الفصل الرابع

«جولة» في مصحات الأمراض العقلية في الغرب

لم يكن القرن الذهبي لطب الأمراض العقلية ذا طابع فرنسي، ولم يكن ظهوره محددًا التواريخ نفسها من بلد إلى آخر (فعام ١٨٣٨ هو تاريخ فرنسي تمامًا)، حتى وإن كان بإمكاننا الحديث عن القرن التاسع عشر بأكمله الذي يمتد على الأقل إلى الحرب العالمية الأولى. وبعيدًا عن أي كيان نظري أساسي مشترك وضعه بينيل — وسوف نأتي لاحقًا على ذكر مدى ثرائه على مدار هذه الفترة — لم تكن الاستجابات المؤسسية واحدة، حتى داخل العالم الغربي نفسه.

شكلت بلجيكا1 التي نالت استقلالها عام ١٨٣٠ — والقريبة من فرنسا على عدة مستويات — لجانًا مختصة بدراسة مسألة مرضى الاعتلال العقلي، والتي قادت إلى إصدار قانون السابع عشر من يونيو عام ١٨٥٠، الذي ينص على ضرورة الحصول على تصريح لإنشاء مؤسسة للأمراض العقلية. كانت البلاد تضم ما لا يقل عن ٥٤ مؤسسة، أغلبها صغير. وكانت ثمة المستعمرة العائلية «جيل» التي ظلت تضم مرضى، كانوا في الواقع محتجَزين. في عام ١٨٦٢، أصبحت المستعمرة ملكًا للدولة وتحولت إلى مستوصف، ثم أضيفت إليها مصحة للأمراض العقلية. ثم جاء قانون الثامن والعشرين من ديسمبر يعدل ويكمل القانون السابق. فأصبح الطبيب — الذي كان حتى ذلك الوقت يُختار بناء على قرار مدير المصحة — يُعين بقرار مباشر من وزير العدل وليس الصحة. وتسمح الأحكام الجديدة — وإن شابها الكثير من القسوة فيما يتعلق بالحريات — بفكرة التطور نحو الخدمات المفتوحة قبل فرنسا. كانت هذه «الأجنحة الحرة» موجودة منذ زمن طويل للمرضى القادرين على الدفع، ولكنها كانت تلقى مقاومة من جانب الإدارة التي كانت تعتبرها مصحات غير قانونية. وبعد الحرب العالمية الأولى، افتُتح في بلجيكا العديد من المستوصفات النفسية للكبار وللأطفال (أُنشِئَتْ أول مؤسسة مغلقة لعلاج الأطفال عام ١٩٢٠)، متجهة بذلك — قبل فرنسا أيضًا — إلى سياسة تقسيم القطاعات.
في هولندا، كان الوضع مختلفًا بالكامل،2 وكان قانون عام ١٨٤١ يدير الحد الأدنى من مشاكل المرضى. فلم يضع لوائح إلا في أضيق الحدود، ولم يلزم الأقاليم بإنشاء مصحات للأمراض العقلية، محجِّمًا دور الطبيب بشكل كبير. ولم يكن قانون عام ١٨٨٤ أكثر إلزامًا، ومن ثم كانت الأقاليم تفضل اللجوء إلى مساعدات المؤسسات الدينية. في ذات العام ١٨٨٤، تأسست جمعية المعونة المسيحية لمرضى الأمراض العقلية والعصبية. وتهدف هذه المؤسسة البروتستانتية إلى مزج الطب بالدين داخل وحدات صغيرة تأخذ شكل العائلة. وهكذا، يسمى رئيس الجناح «رب الأسرة» (أو «ربة الأسرة»). ويقدم هناك علاج معنوي له طابع أخلاقي … لم يتمكن الكاثوليك من الاندماج في هذه المساعدة، وأنشَئوا مؤسساتهم الخاصة تحت إشراف جمعيات الرهبان والراهبات مثل جمعية المحبة أو الخير. وعلى الرغم من فصل الطب النفسي عن الدين هذه المرة، ظل عمل الأطباء خاضعًا لإشراف لصيق من الكهنة.
أما الدول الإسكندنافية3 (بما فيها أيسلندا وفنلندا)، فقد شهدت تطورات مختلفة. في النرويج — المتحدة في ذلك الوقت مع السويد — جرى التصويت على القانون النرويجي لعلاج وحماية مرضى الاعتلال العقلي في عام ١٨٤٨. وأُنشئت أول مصحة للأمراض العقلية عام ١٨٥٥ على غرار مصحة أوكسير بفرنسا. وفي العقود التالية، تم إنشاء ثلاث مؤسسات أخرى. في السويد، كان الأمر يتم عبر منظمة خيرية — «مجموعة السيرافيم» — والتي كانت مسئولة عن نظام المصحات حتى عام ١٨٧٦. في فنلندا — الخاضعة في ذلك الوقت للسيادة الروسية — كانت الدولة هي المسئول الوحيد عن احتجاز مرضى الاعتلال العقلي. وأنشئت أول مؤسسة هناك عام ١٨٤١، ثم تلاها ثلاث أُخَر في النصف الثاني من القرن. وفي الدنمارك، كانت المصحات تابعة للدولة أيضًا. وافتتحت الأولى عام ١٨٢٠، ثم خمسٌ أُخَر ما بين ١٨٥٢ و١٨٨٨. كما تأسست خدمة خاصة للمتأخرين عقليًّا منفصلة عن المصحات النفسية في عام ١٨٥٥. أما أيسلندا، فلم تُفتتَح بها مصحة للأمراض النفسية إلا في عام ١٩٠٧ بمدينة ريكيافيك. وتشترك هذه البلاد جميعها في تأثرها العميق بالطب النفسي في ألمانيا.

حتى القرن التاسع عشر، كانت مسئولية رعاية مرضى الاعتلال العقلي في ألمانيا تقع على عاتق البلديات. كان في كل مصحة رئيسية في كل منطقة مجموعة من الغرف. واقتضى الأمر الانتظار حتى عام ١٧٦٤ لإنشاء أول مؤسسة خاصة لعلاج مرضى الاعتلال العقلي بالقرب من بريم. وفي أعقاب الحروب النابليونية، قادت حركة العلمنة في البلدان المختلفة إلى دفع هذه البلاد إلى تولي مسئولية مرضى الاعتلال العقلي بنفسها. في عام ١٨٠٥، «أنشئت مصحة مرضى الاعتلال العقلي» ببيرويث، وفي عام ١٨٢٠، أنشئت مصحة أخرى في شليزويج. إلا أن عدد هذه المصحات لم يتضاعف إلا بعد عام ١٨٥٠. في عام ١٨٩٩، كان في ألمانيا ما لا يقل عن مائتين وتسع وسبعين مصحة لمرضى الاعتلال العقلي (من بينهم مائتان وأربع وخمسون مصحة جديدة تمامًا). كما تم إنشاء مائة وستِّ مصحات خاصة في الفترة من عام ١٨٤٠ وحتى ١٨٦٩. بدأ الأمر بمصحات صغيرة (يقترح راي أن يكون بالمصحة ما بين مائة وعشرين ومائة وخمسين سريرًا)، إلا أن الطلب تجاوز الأعداد المتاحة، مثلما حدث في فرنسا. أصبحت المصحات تضم في المتوسط ثلاثمائة مريض في منتصف القرن التاسع عشر، وزادت الأعداد بكثرة في مقتبل عام ١٩٠٠. وأنشئت مصحة كليف عام ١٩١١ لتستقبل ألفين ومائتي مريض عقليًّا. تمتاز ألمانيا في الأساس بعدم الخلط بين المرضى الذين يمكن علاجهم والمرضى الميئوس من حالاتهم. ولكن في الواقع — لئلا تُجرح مشاعر العائلات — ظل عدد كبير من المرضى الذين انتقلوا من الفئة الأولى إلى فئة الميئوس من شفائهم في أماكنهم نفسها (سميت مصحات «التوافق النسبي»). كانت الطرق العلاجية هي ذاتها المستخدمة في فرنسا. في المقابل، لم تكن هناك أحكام تشريعية ألمانية محددة، ولم تظهر إلا في عام ١٩٤٩.

اصطبغت العقود الأولى من القرن التاسع عشر في ألمانيا4 بطابع الطب النفسي الرومانسي الذي يعتزم تصحيح مفهوم المرض الروحي. ويعد أهم ممثلي هذه المدرسة هم جوهان كريستيان راي (الذي التقيناه قبلًا) وجوهان كريستيان هينروث (١٧٧٣–١٨٤٣) — الذي يعد متقدمًا ومتأخرًا على عصره في ذات الوقت. كان متأخرًا عندما حاول — وهو من أنصار لوثر — أن يعيد إدخال مفهوم الخطيئة كسبب لحدوث الجنون. ومتقدمًا لتمييزه بين «هذا» الذي يتضمن الغرائز والمشاعر و«الأنا»، وبين كيان آخر يوصف ﺑ «نحن العليا»؛ وهي ليست الأنا العليا بعد؛ مما جعله رائدًا من رواد التحليل النفسي. وكان أول من استخدم مصطلح «نفسي جسمي». إلا أن صاحب الفضل في تحول الطب النفسي الألماني من الرومانسية إلى الإيجابية والأكاديمية في الأساس هو فيلهلم جريزينجر (١٨١٧–١٨٦٨) أستاذ الطب بتوبنجين وكييل وزيورخ، والذي أصبح قبل وفاته بعدة سنوات أستاذًا للطب النفسي وعلم الأعصاب ببرلين. كما يعد أحد مؤسسي علم الطب العصبي النفساني. ولقد أسفر هذا الطب النفسي الجامعي الوليد — كما سنرى — عن محاولة لإنشاء نظام أو أنظمة لتصنيف الأمراض العقلية. ولقد ساهم جريزينجر في تطوير مصحات الأمراض العقلية في ألمانيا، خاصة بإدخاله سياسة عدم تقييد المرضى أو ما يسمى بالمستعمرة الزراعية.

ومن بين أطباء الأمراض العقلية الألمان الكثيرين، نذكر جوهان فون جودن (١٨٢٤–١٨٨٦) — الطبيب المساعد بمصحة سيجبورج (بالقرب من بون) ثم بمصحة إلينو (في باد). تولى في عام ١٨٥٥ إدارة مصحة فيرنرك (بالقرب من ورتزبورج) — أول مؤسسة ألمانية تُطَبَّق فيها سياسة عدم تقييد المرضى. وفي عام ١٨٦٩، أصبح مديرًا للعيادة النفسية الجامعية بزيورخ، ثم في عام ١٨٧٢، تولى إدارة مصحة جابيرزي ببافاريا العليا، ونال أيضًا كرسي الأستاذية في الطب النفسي بميونخ. عهدت إليه الحكومة البافارية برعاية الملك لويس الثاني «الملك المجنون» — والمحتجز في قصر بيرج. في مساء الثالث عشر من يونيو ١٨٨٦، لم يرجع الملك ولا طبيبه من نزهتهما عند بحيرة ستارنبرج. ووجدت جثتاهما غارقتين هناك، وظهرت على جثة الطبيب آثار خنق. يبدو جليًّا أن الملك المجنون — ذا البنية الضخمة — قتَل طبيبه قبل أن ينتحر.

شهد الطب النفسي النمساوي5 في القرن التاسع عشر ثراءً بشكل خاص، إلا أن تطوره العلمي تم خارج أسوار المصحات (وسنَدرس الأمر في الفصل التالي). ولِنبقى في نطاق الطب العقلي، كان من المثير ملاحظة أن «برج المرضى» الشهير بفيينا–إيرنتهورم الذي افتتح عام ١٧٨٩ كان سببًا للإحباط؛ فلقد ترك هذا المبنى الدائري الضخم أثرًا سيئًا. وعندما زاره إسكيرول قال: «أمر جوزيف الثاني ببناء هذا البرج ذي الطوابق الستة، بزنازينه التي تطل على ممر دائري، بينما تستمد كافة الطرقات الضوء من مركز الساحة التي لا يزيد قطرها عن ثلاثة توازات (حوالي ستة أمتار). إنه مبنًى كريه.»6 ويضيف مورو دي تور مقارنًا بين برج فيينا وقصر سانت أنج المشئوم بروما: «إنه أثر يرجع إلى عصر بعيد، ولكنه مكان بشع للإقامة.» ولا يختلف رأي أطباء الأمراض العقلية النمساويين كثيرًا. في عام ١٨١٦، أنشأ بي جورجين — أحد كبيري الأطباء ببرج فيينا ذائع الصيت — مؤسسة صغيرة خارج فيينا لاستقبال المرضى المسالمين، وسرعان ما اقتصر البرج على المرضى الفقراء والميئوس من شفائهم. ومستندًا إلى أفكار راي، أنشأ في عام ١٨١٩ أول مؤسسة خاصة لمرضى الاعتلال العقلي الأثرياء، والتي يقوم فيها العلاج على الموسيقى ولعب البلياردو والورق وركوب الخيل. ومنذ عام ١٨٢٠، بدأ التفكير في استبدال البرج (الذي لم يكن قد جاوز الثلاثين عامًا) بمؤسسة كبيرة تتماشى مع مبادئ طب الأمراض العقلية الجديدة. وزار كبيرُ أطباءَ آخرُ من مصحة برج فيينا — إم فون فيسزانيك — مصحات فرنسا وألمانيا وسويسرا في عام ١٨٤٣.

كان هذا هو العصر الذي ينبغي فيه أن يقوم كل طبيب أمراض عقلية، ليكون جديرًا بلقبه، بجولة (بمعنى زيارة) كبيرة نسبيًّا في مصحات الأمراض العقلية خارج بلاده. كان هذا يعد تدريبًا إجباريًّا للبريطانيين والأمريكيين يتيح لهم مقارنة الأنظمة المختلفة والإفادة منها. بينما لم يهتم الفرنسيون كثيرًا بهذا النشاط. وكان مورو دي تور — الذي رأيناه سابقًا يزور برج المجانين بفيينا — خارجًا عن النموذج الفرنسي لكثرة «زياراته العلاجية» التي كان يقوم بها بناء على طلب مديره إسكيرول. وبعد مناقشة رسالته في عام ١٨٣٠، قام بزيارة إلى سويسرا وإيطاليا. وفي عام ١٨٣٦، شرع في زيارة استغرقت ثلاثة أعوام عبر مصر والنوبة وفلسطين وسوريا وآسيا الصغرى، واكتشف خلالها الحشيش. وفي عام ١٨٤٥، نشر دراسة «مقال عن الحشيش والجنون»، كما رأى في ألياف نبات القنب الهندي «وسيلة فعالة ومتفردة للبحث في علم نشوء الأمراض العقلية» (متقدمًا بذلك الدراسات المستقبلية في علم الأمراض النفسية التي تسببها مادة معينة والتي جرى تجريبها على المواد المهلوسة).

وعودةً إلى النمسا، أُنشِئَت أول مؤسسة تتسع لسبعمائة مريض في منتصف متنزه واسع في عام ١٨٥٣. وعلى غرار مصحة براج — التي تأسست عام ١٨٢٢ — خُصصت غرف فيها لأساليب العلاج التي تقوم على العمل اليدوي. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، جرى تأسيس العديد من المصحات العقلية. فمنذ عام ١٨٦٣، أُنشئ حوالي واحد وعشرين مشفًى عامًّا وسبع مصحات خاصة. وكان القانون يحظر احتجاز أي مريض دون شهادة من طبيب حكومي في المنطقة أو البلدية. وحتى في الحالات الطارئة، لا يمكن تأجيل هذا الإجراء لأكثر من أربع وعشرين ساعة. كما كان يمكن للمرضى مغادرة المصحة — سواء أتموا شفاءهم أم لا — بناءً على رغبة ذويهم، بشرط أن يتعهد هؤلاء برعايتهم.

وكما كانت الحال في ألمانيا، ظل هناك تصوران مغايران في النمسا؛ الأول نفسي إنساني والآخر جسدي. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، يعد مسمر في الحالة الأولى وجال في الحالة الثانية مثالًا لهذا. إلا أن الاثنين يشتركان في قرارهما بترك فيينا لتعارض نظرياتهما مع التصورات الأخلاقية والدينية في عصرهما. ويعد إرنست فون فوشتيرسليبين (١٨٠٦–١٨٤٩) الممثل الأهم للطب النفسي النمساوي الرومانسي. وفي مؤلَّفه «صحة الروح» — الذي طُبع أربعين مرة خلال خمسة وعشرين عامًا وتُرجم للغات الأوروبية الرئيسة — يوضح ضرورة مقاومة مبادئ الجنون الموجودة لدى كل واحد منا دون توقف أو رحمة. كان هو أول من درَّس الطب النفسي في فيينا، وكان رائدًا للصحة العقلية (قبل أن تحظى بهذا الاهتمام في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية). ثم جاء — مثل ألمانيا وبإيحاء من جريزينجر — زمن الملاحظة الإكلينيكية والوصف. ولقد حاول جوزيف ديتيل (١٨٠٤–١٨٧٨) — ولا سيما في «التشريح الإكلينيكي للأمراض العقلية» (١٨٤٥) — ربْط المرض العقلي بإصابات في المخ. وبعيدًا عن التكهنات، أصبح الأمر من الآن فصاعدًا يقوم على إيجاد تشخيص موضوعي للأمراض العقلية. إلا أن المدرسة «الموضوعية» بفيينا انقسمت بدورها إلى مدرسة تشريحية باثولوجية يمثلها بوضوح ثيودور مينيرت (١٨٣٣–١٨٩٢) — الذي اتخذ فرويد تلميذًا له لفترة من الوقت، ومدرسة أخرى وصفية ترتكز على علم أسباب الأمراض. وهكذا أكد ريتشارد كرافت إبينج (١٨٤٠–١٩٠٢) — في محاضرته الافتتاحية بعيادة الطب النفسي الإكلينيكي الملحقة بمصحة فيينا للأمراض العقلية — أن «الطب النفسي الحالي يجب أن يكون قبل كل شيء علمًا وصفيًّا وليس تفسيريًّا.»

في الحقيقة، وبعبارات نظرية، لا يوجد طب نفسي قومي خالص، خاصة في بلاد منفتحة مثل النمسا. والأمر كذلك بالنسبة إلى العديد من الأطباء. فماكس ليدزدورف (١٨١٨–١٨٨٩) درس في النمسا ولكنه أقام في ألمانيا، ثم فرنسا وبريطانيا وروسيا. وشغل منصب كبير الأطباء في مصحة الأمراض العقلية بسان بطرسبرج، قبل أن يبدأ سيرته المهنية في النمسا؛ حيث جمع بين إدارة مصحة خاصة وبين تدريس الطب النفسي بالجامعة.

وعلى الرغم من صغر مساحتها، فإن سويسرا7 كانت تتسم باللامركزية الشديدة، وكذلك طب الأمراض العقلية لديها. فحتى بعد صدور الدستور السويسري عام ١٨٤٨، ظلت الأقاليم محتفظة باستقلالها فيما يتعلق بميزانية التعليم والصحة العامة. في الفترة ما بين ١٨٣٠ و١٩٠٠، كانت المقاطعات التي تَجاوز عدد سكانها مائة ألف تنشئ مصحات أمراض عقلية تضم من مائتين إلى ثلاثمائة سرير. بالإضافة إلى مؤسسات دينية تهدف عادة لخدمة مرضى الصرع. وتكمن خصوصية سويسرا في أن الأطباء مديري المصحات العقلية هم من يُعهد إليهم بتدريس الطب النفسي، ومن ثم لا يكون هناك انفصال بين النظرية والتطبيق العملي. وعلى العكس، توجد خصوصية أخرى؛ ألا وهي الفصل الواضح بين الطب النفسي وعلم الأعصاب (الذي يرتبط بالطب الباطني). كان أطباء الأمراض العقلية يأتون عادة من ألمانيا ويشغلون كرسي الأستاذية في العيادة النفسية الجامعية بزيورخ والمسماة «البيرجولزي». في عام ١٨٧٩، عُيِّنَ أوجست فوريل (١٨٤٨–١٩٣١) من مقاطعة فود مديرًا لتلك العيادة. ولقد بدأ هو أيضًا مسيرته المهنية خارج بلاده ثم — بعد دراسته في زيورخ وفيينا — تم تعيينه معيدًا بالعيادة النفسية بميونخ لمدة خمسة أعوام (كان لفوريل عدة اهتمامات أخرى، مثل دراسة النمل). ولم يتوانَ خليفته وتلميذه في البيرجولزي منذ عام ١٨٩٨، يوجين بلولير — كما سنرى — في كسب شهرة عالمية للمكان.
وماذا عن أقصى الشرق، عن روسيا؟8 لم تكن العناية المقدمة لمرضى الاعتلال العقلي تتقدم هناك بصورة أسرع من المجتمع ذاته. فلم يبدأ الحكام المحليون في إنشاء مستعمرات زراعية لمرضى الاعتلال العقلي إلا في عام ١٨٦١ بعد إلغاء العبودية. وأكثر مما كان الأمر عليه في النمسا، فإن البحث العلمي كان يتطور خارج المشافي، ولكن ازداد الأمر تعقيدًا لكون الصفوة الروسية ممزقة بين تيار القومية السلافية وتيار يميل إلى الغرب. ولقد نظر الأطباء النفسيون من ممثلي هذا التيار في سان بطرسبرج وموسكو إلى فرنسا وألمانيا، خاصة في عهد جريزينجر. أنشئ أول كرسي أستاذية للطب النفسي في روسيا عام ١٨٥٧ بالأكاديمية الطبية العسكرية بسان بطرسبرج. ومُنِح لإيفان بالينسكي (١٨٢٧–١٩٠٢) الذي أَسس عام ١٨٦١ جمعية بطرسبرج لطب الأمراض العقلية. منذ عام ١٨٦٩، شرع في توفير مصحات للأمراض العقلية في عدة مدن روسية. ويعد فلاديمير بيشتيريف (١٨٥٧–١٩٢٧) أحد خلفائه. بعد أن درس الطب في سان بطرسبرج، مارس عمله في عدة خدمات في ألمانيا وأيضًا في مستشفيات شاركو وسالبيتريير بفرنسا. وفي عام ١٨٩٣، عُيِّنَ أستاذًا للأمراض العقلية والعصبية بسان بطرسبرج، حيث مكث عشرين عامًا أعاد خلالها تنظيم التعليم الإكلينيكي. وأَسس في عام ١٩٠٧ معهدًا للأبحاث حول المخ (وقُبيل وفاته، كان ينوي إنشاء مبنًى يشبه البانثيون لتدريس علم التشريح العصبي «ويصلح لتخزين ودراسة أمخاخ العباقرة»). مثل الكثير من الأطباء النفسيين وأطباء الأعصاب الروسيين، اهتم بيشتيريف أكثر بالبحث عن الممارسة داخل مصحة. وفي روسيا مثل فرنسا، لم يهتم الأطباء النفسيون الكبار بالذهاب لمواجهة الحياة اليومية داخل مصحات الأمراض العقلية. كذلك إيفان بافلوف (١٨٤٩–١٩٣٦) وسيرجي كورساكوف (١٨٥٤–١٩٠٠) اللذان ذاعت شهرتهما عالميًّا في مجال البحث. وقد عكف الأخير — الذي سنأتي لاحقًا على ذكر متلازمة الأعراض التي اكتشفها — على تحسين الإصلاح في مؤسسات العلاج النفسي. كما انشغل فلاديمير سيربسكي (١٨٥٥–١٩١٧) — إلى جانب عمله الجامعي — (كان يشارك بفاعلية في أنشطة جمعية الطب النفسي وعلم الأعصاب بموسكو) بالطب النفسي والطب الشرعي، وبالتالي سعى إلى الحصول على ضمانات للخبرة في مجال الأمراض العقلية.
في إيطاليا،9 تبرز فترة زمنية طويلة تضم النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر. كانت حالات الجنون الحادة تعالَج في المشافي العامة، بينما أقيمت مصحات في المدن الكبرى والمقاطعات الرئيسة لإيواء المرضى المزمنين. فأُنشِئَت مصحة لوك لعلاج مرضى الهوس مثلًا في عام ١٧٧٣، وكانت تقدم هناك بعض الرعاية الطبية. في غضون بضعة أشهر، بلغ عدد المرضى هناك أربعة وعشرين رجلًا وثلاثًا وثلاثين امرأة. في عام ١٨٨١، ارتفع هذا العدد تدريجيًّا حتى بلغ أربعمائة وستين مريضًا.10 ثم توالت المؤسسات: بارما وسيينا وبيروس على أراضي البابا ومقاطعة ريجيو إيمليا (دوق مودين) وبالرما، إلا أن التفاوت على المستوى التشريعي كان شديدًا. أصدرت توسكاني وحدها قانونًا خاصًّا باحتجاز مرضى الاعتلال العقلي، مخضعًا القبول والخروج لتصريح من محكمة. أما غير ذلك، فلم يكن هناك أي التزام إلا إبلاغ المحافظ عن أي احتجاز، ولكن ألم تكن الحال هكذا أيضًا في قاعات مرضى الاعتلال العقلي في فينيسيا أو فيرونا؟ لاقى الجيل الأول من أطباء الأمراض العقلية مصيرًا أكثر بؤسًا من زملائهم الفرنسيين. فكان راتب طبيب المجانين في مصحة أفرسا كامباني — التي أنشئت عام ١٨١٣ بقرار من مورا — يعادل راتب حارس عقار؛ أي ما يوازي تسعة دوكات شهريًّا، بينما كان «معلم المجانين» (أي كبير الحراس) يتقاضى خمسة وعشرين دوكًا؛ نظرًا لأهمية دوره.
زار ألكساندر بريير دي بواسمون — في بداية مسيرته المهنية كطبيب للأمراض العقلية — العديد من المصحات الإيطالية للأمراض العقلية. وبدت له مصحة جنوة بعيدة كل البعد عن أفكار العصر حول علاج ومصحات مرضى الاعتلال العقلي. كان كل شيء حوله يسبب له «التقزز والشفقة».11 كان المرضى هناك مربوطين بل مكبلين بالسلاسل. ولم يكن هناك في الغرف الأربع المخصصة للرجال والاثنتين المخصصتين للنساء أيُّ تقسيم أو فصل. «لن نضيف إلا كلمة واحدة عن هذه المؤسسة: لا يتمكن المرضى من الخروج من هناك إلا بعد تأدية سر الاعتراف.» ولم تَنَلْ مصحة سينافرا الخيرية — بالقرب من ميلانو — تقديرًا أعلى من ذلك بكثير. في عام ١٨٥٠، جاء تيوفيل جوتييه إلى إيطاليا، ليس كطبيب وإنما كصحفي، وزار مصحة سان سيرفولو بفينيسيا المقامة منذ عام ١٧٣٣ على جزيرة. بدت له المباني غاية في الرتابة. «فلم يُبذَل الكثير من الجهد لتحويل غرف الرهبان إلى زنازين للمجانين.» إلا أن المرضى أنفسهم تركوا فيها أثرًا كبيرًا: «لا يجد ما هو أكثر بؤسًا وغموضًا منهم، وكأنهم سفن تسير دون بوصلة، شعلة تركت مصباحها، وحياة من دون كيان. لعل الروح المظلمة القابعة داخل المجنون تستعيد وعيها بعد الموت، أم ستكون هناك أرواح مجنونة إلى الأبد؟ … كان هناك مرضى يلعبون في هدوء بالكرات في الحديقة الجرداء تحيط بهم الجدران، وعلى الجانب الآخر يلعبون الليدو، بينما يتنزه اثنان أو ثلاثة بخطوات متعجلة تطاردهم هلاوس مخيفة. بينما وقف آخر ساكنًا وله هيئة جافة ونحيفة ورأس عارٍ مكشوف للرياح وكأنه طائر البلشون يقف فوق أحد المستنقعات، ولا شك في أنه كان يعتقد أنه هذا الطائر الذي يتقمص وقفته.»12

بعد كل تلك الفترة البائدة، التي كان من الصعب فيها إيجاد مبادئ شياروجي التي تطبق في مصحة القديس بونيفاس بفلورنسا، لاح في الأفق منعطف هام في منتصف القرن التاسع عشر، بتخطيط عام هذه المرة. أصبح الأطباء مشهورين وأصبحوا هم من يقدمون المشاريع. فأندريا فيرجا (١٨١١–١٨٩٥) — مدير مصحة سينافرا بميلانو، ثم مدير المشفى العام منذ عام ١٨٦٥ حيث كان يدرِّس الطب النفسي — كان قد أسس في عام ١٨٧٣ «جمعية علاج الشرايين الإيطالية»، والتي ستتخذ في عام ١٩٣٥ اسم جمعية الطب النفسي. ولكونه نائبًا بالبرلمان، دافع عام ١٨٧٦ عن ضرورة وضع تشريع خاص بمصحات الأمراض العقلية. ويعد فيرجا وتامبوريني بروما وتانزي بفلورنسا ومورسيلي بجنوة وآخرون؛ هم الآباء المؤسسين لقانون الرابع عشر من فبراير ١٩٠٤، المماثل لقانون عام ١٨٣٨ بفرنسا. ودون جدوى، حلم هؤلاء الأطباء — ذوو النزعة المعادية لرجال الدين — بعلمنة كاملة للعلاج النفسي في بلاد شديدة التمسك بالكاثوليكية كإيطاليا. في عام ١٨٧٥ — حيث أُجرِي أول تحقيق وطني حول مسألة مرضى الاعتلال العقلي — كانت إيطاليا تضم ثلاثًا وأربعين مؤسسة (بلغت مائة وأربعين عام ١٩١٤) و١٢٩١٣ محتجزًا (بلغوا ٥٤٣١١ في عام ١٩١٤)، بينما ظل عدد العاملين — سواء من الأطباء أو الممرضين — لا يتجاوز الحد الأدنى دائمًا.

كما نرى، فإن «القرن الذهبي لطب الأمراض العقلية» يختلف بشدة من بلد أوروبي إلى آخر. في إسبانيا،13 يصعب مثلًا الحديث عن قرن ذهبي في هذا الأمر. شهدت رعاية مرضى الاعتلال العقلي — التي جاءت كرياح تغيير في عصر التنوير الإسباني متأثرة بالطب العربي الإسباني (فنذكر أول مصحة لمرضى الاعتلال العقلي في أوروبا، وهي مصحة بلد الوليد عام ١٤٠٩) — انهيارًا متتابعًا بسبب الدمار الذي أحدثته حرب الاستقلال (١٨٠٣–١٨١٣)، ذلك في الوقت الذي كان يشهد نوعًا من الحظوة في باقي دول أوروبا بدرجات مختلفة. فقد كان مرسوم من السلطة المحلية التي يديرها أحد القضاة كافيًا لاحتجاز أي شخص دون أي شهادة طبية. ولم يستطع قانون عام ١٨٢٢ — الذي صُمم على النموذج الفرنسي — أن يفرض إصلاحاته على الرغم من التأكيدات المتكررة. كانت رعاية مرضى الاعتلال العقلي في مأزق، ما عدا بعض المحاولات المنفردة، مثل إنشاء مصحة الصليب المقدس ببرشلونة (حيث كان للمدير نفوذ وسلطة أوسع من الطبيب). وفي كتالونيا — التي كانت تشهد تقدمًا واسعًا مقارنة بباقي البلاد — اتسعت حركة إنشاء المصحات الخاصة لمرضى الاعتلال العقلي؛ بسبب تراجع الدعم الحكومي: مصحة تورلوناتيكا بمدينة لوريه دي مار (١٨٤٤) وسان بوديليو دي يوبريجات (١٨٥٤) ونوفا بيلين (١٨٥٧) … وفي كتالونيا أيضًا، أُنشئ عام ١٨٦٣ أول معهد لدراسة الدماغ، والذي شدد بطريقة «ثورية» على أن يتولى مسئوليته بالكامل الطاقم الطبي. في برشلونة، ولدت أول مؤسسة تضم الأطباء النفسيين عام ١٩١١. وفي مدريد، أُنشِئَت أول مصحة خاصة للأمراض العقلية عام ١٨٧٧. وفي باقي البلاد، كانت مصحات سان جون دي ديو تستقبل المرضى الفقراء، ولكنها لم تكن تكفي أعدادهم. أما تدريس الطب النفسي التقليدي المستوحى من المدرسة الفرنسية، فلم يبدأ في الاستقرار إلا متأخرًا في القرن التاسع عشر، ولم يدخل الجامعة إلا كفرع من الطب الشرعي.
شرعت البرتغال14 أيضًا في محاكاة النموذج الأوروبي، ولكن بتطور مختلف. من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر، كان يغلب على قطاع رعاية مرضى الاعتلال العقلي طابع القديس جون دي ديو؛ المولود عام ١٥٩٥ في البرتغال ومؤسس تنظيم خيري وعلاجي. ولقد انتشر هذا التنظيم — على غرار دور الاحتجاز الجبري في عهد النظام القديم — في كافة أرجاء أوروبا، ولا سيما فرنسا تحت اسم تنظيم الإخوة للأعمال الخيرية. ولقد خصصت المصحات التابعة لهذا التنظيم مكانًا لاستقبال مرضى الاعتلال العقلي بدءًا من البرتغال وإسبانيا. إلا أن صيحة التحذير التي أطلقها الطبيب برناردينو أنطونيو جوميز عام ١٨٤٤ — عقب جولته في مصحات الأمراض العقلية في أوروبا (حيث بدا له النموذج الألماني هو الأصلح) — تثبت أنه في مجال الرعاية العامة لمرضى الاعتلال العقلي لا يزال هناك الكثير لتحقيقه. فلم يكن هناك إلا مشفًى كبير في لشبونة — ساو جوزيه تمتلك بالفعل مناطق مخصصة بمرضى الاعتلال العقلي. ولقد زار طبيب أمراض عقلية فرنسي مباني هذا المشفى في التاريخ نفسه، ووجدها رديئة، بينما اتسمت المؤسسة نفسها بالنظافة والأطباء بالتفاني.15 وبعد الاستعلام عن هذا النقص في المصحات، وضع الطبيب عدة تفسيرات هامة: يأتي ثلاثة أرباع المرضى المحتجزين البالغ عددهم مائتين وواحدًا وثمانين من لشبونة، بينما «يوجد في القرى والمدن — بما فيها لشبونة — مرضى اعتلال عقلي مسالمون، نتساهل مع وجودهم في الشوارع؛ لأنه لا توجد لدينا مؤسسة يمكنها استقبالهم.» أما «المرضى سيِّئو السلوك أو الخطرون»، فتضطر السلطات المحلية — نظرًا لصعوبة نقلهم — إلى «حبسهم مؤقتًا في السجون أو المشافي العادية». بينما يجري علاج مرضى الاعتلال العقلي «الأثرياء في منازلهم، أو يجري إرسالهم إلى بلد آخر». في عام ١٨٤٩، افتُتِحَت مصحة للأمراض العقلية بالفعل في لشبونة — ريافول — حيث يتم فقط استقبال المرضى الأثرياء الذين يمكن علاجهم. ولكن هذا لم يمنع أنْ أصبَح ثلاثة أرباع هؤلاء المرضى ميئوسًا من شفائهم. وعلى الرغم من افتتاح مصحة كوند دي فيريرا ببورتو عام ١٨٨١، ظل ثمانية آلاف مريض عقليًّا مطروحين في القرى أو في السجون، في انتظار أن يتوافر مكان لهم، ولذلك كانت الحاجة إلى قانون. ولقد ساهم الطبيب جي ماريا دي سينا بقوة في هذا الأمر عن طريق كتاباته وزيارته لمصحة شارنتون بفرنسا وأيضًا مصحات فيينا وزيورخ. وبالفعل، صدر قانون في الخامس عشر من يوليو ١٨٨٩، لينظم أخيرًا خدمة مرضى الاعتلال العقلي على مستوى البلاد. وتأسس مشفًى كبير يسع لستمائة مريض مزودٌ بملحقين من غرف الاحتجاز للمرضى والمريضات ذوي النزعة الإجرامية، يتيح أيضًا «تدريس علم الطب النفسي الإكلينيكي» في لشبونة، وأنشئ اثنان آخران أصغر حجمًا في كويمبرا وفي جزيرة ساو ميجيل (آسور). وأصبح المشفى القديم ريافول وآخر بُنِي في بورتو مخصَّصَين فقط لرعاية مصابي الصرع والبُله ومرضى العته غير المؤذِين من الجنسين.
وبالمقارنة مع البرازيل،16 نتمكن من قياس مدى اختلاف العقليات الذي يوجد بين بلد قديم وآخر حديث. فحتى استقلالها عام ١٨٢٢، كانت المستعمرة البرتغالية الضخمة تحتجز مرضى الاعتلال العقلي في المؤسسات الدينية، وخاصة مصحة سانتا كازا دي ميزيريكورديا بباهيا (السلفادور) فيما يسمى «كازينها دي دودو» (أي منازل صغيرة للمجانين). وبعد استقلالها، اتجهت البرازيل للطب الأوروبي الفرنسي بالتحديد. وبدأت حلمها لرعاية مرضى الاعتلال العقلي من داخل جمعية الطب والجراحة التي تأسست عام ١٨٢٩. وقدَّم الطبيب دا كروز جوبيم عام ١٨٣٠ — لجمعية الصحة العامة — تقريرًا غاضبًا عن المصير البائس لمرضى الاعتلال العقلي المحتجزين بمصحة سانتا كازا دي ميزيريكوديا: «لا يسعُنا تصديق أن في ريو هذا القدْر من الوحشية يمارس في مكان من المفترض أن يخفف من معاناة هؤلاء المرضى، الذي قد يصاب أي منا بما أصابهم.» أُنشِئَت أول مؤسسة لعلاج مرضى الاعتلال العقلي على الطراز الفرنسي عام ١٨٥٢ في مدينة ريو دي جانيرو، والتي أصبحت مصحة وطنية عام ١٨٩٠. وتوالى بناء المصحات خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بما فيها مصحة ساو باولو لمرضى الاعتلال العقلي عام ١٨٩٨؛ وهي الكبرى على الإطلاق في أمريكا الجنوبية. وخُصص أول كرسي أستاذية في الطب النفسي عام ١٨٨٤، بناء على المدرسة الفرنسية، قبل أن يتحول اتجاهه في مطلع القرن العشرين إلى الطب النفسي الألماني. جاء التشريع متأخرًا، فلم تُوضَع أي لوائح محددة لطرق الاحتجاز إلا في عام ١٨٩٣، وفي عام ١٩٠٣، صدر أول قانون ينظم مسألة علاج مرضى الاعتلال العقلي بالكامل.
ومن جانبها، اتسمت الأرجنتين17 بمزيد من الديناميكية، خاصة بالمقارنة مع محتلها القديم. قبل استقلالها، كان ثلاثة أرباع مرضى الاعتلال العقلي لا يدخلون المشافي أو يجري احتجازهم. وبعد الاستقلال عام ١٨١٦، بدأت الأرجنتين تطبق سياسةً أكاديمية جريئة في الجامعات، تقوم أساسًا على الطب. وفي عام ١٨٢٧، ناقش دييجو آلكورتا (١٨٠١–١٨٤٢) أول رسالة في الطب النفسي في أمريكا الجنوبية (عن الهوس الحاد). كان يتبع أفكار بينيل وإن عاب عليه عدم التعمق في التشريح الباثولوجي للمرض العقلي. لم يتحسن وضع مرضى الاعتلال العقلي البائس المحتجزين في منطقة المجانين بالمشفى العام ببيونس أيرس حتى منتصف القرن التاسع عشر. ففي عام ١٨٥٤، افتُتِحَت أول مؤسسة لعلاج مرضى الاعتلال العقلي فقط في بيونس أيرس، بناءً على مبادرة من طبيب الأمراض العقلية فنتورا بوش (١٨١٤–١٨٧١) والسياسي المحب للخير تومازا فيليز سارسفيلد، وأطلق على قطاعين أو ثلاثة من قطاعات المشفى أسماء «بينيل» و«إسكيرول». أما أعداد المرضى المحتجزين، فازدادت من ثمانية وستين إلى ألفين في بداية القرن العشرين. كما نُقِل المرضى المحتجزون بالمشفى العام عام ١٨٦٣ إلى مؤسسة علاجية جديدة، وهي مصحة سان بينافونتورا (وأصبح اسمها لاس مرسيدس منذ عام ١٨٧٣). وشهدت حركة إنشاء مصحات الأمراض العقلية دفعة جديدة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، نتيجة حركة الهجرة المتزايدة. ويربط لوتشيو ميلينديز اسمه بهذه الفترة الزمنية، بعد أن مُنِح كرسي الأستاذية في طب الأمراض العقلية (الذي أنشئ مؤخرًا عام ١٨٨٦) بكلية الطب. كان يعمل أيضًا كبيرَ أطباء بمصحة لاس مرسيدس، مازجًا — بطريقة لا تحدث إلا نادرًا في أي بلد — بين التدريس والتطبيق العملي في المصحة. خلفه دومينجو كابريد (١٨٥٩–١٩٢٩) عام ١٨٩٢ في المنصبين، مستكملًا عمل أستاذه في توجيه مصحات الأمراض العقلية في الأرجنتين نحو تجربة المستعمرة الزراعية أو «الأبواب المفتوحة».18 كما قام هو الآخر بجولة في كبرى المصحات الفرنسية والألمانية. واستلهم من طرق بورنفيل في بيستر لتعليم الأطفال المتأخرين عقليًّا (وفي عام ١٩٢٠ أُنشِئَ أول كرسي للأستاذية في العالم للطب النفسي للأطفال). في بداية القرن العشرين، كانت الرعاية النفسية في الأرجنتين هي الأكثر تقدمًا على مستوى أمريكا الجنوبية كلها.
«وأخيرًا وليس آخرًا»، ماذا عن بريطانيا التي كانت تمثل النموذج الذي تسير على خطاه أوروبا كلها بما فيها فرنسا في القرن الثامن عشر كما رأينا؟ لا يسعنا بالتأكيد قصْر الطب العقلي البريطاني على نموذج مصحة «ذا ريتريت»، ولا سيما أن هذا المشفى لم يكن يحتجز إلا القليل من مرضى الاعتلال العقلي (لم يكن يتجاوز الأربعين في بداية القرن التاسع عشر، ولم يزد عن المائة نحو عام ١٨٤٠)،19 ولا أيضًا مصحة بدلام أو مصحة القديس لوقا. في عام ١٨٠٨، صرح مرسوم مشافي المقاطعة لأصحاب المقاطعات إنشاء مشافٍ تضم مرضى الاعتلال العقلي الفقراء ولكن على نفقة الشعب، ولذلك كانت نتائجها هزيلة للغاية. في عام ١٨٤١، لم تكن مقاطعات إنجلترا الاثنتين والخمسين، بما فيها إمارة الغال، تحتوى إلا على خمس عشرة مؤسسة علاجية عامة.20 في عام ١٨٢٨، صدر قانون يستبدل باللجنة القديمة بالكليةِ الملكية للأطباء هيئةً جديدة من المفتشين — المفوضين الخاصين بالجنون على مستوى المدن الكبرى — وكانت لهم صلاحيات واسعة. وأخيرًا، في عام ١٨٤٥، جعل مرسوم مشافي المقاطعة وجود مصحة عامة للأمراض العقلية أمرًا إلزاميًّا في كل مقاطعة. ومن ثم اتسع دور الأطباء، في الوقت الذي كانت جمعية الضباط الأطباء في المشافي العامة ومصحات الأمراض العقلية التي أنشئت عام ١٨٤١ قد أضفت بالفعل على أطباء الأمراض العقلية هوية مهنية. كان هناك اعتراف عام بقدراتهم، وأصبح هناك نطاق قانوني لعملهم. في منتصف القرن التاسع عشر، عمل إف بي وينسلو (١٨١٠–١٨٧٤) على تعريف المجتمع البريطاني بضرورة وجود خبراء في الطب النفسي في المحاكم. ونشر جيمس بريتشارد (١٧٨٦–١٨٤٨) مؤلفًا في عام ١٨٤٢ — «حول الصور المختلفة للجنون وعلاقتها بالعدالة» — درس فيه القضية الصعبة التي تقف أمام الطبيب أو القانوني إزاء تحديد المسئولية الجنائية للمريض عقليًّا. وأعاد فيها استخدام مفهوم «خلل الصحة النفسية»21 الذي وضعه في بحثه بتاريخ ١٨٣٥، وهو عبارة عن جنون معنوي يقوم على خلل جزئي في الحس الأخلاقي والسلوكيات الاجتماعية دون المساس بقدرات الذكاء (وهو الأمر الذي أطلق عليه بينيل «الهوس دون هذيان»).

في عام ١٨٤٤، بلغ عدد المصحات المصرح به في «ضواحي العاصمة لندن» ستًّا وثلاثين مصحة للأمراض العقلية، منها ثلاث وثلاثون لا تستقبل إلا المرضى القادرين على الدفع. كانت هذه المصحات تحتجز حوالي ٦١٠٥ مرضى (من بينهم ٢٦٨٣ من الفقراء). ولم تكن أي من هذه المصحات موجودة وقت ظهور نظام «عدم تقييد المرضى» الذي أسسه — كما رأينا — جون كونولي، الذي تعد سيرته المهنية مثالًا لأطباء الأمراض العقلية العظام في عصره. بعد أول منصب تولاه في مصحة ستراتفورد آبون أفون — مدينة شكسبير — بدأ يعمل في التدريس بالجامعة بلندن. وهناك، استطاع إدخال تدريس الأمراض العقلية إلى مناهج الدراسات الطبية. في عام ١٨٣٠، عُيِّنَ مفتشًا في مشافي مقاطعة وارويك، ثم في برمنجهام في عام ١٨٣٨، قبل أن يصبح في العام التالي كبير الأطباء بمصحة هانويل للأمراض العقلية بالقرب من لندن، وهي أكبر مصحة لمرضى الاعتلال العقلي ببريطانيا. وهناك، تمكن على مدار خمس سنوات من فرض طريقته «بعدم تقييد المرضى»، على الرغم من أن آخرين (خاصة تشارلزورث ثم هيل بمستشفى لينكولن) حاولوا القيام بذلك من قبله. كان الأمر بمنزلة ثورة أشعلت عالم أطباء الأمراض العقلية بالكامل. ويدافع كونولي — الذي تخلى عن مناصبه عام ١٨٤٤ — عن فكرته: «لا يوجد هناك مشفًى واحد في العالم لا يمكن فيه إلغاء نظام الحبس التلقائي، ليس فقط في أمان كامل، بل وبنتائج جيدة لا تعد.»

إلا أن نظام «عدم تقييد المرضى» لم ينتشر في كافة ربوع بريطانيا. فعلى حد قول أحد المراقبين الأجانب (دائمًا ما يكونون أكثر نقدًا)، كان «الاستخدام المعتدل للسلاسل والقيود لتقييد بعض الأجزاء من جسم المريض لا يزال موجودًا بقوة»22 في بعض مصحات الأمراض العقلية المخصصة للفقراء. ولاحظ نفس المراقب — أثناء وجوده في إحدى مناطق مشفى بريستول — أنه يجري حبس مرضى السلوك العنيف أو المتمردين في مخازن مغلقة بإحكام، بها ثقب يتيح تجدد الهواء. في المقابل، «لم يعد القناع الجلدي يستخدم على الإطلاق، والذي كان يُربط بسير في وجه المريض الذي اعتاد أن يعض الآخرين.» كان «سوء استغلال هذه الأدوات يتراجع كل يوم بفضل نشاط الأعضاء الحاليين في جمعية لندن.» ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأ استخدام وسائل بديلة عن الحبس داخل المصحة وطُبِّقَتْ مع المرضى المسالمين (إلا أن عددهم ليس كبيرًا): مثل طريقة «النظام العائلي» التي وضعها جييل في قرى الاستقبال بعيدًا عن المصحة (في اسكتلندا خصِّيصَى)، أو بالقرب منها، مثل طريقة «نظام الأكواخ» والتي تطبق داخل إحدى العائلات (غالبًا ما تكون عائلة أحد الموظفين). وأخيرًا، تمهيدًا لنظام شهد فيما بعد تطورًا كبيرًا في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت طريقة «الاحتجاز الانتقالي» التي تتم فيما بين المؤسسة العلاجية والمنزل.

في بريطانيا العظمى كما في الخارج، كانت مصحات الأمراض العقلية مكتظة بالمرضى. وكان على الأطباء — الذين يتولون الآن مسئولية الإدارة أيضًا — أن يتفرغوا للمهام اللوجستية والإدارية على حساب العلاج والبحث. وحاول بعض أطباء الأمراض العقلية والنفسية من الشباب أن يخرجوا عن تلك القاعدة. كانت هذه هي الحال مع هنري مودسلي (١٨٣٥–١٩١٨)، الذي عمل طبيبًا للأمراض العقلية بمصحة مانشستر، بعد أن كان قد بدأ عمله كجراح. وأثر عمله كجراح على تفكيره؛ حيث ظل يبحث عن كل ما هو جسدي خلف المرض العقلي، مثل فشل عملية التكيف العصبية (فسيولوجيا وباثولوجيا العقل، ١٨٦٧). كان يريد تطبيق مبادئ الفسيولوجيا وعلم النفس والباثولوجي على ممارسة الطب النفسي. ثم أصبح عضوًا بالكلية الملكية للطب بلندن، وأستاذًا للطب الشرعي بالجامعة. وفي عام ١٩٠٨، أهدى ما يقارب الثلاثين ألف كتاب بهدف إنشاء مصحة حقيقية للطب النفسي مخصصة للبحث والتدريس. وبالفعل أُنشِئَت مصحة مودسلي التي استقبلت لاحقًا أول مصابي الحرب العالمية الأولى النفسيين.

أما الولايات المتحدة الأمريكية الشابة، فإنه من عادة التأريخ الأنجلوساكسوني أن يقارن بين تاريخ الطب النفسي البريطاني والأمريكي، في حين أن النقاط المشتركة قليلة للغاية، باستثناء اللغة العلمية المشتركة التي سهلت انتشار وتداول النظريات أساسًا من بريطانيا إلى أمريكا. في الواقع، كان التطور المؤسسي هناك قد اتخذ نهجًا مختلفًا. قبل الاستقلال، أُنشِئَ أول مشفًى عام في فيلادلفيا عام ١٧٥١ — والتي كانت تعد الأولى بين ثلاث عشرة مستعمرة إنجليزية. وأيضًا في عام ١٧٥١، قدم بنجامين فرانكلين «الأول» في فيلادلفيا عريضة للمجلس المحلي لإنشاء مصحة خاصة «لاستقبال المرضى الفقراء […] وأيضًا لإيواء ورعاية المجانين.»23 وبالفعل، خُصِّص قسم لمرضى الاعتلال العقلي؛ لأن «أعداد الأشخاص ذوي العقول المضطربة والمحرومين من قدراتهم على التعقل، كان في ازدياد مطرد.» في عام ١٧٧٣، تأسست أول مصحة للأمراض العقلية بفيرجينيا بويليامزبرج. كانت المصحة مجهزة بثراء، وغير مكتظة بالمرضى، وكأنها بداية لظهور المصحات العقلية الخاصة (والتي سميت هكذا؛ لأنها أنشئت في الأساس بفضل الاكتتابات الخاصة)، والتي شهدت زيادة كبيرة على الساحل الشرقي في نهاية القرن الثامن عشر وفي العقد الأول من القرن التاسع عشر. واتخذ المشفى من مصحة ذا ريتريت الإنجليزية — التابعة لعائلة توك — نموذجًا له مطبِّقًا طريقة العلاج المعنوي، مع الأخذ في الاعتبار أفكار بينيل الذي أسقط القيود من على كاهل مرضى الاعتلال العقلي.

وبعد الاستقلال، كان الأطباء الأمريكيون — أكثر من زملائهم الأوروبيين — يقومون بجولات استكشافية في مصحات الأمراض العقلية الإنجليزية والفرنسية والألمانية قبل أن يصبح الواحد منهم طبيبًا في مصحة عقلية. كان وضعهم الاجتماعي ضعيفًا أيضًا، ولكن في أعقاب سلسلة من التعديلات على لائحة المشافي، أصبحوا أطباء ومديرين للمصحات في ذات الوقت. إلا أن هذا لم يكن يعني أنهم أحرار يفعلون ما يشاءون. في عام ١٨٤٤، تأسست «الجريدة الأمريكية للمرض العقلي»، وهي الأداة الرسمية «للجمعية الطبية للمراقبين الطبيين في المؤسسات الأمريكية لعلاج الأمراض العقلية».

كان المجتمع الأمريكي الجديد يتميز بميل واضح «للاحتجاز» — أكثر من أوروبا القديمة — مظهرًا تشددًا متناميًا تجاه الجنون، بالتناسب مع نمو حركة التصنيع والتعمير السريعة؛ خوفًا من شبح الفاقة و«الفساد» الذي تسببه حركات الهجرة (دعارة، سُكْر، إجرام، جنون). في مثل هذا السياق السياسي والاجتماعي المرتبط بثقافة دينية بروتستانتية، كان العلاج المعنوي يمتاز بطابع «أخلاقي» لم يشهده من قبل. وفي عام ١٨٧٤، تأسس «المؤتمر الوطني للأعمال الخيرية والإصلاحية»، الذي أصبح في القرن العشرين — بعبارات أكثر ملاءمة للعصر الحديث — «الجمعية الوطنية للخدمة الاجتماعية». ومثلما كان الأمر في الغرب، سرعان ما حل التشاؤم محل الأمل في شفاء مرضى الجنون. ويشدد عالم الاجتماع والمؤرخ للصحة في أمريكا ديفيد ميشانيك24 بفطنة على أهمية هذا الشعور بالإحباط وثقل وطأته في أمريكا عن أوروبا. ويعرض فكرته المفارقة والمثيرة بأن مهنية الطب النفسي شكلت في النهاية عَقَبَة أمام الرعاية الفعلية لمرضى الاعتلال العقلي؛ بسبب أنها أصبحت مجموعة من المعارف السرية، مما شكل حاجزًا أمام محبي الأعمال الخيرية الذين هم أساس هذه المصحات.
بدأت الآلة تدور، وافتُتِحَت أول مصحة عامة للأمراض العقلية — «ورسيستر ستايت» — في ماساتشوستس عام ١٨٣٠. وارتفعت معدلات الاحتجاز بسرعة رهيبة خلال العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر. وأصبحت مصحة بلومينجدال بنيويورك تضم أكثر من ألف وستمائة مريض بين عامي ١٨٢٤ و١٨٣٦، ومعظمهم من القادرين على الدفع وليس المعوزين، ومن بينهم ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين بالمائة من المرضى مدمني الكحوليات. وازدادت الأعداد في الأماكن الأخرى. وعلى الرغم من وجود ثلاث مصحات خاصة ومشفًى عام في بوسطن (يضم ٢٦٣٢ مريضًا)، استعدت ولاية ماساتشوستس في عام ١٨٥٤ لإنشاء المشفى العام الثالث. كان هذا هو عصر انتصار النظريات الطبية المعمارية لتوماس س. كيركبرايد (١٨٠٩–١٨٨٣) — كبير الأطباء وكبير المراقبين بمشفى بنسلفانيا لمرضى الاعتلال العقلي ببنسلفانيا الذي تأسس عام ١٨٤١. ولقد تأثر كيركبرايد بأسس الإنشاء التي آثرها أطباء الأمراض العقلية الفرنسيون في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. في البداية، يجب ألا تشبه مصحة الأمراض العقلية السجون لطمأنة المرضى وعائلاتهم وأيضًا الزائرين (يجب إخفاء وسائل الأمن).25 ويكون التصميم متماثلًا بالطبع، وخطيًّا في ذات الوقت يشتمل على مجموعة متسلسلة من الأقسام الخلفية تحيط من الجهتين بالجناح المركزي، وفي آخره تكون الكنيسة. تتسع المصحة لمائتين وخمسين «مريضًا». تكون مناطق التصنيف أبسط من النموذج الفرنسي، وتقوم أساسًا على التصنيف بناء على السلوك. يجري الاعتناء بشدة بالتهوية؛ مما يتضمن إنشاء المصحة في الريف. وبناء على هذا النموذج، أُنشئ عدد من المصحات على مدار القرن التاسع عشر، مثل مصحة إلينوي الشمالية لمرضى الاعتلال العقلي عام ١٨٧٢. كان كيركبرايد ينشر تقريرًا سنويًّا حول وضع مصحة بنسلفانيا للأمراض العقلية التي ازداد عدد مرضاها من ثلاثمائة وأربعة وستين عام ١٨٥٧ حتى خمسمائة وخمسة وتسعين عام ١٨٦٨. كان يُمتدح فيه اهتمامُه بالرياضة البدنية الخفيفة وقاعات القراءة. واستغرق في أحلامه حتى تخيل إنشاء مكان للترفيه (؟) يقيمه المرضى بأنفسهم.
انتهى هذا العصر الطوباوي للطب العقلي بالتداعي منذ عام ١٨٨٠. ويسجل التعداد الفيدرالي في هذا التاريخ وجود — في مقابل خمسين مليون مواطن — ٤١٥٠٠ مريض عقليًّا في مشافي الدولة، وضِعف هذا العدد في دور الإيواء. كانت النسبة تفوق مثيلتها في أوروبا، ولكنها كانت أقل من عام ١٩٥٥؛ حيث بلغ عدد المرضى المحتجزين في الولايات المتحدة حوالي ٥٥٩٠٠٠؛ أي ٠٫٣٣٪ من إجمالي عدد السكان26 (في التاريخ نفسه، كانت فرنسا تضم محتجزين يمثلون ٠٫٢٣٪ من عدد سكانها). ولكن — كما في فرنسا وفي كل البلاد الأخرى — تلاشى الأمل في الشفاء قبل ذلك بكثير. في ثمانينيات القرن التاسع عشر، عُقد الكثير من المحاكمات بسبب الاحتجاز القسري. واحتدم هجوم أطباء الأعصاب — بدوافع أخرى — على أطباء الأمراض العقلية، متهِمين إياهم «بخداع ثقة الشعب بإصرارهم على عدم انتهاز الفرص المتاحة لتحسين علم الطب النفسي.» وقد رأينا من قبل كيف كانت الحال مع الجراحة النفسية. وانتهى المطاف بعلماء الأعصاب بفقد ثقة الجمهور الذين أرادوا كسب ثقته، بسبب مبالغاتهم (ألم يتحدثوا عن السعي وراء «المادة غير المستفاد منها»؟)27

ولقد شهد العقد ذاته مولد الجمعية الوطنية لحماية مرضى الاعتلال العقلي والوقاية من الجنون. في الوقت الذي تزدحم فيه المصحات بالمرضى المزمنين الذين «تدهورت حالاتهم» (بي روزنكرانتز)، لماذا الاستمرار في تكديس المصحات بصورة تزيد من عددهم؟ (بلغ عددهم مائتين في الولايات المتحدة بنهاية القرن التاسع عشر). منذ عام ١٨٧٤، طُرحت مسألة مستقبل المرضى المزمنين وكيفية مساعدتهم خلال أحد المؤتمرات الوطنية بأمريكا. بنهاية القرن التاسع عشر، شهد قطاع مصحات الأمراض العقلية تدهورًا سريعًا. وكان من الممكن أن تتسبب الزيادة السكانية، وفشل بعض الطرق العلاجية — بداية من العلاج المعنوي — ونسبة الوفيات المرتفعة المرتبطة بتحول الإصابة إلى مرض مزمن؛ في التخلي عن سياسة مصحات الأمراض العقلية، وليس — من باب المفارقة — في زيادة شديدة في عدد المرضى المحتجزين، حتى منتصف القرن العشرين، بل وبعد ذلك. «وعلى عكس مبادئ النظام والسيطرة التي يفرضها المعمار والإدارة، كان نظام الحياة في المصحة يميل دائمًا نحو الفوضى والتفكك» (سكول). إلا أن مصحة الأمراض العقلية صمدت على الرغم من الناقدين. ويستكمل سكول حديثه بأن المصحة استمرت؛ لأن أقل المستشفيات جودة كان يمثل حلًّا لبعض الأسر اليائسة. وهكذا، «لم تكن مصحة الأمراض العقلية — كمؤسسة يُلجأ إليها في نهاية المطاف — في حاجة أبدًا لمزيد من الزبائن.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤