحلية عام ١٨٩٢: «يذكر المقال أنه بمناسبة الرابع عشر من يوليو، سيُنَظَّم حفل للمرضى والمريضات عقليًّا، للترفيه عن بعض المرضى المميزين، وهم بالتأكيد أكثر رقيًّا وبالتأكيد الأكثر جنونًا بين نزلاء المصحة. وأنت تدرك يا سيدي مدى ألمي بل وغضبي عند قراءة هذا المقال؛ حيث إن زوجي نزيل في تلك المصحة للأمراض العقلية. إني أعترض بشدة على كل من يريدون أن يجعلوا من هؤلاء التعساء، ومن زوجي على الأخص، أضحوكة ومحطًّا لسخريتهم؛ ومن ثم أرفض بشدة أن يكون زوجي ضمن الحاضرين لهذا الحفل الشنيع …»26 إن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.
ولا يكف أطباء الأمراض العقلية ومديرو المصحات عن إظهار تبرمهم من «الملل والكسل اللذين يسودان في أيام العطلات الرسمية».27 وفي سبيل مواجهة ذلك، كانت تُنَظَّم رحلات إلى الريف أو إلى البحر. وتمتلك كل مصحة حافلة للنزهات تجرها الخيول، يجلس فيها المرضى بزيهم المُخصص ليوم الأحد، وعلى سطح الحافلة يستقر الحراس والحارسات بزيهم الموحد، ويقود الحافلة حوذيٌّ من الحراس رافعًا سوطه. وداخل العربة تُخفَى بعض سترات المجانين، «قد يستلزم استعمالها في حال أصيب أحد المرضى بنوبة مفاجئة للسيطرة عليه.»

يسعى من في المصحة أيضًا إلى وضع إيقاع للعام عن طريق بعض الأحداث الاحتفالية، ومن ثم يأتي الدين في المقدمة، مثل موكب عيد الغطاس — والذي يأخذ في مصحة سالبيتريير طابع الأعياد الباريسية. هذا إلى جانب المسرح، الذي تارة يُقدَّم عليه مسرحيات كوميدية قصيرة لممثلين محترفين — مثل ما يحدث في مصحة فيل إفيرارد — أو أيضًا بعض عروض الألعاب الخفيفة. بالإضافة إلى مسرحيات يقدمها المرضى أنفسهم، وتكون نسبتها ضئيلة مثلما في مصحة بيجار في السواحل الشمالية: «حيث يُحتفل بأعياد ميلاد مديرة المصحة أو الكهنة الزائرين كمناسبات للترفيه عن المريضات اللاتي يتدربن بالتنافس مع العاملات على تمثيل بعض المسرحيات القصيرة. ودائمًا ما يتم الترحيب بهذه الجلسات الترفيهية، التي تُمتع الممثلات والمشاهدات لمدة ساعات من السعادة تُنسيهن مدى تعاستهن.»

في مصحة شارنتون، يعد المسرح مؤسسة فعلية، تعود بطريقة ما إلى دور الاحتجاز وفقًا للنظام القديم وإلى ساد، الذي — على الرغم من احتجازه ككاتب إباحي على حد وصف خطاب رسمي مختوم28 — أصبح خلال حكم الإمبراطورية الثانية مخرجًا لعروض مسرحية، بينما كان فرانسوا دو كولمييه مديرًا للمصحة في ذلك الوقت، وكان من المحبين لها بصورة خاصة. إلا أن إسكيرول قد انتقد بوضوح هذه العروض، حتى وإن لم يمثل فيها المرضى بأنفسهم: «إن المريض بالسوداوية يتأثر بكل ما يصدم حواسه، ومن ثم سيتحول إلى غذاء لهذيانه، أما المريض بالهوس، فسيستثار من أسلوب التعبير عن العواطف وحيوية الحوار وتمثيل الممثلين.»29 ويضيف إسكيرول أنه في شارنتون: «لم تكن تقام إلا عروض قليلة ولم تتبعها حالات من الهذيان العنيف أو الانتكاسات.»
ولقد استطاع رواييه كولار — كبير الأطباء بمصحة شارنتون والعدو الصريح للمدير دو كولمييه — استصدارَ أمرٍ عام ١٨١٣ بحظر هذه العروض (وأيضًا الحفلات)، إلا أنه في نهاية القرن التاسع عشر، عاد المسرح إلى مكانته القديمة في المصحات، وكانت العروض تُقدَّم إما عن طريق ممثلين وإما يقدمها المرضى أنفسهم. في عام ١٩٠٠، وقف مدير مصحة شارنتون مدافعًا: «لم تعقب هذه العروض ولو حالة واحدة من الانتكاس أو نوبات ثورة. ويُظهِر النزلاء — بعد كل سهرة مسرحية — ليس فقط رضاهم بل ورغبتهم في المزيد. وإذا كان الأمر مختلفًا، فإن الأطباء لم يصروا على عودة هذه العروض التي يعتبرها الجميع عيدًا حقيقيًّا.»30 وانتقد أيضًا «تلك الأسطورة المبالغ فيها، تلك الأسطورة المقدسة التي ترجع إلى أكثر من قرن!» (متحدثًا بالطبع عن إسكيرول). ويشير أيضًا إلى سعادة «النزلاء» بهذه العروض التي تشحذ من قدراتهم على التخيل. «لا توجد مؤسسة تهتم بالترفيه مثل المشفى الوطني، الذي يتفنن في إبداع مزيد من العروض والأعياد والبرامج المختلفة.» وكأن كولمييه بُعث من جديد في شارنتون.
وفي خضم هذه الخلافات، كان للموسيقى وضع خاص. ألَا يتفاخر الجميع منذ العصور القديمة بالآثار الجيدة للموسيقى واللحن على النفس؟ وعلى نهج الأطباء التقليديين للأمراض العقلية، يبدأ إسكيرول بالقول إن «القدماء بالغوا في تقدير آثار الموسيقى، مثلما بالغوا في أشياء أخرى كثيرة»، ولكنه يضيف أنه يجب عدم إهمالها على الرغم من ذلك. على أي حال، فإن جميع الأطباء اتفقوا على أن الموسيقى — حتى وإن لم يكن لها آثار علاجية مؤكدة — تمتلك تأثيرًا ترفيهيًّا وصحيًّا على المرضى عقليًّا. وكانت جميع المصحات تمتلك بالفعل فرقة ومدرسة للموسيقى، مثل مصحة بيستر؛ حيث كوَّن ديزيريه بورنفيل (١٨٤٠–١٩٠٩) فرقة من البُلْه والمختلين. وبلغ الأمر أن هناك مصحات تخصصت في هذا الأمر، مثل مصحة كاتر مار؛ حيث تتغير حال العازفين تمامًا أثناء العزف: «فتتبدل نظرات بعضهم من الكمد إلى الذكاء، بينما يدب آخرون بأرجلهم لتحديد الإيقاع بانتظام وقد اكتسبوا وقفة أكثر اعتدالًا وحيوية؛ مما يدل على أن العقل يخضع للتأثير الرقيق للموسيقى.»31

ومما لا شك فيه، أن الموسيقى والدين يتماشيان على الوجه الأكمل، على حد ذكر تقرير عام ١٨٧٤: إن وجود الكنائس في المصحات لا يهدف فقط إلى ممارسة المرضى للعبادة (فرأينا مدى الحرص في السماح للمرضى بهذه الممارسة)؛ وإنما لأن ممارسة العبادة، خاصة بمصاحبة الموسيقى والترتيل، لها أثر نافع لعدد من المرضى. وبالتالي، تمتلك الكنائس مكانًا للموسيقى في معظم المستشفيات.

الساحات

ولكن من هم هؤلاء المرضى عقليًّا؟ سيحين قريبًا وقت دراستهم من الناحية الطبية (ففي النهاية، هذا هو سبب احتجازهم في مصحات الأمراض العقلية)، ولكن لنلاحظ أولًا كيف يبدون داخل المصحة. على غرار بول كلي — صاحب عبارة أن الفن لا يعيد إنتاج ما هو مرئي وإنما يجعله مرئيًّا بالفعل — استطاع قليل من الكُتاب أن يجعلوا من المرضى في المصحات العقلية أمرًا مرئيًّا. فقد استيقظ، يوم السبت الرابع من أكتوبر ١٨٥٦، جول باربي دورفيلي مبكرًا؛ لأن الدكتور فاستيل — كبير الأطباء بمصحة بون سوفور — «سَيُريه بعض المجانين»، وعلى وجه الخصوص الفارس دي توش، ويريد دورفيلي كتابة قصة حياته. اجتاز باري ساحات المناطق المختلفة المخصصة للرجال: «كما أنه في الواقع الإنساني، تكون العواطف الكبرى نادرة، فإن حالات الجنون العنيف هي الأقل شيوعًا بين مرضى المصحات العقلية. كان أكثر ما صدمني، بل واخترقني وترك في نفسي انطباعًا لا ينسى، هم المجانين التعساء. كان هناك الكثيرون منهم بين المرضى الآخرين البُلْه الذين لا يكفُّون عن الثرثرة والابتهاج، وكانت لديهم حالة من اليأس والضعف والكآبة ذكرتني ببعض الأبيات التي كتبها دانتي في «الجحيم»، من بين كل الأشياء الحزينة، لم أرَ من قبل ما هو أكثر حزنًا من ذلك. كانت أوضاعهم غريبة جديرة بأن يدرسها نحات! وكأنهم عمدان أو أضرحة! كل هذا يلتحف بطابع أسميه — دون أن أقترب من التعبير بالفعل عما رأيته — حدة الألم التي تتخطى الإنسانية. إنها بالفعل تتخطى الإنسانية؛ لأن الإنسانية قابعة في نطاق الذكاء والإشراق. ما أعجب هذه الجبهات المنحنية والأعناق الممدودة على الصدور، والأيدي المتشابكة فوق الرءوس، وطرق الجلوس على الأرض أو الالتصاق بالجدار أو إخفاء الوجه بين الكفين أو الركبتين!

[…] في النهاية، رأيت البطل الذي أريده، الذي أتيت خصيصى إلى المصحة لمقابلته. كان جالسًا على مقعد حجري أسفل رواق المعرض الذي يضفي على المصحة طابع السجون القديمة. جاءه الطبيب وناداه باسمه، فنهض من مكانه وحيانا بأدب جم، وأراد الطبيب — الذي استمر في محادثته — أن يبين لي ماذا أصبحت حال هذا العقل الذي أطاحت به طلقات الرصاص، والذي تساوي لديه الآن طلقة واحدة ما هو أفضل من الحياة. كان دي توش فاقدًا للعقل تمامًا، ولكنه كان من القوة البدنية أبعد ما يكون عن البلاهة […] تركناه وهو يهلوس، ولكن بعبارات منتقاة، بسيطة وصحيحة، وكأن التربية القديمة تفرض لغتها حتى على الجنون. تركنا بأدب، مثلما استقبلنا، عاد إلى مقعده أسفل القنطرة الحجرية. عدت لرؤيته مرة أخيرة، كان هادئًا، وإن زادت سرعة تنفسه، كانت عيناه — الزرقاوا اللون مثل البحر الذي طالما تأمله في فترات الهدوء والعاصفة والضباب — مثبتتين في شرود على أسوار الحديقة المزينة بالورد الأحمر، وإن لم يبدُ عليه أنه كان يراه أصلًا!

[…] ومن أكثر المشاهد المؤثرة التي عدت بها من هذه الزيارة — وهي من أكثر ما أثارني — كانت هيئة كاهن شاب وحالته وجنونه الهادئ غير الملحوظ، كان يبدو كأنه يحلم، وليس كمن هو مصاب بالجنون، مستندًا إلى الحائط في الحديقة حيث الشمس فقط. كان الجو به غيوم — كما أحبه بالضبط — وكان يتماشى مع زهور الحديقة ومع هذا الشخص الهادئ. كان طويلًا وكان لونه أبيض شاحبًا مرتديًا طاقية من المخمل الأسود، وكان في حالة من الاستسلام والتِّيه، وإن بدا عليه التفكير … ولكن يفكر في ماذا؟ كان هذا هو الكاهن إم … لم أُرِدْ أن أسأل الطبيب عن جنون هذا الكاهن الشاعر الذي يبتسم للحائط. كان يمسك بكتاب صلواته بجانبه بيده البيضاء النحيفة المليئة بالعروق الزرقاء الضعيفة […] بدا لي وكأن الملاك الحارس لهذا الكاهن واقفٌ على الناحية الأخرى من المقعد، ينظر إليه بعينين ملائكيتين دامعتين.»32

وفي سجل آخر، يبين الدكتور سيلين: «كانت المصحة تسمى في المكاتبات «دار الشفاء» بسبب الحديقة الكبيرة التي تحيط به؛ حيث يتنزه المرضى خلال الأيام ذات الجو الجميل. كانوا يتجولون هناك ويبدو عليهم أنهم يحافظون بصعوبة غريبة على توازن رءوسهم، كمن يخشى باستمرار سكب محتوياتها إذا سقطت. وداخل هذه الرءوس كانت تتصادم كافة الأشياء الغريبة والشاذة التي يتمسكون بها بضراوة […] ولم تكن إمبراطورية بأكملها قادرة على نزع هذه الأفكار من عقولهم. فالشخص المجنون هو شخص له ذات أفكار الشخص العادي ولكنها حبيسة رأسه […] في بعض نوافذ قاعات الطعام التي تطل على الشارع، كان بعض المجانين يصرخون أحيانًا أو يثيرون المحيطين بهم، إلا أن الفزع الأكبر كان يبقى قابعًا في الداخل. كانوا ينشغلون به، ويحتفظون به في مواجهة كافة المحاولات العلاجية. كانت هذه المقاومة هي شغفهم» (رحلة حتى نهاية الليل).

عانى هؤلاء المرضى طويلًا من الصدمة النفسية لأولى ساعات الاحتجاز. ربما تكون هذه هي اللحظة الأسوأ حين يكتشف المريض المرضى الآخرين. ويستشعر الفزع من رؤية الناس تعامله كمجنون، بل وحين يكتشف نوعًا ما جنونه بالفعل؛ كل شيء يشكل ضربًا من الرعب: أصوات المفاتيح والأقفال والصراخ والحبس. ويكتب كاهن محتجز في مصحة بون سوفور في عام ١٨٥٤: «يعذبني ما أراه كل يوم وتؤرقني بشدة الصرخات التي أسمعها. ماذا أفعل وسط هذه الضجة وهذا الصخب؟» أما عن مريض آخر أُعيد احتجازه: «فأكثر ما يخشاه هو أن يُوضَع مع المرضى التعساء المصابين بالهذيان ويسبون أثناء نوباتهم … إلخ.»

لا يعتقد الكثير من المرضى أنهم مجانين، ويتساءلون عن سبب وجودهم في المصحة؛ «لأن مصحات الأمراض العقلية ليست مصممة لتضم من لديهم وعيٌ كامل بما يفعلونه.»33 «أعيش بين ما يقرب من مائة رجل، بعضهم بُلْه تمامًا وآخرون مجانين يصرخون ويومئون ويصيحون، إنه جحيم يصيب بالجنون الشخص السليم. أنا لا أنتمي إلى هنا.»34
ولكن الأمر هنا لا يتعلق إلا بالمحتجزين الذين لديهم القدرة على إدراك ما يحدث حولهم. فهناك الكثيرون يصِلون في حالة من الهذيان الكامل مثلما توضح محاضر استقبالهم: «لا أخشى شيئًا من أعلى، فأنا أمتلك أوامر البركة واللعنة.» وهناك مريض آخر يظن نفسه «الإله، ابن الله الأبدي وشقيق المسيح.» كان يسير عاريًا في طرقات بايو، إلى أن قابله شرطيان. ويصل مرضى آخرون في حالة مفزعة: «جاء أحدهم عاريًا لا يغطي جسده بالكاد إلا بقايا ملابس، ولحيته غير مهذبة تصل حتى بطنه، وشعره مفرط الطول في حالة فوضى كاملة يغطيه كمعطف. كان يعيش منذ فترة طويلة في العراء، فارًّا من الأماكن المأهولة بالبشر.»35 وقد يأتي مرضى مغطَّون بالكدمات. كان هناك مرضى مصابون بهياج يجرى تقييدهم حتى تمزق القيود جلدهم؛ وهو الأمر الذي كان يسارع أطباء استقبال المرضى بتسجيله بوعي كامل لإخلاء أي مسئولية عن المصحة. وتجدر الإشارة إلى أن أطباء الأمراض العقلية لم يكونوا يرون في جميع الداخلين مرضى بالفعل: «يبدو هذا الشاب متشردًا وقحًا وكسولًا ذا هيئة قذرة، ولكن صحته النفسية سليمة.»

وبعد ملاحظة شكلية، يدخل المرضى إلى المنطقة التي يحددها لهم الطبيب. في عام ١٨٧٩ في مصحة بون سوفور (تضم حينها ١١٢٩ مريضًا)، كانت النساء الأكثر عددًا، حتى بلغ عددهن ستمائة وستًّا وستين مريضة. وكان الجناح الكبير المسمى نوتردام يضم أربعمائة وثلاثًا وعشرين مريضة وإحدى وعشرين راهبة، موزعات على ما لا يقل عن عشر مناطق: الهادئات (ثلاثة أقسام) والمصابات بشبه هياج، والمصابات بهياج كامل وخرف، والثائرات، والمريضات بالصرع، ومَن في مرحلة النقاهة، والمريضات (قسم التمريض)، والعاجزات والأطفال. بينما حاول جناحا النزلاء إدخال تصنيف يقتصر على الهادئات والمصابات بشبه هياج، والمصابات بهياج كامل. بالنسبة إلى الرجال؛ الذين بلغ عددهم أربعمائة وثلاثة وستين بالإضافة إلى اثنين وخمسين حارسًا وست وعشرين راهبة، فإلى جانب جناحي النزلاء، كان التقسيم كما هو مع زيادة منطقة واحدة للمصابين بالهياج وأخرى للتمريض تضم العاجزين والمرضى.

تمتلك كل منطقة ساحة أو فناءً (ساحة محاطة بممرات مفتوحة). قد تكون هذه الساحة أو الساحات صغيرة. وهناك يكون المكان الذي تتبدى فيه مظاهر الجنون. «خلف الممرض، اجتزت ممرات وساحات أكثر كآبة وإهمالًا من تلك التي أودعت فيها. قبع فيها بقايا البشر يئنُّون ويومئون ويصطدمون في تحركاتهم الفوضوية. جلس اثنان أو ثلاثة على مقاعد بعيون ثابتة وذهن شارد يتفوهون بصوت أجش بعبارات ناقصة تصاحبها حركات غير مفهومة. وفي أحد أركان التقسيم الرابع، لم نستطع المرور بسبب شجار نشب بين المرضى والممرضين. كان أحد المرضى قد تشاجر مع آخر، ورقد على الأرض في حالة من اللاوعي، بينما اختفى خصمه. وخلْفه هرع ثمانية رجال ليقيدوه بسترة المجانين.»36
«للوهلة الأولى، نعرف في أي منطقة نحن بمجرد دخول الساحات، فلا داعي لسؤال الحارس عما إذا كنا في منطقة المرضى المسالمين أو المصابين بالهياج؛ فالحديقة وحدها مؤشر كافٍ. فالحديقة المخصصة للمجانين المسالمين تكون نظيفة، ذات حشائش خضراء لا تدوسها أقدام المتنزهين […] يتحدث فيها المرضى فيما بينهم ويقرئون ويحيون من يمر، أمَّا تلك المخصصة للمصابين بشبه هياج، فتكون نصف مزروعة وتندر بها الورود؛ حيث يتمرغ المرضى على العشب. أما بالنسبة إلى المصابين بهياج كامل، فتكون الفوضى هي السائدة في الحديقة؛ فتنتشر الرمال العالقة بأقدامهم في الممرات، وتتقاطع على الحشائش ممرات رسمتها أقدام المرضى المصابين بهوس السير من الصباح إلى المساء، دائمًا على الخط نفسه، مثل الحيوانات المفترسة حبيسة الأقفاص. بينما تأخذ بعضهم البلاغة، فيمضون يتحدثون بطريقة مسرحية ويكررون العبارات نفسها دون توقف. ويسير آخرون خافضي الرءوس في حالة من التعاسة وأيديهم معقودة على صدورهم بفعل سترة المجانين.»37
ويمثل مرضى هوس السير بالطبع فئة من نوع خاص: «خايلني شيء يسير بسرعة ويغير اتجاهه بسرعة من طرف الغرفة، ويستكمل مساره حتى يصل إلى الركن الآخر، ثم يغير من جديد اتجاهه من زاوية إلى زاوية إلى ما لا نهاية. كان الرجل الذي يسير هكذا مرعبًا، يسير باندفاع شديد بخطوات خفيفة تشبه الحيوانات الحبيسة التي تسير على خطاها نفسها حتى تصل إلى نهاية القفص وتكتشف أنها لا يمكن أن تمضي أكثر من ذلك.»38
ويتم تشبيه مكان مرضى هوس السير — بالمعنى الحقيقي للكلمة — ﺑ «كهف الدببة»: «انظروا! — قال زميلي — إنهم يزينون كهف الدببة. فقلت: «كهف الدببة»، انتبه إذن! فأمام كبير الأطباء والممرضات لا يوجد سبيل للمزاح! إذا أردت أن تستنشق الهواء، فقل: «أنا ذاهب إلى الساحة» أو أفضل قل: «أنا ذاهب للخارج.» وتعتبر الساحة أيضًا نوعًا من السجن […] يسير في كافة أرجائها ما يقرب من عشرين محتجزًا، يضطر حارسان إلى البقاء في القاعة، في حين يتنزه الاثنان الآخران بملابسهما البيضاء وبوجهيهما وافرَي الصحة بين قطيع المرضى البائسين. كان يبدو على الجميع كمن يتنكر لحضور أحد الكرنفالات، فكان ثوب الراهبات موحدًا تقريبًا بلونه الأزرق الباهت مضفيًا على أشكالهن نوعًا من الفكاهة […] وفي خضم هذه التعاسة البشرية، رأيت نظرات ميتة أو مضيئة، نظرات مقلقة أو أخرى توحي بسذاجة خادعة، وابتسامات ساخرة تثير الخوف. ولكنني إذا ما رأيت وجهًا يبدو لي هادئًا وسط هذا الفناء كنت أتساءل عن الهلاوس المفزعة التي تختبئ خلف هذا القناع، مثل تلك المنازل الهادئة التي تخفي في داخلها أعمال السكر والعربدة.»39
لا يوجد مريض يشبه الآخر، فلا يوجد هذيان يطابق الآخر. وإذا رغبنا في المبالغة في التصنيف، فيجب أن يكون لكلٍّ ساحته ومنطقته الخاصة به. «يظلون ثلاثين شخصًا منعزلين، وليس مجموعة واحدة، ثلاثين مجنونًا تعسًا وحيدًا في كراهيته الواعية، كلٌّ منهم يحتمي في جنونه وبؤسه اللذين أصبحا بالنسبة إليه صورة وجهه وقبحه.»40

لنتطرق الآن إلى ساحات المرضى المسالمين، حيث يسعى المصابون بالكآبةِ وعقدةِ الاضطهادِ وذوو النزعات الروحية إلى الوحدة، فلا يتنقلون ولا يعملون ولا حتى يأكلون إن لم يخبرهم أحد. لدى النساء، كانت هناك مريضة «تجلس دائمًا القرفصاء في أحد الأركان بحجة رعاية أبقارها». بينما «ترقد الأخرى على المقعد في الحديقة طوال اليوم، وبمجرد رؤية الطبيب تهرع إليه وتسير معه متمتمة بكلمات غير مفهومة». كثيرون منهم — رجالًا كانوا أو نساءً — يتجولون في صمت كالأشباح، يتحدثون أحيانًا مع كائنات غير مرئية، يقفون دائمًا في مكان معين في الممر أو الفناء ولا يبرحونه أبدًا. بينما يقوم آخرون بجمع الأشياء الصغيرة من الأرض، ويلتقطونها كأشياء قيمة. وهناك مرضى يمكثون دائمًا بالقرب من الأبواب يتصيدون لحظة الهروب. (نجح أحد المرضى بفعل تمثيله لمشهد الهروب كل يوم أن يقنع الحراس بتجاهله، حتى تمكن من الهروب بالفعل.) ويظل آخرون صامتين تمامًا حتى إن وجِّه إليهم أي حديث، ويكون أهدأ أنواع المرضى هم من يظنون أنفسهم موتى بالفعل.

لا يعرف الكثير من المرضى وضعهم بالفعل، حتى أولئك الذين يعتادون عليه: «لا يوجد لديه أي إدراك للمكان، ولا ينفك يشكر الرجال الطيبين الذين يُؤوُونه ويطعمونه دون أن يطالبوه بالمقابل» (١٨٧٤، مريض يبلغ من العمر سبعين عامًا). ويقول كبير الأطباء عن هذا المريض، البالغ من العمر ثمانية وأربعين عامًا: «إنه يظن نفسه في فندق يقيم فيه حتى إقلاع السفينة التي أوفدها إلى الهند.» أما عن هذا المريض ذي الثمانية والأربعين عامًا من نزلاء مصحة بون سوفور، فهو يظن أنه يقيم في «منزل ريفي ساحر».

عادة ما يندرج المصابون بالخبل العقلي ضمن المرضى المسالمين غير المؤذين، لدرجة أن الأطباء ظلوا لفترة طويلة يقولون: إن مكانهم هو دار رعاية المسنين وليس مصحة الأمراض العقلية. إلا أن هذا ليس صحيحًا دائمًا. «إنهم يجلسون معظم الوقت على كراسي كبيرة تتناسب مع عجزهم المهين، غير شاعرين بشيء، وقد عادوا إلى الطفولة الأولى عبر طريق طويل كانت كل خطوة فيه ضربًا من المعاناة، ولكنهم لا يزالون أحياء، كان هذا هو كل ما يمكن أن يقال. وإذا طرأت عليهم مؤقتًا عودة يائسة للنشاط، واستجمعوا شيئًا من قوتهم الخامدة، فإنما يكون هذا لمحاولة إشعال النيران في فُرُشِهم المصنوعة من القش أو خنق حارسهم؛ أي إنه حتى في هذه الحالات يكون المجنون خطيرًا. إنه مشهد أليم: أيمكن أن تموت الروح قبل الموت الفعلي؟ […] منذ بضعة أعوام، كنت في زيارة لمصحة للأمراض العقلية وتوقفت لأشاهد شيئًا ما اتضح لي أنه امرأة. كانت جالسة كحطام على كرسي ضخم — إنه أمر مؤثر — وكان اللعاب يسيل من شفتها السفلى، وارتفع جفنها بالكاد عن عينها ذات النظرة المطفأة، ورأسها الحليق يُظهر العظام. كان يكسوها جلد مجعد، ولها جسم شديد الهزال. ومن وقت لآخر كانت تقول بصوت أجش مسكين: «آه، آه، آه»!»41
ويعتقد العديد من الأطباء أيضًا أن مكان البُلْه والمختلين عقليًّا هو دور الرعاية، وليس مصحة الأمراض العقلية. يكتب ماكسيم دي كامب عن البُلْه الشباب في مصحة بيستر: «عندما نشاهدهم نرى خطأ الخليقة الواضح، ونتساءل لماذا فُرضت الحياة على مثل هذه الكائنات المحكوم عليها بالبقاء في هذا اللاكيان الدائم؟!»42 عادة ما يجري احتجازهم في سن صغيرة، ولذلك يحطمون أرقامًا قياسية في البقاء داخل المصحة (نصف قرن في بعض الأحيان). وينتهي الأمر بالنسبة إلى بعض منهم بالحصول على وضع «مميز» داخل المصحة؛ مثل ذلك الأبله في مصحة بون سوفور الذي حصل على مكان مشمس مخصص له منذ ثلاثين عامًا. وقد تمتد حريات التحرك داخل المصحة إلى كافة أرجائها، بل وقد تفوق حريات الحراس الذين لم يعودوا يراقبونه. ثم سرعان ما نهبط إلى أسفل سلم الحريات: هناك مرضى في مناطق المسالمين لا يخرجون في الصباح والظهيرة إلا للعمل، وهناك أيضًا المصابون بالخرف ومرضى الصرع والمصابون بالهذيان الشديد الذين يحظر خروجهم من منطقتهم، بالإضافة إلى المرضى الشديدي الهياج الذين لا يبرحون غرفة العزل الخاصة بهم؛ أي هبطنا من بضعة هكتارات إلى بضعة أمتار مربعة …

وإذا كانت الساحات المخصصة لمرضى الصرع والخرف هادئة في أغلب الأحيان، فإنها تحتاج إلى مراقبة خاصة؛ فالمصابون بالصرع قد يسقطون من أعلى ويصابون بجروح خطيرة، دون إغفال ميلهم للضرب ولا سيما قبل وبعد نوبات الصرع. فيما يتعلق بالمصابين بالخرف، فإن ميلهم للجنس — الليلي في أغلب الأوقات — قد يصبح نهاريًّا أيضًا. كما يوجد مرضى «قذرون» يلعبون بإفرازاتهم، فيلطخون أنفسهم بها ويلوثون الجدران، ولكن دون ضوضاء أو صوت. وفي بعض التقارير الطبية في بداية القرن العشرين، يتم التحايل على مرض «الخرف» بالقول بأنه «اضطراب السلوك الخاص بالعضلة العاصرة.»

في ساحات المصابين بشبه هياج أو بهياج كامل، سنجد مرضى واقعين فريسة لهذيانهم؛ فهناك المرضى ذوو النزعة الدينية، نجدهم جاثمين يصلون أو يردون على الرؤى والظهورات. فها هو مختل في الثالثة والسبعين من عمره يدَّعي: أن الله يأتيه يحادثه ويعزيه ويرشده، وأنه يسمع صوت العذراء مريم، وأنه يتناول الأسرار المقدسة في روما أثناء أحلامه. ويقضي اليوم كله يتمتم بصلوات ومسبحته في يده. ومريض آخر يبلغ من العمر سبعة وثلاثين عامًا ظن أن «الله يدعوه ليأتي معه، فما كان منه إلا أن الْتَحف بملاءته وقفز داخل المدخنة.»43

هناك هلاوس متعددة، ولكنها عادة ما تكون سمعية، مثل تلك المريضة ذات التسعة والثلاثين عامًا، التي «تسمع أصواتًا بالليل وأثناء النهار، تأتيها العصافير لتحادثها؛ ولذلك فهي تغلق فمها بيديها لكيلا تَدخله هذه العصافير.» وأحيانًا ما تكون الأصوات التي تُسمع قادمةً من الساحة سبابًا وتهديدًا ولعناتٍ؛ لأن زوجها وأولادها ماتوا غرقًا. وكثير من المرضى يسمعون خطوات الجلاد الذي جاء لأخذهم وقيادتهم إلى المقصلة، بينما يسمع آخرون أجراسًا تدق بأسمائهم، ولكنه ليس بالرنين المبهج.

وقد تكون الهلاوس حسية أيضًا: «عند التنزُّه بهذا المريض ليلًا، كان يعتقد أن مبنى التمريض كله يسير معه.» وقد يرى بعض المرضى أشياء غريبة تتحرك في السماء. «هناك مريضة يعيش والدها في منزله، ولكنها تراه وتتحدث معه.» عادة ما تكون هذه الهلاوس الليلية المخيفة مرتبطة بإدمان الخمور: «هناك حيوانات تنزل من السقف وتأكل قدمه، أو أن أحدًا يدق مسامير في نعوش، أو يقطع جثث الموتى.» بينما يظن أحدهم أن فمه مليء بدبابيس تجعله لا يتوقف عن البصق. أو أن أحدًا وضع ثعابين في فمه؛ ولذلك لا يستطيع أن يأكل أبدًا. وأن هناك من يرسل إلى أحدهم روائح كريهة عبر الأرض، وإلى آخَرَ شحناتٍ كهربائية (في بداية القرن العشرين، كانت الكهرباء موضوعًا مفضلًا)، «فكان يُعَذَّب بالكهرباء والكيمياء، وكان معذِّبه يقيم في قبو كبير أسفل قاعة المرضى.»

ما بين المصابين بالهياج الدائم أو ذوي النوبات العرضية، كان المرضى بشعور الاضطهاد هم الأكثرَ عددًا، وتتفاوت موضوعات هذيانهم إلى ما لا نهاية. فالشياطين وأشباح أهله المتوفَّيْن والماسونيون واليسوعيون والجيران والأقارب، كلهم شخصيات ترتبط بضياع المريض بالهذيان، وتطارده باستهزائها، تدخل غرفته ليلًا عبر ثقب في السقف وتضربه وتحرقه، وتقتله ببطء. «إنهم يريدون الانتقام منه، يطاردونه؛ ولذلك يسمع المريض دائمًا أصواتًا وصليلًا وبصقات من خلفه.» فهذا التاجر اليائس لا يتوقف عن الصراخ: «لقد انتهيت، انتهيت، انتهيت! في أوروبا كلها، لا يوجد مَن هو محطم مثلي!» وتشتكي هذه المريضة ذات التسعة والستين عامًا من كونها تحمل أختها المتوفاة طويلًا على ظهرها. وبعد الإفراج عنها و«شفائها»، أصيبت بانتكاسة بعد ثلاثة أشهر، معتقدة الآن أن أختها في رأسها. أما هذا المريض ذو التسعة والعشرين عامًا والمحتجز عام ١٨٨١، فهو يعتقد «أن هناك شخصًا آخر داخله يتكلم عنه ويملي عليه تصرفاته ويعذبه ويجعل منه أضحوكة.» في عام ١٩٢٢، كانت هناك مريضة تشتكي من «أن جسدها بداخله رجل صغير يضايقها».

كل هذا إلى جانب المرضى المصابين بأفكار العظمة والثراء. «فهذا مطرب في الأوبرا، وهذا لواء، بل إمبراطور يعتلي عرشًا من ذهب»، «وهذا إله، يمتلك الأرض بأسرها»، «وبسمارك يعمل لدى هذا كمساعد، واشترى له روسيا؛ ولذلك فعليه أن يرسل له مائة مليون.» دائمًا ما تكون محاور جنونهم مبالَغًا فيها، ويتكاثر المليارديرات مع الأباطرة على نحو طريف، مثل هذا المريض البالغ من العمر واحدًا وأربعين عامًا والمحتجز منذ عام ١٨٩٠، والذي يعتقد أنه تعرض لسرقة «عدة مليارات بالإضافة إلى زوج من الأحذية الجميلة.» ففي مثل هذه الحالات قد تمتزج هلاوس العظمة وعقد الاضطهاد بسهولة، مثل هذا المريض ذي الأربعين ربيعًا المحتجز عام ١٨٨٠، والذي — بالإضافة إلى اعتقاده بأنه مايكل أنجلو (كان رسامًا على الزجاج في الحياة الواقعية) — كان يظن أنه سيد الكون، وكان يقول «إنهم سيَرون قريبًا، وإنه يجب أن يعترف الجميع بأنه القدير.» وبما أن أحدًا لم يتعرف به، تبدأ فكرة الاضطهاد بالسيطرة عليه، ولا يكون عبارة عن اضطهاد سلبي يقوم على الشكوى، وإنما اضطهاد فعلي وانتقامي. ومن ثم ظهر نموذج «المُعذَّب-المُعذِّب» التقليدي الذي ينطبق على قسم المصابين بالهياج (فالحراس لا يقسمون المرضى إلا إلى مصابين بالهياج وغير مصابين بالهياج).

يصرخ ضحايا الهذيان ويومئون بإشارات مجيبين على هلاوسهم، حتى وإن رفضوا الاعتراف بهذا. فيقلبون ملاءات السرير ويمزقون مراتبهم؛ بحثًا عن محور هلوستهم، ويتمرغون في التراب أو في الطين بحسب الموسم. يجرُون فجأة بين الممرات وهم يصرخون أن الشيطان يطاردهم ليحملهم إلى الجحيم، وتكون صرخاتهم مفزعة ومخيفة. في بداية الخمسينيات، كان من يمر بالقرب من مصحة للأمراض العقلية، يعرف أن هذا المكان مخصص للمجانين: بسبب الصيحات التي تارة تكون متقطعة وتارة أخرى تتوالى كعاصفة من الصراخ.

يتنقل المرضى المضطربون من منطقة إلى أخرى، وينتهي المطاف بالأكثر هياجًا بينهم مربوطين بسترات المجانين أو محتجزين في زنزانة؛ أي ينتهون إلى معرفة ما يُسمى على استحياء ﺑ «الالتزام الأخلاقي» عن طريق اختبار الوسائل العقابية المتنوعة. كما يمكن نقل بعض المجانين إلى مصحات أخرى، على الرغم من رفض المصحات استقدام المزيد من المرضى الذين تكتظ بهم جدرانها. ولقد وقعت حادثة عجيبة في مصحة بون سوفور عام ١٨٧٢، حينما احتُجِزَت شابة تبلغ عشرين عامًا. ومن المعروف أن المشاعر العاطفية تخبو لدى المرضى بدليل لامبالاتهم بزيارات عائلاتهم. إلا أن والدة الشابة احتُجِزَت هي الأخرى في المصحة، والتقت المرأتان في ساحة المريضات المسالمات. ولقد استحقت هذه الحادثة أن ترد في تقرير: «أثبتت هذه الفتاة التي التقت والدتها في مصحة بون سوفور خاصية شديدة الندرة، وهي أن المشاعر العاطفية لم تختفِ عند الأم ولا الفتاة؛ مما نتج عنه مشاهد حانية يومية كانت تتسبب في اضطراب باقي المصحة؛ الأمر الذي تطلب نقلها إلى مصحة بيجار.» كان من الصعب بالطبع عزل كلٍّ من المرأتين في زنزانة بسبب الحنان.

«الالتزام الأخلاقي»

«هناك عدة تساؤلات تطرح نفسها؛ أولًا: هل معاقبة المريض عقليًّا أمر شرعي؟ ثانيًا: هل من المنطق أن يُعاقَب مريض عقليًّا؟ إنه لا يعي أفعاله، ومن ثم فهو ليس مسئولًا ويجب عدم معاقبته. تعد الرغبة في تطبيق هذه القاعدة مبالغة شديدة داخل المصحات. بالطبع، من غير المعقول، بل من اللاإنسانية توقيع عقوبة شديدة على المرضى عقليًّا بسبب الأفعال التي يرتكبونها. إلا أن غالبيتهم — في معظم الحالات — يعرفون جيدًا أنهم يرتكبون عملًا رديئًا ولا يوجد علاج نفسي أو تأديب ممكن إذا شعروا بذلك.»44 وسنلاحظ عودة مصطلح «العلاج الأخلاقي» مرة أخرى على استحياء، ولكنه مصحوب هذه المرة بنوع من الالتزام بأن تكون وسائله متنوعة ومتدرجة من حيث الشدة. في البداية، يأتي التوبيخ، والحرمان من التبغ أو التنزه أو من بعض الحلوى في الطعام أو من أي خرق للائحة أو لنظام الزيارات والعمل. كما يمكن نقل المريض المتمرد من منطقة المسالمين إلى منطقة المصابين بالهياج، بل والخرف، ولكن كثرة ممارسة هذه الطريقة كانت تتعارض مع فكرة تصنيف المرضى الذي يقوم على قاعدة طبية وليس تنظيمية. ولكنها كانت بالفعل عقابًا رهيبًا، ما عدا هذا المريض البالغ من العمر ثمانية وستين عامًا والمصاب بهلاوس العظمة (١٨٨١): «إنه لا يسعد إلا في صحبة المصابين بالهياج، على الأقل — على حد قوله — يوجد من يتحدث!»
لا يتم الانتقال إلى الوسائل الأخرى القمعية بالمعنى الحقيقي للكلمة إلا بعد فشل كل هذه الطرق. عندما يصاب المريض بنوبة هياج غاضبة ومفاجئة، فيبدأ بسب الحراس والطبيب، ويهجم على زملائه، أو في حالات المصابين بالميل إلى التعري أو المصابين بهوس ممارسة العادة السرية. عندها لا بد من القيام بشيء، وهذا الشيء يكون سترة المجانين، المصنوعة من قماش قوي للغاية، وهي عبارة عن قميص مفتوح من الخلف بأكمام طويلة تتشابك من الأمام وتُربط خلف الظهر. بهذه الطريقة، تُمنَع حركة اليدين، لا الساقين. ويمكن تثبيت سلسلة من العنق تتيح ربط المريض بفراشه أو في سور الساحة. إلا أن استخدام السترة ليس من دون خسائر، فهو يسبب جروحًا خطيرة في الجلد الذي يحتك بالقماش القوى، بل وقد يتسبب في مشاكل بالتنفس؛ ولذلك، يوصى بعدم ارتداء السترة لفترات طويلة، على الرغم من كثرة استخدامها في المصحات الفرنسية (على عكس المصحات البريطانية؛ حيث يُعَوَّض عن تطبيق سياسة عدم القيود بوجود عدد أكبر من الزنازين). عادة ما يكفي التهديد باستخدام السترة أو أحد مشتقاتها: الكُم الإجباري والبنطال؛ والأول هو عبارة عن سترة مصغرة لا تمنع إلا استخدام الأيدي، أما الثاني فهو زي أكثر تعقيدًا يغطي الجسم كله، ويمكن تشبيهه بزي عمل ثقيل، ولكنه يسمح بشكل ما بحركة الذراعين في أي وقت. وبدافع طريف من الاهتمام بالجماليات والحياء، «تُضاف تنورة إلى زي النساء، لئلا يرفضن ارتداءه.»45 كما يوجد أيضًا الكرسي الإجباري، والذي يطلق عليه أحيانًا التسمية الجميلة «الكرسي المهدئ»، وكان يسمح، في صورته الأولى، بالسيطرة على المصابين بالخرف والقذرين على مدار يوم كامل. وإذا كان المرضى عقليًّا بارعين، فأطباؤهم كذلك، بدليل هذه الطريقة لتقييد القدمين للمرضى الذين ينزعون أحذيتهم باستمرار في الساحة المجاورة أو يستخدمونها كسلاح: وهي وضع قفل صغير يمنع خلعها.
كما يظل الدش أو الحمَّام، سواء أكان باردًا أم ساخنًا وطويلًا أم قصيرًا، وسيلة تقليدية للعقاب، أو بعبارات أكثر تهذبًا «للالتزام الأخلاقي». أثناء الإمبراطورية الثانية، يتحدث مريض في الكثير من خطاباته الصادرة من مصحة بو: «عزيزتي، خرجتُ لتوي من إحدى أصعب المحن التي عذبتني، يسمونها الاستحمام الإجباري، وأرجوكِ أن تتخيلي الماء وشكله التعذيبي المؤلم بصورة تفوق استخداماته أثناء محاكم التفتيش. تخيلي الصناديق الحديدية الطويلة المملوءة بالمياه المغلية أو المثلجة التي يجلسوننا فيها لخمس أو ست ساعات […] يقبض عليك الحراس، ويدفعونك إليها ويرمونك بحيث لا تكون لديك أي فرصة للخروج واضعين فوقك غطاءً من الحديد يشبه حد المقصلة […] كل هذا يُضاف إلى صرخات الضحايا الذين يلاقون إلى جوارك العذاب نفسه.»46
ولقد كان الاستحمام بالمياه الباردة بالنسبة إلى هذا المريض ذي الخمسة والعشرين عامًا والمحتجز منذ عام ١٨٥٣، والذي كان «لا ينطق كلمة واحدة ومصابًا بالخرف، فسرعان ما أصبح نظيفًا متكلِّمًا عقب أخذه حمامًا باردًا بعد بضعة أيام (من دخوله المصحة).»47 وبالنسبة إلى هذه المريضة البالغة من العمر سبعة وثلاثين عامًا، «والتي تتسبب في إحداث اضطراب ليلًا ونهارًا داخل المؤسسة، فكان الحمام البارد هو الوسيلة لتهدئتها وإخافتها.»48 كان الخوف الذي يحدثه الحمام البارد في نفس هذه المريضة ذات الثلاثين ربيعًا (ورأينا مفهوم المصحة عن الاستحمام) «هو الوسيلة الوحيدة لجعلها مطيعة».
وتبقى وسيلة الحجز داخل زنزانة طوال اليوم؛ وفي تلك الحالة كان يجري إظلام الزنازين أو يتم الحبس فيها ليلًا؛ لأنه في انتظار وصول المسكنات كان لا بد من الحفاظ على أكبر عدد ممكن من المرضى مستغرقين في النوم. وقد يمتد العقاب بالإقامة لعدة أيام أو أكثر. ويروي المريض نفسه — الذي اشتكى من تعذيبه بالاستحمام البارد — قصة إقامته في «الزنزانة» بعد أن تشاجر مع كبير الحراس «الذي يتحكم في مصائر المقيمين هناك […] أكثر ما يعذبني أثناء وجودي في أحد هذه الكهوف، ليس عدم وجود فراش إلا قليل من القش وغطاء خفيف، وليس فقط عدم قدرتي على رؤية شيء إلا جزء صغير من السماء عبر كوة صغيرة ضيقة يغطيها قضبان حديدية، وليس سماعي لأصوات الصراخ والعويل بجواري ليلًا ونهارًا في الزنازين المجاورة؛ حيث يتشاجر المرضى، لا، ليس هذا؛ إنما هي الرائحة الكريهة والمقززة التي تنبعث من الماء الآسن الذي يتجمع كل يوم والفضلات بكل أنواعها التي تتراكم من الوحوش المحبوسة هنا!»49
في تقرير صدر عام ١٨٧٤، كتب مفتشو العموم: «نفضل ترك مريض مصاب بحالة هياج يتجول في الساحة مرتديًا سترة المجانين أو مكبلًا بالأصفاد، عن حبسه داخل زنزانة حتى ولو كانت مبطنة.» إلا أن الزنازين لم تختفِ، بما فيها تلك التي تُستخدم للحبس لفترات طويلة، كما يوضح هذا التقرير التفتيشي ليومي التاسع عشر والعشرين من أغسطس عام ١٩٣٠ بمصحة بون سوفور. كان ذلك في منطقة الرجال، «وكانت المنطقة المخصصة للزنازين مختلطة مع تلك المخصصة للمرضى المصابين بالهياج. كانت تتكون من ثماني زنازين قديمة وعلى أدنى مستوًى […] ومن الأفضل ألا تستخدم للإقامة طوال النهار والليل، وأن تكون مخصصة فقط للحبس المؤقت خلال الليل وفي حالات الضرورة القصوى مع بعض الحالات الخاصة. ويكون من الأفضل التخلي تمامًا عن فكرة استخدامها. أثناء زيارتي، وجدت ثلاثًا من هذه الزنازين يقيم فيها مرضى ليلًا ونهارًا. في إحداها، رأيت مريضًا عنيفًا للغاية يرقد على الفراش المصنوع من القش، كان هناك منذ سنوات، ويرفض الخروج قطعيًّا على حد قول الطبيب كوركيه. وسيكون من المستحيل — أيضًا على حد قول الطبيب — إخراجه منها ووضعه في وسط مرضى آخرين. وفي الزنزانة المجاورة، كان هنا مريض يمزق كل فراش يقدم إليه، ولكنه جَمَّع القش في كومة واختفى وسطها.» وفي عام ١٨٧٥، ورد ذكر هذا الأمر — ولو بطريقة رمزية — ولكنه يثبت أن العديد من المرضى يقيمون بالكامل في هذه الزنازين: «يوجد مريض يسعد بإقامته هناك، حتى إنه يصنع لنفسه زيًّا من القش المضفر.»50

وأقول بخجل، اكتشف المفتش العام عام ١٩٣٠، وجود سلاسل من الصلب تُربط بكاحل ومعصم المرضى الذين يجدون وسيلة لفك قيودهم المصنوعة من القماش أو الجلد. ويقول مدير المصحة وكبير الأطباء: إن المرضى — على الرغم من اضطرارهم للقفز — يفضلون هذه الطريقة عن الطرق الأخرى للتقييد؟ ولقد اكتشف المفتش هذا الأمر الذي ساءه كثيرًا. أليست هذه — بطريقة ما — عودة لعصر السلاسل والقيود؟

في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، انتشرت طرق أخرى غريبة للتقييد، ولكنها سرعان ما انتهت. في شارنتون مثلًا، كان هناك السرير-الصندوق المصنوع من سلال الصفصاف وكان يوضع فيه المريض المصاب بالهياج، ولا تظهر منه إلا رأسه ويغلق عليه، وكأنه تابوت. وفي الوقت نفسه، كانت هناك نسخة أفقية منه، يذكرها الطبيب البلجيكي جوزيف جيزلان وتسمى الخزانة-الساعة. ويذكر أيضًا — في ألمانيا — حبلين؛ أحدهما مشدود أفقيًّا والآخر رأسيًّا، ويُجعل المريض واقفًا وذراعاه على هيئة صليب بين جدارين. بالطبع، نفضل الاعتقاد بأن «المرضى المضطربين أو المتمردين يعودون إلى حالة النظام بعد قضاء مدةٍ من ثمانٍ إلى اثنتي عشرة ساعة — على الأكثر — في هذا الوضع.»51 في عصر الطب النفسي الرومانسي، كان يُستَخدَم قناع من الحديد الأبيض له وعاء أسفل الذقن ليحتوي اللعاب الذي يسيل من المرضى البُله في مصحة تيرلمون ببلجيكا عام ١٨٤٢. «كان هناك مريض تعس يرتدي هذا القناع باستمرار منذ ستة أعوام.»52 وكان هناك أيضًا الكمامة؛ وهي قناع من الجلد الصلب يمنع فتح الفم، ويحوِّل صراخ المرضى الهائجين إلى صمت أو همهمات غير مفهومة53 (يذكرنا بقناع هانيبال ليكتر).
رأينا مدى النجاح الذي لاقاه في عهد النظام القديم كتاب الطبيب تيسو عن الاستمناء في القرن التاسع عشر، كان هذا هو هاجس أطباء الأمراض العقلية. فالعادة السرية، سواء مارسها الرجال أم النساء، كانت تبدو كأحد أسباب الجنون. وتتعدد سبل منعها وتتراوح من الدين والتعليم، وحتى الرياضة والألعاب البدنية، مرورًا بحمامات المياه الباردة. إلا أنه بدأ التفكير في سبب عدم وجود نوع من القيود أو «جهاز جراحي ضد الاستمناء»؛ ومن ثم، صُنِعَت أزياء ثقيلة مضادة للاستمناء للشباب والفتيات، وأيضًا تم اختراع فراش مخصوص ليقيد ذراع النائم أو النائمة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. «في تلك الحالة، كما في الآلاف غيرها، يبدو الطب انبعاثًا إلهيًّا يأتي ليريح البشر ويمنعهم من السقوط في الهاوية.»54 أما هؤلاء الذين يستمرون في هذا الطريق، فلا ينتظرهم إلا التعاسة! كسل ووهن وفقدان للذاكرة وهزال وانحراف الحواس والبله وانقباضات، وأخيرًا الجنون: اكتئاب، صرع، خبل مع مؤشرات لما هو أسوأ. مثل هذا المريض بالاستمناء يكون ضحية لجفاف شديد، حتى إنه يمكن سماع صوت مخه يتخبط داخل جمجمته. «أما بالنسبة إلى النساء، فإنهن يسقطن ضحايا مخاوفَ تتعلق بالرحم تُودِي بحيائهن وعقلهن أيضًا، وتنحدر بهن إلى مصاف الشهوانيات الشرهات حتى يأتي الموت البائس يخلصهن من الآلام والعار.» «إذا اقتضت الحاجة؛ أي في حالة وجود خطر بالموت الفوري»، يمكن اللجوء في النهاية إلى التكميم (نظام من الأحزمة والمشابك على الأعضاء الجنسية للفتيات أو الفتيان تجعل الانتصاب مستحيلًا لدى الذكور) أو إلى الختان، وهو «عملية أقل إيلامًا».55
بعد ما يقرب من قرن — في العقود الأولى للقرن العشرين — يرفض الأطباء ومعهم كل الحق مثل هذه الممارسات القديمة والوحشية. إلا أنه — كما رأينا على مستوى الطرق العلاجية — ظلت الوسائل المبالغ فيها تتوالى، حتى وإن لم تتشابه. في سبيل تعويض منع الحبس في زنزانة — الذي يعود بنا إلى عهد النظام القديم وطرقه الرديئة — استُبدِل بالعزل ملازمة الفراش الإجبارية. في عام ١٨٦٠، اقترح لودفيج ماير من هامبورج معالجة المرضى الذهانيين ذوي الحالات الحادة بطريقة «العلاج في الفراش». انتشرت تلك الطريقة في ألمانيا كلها، قبل أن تجد طريقها إلى فرنسا على يد مانيان في عام ١٨٩٧. خلال ثلاثة أعوام، اكتسحت هذه الطريقة وسادت في مجال الطب العقلي الفرنسي. «فالوضع في الفراش يجعل من منطقة الزنازين قاعة عادية للمرضى. ومن ثم يزيد من كرامة المريض، ويجعله مثل مريض القلب أو الدرن.»56 ويُعرف عن العلاج بملازمة الفراش المستمر أو العلاج السريري تزويده للمخ بالراحة اللازمة في بعض حالات الذهان الحاد، إلى جانب كونه وسيلة للملاحظة. وفي النهاية، فهو أيضًا طريقة «للعزل الجماعي» فهو في النهاية إلزام إجباري بالفراش. في عام ١٩٠١، تحدث طبيب أمراض عقلية عن نتائج هذا النظام غير الناجحة مطلقًا إلا في إخلاء الساحات من المريضات المصابات بالهياج ومن صراخهن عن طريق حبسهن في الفراش. ولكن على الأقل، فإنه قلل من تعرضهن للتقلبات المزاجية. وعن ملازمة الفراش الإجبارية، قال مارك ستيفان — أحد المرضى القدامى لمانيان — إنه «الخمول والوهن الدائم.»
يزداد تعقد هذا الأسلوب العلاجي في حالة هياج المريض لدرجة تجعل هناك اضطرارًا إلى تقييده في الفراش. وتعطينا هاتان الشهادتان عن الفراش الإجباري في مصحة سانت آن — حيث أسس مانيان هذا النظام — صورة بعيدة تمامًا عن فكرة الهدوء والراحة. نحن الآن في قسم التمريض الخاص: «دخلتُ في وسط ضجة عارمة تشبه غابة يملؤها الصراخ […] وحولي من الجانبين صفَّان من الأَسرَّة، كانت الإضاءة حزينة جعلت كل شيء خامدًا. لا توجد حركة، بالكاد رعشة. وكان العويل يجثم حرفيًّا على هذه السلسلة من الوجوه الملتصقة بالفراش، لم يكن هناك مظهر للحياة عليها إلا الأفواه السوداء التي تبدو وسط الظلال كجروح مفتوحة يتفجر منها غضب عارم. وبمشاهدتي لهذه الوجوه عن كثب أدركت في النهاية سبب ثورتهم العاجزة. كان بعضهم مقيدًا بسترة المجانين بقوة لدرجة جعلت أقل حركة مستحيلة تمامًا، فلم يعد باستطاعتهم إلا الصراخ في نوع من الجنون […] كانوا جميعًا من حولي مقيدين بالسترات يدًا ناحية اليمين والأخرى لليسار، والساقان كذلك. وتربطهم بالفراش قطع من القماش السميك. بل وكان بعضهم مقيدَ العنق برباط يمنعه من النهوض […] في الساعة الرابعة صباحًا، يكون موعد التغيير، فرأيت الممرضين الثلاثة الذين استقبلوني يبدءون في تغيير ملاءات الأسرَّة. كانت معظم الملاءات ملطخة. وفي نوع من الجمود التام، كان الحراس يغيرون الملاءة ويعيدون المرضى ثانية إلى الفراش. بعد قيامهم بفك المرضى المقيدين، كانوا يربطونهم من جديد إلى فراش آخر قبل المضي لتغيير ملاءته؛ ولذلك كانوا يمرون من وقت لآخر يسألون: ألوثت نفسك؟»57
في عام ١٩٣٢، ذهب بول ليوتو لزيارة صديق له محتجز بمصحة سانت آن، ولكن في منطقة المرضى المسالمين: «من كل جانب، كان هناك ستة أو سبعة أسرَّة، ولكن لا يوجد أي كرسي على الإطلاق. وفي أحد الأسرَّة، صبي جميل، ذو وجه مليح وعينين جميلتين، وبِنية قوية، كان يقضي وقته في الصراخ أو في تلاوة القداس أو بعض الأناشيد، ويوجه ابتسامات لمن حوله؛ تارة من على اليمين، وتارة من على اليسار وتارة تهديدات، وفي أحيان أخرى تصيبه حالة من الهياج تجعله يضرب بكفيه على صدره: «أنا ابن الله! اللعنة عليكم جميعًا!» ثم يستكمل التراتيل اللاتينية. لم يتوقف المريض البائس عن ممارسة جنونه على الفراش. وكانت تجلس على طرف فراشه امرأة شابَّة — والدته كما علمت لاحقًا — وكلما اقتربت منه كان يصرخ: «أنت مرة أخرى أيتها العاهرة القذرة، أما زلت تمارسين عملك في الشوارع! لا تقتربي مني وإلا حطمت وجهك!» ثم يستأنف أناشيده وتراتيله […] وعلى فراش آخر، كان هناك رجل هرِم قصير، له وجه ينم عن الذكاء ووجه ورأس حليق يشبه البيضة. كان يرفع ملاءته، كل ربع ساعة، ويبصق على فراشه، ثم ينزل الملاءة ثانية ويربت عليها كمن يمسح بصقته وهو يراقب المرضى بنوع من المكر والسعادة. كان أمرًا منفرًا! ولوحظ أيضًا على هذا المريض، أنه عند اقتراب الممرض من فراشه، كان يفزع فيرفع ذراعه ليحتمي كطفل يستعد لتلقي ضربة قوية. ويدعو هذا الأمر للتفكير فيما يدور داخل هذا المكان عندما لا يكون هناك زائرون. بينما يختفي مرضى آخرون بين ثنايا ملاءاتهم من الرأس إلى القدم فلا يظهر منهم شيء.»58

«كلما ازدادت مهارتهم؛ ازداد خوفي منهم!»

هل هذا يعني أنه لا يوجد علاج داخل المصحة، أو بالأحرى لا توجد مصحة؟ كلا! فالعلاج بالمياه كما رأينا يتقدم الساحة دائمًا، فهناك حمامات والمزيد من الحمامات … «فالحمامات بالنسبة إلى المريض بالجنون تعد وسيلة ناجحة للشفاء: وينبغي أن تمتلك المصحة كافة أشكال الحمامات، وبوفرة …»59 وفي مستهل عصر الجمهورية الثالثة، كان يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع كبيرة من العلاج بالمياه: المحول، المُهيج أو على العكس المسكن؛ أي إنه كان قادرًا على علاج مختلف أنواع الجنون. في حالات الجنون المحتقن، تُوَجَّه دفعات المياه المحولة القوية على المغطس، ومن المعروف أن الأطراف السفلى لها القدرة على إراحة المخ. في حالات الجنون الاكتئابي، تستخدم الحمامات المنشطة القصيرة. «أما في حالات الانقباضات والجنون الموسع، يكون العلاج بحمامات باردة أو بلف المريض داخل ملاءات مبللة. ويكون كل شيء محددًا ومعروفًا: درجة حرارة المياه وتواتر الاستحمام، زمن الاستحمام الذي قد يمتد لساعات، وحينها كانت الوجبات — نظرًا لاستحالة تغيير موعدها — تُقدَّم للمريض وهو في المغطس (والأمر كذلك بالنسبة إلى قضاء الحاجة). ومن جانبه، كان كازيمير بينيل (ابن شقيق بينيل الكبير) يمتد بمدة الحمام في بعض الحالات حتى أربع وعشرين ساعة، إلا أن المدة المتوسطة تقدر بثلاث ساعات إلى أربع ساعات. وتوجد أيضًا الحمامات المصحوبة بالأدوية: القلويات والملحيات والكبريتيات والمخردلات … بالإضافة إلى حمامات البخار وحمامات التعقيم.
إن العلاج بالمياه، سواء كانت ساخنة أم باردة، في المغطس أم بدفعات المياه؛ له أثر شافٍ حقيقيٌّ من الهوس وجنون النفاس والعصاب، منذ العصور القديمة؛ حيث كان يُستخدَم الرش بالمياه الباردة بصورة طبيعية وكان يحقق نجاحات ساحقة …»60 كما يعد «الغمر بالمياه» أفضل وسيلة لعلاج الهذيان والرعشة ومرض الرقاص العصبي والهوس الجنسي و«نوبات الصرع حتى ذروتها»، وأيضًا الهستيريا؛ وفي هذه الحالة يفضل استخدام الحمام البارد برشات متقطعة توجه على الجسم كله ما عدا الرأس. ويحذر جوزيف جراسيه (١٨٤٩–١٩١٨) في ثمانينيات القرن التاسع عشر من أن العلاج بالمياه «عمليةٌ طبية حقيقية» يجب ألا يمارسها إلا المتخصصون. وبلغ نجاح هذه الوسيلة إلى حد علاج المصابين بالخرف عن طريق حمامات باردة توجه بطول العمود الفقري وإلى البطن. واستطاع بنديكت أوجستين موريل في عام ١٨٥٠ علاج ما بين خمسين وستين مريضًا في الساعة: يقف ستة مرضى بعد حكهم جيدًا بإسفنجة رطبة، ثم يخضعون لاستحمام مشترك بواسطة خرطوم الحريق، ويكون الاحتكاك في سبيل تنشيط الدورة الدموية. في بداية حكم الجمهورية الثالثة، وحتى إذا كان استخدام خرطوم الحريق يبدو صادمًا، فإن العلاج بالمياه ظل محط تقدير، «فلم يكن هناك طبيب إلا ويمتدح فوائده.»61 ولم ترتفع إلا أصوات نادرة من أطباء الأمراض العقلية للتشكيك في فعالية هذا العلاج المائي. وجازف أحدهم في عام ١٨٧٤ بالقول: «لم يُحدَّد بعدُ دورُ العلاج المائي في معالجة الجنون بطريقة ملائمة.»62
ليس من المؤكد أن هناك مرضى عقليًّا يستطيعون التمييز بين الاستحمام كعقاب أو كعلاج. إنهم يشتكون منه في جميع الأحوال: «أمي العزيزة، إنهم يفعلون بي أشياء مستحيلة، ويُخضعونني لحمامات رهيبة، إنهم يقتلونني.»63 «إنه حمام لم أره من قبل، أربعة حمامات مريعة، بل ويزيدون من قوتها.» دائمًا ما تظهر في الحمام البارد العنيف فكرة العلاج بالصدمة التي ولدت في نهاية القرن الثامن عشر. في مطلع القرن التاسع عشر، تساءل طبيب الأمراض العقلية الإنجليزي ماسون كوكس عما إذا كانت غالبية الطرق العلاجية الخاصة بعلاج الجنون «لم تشتهر إلا بسبب الأحاسيس المؤلمة والسيئة التي تسببها للمرضى، وليس بسبب أي قدرة خاصة بها.»64
وينصِّب ماسون كوكس نفسه وريثًا حقيقيًّا للطرق العلاجية القديمة (ولكن ما هو الجديد في مجال علاج الجنون؟) عن طريق اعتماده على المقعد الدوار المسمى أيضًا بطريقة «الدوران». وتضيف هذه الطريقة — المختلفة عن «الهزهزة» التي ظهرت في القرن الثامن عشر — إلى العلاج البسيط نوعًا من الخوف والصدمة، اعتمادًا على فكرة داروين التي تقول بأن الجنون يولد من حركات غير منظمة للألياف العصبية؛ ومن ثم فإن الدوران السريع للجسم من شأنه إصلاح هذه الفوضى. بينما ينصح الطبيب الأمريكي بنجامين روش (١٧٤٦–١٨١٣) — وهو تلميذ كولين، معتمدًا على نظرية مختلفة تقوم على أن الدوران يعمل على تقليل تدفق الدم إلى المخ — باستخدام الجيراتور أو الصدمات الكهربائية (وهو الذي وضع أيضًا تصورًا للمهدِّئ؛ وهو مقعد ثقيل يقيد به المريض وتعلوه علبة توضع فيها رأسه لإبعاده عن المثيرات الخارجية، وهو يشبه بطريقة مذهلة الكرسي الكهربائي). طبق ماسون كوكس نظام الدوران في إنجلترا، قاصدًا إضافة مؤثرات ظلام وضوضاء غير عادية. وعلى نحو تجريبي، صنع إسكيرول أول كرسي دوار في فرنسا. إلا أنه سرعان ما أهمل استخدامه بسبب «بعض عيوبه»: قيء ونزيف أنفي ودوار وإغماء، بل وحتى سكتة دماغية. لقد بدت، بالطبع طريقة «الدوران» كوسيلة إرهاب. في ملاحظته الثانية والعشرين والأخيرة، يوصي ماسون كوكس بشأن إحدى مريضاته قائلًا: «لم يكن من الضروري اللجوء للعلاج بالدوران إلا لخمسة أو ستة أيام، وبعدها أصبح يكفي فقط تهديدها به لكي تخضع لما نريده.»65
أما بالنسبة إلى الكهرباء، فكان لها مستقبل واعد. أليست بطبيعتها الأكثر قدرة على إحداث صدمة؟ بدأ اعتمادها كعلاج في القرن الثامن عشر، ولكن طُبِّقَت أول صدمة كهربائية في عام ١٨٠٤، عندما جرى إخضاع مريض بالسوداوية «لتأثير عامود كهربائي». كانت المحاولات الأولى هي استخدام اليدين قبل أن تصل إلى الجمجمة. واستمرت التجارب بمضاعفة الهزات؛ مما حقق ما يسمى بنجاح كامل: «ما من رجل مصاب بالاكتئاب أو الإحباط إلا وارتسمت على وجهه سعادة رقيقة.»66 وعلى الرغم من نشأته القديمة، فإن العلاج بالصدمات الكهربائية، استطاع وبعد مرور مائة وثلاثين عامًا تحقيق الكثير من النجاحات الساحقة67 في علاج السوداوية. لا تستخدم الكهرباء فقط في العلاج بالصدمات الكهربائية، وإنما في كافة طرق العلاج الكهربائي، والذي كان يسمى في البداية «الكهربة». في عام ١٨٤٥، حاول كبير الأطباء بمصحة دو سيفر اختبار التأثير الجلفاني على «الجهاز غير المكتمل للمرضى البؤساء في مصحة لابروفيدانس (من المختلين عقليًّا والبُلْه).»68 وأثناء عمله بمصحة ماريفيل، استكمل أسلوبه في استخدام الكهرباء مع المرضى خائري القوى لإخراجهم من حالة الجمود، ومع المصابين بالهياج لتهدئتهم. ولكنه لا يمانع أيضًا من استخدام صدمة كهربائية صغيرة بهدف التأديب.
وسرعان ما بدأ استخدام العلاج بالكهرباء بكافة أشكاله بهدف التجريب في علم النفس. في عام ١٨٥٩، كتب الطبيب أوزوي بيانًا بهذا الشأن في مصحة بو،69 متحدثًا عن تجربته على كافة أنواع الجنون. واستخلص منه أن «التيار لا يؤثر على البُله، ويحدث أثرًا طفيفًا على المختلين عقليًّا، بينما يتناسب أثره لدى المخبولين بمدى تدنيهم العقلي، وهكذا يكون أقل شدة وألمًا كلما هبطنا على سلم الإصابات النفسية. ويشعر المصابون بالهوس ومرضى الوسواس — خارج نوبات الذروة — بشدة هذه الهزات الكهربائية التي تسبب لهم آلامًا موجعة. أما المصابون بالهوس بفكرة واحدة، فعلى الرغم من عنادهم الشديد أثناء اضطراباتهم الهلاوسية، فإنهم يتخلَّون عنها مؤقتًا بمجرد وقوعهم تحت تأثير الكهرباء. فالألم البدني يتسبب في تهدئة الهذيان ويعيدهم مؤقتًا للشعور بالواقع. ولقد استطعت بهذه الطريقة اقتناص ردود من مرضى حكموا على أنفسهم لسنوات بصمت إرادي لم يكن ليقهر حتى استخدام الكهرباء. إلا أن الكهرباء تحرز نتائجها الأكثر ثراءً بالأخص في علاج السوداوية (حالة اكتئابية من التعاسة العميقة)؛ حيث يضاف إلى السوداوية حالة من الذهول تتملك المرضى […] يتملك هؤلاء في البداية جمودٌ وبلادة شديدة إزاء المحفزات الكهرومغناطيسية، ولكنهم يصبحون تدريجيًّا أقل مقاومة لتأثير التيار الكهربائي الذي ينتهي — في غضون بضع جلسات — بصدمهم بطاقةٍ قوية. في اللحظة التي يدرك فيه المرضى الصدمة ويتألمون منها، نستبشر خيرًا بأن جهودنا قد أثمرت، ونقرر الاستمرار.» بدءًا من الصدمات الكهربائية «الخفيفة» إلى ما هو أكثر …

في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن هناك بد من تقابل الهستيريا مع الكهرباء. أمن المعقول عدم تجربتها على مرضى الهستيريا؟ في مصحة سالبيتريير، كان الجميع حتى مرضى الوهن العصبي يعالجون بالكهرباء، ولكن بطرق مختلفة: حمامات كهربائية، لفحات من هواء مكهرب، شرارات مسكنة أو محفزة … إلخ. ويبين لنا سيلين في رواية «بارابين» كبير الأطباء في مصحة فيني سير سين للأمراض العقلية: «في ساعات محددة، مرتين أسبوعيًّا، كان يحدث عواصف مغناطيسية فوق رءوس مرضى السوداوية المتجمعين عن قصد داخل غرفة مغلقة ومظلمة تمامًا» (رحلة إلى نهاية الليل).

لم يختفِ العلاج بالكهرباء. في عام ١٩٠٣، يصف بابينسكي — الطبيب المساعد بمصحة شاركو — «صدمة كهربائية مخِّيَّة» لعلاج مريضة بالسوداوية، صُنفت حالتها على أنها ميئوس منها بعد أن جُربت معها كافة الوسائل: الإقناع، العلاج بالمياه، الأفيون، جرعات عالية من مادة مستخلصة من نباتات تستعمل ضد التشنج. ولكن استطاعت سلسلة من الشحنات الكهربائية على الدماغ أن تصل بها إلى نتائج، يقول عنها بابينسكي بحرص: «أقول بصورة عامة إن هذا العامل (الكهرباء) غيَّر توجه المخ، وأحدث انطلاقًا أعاد إليها التوازن.»70
في أعقاب فترة من عدم الاهتمام، عاد العلاج بالكهرباء بقوة في ثلاثينيات القرن العشرين، في اتجاه العلاج بالصدمات، بعد أن اتخذ اسم «علاج التشنجات». إلا أن هذا العلاج لم يكن في حاجة دائمة للكهرباء، على غرار محاولة ويليام مالامود في الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٤٠ علاج مرضى الفصام عن طريق حقن سحايا معقمة داخل العقد المشبكية الموصلة للنبض العصبي بين فقرات العمود الفقري. ومن جانبهما، تسبب كلٌّ من ليبتز وكوجيل في حدوث تشنجات، بل وغيبوبة، بسبب نقص الأكسجين في المخ (عدم كفاية الأكسجين القادم إلى العضو الأكثر حساسية)، بسبب إعطائهما للمرضى71 الأزوت الخام ليستنشقوه، وكان ذلك في عصر لم تزل فيه وسائل الإنعاش بسيطة للغاية. وهكذا لم تعد وسائل العلاج البالية حكرًا على النظام القديم أو الحقبة الرومانسية.

كما كانت تطبق على نحو تجريبي طرق أخرى للعلاج بالصدمات — ولكن أقل شهرة من الصدمات الكهربائية — في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين: الصدمة الرئوية (مسح مخي غازي) والصدمة باستخدام سائل النيتروسيليلوز (حقن في مواضع مختلفة تحدِث لدى المريض أعراضًا خطيرة لفرط الحساسية في بعض الأحيان)، وأخيرًا صدمة الأنسولين. وترتكز هذه الطريقة الأخيرة — المعروفة باسم علاج ساكيل (وهو اسم طبيب الأمراض العقلية الذي اخترعها) — على إحداث غيبوبة بسبب نقص السكر في الدم بحقن الأنسولين. وخلال فترة العلاج التي تتراوح من ستة إلى ثمانية أسابيع، يفترض أن يتيح الضعف التراجعي للمريض فرصة للفريق المعالج (بدأت الكلمات تتغير بالفعل) أن يقيم معه «علاقة حانية عميقة وممتدة». وظل علاج ساكيل مستخدمًا في المصحات حتى ظهور العلاج بالانقباضات العصبية، وحتى بعد ذلك.

وادعت الجراحة — وهي «أفضل» من العلاج بالصدمة — أنها تستأصل المرض من جذوره، كما نفعل مع الحشائش الضارة. كان علم الأمراض العقلية ينطلق في حقيقة الأمر — بطابعه التجريبي — من ملاحظات عابرة لشفاء بعض المرضى عقليًّا ممن أصيبوا بجروح في الرأس. واستكمل القرن التاسع عشر — بطابعه النظامي — هذا النهج، ولا سيما بإحداث ثقوب في رءوس مرضى الصرع (خاصة لدى البريطانيين والأمريكيين). في عام ١٩٠٧، عرض جراح أمام جمعية علم التنويم وعلم النفس فكرة أن علاج الأطفال المتأخرين عقليًّا «تكون بإجراء عملية وحيدة وهي قطع القحف (أي استئصال جزء من المخ).»72 وتقوم فكرتها على إعطاء مساحة أكبر لتمدد المخ. وعلى العكس، يتعمد أنصار نظرية القدرة على تمييز الطبع والشخصية من شكل الجمجمة إبقاء المخ مقولبًا، وبالتالي الجمجمة التي تغلفه. هذه المرة لا يتعلق الأمر بشفاء الجنون، وإنما منعه عن طريق تركيب «قالب مخي» على جمجمة الأطفال الصغار جدًّا بمهارة وذكاء. يمكن تعديل ضغط هذا القالب بعدة لمسات، ومن شأنه «تحسين شكل الدماغ وعمله العام».73 وعلى الرغم من شكوك الجمعيات العلمية، بل وسخريتها، فإن رائد فكرة القالب المخي تنبأ بعصر بعيد سيجري فيه تطبيق جهازه عالميًّا، محققًا خدمات جليلة للأخلاق وللدين، عن طريق «تقوية العضو الوحيد القادر على التعقل وتشغيل الأعضاء الفكرية والمعنوية.»
لم يتردد الأطباء في التصدي بشجاعة لمادة المخ نفسها. فقد ظهرت الجراحة النفسانية عندما تصور طبيب الأمراض العقلية النمساوي جوتليب بورخهارت (١٨٣٦–١٩٠٧) — انطلاقًا من مبدأ أن الحياة النفسية تتكون من «عناصر تتجمع في المخ» — أنه يمكن معالجة بعض المرضى عقليًّا الميئوس من حالتهم عن طريق استئصال أجزاء من قشرة المخ. وفي عام ١٨٨٨، على الرغم من أنه لم يكن جراحًا، لم يتردد في إزالة حوالي خمسة جرامات من المادة الرمادية من الفص الأيمن لمخ مريضة تبلغ من العمر أربعة وخمسين عامًا مصابة بهذيان وتهور. وخضعت المريضة نفسها لثلاثة تدخلات جراحية خلال عامين. ثم أجرى بالطريقة نفسها لخمسة مرضى آخرين عمليات مشابهة، قبل أن يعلن بورخهارت عن تدخلاته في مؤتمر برلين عام ١٨٩٠، حيث توصل إلى هذه النتيجة المطمئنة: «إنه حتى وإن لم يتم استعادة الذكاء، فعلى الأقل لم تتدهور درجته.»74 وشهد مجتمع الأطباء احتجاجات عديدة على هذه الطريقة. في فرنسا، يتساءل طبيب الأمراض العقلية رينيه سيميليني: «ما هي حدود هذا الجنون في الجراحة؟ ألِأن المريض يضرب بقدميه، نستأصل من مخه المركز المحرك لأعضائه السفلى؟»75 وبعد نصف قرن — في عام ١٩٣٦ — ظهرت الجراحة النفسية الحديثة فعليًّا مع أول عملية جراحية في المخ تقوم على فصل الفص الأمامي من مراكز المخ المجاورة (المهاد البصري والمهاد الأعلى) بهدف تخليصه من التدفقات العاطفية والعصبية المريضة. وعلى مدار عشرين عامًا، قُدر النجاح لهذه العملية التي تُعنى بالأخص بمرضى الذهان المزمن والمصابين بحالات القلق الحاد، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث كان يتم إجراؤها على مرتكبي الجرائم الجنسية. إلا أن مسألة الأخلاق الطبية ظلت مطروحة بشدة، بالإضافة إلى كثرة حالات الانتكاس؛ مما أثار العديد من التحفظات. وبمجرد ظهور علم التداوي النفسي، توارت الجراحة النفسانية سريعًا، فاختفت تمامًا من فرنسا، بينما ظلت مستخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وسرعان ما اتجهت هذه «التقنيات الحديثة» إلى الأعضاء الجنسية. ففي النصف الثاني من القرن العشرين، حدثت مواجهة بين مؤيدي ومعارضي إخصاء المرضى عقليًّا من الرجال واستئصال المبايض لدى النساء. وكان مؤيدو هذا الإجراء هم الأمريكيين والكنديين والإيطاليين والبلجيكيين، بينما رفضه الفرنسيون. وفي عام ١٨٨٦، رفع شرام في ألمانيا «من أهمية استئصال المبايض — حتى السليمة — إلى درجة اعتبارها طريقة لعلاج الصرع الهستيري.»76 في عام ١٨٦٩، دعا الجراح البريطاني إيزاك بايكر براون — «خاصة بالنسبة إلى الأرامل» — إلى «استئصال البظر»، وخاصة في حالات العادة السرية المزمنة التي تؤدي إلى نوبات صرع واضطرابات عقلية. وتم استكمال هذه العملية بأخرى لاستئصال الشفرين الصغيرين بواسطة سكين «مجلفن كاوٍ». ولقد كلفت هذه النظرية صاحبها شطبه من جمعية طب التوليد بلندن.
أما بالنسبة إلى الطرق العلاجية التقليدية، فلقد احتفظت بمكانتها، بدءًا من المهدئات، التي تنوعت وتعددت كثيرًا. ولقد حظي نبات الناردين باهتمام كبير في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكنه تراجع لصالح أصباغ نبات كف الثعلب، الذي — إذا تم تناوله بجرعات كبيرة أثناء علاج الهذيان والرعشة — «يحدث نعاسًا، ويأتي بعده الشفاء.»77 كما كان يتم تناول الحشيش بجرعات كبيرة، بدافع من تلك النظرية المتناقضة؛ أن الهلوسة تطرد الأخرى: «يفقد المريض بمجرد سيطرة الأحاسيس الجديدة عليه حتى ذكرى الهلاوس القديمة.»78 في المقابل، كان يصف آخرون — اعتمادًا على مبدأ مقاومة الهذيان — مخدرات فعلية ولكن بجرعات محددة. وفي مطلع القرن العشرين، سادت في الولايات المتحدة الأمريكية موجة من علاج الداء بالداء، حتى إن عدد المصحات العقلية التي أخذت تعالج مرضاها بهذه الطريقة تجاوز الستَّ، مثل مصحة ميدلتاون في نيويورك، والذي بلغ عدد مرضاها ألفين وستةً وأربعين عام ١٩١٣.
فور اكتشافها عام ١٨٢٦، استُخدمت أملاح البروم لعلاج نوبات الصرع، وضد الهلاوس البصرية المصحوبة بارتجاف. وتوالت الاكتشافات الحديثة مع سرعة التقدم الكيميائي: الكوديين وكلوريدات المورفين وعقَّار زهرة الخشخاش (أحد القلويات المستخرجة من الأفيون) وجرعات الكلوروفورم والكلوروفورم السائل … إلخ. إلا أن هذه المواد الحديثةَ الاكتشاف لم تبطل العمل بالمسكنات التقليدية، لدرجة أنه في نهاية القرن التاسع عشر، اشتكى بعض الأطباء من كثرة منتجات الأدوية المتاحة أمامهم. ولاقى ظهور البربيتورات في القرن العشرين تطبيقًا فوريًّا في علاج الصرع، أثناء انتظار نتائج علاجات النوم. وهذه الطريقة — على الرغم من الأمان التي يوحي بها اسمها — ليست بالهينة، حتى إن هناك إحصائية لعام ١٩٢٥ تسجل خمسًا وعشرين حالة وفاة من بين ثلاثمائة وإحدى عشرة.79 فالعلاج بالنوم — بأنواعه المختلفة (النوم العميق لستة أو عشرة أيام بدءًا من عام ١٩٥٢، والنوم الخفيف والنوم المتقطع على مدار ثلاثة أسابيع) — لم يكن ليستمرَّ كثيرًا داخل المصحات حتى اكتُشفَت مضادات الذهان.

إذا كان معدل استخدام الأدوية المقوية — كما كان الأمر في الماضي — لقلة أنواعها أقل من المهدئات، فإنها كانت دائمًا موجودة مثل مشروب الكينين، الذي لم يختفِ من تراث علم الصيدلة النفسية إلا في نهاية القرن التاسع عشر. وإلى جانب الأدوية المقوية التقليدية، كان الإفراط في التغذية هو أحدث صيحة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر في علاج الوهن العصبي. فبعد اتباع نظام غذائي قائم على اللبن لعدة أيام، نشرع في توفير تغذية وفيرة وغنية بالدسم مزودة بنبات الصبار والحديد، وأيضًا بزيت كبد الأسماك بالإضافة إلى مواد مستخلصة من الشعير أو الشمبانيا أو القهوة أو الخمر (ويستخدم الأخير بجرعات قليلة). وتجاوزت صيحة الدواء المقوي جدران المصحة، وأصبحت تستخدم مع الأطفال في عهد الجمهورية الرابعة؛ حيث يقدم إليهم زيت كبد السمك، أو مع الكبار، فيقدم إليهم «المقبلات المقوية» مثل الكينا (حيث يستخدم عقار الكوينتونين الذي يباع في الصيدليات ويخلط في الأغلب مع النبيذ الأحمر بنسبة ثلاث عشرة نقطة؛ مما أضفى على هذه الوجبة المقوية البسيطة الطابع الطبي).

هذا بالإضافة إلى المفرِّغات: المطهرات والمقيئات (حيث انتهى دور نبات الخربق ومضى طي النسيان)، والوسائل المسيلة للدورة الدموية والتي ظل يُشار إليها، على الرغم من عداء إسكيرول لها. «ينتشر الدم بكميات رهيبة، وتسيل دماء المرضى عقليًّا الذين ينزفون حتى تخور قواهم؛ اعتقادًا من الأطباء أنهم يشفونهم.» كانت هناك أشكال معينة من السوداوية المحتقنة والهذيان الحاد لدى المرضى الشباب تستدعي استخدام العلقات والحجامة. فيوصي بها كبير الأطباء بمصحة شارنتون-كالميل (١٧٩٨–١٨٩٥): «إذا رأينا نوعًا من احمرار الوجه وثقل الرأس وغيرها من المؤشرات المقلقة التي تحملنا على الاعتقاد بضرورة سحب كمية من دم المريض، نفضل استخدام العلقات عند الشرج أو الصدغ خلف الأذن عن استخدام الأدوية المسيلة للدورة الدموية التي ذاع استخدامها بكثرة خلال قرون.»80 إلا أنه كان هناك مؤيدون متطرفون لهذه الأدوية، مثل بنجامين روش — صاحب اختراع الجيراتور والمهدئ — والذي اقترح استخدام أدوية قد يصل حجمها إلى أربعة أخماس الكتلة الدموية الكلية للجسم.
تعمل الأدوية المهيجة — التي يمكن ربطها بالمفرِّغات — على الحل محل عمليات الإفراغ غير الكافية. على مدار القرن التاسع عشر بأكمله، كان المرضى غير المتجاوبين يخضعون إلى الفتيلة المنفَّطة، والاحتكاكات المهيجة ولاصقات الخردل اللاذعة. ويصف راي — بحسه الابتكاري — استخدام الشمع الساخن. بينما يقترح جيزلان وبينيل البلجيكيان — رش ملابس المريض «بمادة نباتية مسببة للحكة.»81 كما يقول المثل الإنجليزي، إذا كنت تعيسًا فاشغل نفسك بشيء آخر، وبعيدًا عن نظريات الخلطات القديمة — التي لم تزُل إلا على مضض وادعت دائمًا أنها قادرة على تغيير الحالة المزاجية — ظل التجريب القديم في علاجات الجنون حاضرًا.

ويعمل «العلاج بالحمى» (استخدام الحمى لأسباب علاجية) بالطريقة نفسها لعمل المهيجات (ومن بينها يضع قاموس ديشامبر الطبي استخدام نبات القُراص لعلاج حالات الشلل الهستيري). وكالمعتاد، ولدت الفكرة من ملاحظة عابرة: بعض حالات الشفاء من الأمراض العقلية تمت على إثر عدوى شديدة. في مطلع القرن العشرين، كانت الحقن الزيتية الكبريتية تحت الجلد تسمح بإحداث نوبات هياج متكررة. إلا أن جائحة البرد تصل بالعلاج بالحمى إلى ذروته. وبعد عدة عقود من التجارب القائمة على إحداث نوبات من الملاريا للمصابين بالشلل العام، استطاع طبيب الأمراض العقلية جوليوس فاجنر فون جوريج (١٨٥٧–١٩٤٠) من فيينا عام ١٩١٧ أن يقوم بحقن ثلاثة بيتا جرامات من الدم مأخوذة من رجل عسكري مصاب بحمى المستنقعات ودخل حديثًا إلى المشفى. ومن هنا ولدت فكرة «العلاج بالملاريا» التي تقوم على إحداث سلسلة من نوبات الحمى (حمى شديدة كل يومين) يجري التحكم فيها باستخدام الكينين. ونال صاحب هذا العلاج جائزة نوبل في الطب عام ١٩٢٧ — والوحيدة التي أهديت إلى طبيب أمراض عقلية — وحقق العلاج ذاته نجاحات غير عادية، واستطاع أن يفرض نفسه حتى ظهور العلاج بالبنسلين في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

وفي وسط هذا الزخم العجيب، تظهر وسائل علاجية نظن أنها كانت في طي النسيان. كانت هذه هي حال المحاولة القديمة للدخول في منطق المريض عقليًّا؛ وهي الطريقة التي انتقدها إسكيرول بشدة. أَفَلَيْست أفضل طريقة لتثبيت هلاوس المريض عقليًّا هي موافقته عليها؟ «فموافقتنا للمريض على واقعية هذيانه ورؤاه، تعني ليس فقط أنه ليس مجنونًا، وإنما صحةَ من يدعي أن يكونه، مثل اعتقاده أنه المسيح.»82 وعلى الرغم من ذلك، يدافع شارل شتراوس مدير مصحة شارنتون عن هذه الطريقة في مطلع القرن العشرين قائلًا: «نعتقد أنه هناك فائدة من خلق وجود خاص لغير الأسوياء، يكون مناسبًا لحالتهم الخاصة: متابعة ودفع تلك المحاولة مع محاولة محاكاة مظاهر تتماشى مع التفاوت الغريب في أفكارهم […] باختصار، نحن نأمل في وجود نية أو محاولة للتأقلم مع عالم الأوهام المتجانس مع هلاوس المريض (ويذكر شتراوس مقطع فيليب بينيل: «في بعض الظروف، يمكننا استخدام المكر واللجوء للكذب الماهر لكسب ثقة المريض والدخول إلى أحلامه بهدف شفائها تدريجيًّا») […] كانت هناك امرأة — في وسط أعنف نوبات جنونها — تصرخ باسم طفلها الذي تسبب موته في إصابتها بحالة من الهلع، ولحسن الحظ جاء الإلهام للدكتور ريتي بشراء دمية لطفل وليد بمستلزماتها ومهده وإعطائها لها، وبالفعل هدأت نوباتها وقل توترها، وكانت تقضي وقتها حاملة طفلها بين ذراعيها تغمره بقبلاتها وتضعه بحرص على فراشه.»83

كان من الممكن تصور أن المريض المحتجز يخضع أو يطبق عليه إحدى هذه الوسائل العلاجية فقط تبعًا لحالته أو لرأي الطبيب، إلا أن كثرة أنواع وطرق العلاج الموجهة المريض نفسه إنما هي شيء يدعو للعجب، وخاصة إذا كان المريض مصنفًا كقابل للعلاج وليس حالة ميئوسًا منها. فمع مريض الهوس يستخدم: العزل والحمامات الفاترة والباردة والأدوية المسببة للنزيف والمسببة للقيء والمليِّنات والأفيون ونبات كف الثعلب والبوروم ونظامُ تغذيةٍ معينٌ. ولمريض السوداوية: الحمامات بكافة أشكالها والاحتكاكات والأدوية المهيجة والمسببة للقيء ووسائل التسلية والتمارين، بينما يستخدم مع مريض الصرع: البوروم والبربيتورات وثقوب الجمجمة، بل وحتى بعض أنواع السموم. ولعلاج مريض الهستيريا: اللعبة الكبرى: تيار مجلفن وعلاج بالمعادن (وضع قطعة معدنية على الجلد) ومضادات التشنج والعلاج بالمياه للتسكين والتنويم المغناطيسي والأدوية المقوية والتمارين البدنية والأدوية المهيجة والمخدرة … باختصارٍ كل شيء تقريبًا.

تختلف هذه الوسائل بالطبع تبعًا لزمن الاحتجاز؛ فعلاج هذا المريض ذي الثلاثة والثلاثين عامًا — المحتجز في بون سوفو عام ١٨٤٨ (والذي بدأت هلوسته في وقت حصار مدينة روان) وشُخِّصَت حالته «بهوس مستمر وشديد مع حالات هياج شديدة ومتواصلة» — استلزم استخدام الأدوية المسيلة للدورة الدموية العامة والموضعية والمليِّنات والحمامات اليومية ونبات كف الثعلب «بجرعات عالية ومستمرة لفترات طويلة». ولكن لم يفلح شيء منها في تهدئته. فعُزِلَ، وبعد مضي شهر، خضع لعملية وضع فتيلة في الرقبة (قطعة من القطن تُمَرَّر تحت الجلد لتشكل منفذًا؛ أي إنها جرح صناعي يسبب تقيحًا موضعيًّا). مرت ثلاثة أشهر، والهياج مستمر، فوُصف له علاج زئبقي، ولكن دون تحسن. وأخيرًا توفي المريض بسبب الكوليرا في يوليو ١٨٤٩ قبل أن يتمكنوا من تجربة علاج آخر أو استبعاده.

في نهاية عهد الإمبراطورية الثانية، روى محتجز سابق في مذكراته: «أعترف أن الجميع يقبلون، بل ويباركون، تلك الأساليب الوحشية التي تدَّعي حب البشر، مثلما يقبلون ويباركون الأعمال الوحشية اللازمة للجراحة بنيَّة فعل الخير، ولكني أضع لهذه الأشياء شرطًا واضحًا؛ وهو أن يكون هناك يقين أو على الأقَل احتمالية للشفاء بعد تطبيقها.» وبالنسبة إلى الأطباء، يوجه لهم جراسونيه — مريض محتجز سابقًا — هذه الكلمة في النهاية: «كلما ازدادت مهارتهم، ازداد خوفي منهم!»84

احتجاز المجانين

على الرغم من التعدد المذهل لأساليب علاج الجنون، فإن الأمر كان يقتصر في القرن الذهبي لطب الأمراض العقلية على احتجاز المجانين وليس علاجهم كمرضى؛ أي إبعادهم عن الآخرين وحمايتهم من أنفسهم. ففي الحياة اليومية للمرضى المحتجزين، نجد أول شيء الحراس. هم دائمًا هناك أول الموجودين بل وأحيانًا الوحيدون الذين يتوسطون العلاقة بين المريض والجهاز الطبي والإداري، وفي يدهم القدرة البسيطة والرهيبة على تخفيف أو تغليظ اللائحة والعمل و«الالتزام المعنوي»؛ ولذلك يأتي الحارس في مرتبة قبل الطبيب، وأحيانًا أعلى منه.

يتحكم الحراس — كما رأينا — في كل لحظة من لحظات الحياة اليومية داخل المصحة؛ فيستيقظون قبل المرضى بوقت طويل، ويخلدون للنوم بعدهم. هم من يقع على عاتقهم احترام جدول المواعيد المقدس، ورعاية النظافة واللياقة داخل المصحة وتهدئة الخلافات ومنع المشاجرات. يجب ألا يغيب مريض واحد عن عيني حارسه. وفي كل لحظة يجب توقع أي حركة فجائية، ويتعين على الحارس مواجهتها. وتذكر اللوائح العديدة المخصصة للحراس أنهم «ليسوا بخدم، وليسوا بسجانين»، وإن كانوا يمارسون هذه الأدوار إلى جانب وظيفتهم كممرضين (لم يظهر المصطلح نفسه إلا في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين).

حتى العقود الأولى من القرن العشرين، كان للحراس سمعة سيئة لدى الإدارة والجهاز الطبي. والدليل على ذلك كثرة العقوبات التي كانوا يُهدَّدون بها. فعند أقل خطأ، كانوا يُعاقَبون، إذا نسي أحدهم مثلًا إغلاق أحد الأبواب الكثيرة بالمفتاح داخل المنطقة، أو إذا سار أحدهم في مكان ما داخل المصحة غيرِ مصرح له بالتجول فيه. وهناك أيضًا حالات من الفصل الفوري ودون تعويض في حالة: سب أو تعنيف أو ضرب مريض، أو سرقة شيء، أو السكْر، أو «الثورة ضد السلطة»، أو التشجيع على أي مراسلات، أو تجارة غير قانونية، أو الخروج دون إذنٍ خاصةً أثناء الليل. وفي تقريره المرفوع إلى محافظ سير عام ١٨٩٣، ينتقد كبير الأطباء بمصحة منطقة بورج «طاقم الإشراف» بلهجة قاسية، منددًا بعدم كفايتهم عدديًّا وقلة كفاءتهم مهنيًّا. «وينقسم الحراس إلى أربع فئات: المتسكعين داخل المصحة والمتشردين والأشرار واللصوص والسكارى والمهملين — ولا أريد أيًّا من هؤلاء بأي ثمن — ثم من هم أقل مستوًى وهم غير مستقرين ولا تتناسب كفاءاتهم مع ادعاءاتهم، وهناك أيضًا الطموحون الذين يقبلون على مضضٍ وظيفتهم كحراس في انتظار وظيفة جديرة بقيمتهم، وأخيرًا عمال مَزارعَ دون مهارة أو عمال مفصولون من المصانع الخاصة والورش العسكرية بسبب سنهم أو عجزهم. وهؤلاء هم الأفضل، فعادة ما يكونون مسالمين وأمناء، وخاصة المزارعين منهم، يبقون في المصحة ويتعلقون بها أحيانًا، إلا أن جهلهم وكسلهم وذكاءهم يفوق كل خيال.»85
من هم هؤلاء الحراس على وجه التحديد؟ عادة ما يكونون رجالًا غير متزوجين لم يتجاوزوا الأربعين عامًا، تعليمهم بسيط، قادمين من الريف. وعندما علموا بوجود وظائف في المصحة، حضروا أحيانًا في جماعات. يتقاضون راتبًا ضئيلًا للغاية؛ مائتي فرنك سنويًّا طوال معظم القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كان يجني فيه النجار ثلاثة أضعاف هذا المبلغ. وكان الحراس الذين يعملون مع المرضى المصابين بالهياج أو بالصرع يتلقون زيادة قدرها عشرون فرنكًا. ويضاف إلى ذلك وجبة الظهيرة ولتر من النبيذ يوميًّا، وزوجان من الأحذية في نهاية كل عام. كانوا يُعالَجون بالمجان، وأحيانًا يتم تنظيف ملابسهم وإصلاحها أيضًا. كان يمكن للحارس أن يحظى بإذنٍ لثلاثة أيام للذهاب لبيته مرتين كل عام. خروجه من المصحة محدود للغاية، خاصة عندما كان يبيت فيه، ومن المثير أن منهم من كان يفضل أن تكون له غرفة في المدينة على الرغم من ضآلة راتبهم. قبل صدور قانون ١٨٣٨، أبدى فيريس — أول مفتش لمصحات الأمراض العقلية — تأثرًا شديدًا من هذا الموضوع. «كان يحب أن يكون هؤلاء الحراس شبابًا وأقوياء وذوي مشاعر إنسانية، ويكرسون كل حياتهم لرعاية هؤلاء التعساء الذين عُهد إليهم بهم. تحاصرهم في كل لحظة — ليلَ نهارَ — الصرخات والصياح الصادر عن المرضى، بل وقد تتعرض حياتهم للخطر. ومقارنة بما يتقاضاه أقل عامل ومع هذا الكم من التعب والقلق، يتقاضون مكافأة شهرية — قليلة للغاية مع إضافة الغذاء والكساء.»86

ولا يختلف تقرير عام ١٨٧٤ كثيرًا في هذا الصدد: «إذا تصادف وجود عنصر جيد في الحراس، نادرًا ما يظل يعمل في المصحة أكثر من الوقت الذي يستغرقه البحث عن وظيفة أخرى أفضل وأقل تعبًا […] أما العناصر السيئة منهم، أو أكثرهم سوءًا، فسرعان ما يتعرضون للفصل من عملهم؛ مما ينتج عنه تغيرات دائمة تؤثر سلبًا على انتظام الخدمة وعلى المرضى أنفسهم.» ويضيف التقرير أن الوضع يتحسن في المصحات التي يخضع فيها الحراس لإشراف راهبات.

بالفعل، نادرًا ما يمكث الحراس طويلًا في مكان واحد؛ سواء لإصابتهم بالإحباط أو لفصلهم من المصحة، أقل من ستة أشهر في الغالب (على الرغم من أن الراتب يزيد إلى مائتين وخمسين فرنكًا بعد هذه الأشهر الستة السيئة). لم يكن التحسن في الوضع سريعًا بل كان بطيئًا جدًّا. وتكونت بالفعل أسر من الحراس، فيخلُف الابن والدَه، والأمر كذلك بالنسبة إلى الموظفين. وها هم يظهرون في صورة لأحد الهواة في الثلاثينيات من القرن العشرين، مرتدين قميصًا أبيض طويلًا فوقه بدلة من الكتان الأسود لها أزرار ضيقة، وربطة عنق وطاقية مزينة بشرائط ومربوطة بالحزام بواسطة حبل طويل، وممسكين بكمية مذهلة من المفاتيح؛ وهي الميزة الوحيدة بل وشعار وظيفتهم. وترتسم على وجوههم نظرة فخر. وكوَّنوا من الآن فصاعدًا اتحادًا.

وعلى مدار القرن الذهبي لطب الأمراض العقلية، ظل الحراس فاعلين رئيسين في تكوين «حقيقة وواقع المصحة العقلية»، ولم يستطع أحد المؤرخين اكتشافهما. فلم تنقل السجلات كل شيء، وكل ما لا يقال يدور على مستوى الحراس وحدهم في مواجهة المرضى الذين لا يبتعدون عنهم كثيرًا على المستوى الاجتماعي والثقافي. فهم — أكثر من الأطباء — الذين يجعلون داخل المصحة الواحدة ألف مصحة. لقد كان أحد أسباب إلغاء سترة المجانين في مصحة القديس لوقا ببو عام ١٨٩٦، أن الحراس كانوا يستخدمونها من تلقاء أنفسهم، بل ويسيئون استخدامها، في حين أنه ليس لهم الحق في عقاب أي مريض من تلقاء أنفسهم.87
أما فيما يتعلق بعمليات التهريب الصغيرة اليومية، فقد رأينا واقع الأمر بالنسبة إلى البريد: إذا مر بريد غير شرعي، فهذا يعني أن هناك من جعله يمر، حارسًا أو موظفًا. وهناك أيضًا — في المصحات كما في السجون وكل أماكن الاحتجاز — ما أسماه علماء الاجتماع الأمريكيون بالمكان الحر؛ حيث يتم تجاهل اللوائح قليلًا. هذه هي حال الحانات السرية التي تختفي في أعماق الورشة، وحيث يجلس الحراس جنبًا إلى جنب مع المرضى المحتجزين. حتى إنه في نهاية حكم الإمبراطورية الثانية كانت هناك حانة مرخصة داخل مصحة الإخوة سان جون دي ديو بمدينة ليل، وكانت تسمى «البطة البيضاء»، وكانت تبيع للمرضى «الجعة والنبيذ والقهوة والبراندي والسيجار بأسعار زهيدة».88 بيد أن اللائحة الداخلية لهذه «الحانة» الغريبة تنص على أن يكون هناك أمين سر مسئول عن تسجيل أسماء من يشرب وما يشربه وتكون الكميات محددة طبقًا لكل حالة. كانت حانة «البطة البيضاء» تقدم للعاملين بالمؤسسة وسائل ترفيه شريفة، وتصل فوائدها إلى تقديم وليمة دورية لكل زبائنها.

يجب الاستفادة من كل شيء لتسيير العمل بالمصحة، وينطبق هذا على الآنسة بوتار كبيرة الممرضات بشاركو بسالبيتريير، التي كانت تشبه «البطة البيضاء». في عام ١٨٩١، نظمت المعونة الشعبية «حفلًا علمانيًّا» في المسرح الكبير بمصحة سالبيتريير للاحتفال باليوبيل الذهبي لخدمة مارجريت بوتار. لقد أصبحت هذه المرأة المسنة النحيفة ذات الهيئة الصارمة — والتي أطلق عليها الأطباء «ماما بوتار» أو «بابوت» — نموذجًا للممرضة العلمانية في أوج الهجوم الثوري على المؤسسات الدينية، ولقد كُرمت بِوسام الشرف في عام ١٨٩٨ على يد الوزير لويس بارتو شخصيًّا. وتقاعدت وهي في التاسعة والسبعين من عمرها لتقيم في سالبيتريير بموجب قرار أصدره مازاران في هذا الوقت، يعطي الحق لأي موظف خَدَمَ لأكثر من عشرين عامًا بالمصحة العامة أن يقيم بها.

وخضعت الآنسة بوتار إلى الترتيب الطبقي، الذي يعطي تدرجًا للرتب في الجيوش؛ ففي المصحة، يدعى «الرقيب» كبير المشرفين، وتكون له سلطة على الحراس، فيفتش دون إبطاء منطقته بدءًا من المناطق المهجورة في أوقات معينة من اليوم، ويكون عليه مراقبة قائمة العاملين والقيام بدور رئيس العمال في الورشة، ويتولى أيضًا تفتيش الداخلين، وأي عمليات تفتيش، ويراقب الممرات والبهو، وأخيرًا — وعلى وجه الخصوص — يكون هو المتحدث أمام الإدارة والطبيب؛ فمن بين المفارقات داخل المصحة أن يضطر المريض عقليًّا — إذا ما أراد مخاطبة كبير الأطباء — إلى توجيه الحديث في البداية إلى كبير المشرفين الذي يحكم هو إذا ما كان الأمر يستدعي مقابلة كبير الأطباء أم لا. أليست هناك زيارة يومية؟ ولكننا رأينا كيف تتم تلك الزيارة. يكون كبير المفتشين هو السيد، وعلى كبير الأطباء الذي يرفض التفاهم معه أن يتوقع أيامًا صعبة داخل المصحة …

ولكن أين كبير الأطباء من كل هذا؟ يجب ألا تجعلنا الأسماء الكبيرة والشهيرة — التي تظهر على الأبحاث الضخمة، والتي تطلق على كيانات متخصصة في العلاج النفسي — ننسى الجزء المختفي من الجبل الجليدي للطب العقلي؛ أي هؤلاء الأطباء المغمورين المحبوسين داخل مستشفياتهم بعيدًا عن المؤتمرات وأضواء الأحداث الجارية. فحقًّا، لا يصنع هؤلاء تقدم النظريات، وإنما يتولون هم مسئولية تطبيقها وتشغيل المصحة، حتى ولو بشكل سيئ. ربما يمكننا الاعتقاد بأن قلة ظهور كبير الأطباء وضعف حضوره يرجع لكونه أعلى قمة في المصحة والمدير بلا منازع، إلا أن هذا ليس صحيحًا.

حقًّا، يتخذ كبير الأطباء قرارات الاحتجاز والخروج، وهذا ليس بقليل. ويتحدث المرضى باحترام للحراس، وخاصة كبير المفتشين، الذين يتحدثون بدورهم بإجلال مع كبير الأطباء. وهذا أيضًا ليس بالأمر الهين. وفي النهاية، فإنه يتلقى أجرًا جيدًا؛ ففي المصحات العامة يتراوح راتبه بين ثلاثة آلاف وستة آلاف فرنك سنويًّا تبعًا للخمس فئات التي تحدد مسيرته المهنية (ولنتذكر راتب الحارس)، ولكن هذا لا ينفي كمَّ الهموم التي يحملها على عاتقه. في البداية، يجب أن يتقاسم كبير الأطباء (ويسمى هكذا حتى وإن كان الطبيب الوحيد كما هي الحال عادة في النصف الأول من القرن التاسع عشر) السلطة مع المدير أو الرئيس (وفي الأغلب يكون امرأة) لمؤسسة دينية. ويُخضع مرسوم عام ١٨٥٢ تعيينه في المستشفيات الخاصة إلى موافقة المحافظ — الذي يمكنه رفضه — بينما يجري تعيينه في المصحات العامة بقرار من الوزير. وفي الواقع، يشكل هذا الأمر نوعًا من الاختلاف، إلا في حالة اختلاط المنصبين، وهو أمر شائع (ولقد كان هناك اثنتان وثلاثون مصحة بهذه الحالة عام ١٨٧٤). أما بالنسبة إلى المصحات الخاصة، فلا يكون كبيرو الأطباء أكثر من موظفين — بالطبع محترمين ومكرمين — ولكن يمكن استبدالهم بكل تأدب. وإذا كان في مشفًى عام أو خاص أو حتى خاص تابع لجهة عامة، على كبير الأطباء أن يقاوم ضد إدارة تافهة ومتدخلة؛ ففي مصحة بون سوفور، تملأ الراهبات التقارير الصحية للمرضى، بالطبع بناء على تعليمات الطبيب، ولكن بأسلوب وعبارات من اختيارهن. لا يشعر كبير الأطباء القابع في أعماق مصحته في الأقاليم يمارس عمله كطبيب أمراض عقلية على أرض الواقع بأنه مهتم بحركات الإصلاح والاكتشافات «الباريسية»، ولكنه قد يحاول دون جدوى إدخال بعضها إلى خدمته. وعن هؤلاء — وهم الأكثر عددًا في الواقع — يكون من الصعب الحديث عن «ارتداد الشخصية الطبية» (ميشيل فوكو).

في النهاية، فإن «احتجاز المجانين» ليس آمنًا. فلا يكون الحراس أو الأطباء دائمًا بمأمن من أي اعتداء. في مقال صادر بتاريخ ١٩١١،89 يعدد طبيبٌ للأمراض العقلية بمصحة فيلجويف — بنوع من التضخيم — حالات القتل والإصابات البالغة التي تجاوزت الخمسين وراح ضحيتها أطباء وحراس بالمصحة؛ إلا أن هذه الأرقام تمتد خلال عشرين عامًا وعلى مستوى العالم أجمع. كما أن المصحات الكبرى تعرض إراديًّا كافة الأسلحة التي تُضبط مع المرضى: سكاكين وآلات ثقب ودبابيس، وإن كان فعل الاعتداء نفسه، حتى ولو على مريض آخر، يشكل حالات غاية في الندرة. أما عن التمرد، فهو يحدث بشكل نادر؛ مما يجعله حدثًا جاذبًا للصحفيين. في مايو ١٨٩٠، حينما تسلق المرضى المصابون بالهياح بمصحة بيستر الأسطح للاحتجاج على الطعام، لم ينجح تفريقهم إلا بعد استخدام خراطيم رجال الإطفاء التي استخدمت لأول مرة كوسيلة للقمع، واقترح أحد الصحفيين الموجودين بنوع من الدعابة استخدامها كوسيلة لتفريق المظاهرات السياسية. وتم الأخذ بحديثه.

وإذا كان كبير الأطباء يكرس القليل من وقته وجهده لدراسة الطب النفسي، فإنه يحرر في المقابل عددًا لانهائيًّا من التقارير: شهادات دخول ومتابعة ودفتر للزيارات (ودفتر للأدوية ليوقعه) وتقرير نصف سنوي وبيانات إحصائية وإجابات لطلبات ضرورية دائمًا للمحافظين حول حالة معينة، ناهيك عن حالات الهرب أو الانتحار. ولمدة طويلة، ظل الطبيب يوزع وقته في المدينة ما بين الأنشطة الخاصة والعامة. ولم يكن يقيم في المصحة؛ ففكرة إقامة الطبيب في المصحة — وهو أمر ضروري لملاحظة المرضى — لم تبدأ إلا بعد ظهور فكرة الطبيب المساعد الذي يقوم بدور المتدرب.

عُقدت أول مسابقة إقليمية لاختيار طبيب نفسي ابتداء من عام ١٨٨٨، وأجريت أول مسابقة موحدة (وطنية) منذ عام ١٩٠٢. وقُبِلَت أول امرأة في هذه المسابقة في عام ١٩٠٨. ويُعَيَّن الأطباء المقبولون في المسابقة في وظيفة طبيب مساعد. وأحيانًا ما كان يتعين عليهم الانتظار لعدة سنوات قبل أن يترقَّوا لمنصب كبيري أطباء. منذ عام ١٩٢٢، ألغيت وظيفة الطبيب المساعد، وتحولت المسابقة إلى مسابقة اختيار أطباء لمصحة الأمراض العقلية، ثم في عام ١٩٣٧، إلى اختيار أطباء للمصحات النفسية. بيد أن مهنة الطبيب النفسي — التي ظهرت بقوة — لم تجعل من كبير الأطباء السيد المطلق في المصحة؛ فالسيد المطلق هناك هو المصحة ذاتها، التي تفترس أبناءها مثل إله القدر كرونوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤