الفصل الأول

المصحات العقلية لا تؤدي إلى الشفاء

لم ننتظر تصاعد الحركة المناهضة للطب النفسي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين لندرك أن مصحة الأمراض العقلية لا تؤدي إلى الشفاء. فبعد وفاة إسكيرول بقليل، بدأ الكثير من أطباء الأمراض العقلية — كما رأينا — يعلنون استياءهم من الأمر، وقد لاحظوا الواقع المؤسف الذي يحوِّل المجانين المحتجزين إلى مزمنين. لم يغير من الأمر شيئًا تغيير اسمهم إلى «مرضى الاعتلال العقلي». وأن يكون قياس ظاهرة محورية بهذه الصورة تؤدي سريعًا إلى زعزعة اليقين في المؤسسة ككلٍّ، فكان يجب دراسة المسألة من وجهة النظر الإحصائية الطبية. ولكن أي إحصائيات؟ التي وضعها إسكيرول ومن خلفوه. كيف يمكن تنفيذها بطرق أخرى؟ كان أمرًا سيئًا أن يخرج كبيرو الأطباء ليعلنوا بالأرقام أن مصحاتهم تحولت إلى أماكن للموتى. كذلك كان الأمر وفق «إحصاءات فرنسا» الرسمية. فإلامَ تشير هذه الإحصاءات في الفترة ما بين عام ١٨٥٦ و١٨٦٠؟ ما هي الإحصاءات الوطنية عن نِسب الشفاء؟ وعلى الرغم من أن الجداول تتراصُّ بانتظام دون إغفال أي تفصيلة — على مدار ثلاثمائة صفحة — كان هذا الأمر يشكل مشكلة ملحوظة. كيف نقوم بالعد؟ أبِالمقارنة مع متوسط أعداد المرضى في المصحات؟ أم بالمقارنة مع عدد المحتجزين في العام، مع حذف المرضى ذوي الحالات المزمنة؟ وإذا اقتطعنا عدد المرضى في منطقة السين — الذين يُنقلون بانتظام إلى مصحات الأقاليم — فماذا عن المرضى الميئوس من شفائهم الذين «يدورون» بين مختلف المصحات، الذين «يفسدون نتائج الإحصاءات»؟ الحقيقة أنه بالعدِّ الطبيعي (أيْ بعدَ عدِّ جميع المرضى) تكون النتائج مفجعة: لم تتجاوز نسبة الشفاء ٨٫٢٤٪ في الفترة من ١٨٥٦ وحتى ١٨٦٠. إنها نسبة ضئيلة للغاية، ولا سيما بعدما رأينا ما هو المقصود بالشفاء. كما أن معدل فترات الاحتجاز سيئ للغاية: ٦٢٪ من حالات «الشفاء» قضت أقل من ستة أشهر محتجزة في المصحة، في مقابل ١٠٪ مكثوا قيد الاحتجاز لأكثر من عامين. في تقرير عام ١٨٧٤ الضخم — الذي ذكرناه قبلًا — رغب المفتشون العموميون أيضًا في تقديم إحصائية معقولة للشفاء. ولكنهم لم يستطيعوا تجنب النسبة «التي تُحزن»: ٧٫٠٤٪ من «المرضى تم شفاؤهم». وسرعان ما أضاف المفتشون أنه لا يوجد تناسب مع معدلات الشفاء في بريطانيا — الأمر الذي يجب الاعتراف به.

عينة من ١٨ ألف مريض محتجز

وما دامت هناك شكوك حول الإحصاءات الرسمية عن المرض العقلي، فلم يكن هناك إلا الاعتماد على أنفسنا في عمل الإحصاءات. ولقد قمنا — تحت رعاية الأستاذ بيير شونو (في مجال التاريخ الكمي) والأستاذ بيير موريل (في مجال الطب النفسي) — بتفتيش سجلات الاحتجاز بمصحة بون سوفور بالكامل في الفترة من ١٨٣٨ وحتى ١٩٢٥، وتوصلنا إلى دراسة طبية عامة لأكثر من ثمانية عشر ألف مريض عقليًّا لم تُستَغَل حتى اليوم. ولكن هل يمكن أن تعد مصحة بون سوفور ممثلًا لباقي مصحات الأمراض العقلية التي لكل منها خصوصيتها؟ ﻓ «نظام الالتحاق» الخاص بالمصحة الموجود في الأقاليم يختلف عن ذاك الموجود في منطقة السين، وكيف تجري مقارنة مصحة خاصة بمصحة حكومية؟ إلا أن مصحة بون سوفور بكاين بدت جامعة لعدة صفات بالشكل الكافي الذي يجعلها ممثلة لباقي المصحات، فهي مصحة خاصة، ولكنها تمارس دور المصحة الحكومية، كما تعد ثالث مصحة في فرنسا من حيث الأهمية في مطلع القرن العشرين، وكانت تضم عام ١٨٩٩، ١٤٣٩ مريضًا (من بينهم عدد كبير محولون من مصحات السين).

كان من الملاحظ بشكل كبير أن العوامل التي سبقت الاحتجاز أو الدوافع كانت ثابتة طوال الفترة (١٨٣٨–١٩٢٥)، وكانت ملحوظة أيضًا في عهد النظام القديم. فالإصابة بالجنون عادة ما تكون قديمة (في ٤٦٪ من الحالات تتجاوز العامين)، ومن ثم تقلُّ فرص الشفاء. «كانت حبيسة في منزلها لأعوام طويلة في حجرة بها شباك يقدمون إليها الطعام من خلاله، قبل أن تأتي إلى هنا.» كانت ملحوظة «جنون قديم» تتكرر باستمرار، حتى وإن كان تاريخ إصابة عائلة المريض عقليًّا غير معروف، خاصة بالنسبة إلى المرضى المحتجزين بالقوة. أما بالنسبة إلى الدخول الإرادي للمريض، فكانت المحافظة تقدم استبيانات كاملة للعائلات التي تطلب احتجاز مريضها، إلا أن الأسئلة المطروحة كانت أكثر تفصيلًا من الإجابات المقتضبة المقدمة. وكان يُطلب أيضًا — إلى جانب مقدم الدفع — معرفة ما إذا كان المريض قد أصيب قبلًا بنوبات جنون أو جرى احتجازه، إذا كانت له ممارسات جنسية زائدة أو متعلقة بإدمان الخمور. أتوجد حالات جنون أخرى في العائلة؟ هل الجنون وراثي؟ في الواقع، لم تكن هناك إجابات كاملة ومحددة إلا للجزء المتعلق بالدافع وراء طلب احتجاز المريض. لا نعلم الكثير عن أجداد ماري إف — ثلاثين عامًا — ولكن ما نعرفه جيدًا أنها تركت عملها منذ ثلاثة أسابيع، وتحدث ضجة عالية أثناء الليل مما يمنع جيرانها من النوم، وأنها كانت تسير في الشوارع ودخلت الكنيسة وأحدثت فضيحة.

كان الاحتجاز في عهد النظام القديم (هذه المرة يوجد العدد) يتم في معظم الحالات بسبب الجنون الذي يضر بالنظام العام، أو عادة بسبب حالات الانتحار: «ألقت نفسها في النهر»، «اعتقدت أنها ملاك وألقت بنفسها من الطابق الثالث، وبدلًا من أن تطير كما اعتقدت، سقطت على الرصيف وانكسرت ذراعها وعمودها الفقري.» كان القفز من النوافذ شائعًا بين النساء، بينما كان الرجال يقتلون أنفسهم بقطع رقبتهم بشفرة الحلاقة (الذين يشنقون أنفسهم أو يلقون أنفسهم في بئر كانوا ينجحون أكثر في محاولات انتحارهم). كانت هناك بعض محاولات الانتحار المبتكرة، مثل هذا المريض بعقدة الاضطهاد، الذي أراد أن يهرب من الأصوات التي تنعته ﺑ «القذر»، فقام بوضع رأسه في آلة المنجلة وحاول إغلاقها عليه.

ويتضمن هذا التعليق المقتضب الكثير: «مريض (٣٥ عامًا) هادئ منذ يومين، أصيب بحالة هياج منذ عدة أيام، كان يحاول ضرب زوجته ووالدتها»، وبهذه المعلومة الحاسمة، تقرر عجزه عن الاستمرار في عمله. وهناك ملحوظة لها مغزًى كبير خاصة بامرأة في الثامنة والثلاثين من عمرها، محتجزة منذ عام ١٨٧٧: «لم تستطع عائلتها ولا والدها الاحتفاظ بها […] في النهاية أصبحت حالتها لا تحتمل.» في عام ١٩١٢، طلب والد آليس دي (٣٦ عامًا) احتجازها. كانت تريد أن تصبح راهبة، ولكنها عادت إلى المنزل مصابة بهلوسة الاضطهاد: «أثناء نوبتها الأخيرة — بتاريخ الأول من أغسطس — جاءت ابنتي باكية ومعلنة بحركات غضب وتهديد أن هناك شخصًا ما — في أحد أركان الغرفة التي نحن فيها — ولكنها لا تراه لأنها منومة مغناطيسيًّا، ولكنها تشعر بتأثيره، وأنني أتفاهم معه بالإشارات لأني أستطيع رؤيته، وأنه كان يغتصبها لعدة ليالٍ بالاتفاق معي. وفي اليوم التالي نحو الظهيرة، ومن دون سبب واضح، تكرر هذا المشهد البشع ولكن بعنف وقبح أكثر. ظلت ابنتي تصرخ بقوة وشراسة أن هذا الشخص الخفي — قد قام بمساعدةٍ مني — باغتصابها لدرجة أنها لم تكن قادرة على الحركة، وظلت توجه لي أقسى أنواع اللوم. وأخيرًا، بعدما اعترضتُ غاضبًا، صرَّت أسنانها وأخذت تلقي بالأشياء في الشقة حتى وجدت سكينة مائدة وأخذت تحكها مهددة بأنها ستنتحر. في المساء، هدأت نسبيًّا، ولكنها ظلت تردد أنه جرى اغتصابها وأن الشخص الخفي لا يزال قابعًا في ركن الغرفة.»

كان من المعتاد رؤية هذه المقدمة: «كانت عائلته ترعاه على أكمل وجه، ولكن هلاوسه أصبحت اليوم …» يكون طلب الاحتجاز هو الحل الأخير، وليس من أول ظهور الإصابة: «لن تتحسن حالته، ولكنه لا يزال محتفظًا بعاداته وعلاقاته مع نفس الأشخاص الذين لا يسببون له أي فزع.» المتحدث هنا كان طبيبًا «ممارسًا عامًّا»، فقد كانت شهاداته التي يقدمها عن المريض لازمة لتقديم أي طلب احتجاز، وكانت تعد مصدرًا قيمًا ولكن غير كافٍ، فقد نحتاج إلى «محاضر شرطة» من عدة صفحات وأحيانًا الاقتصار على صيغ نموذجية: «أقر أنا الموقع أعلاه الطبيب … أن … مصاب منذ عدة شهور بخلل عقلي قد يصل لدرجة الجنون. [نحن في عام ١٨٩١]. ولا يمكنه الحصول في منزله على الرعاية التي تتطلبها حالته، ويحتاج إلى إشراف متواصل؛ لأنه قد يتسبب في أشياء خطيرة. وعليه …» كان ما يهم هو أن يوقع المحافظ (أو الكاهن في ظل النظام القديم) على الشهادة؛ لاعتماد الحالة.

وبعيدًا عن النموذج النمطي للمؤامرة العائلية، نجد حالة هذا الزوج الذي ضاق ذرعًا بهلوسة زوجته — التي احتجزت للمرة الأولى العام السابق في ١٩٢١. «إنها تردد على مسامعي باستمرار أنها ليست مريضة وأنني أنا من يحتاج للعلاج، وهي حقيقة، فإذا استمر بي العيش هكذا، فسينتهي بي المطاف بالجنون فعلًا.» في مثل تلك الحالات — وهي كثيرة — لا يُرسَل المريض إلى المصحة «لينال العلاج» إلا نادرًا. فالحقيقة أنه يجري إرساله قبل كل شيء للتخلص منه وبسرعة لكي تستطيع العائلة استئناف حياتها. واستنادًا إلى طلب احتجاز تأجَّل طويلًا، تبدو لنا الإحصائية القومية «لحالات مرضى الاعتلال العقلي الذين يتلقون العلاج في المنزل» معبرة (حتى وإن تساءلنا عن المعايير المطبقة للوصول لمثل هذه التقديرات). دائمًا ما يزيد العدد المقدر لمرضى الاعتلال العقلي غير المحتجزين عن أولئك المحتجزين في المصحات:

١٨٥١ ١٨٥٦ ١٨٦١
مرضى محتجزون ٢٠٥٣٧ ٢٦٢٨٦ ٣١٠٥٤
مرضى مقيمون في المنازل ٢٤٤٣٣ ٣٤٠٠٤ ٥٣١٦٠
«تُظهر هذه النتائج الرفض المؤسف للعائلات بشكل عام للانفصال عن مرضاهم ووضعهم في مصحة للأمراض العقلية؛ ربما بسبب تأخرهم في القيام بواجباتهم، أو بسبب ميل أعمى، أو أحيانًا بسبب الإهمال؛ مما يتسبب في حدوث آثار جسيمة على قابلية المريض للشفاء.»1

ماذا عن نتيجة التحليل الكمي للألفاظ المستخدمة في طلبات الاحتجاز في مصحة بون سوفور؟ هناك ٤٦٪ من دوافع الاحتجاز تسمى «عنفًا، هياجًا، استثارة، نوبات مختلفة، أزمة، محاولة انتحار.» وبالتأكيد هناك الكثير، إلا أن هذه الإحصائية لم تكن تمتلك الكثير من البيانات. بيد أن فئة المرضى الخطرين المصابين بالهياج لا بد من أن تخضع لتقسيم أكثر نسبية، فإن المرضى ذوي السلوك العنيف الكامن، عادة ما يجري ضمهم إلى مرضى العنف الصريح. فكلمة «مجنون هائج» قد تعني قاتلًا (عشرون حالة بالكاد من أصل ثمانية عشر ألف حالة) أو مريضًا حَطَّم لوحين زجاجيين مهدِّدًا زوجته وأولاده بالموت. في الواقع، تعد حالات الاعتداءات على أشخاص نادرةً. وفي ظل النظام القديم، كان طلب الاحتجاز يُبَرَّر بسبب درجة الخطورة والمأساة الوشيكة الحدوث التي سيمنعها الاحتجاز.

وفي المقابل، توجد الفئة الكبيرة الأخرى، فئة المكتئبين ومرضى السوداوية وعقدة الاضطهاد. إلا أنه لا يمكن استبعاد خطورتهم بالكامل. ففي عام ١٨٩٦، كانت هناك مريضة تدعى جوزفين تبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا. كانت تشعر بأنها محاطة بالأعداء، «بأشخاص يلقون عليها تعاويذ شريرة. وأثناء الليل يحرقونها ويقرصونها ويشدونها من قدميها لإخراجها من فراشها.» وانتهت بتحديد بعض جيرانها لكونهم هم سبب آلامها ومصدر تهديدها. وأقر طبيب البلدة قائلًا: «احتجازها الآن أصبح إجراءً أمنيًّا. فمن بين كافة أنواع مرضى الاعتلال العقلي، يعد المصابون بعقدة الاضطهاد هم الأخطر، وحينما يصلون إلى التعرف على أشخاص معينين كسبب لاضطهادهم — كما هي الحالة — يصبح احتجازهم ضروريًّا.» وتمثل حالات الإصابة بالاكتئاب والهلاوس وهلاوس العظمة والثراء والهذيان الديني والغيرة وعقدة الذنب والخوف المرضي من التسمم وعقدة الاضطهاد؛ حوالي ٣٥٪ من أسباب الاحتجاز. «طوال الليل، تظل تصرخ خوفًا من مغتالها أو من سارقها؛ مسببة إزعاجًا لجيرانها. كانت ترى قططًا وكهنة وراهبات يتجولون حول سريرها ويحملقون فيها بنظرات مرعبة.»

ثم يليه — بصورة أقل أهمية — «العاجزون» (المصابون بالعته والمتأخرون عقليًّا والبُله) ومرضى الصرع الذين تفاقمت حالتهم والمبذرون والمتسللون؛ أي جميع الذين لم يعودوا قادرين على التصرف أو مَن ليس لديهم أحد يعتني بهم: «أصيب أخوه الذي كان يتولى رعايته بالشلل» (١٩٢٤). كان فقر غالبية هؤلاء سببًا حاسمًا أيضًا: «لا تستطيع أسرته — التي لا تمتلك نقودًا — أن ترعاه.» «تظهر على هذه المرأة أعراض واضحة للجنون العقلي ربما نتيجة لإصابتها بالشلل العام. ونظرًا لفقر المرأة التي لا تمتلك بالطبع القدرة على رعاية نفسها بطريقة فعالة؛ فمن الضروري إذن إدخالها المصحة» (١٩٠٦).

لا تزيد نسبة الاحتجاز الإجباري في مصحة بون سوفور (٥٧٪) عن الاحتجاز الإرادي إلا قليلًا (٤٣٪)، خاصة أنها — نظرًا لكونها مصحة خاصة — تستقبل نسبة كبيرة من المحتجزين من الفئة الثانية (وتشير الإحصائية الوطنية إلى أن متوسط نسبتهم يصل إلى ٣٠٪). ويتوزعون على مساحة تشمل البلاد كلها، وذلك دائمًا لرغبة العائلات في وضع مريضها بعيدًا لأسباب تتعلق برغبتهم في كتمان الأمر. وتمثل حالات الاحتجاز الإرادي حوالي ١٠٪ من الطلبات المقدمة من الجيش أو من الجمعيات الدينية. كان هذا هو تخصص بون سوفور الذي يدعي أنه يقدم لنزلائه القدر الكافي من السرية والمركز الاجتماعي. أما طلبات الاحتجاز الحكومية، فتضم نسبة لا بأس بها (من ١٥ حتى ٢٠٪) من الحالات تأتي من المصحات والملاجئ والمحاكم والسجون. وتزيد نسبتهم لدى الرجال عن النساء؛ مما يدل على ارتفاع نسبة الخطورة لديهم.

يتراوح عمر المريض في خمسين بالمائة من الحالات عند احتجازه ما بين ثلاثين وخمسين عامًا. وهو ليس صغيرًا ولا كبيرًا على المستوى الوطني. أما بالنسبة إلى جنس المريض، ففي بون سوفور — كما في باقي المصحات — تكون النسبة الأكبر للنساء. وقد تسبب عددهم سنويًّا (٥٢ في مقابل ٤٨ في المتوسط) في نشر اعتقاد بأن النساء يقعن فريسة أسهل للجنون عن الرجال. إلا أن نسبة الرجال الذين يجري احتجازهم تزيد عن النساء (من ١٠٥ إلى ١١٥٪). ويرجع ذلك — كما سنشرح لاحقًا — إلى أن الرجال يموتون في المصحات أو يخرجون منها بطريقة أسرع. أما عن الحالة الاجتماعية، فإن الأفضلية تكون للعزَّاب أو الأرامل؛ أي الذين يعيشون بمفردهم.

وتعد نسبة الانتكاسات غاية في الأهمية، وهي تدور حول ١٥٪، أو أكثر قليلًا (وهي النسبة نفسها على المستوى القومي). بشكل عام، فإن الانتكاسة لا تحدث مرة واحدة، بل عدة مرات. في عام ١٩٠١، احتُجِزَ هذا المريض عقليًّا ذو الستة والثلاثين عامًا للمرة الرابعة عشرة لإصابته ﺑ «هوس متقطع». أما هذه المزارِعة ذات الواحد والستين عامًا، فقد دخلت المصحة للمرة السادسة عشرة عام ١٩٢٠، لإصابتها ﺑ «حالةِ سوداء بسيطة يصاحبها اكتئاب». هؤلاء هم من يُطلق عليهم — على مستوى البلاد — «المعتادون على المصحات»:2 مدمنو الخمور، مرضى الصرع، «المختلون أخلاقيًّا». ففي مصحات منطقة السين، لم تكن حالات الانتكاس المتعددة نادرة. ﻓ «جاس» — نجم مصحة فيلجويف — كان قد دخل للمرة الخامسة والستين في عام ١٩١٠، مضيفًا إلى سجله خمس عشرة حالة هرب. وهناك أيضًا جورج كا، الذي «أصبح مقيمًا دائمًا في مصحات الأمراض العقلية بعد أن كان مقيمًا في السجون.» وهنا تظهر فئة جديدة من المرضى، وهي «مرضى الاعتلال العقلي الأشرار» (الذين يميلون إلى الشر). وتضم هذه الفئة الكثيرين، حتى الشحاذ الأعرج الذي يصطنع الجنون، سواء بوعي أو من دون. إلا أنه بالنسبة إلى أطباء الأمراض العقلية، فإن أي شخص يصطنع الجنون إنما هو مصاب به إلى حد ما.

•••

كيف تمت حالات الاحتجاز الثمانية عشر ألفًا ومائة وسبع بمصحة بون سوفور بين عامي ١٨٣٨ و١٩٢٥؟ وماذا عن كون «المصحة أداة للشفاء»؟

أقل من ثلاثة أشهر من ثلاثة أشهر إلى عام من عام إلى عامين من عامين إلى خمسة أعوام من خمسة أعوام إلى خمسة عشر عامًا أكثر من خمسة عشر عامًا الإجمالي (من أصل الثمانية عشر ألف حالة بين عامي ١٨٣٨ و١٩٢٥)
خروج للشفاء ١٦٠١ ١٥٧٠ ٢٩٨ ٢٣٨ ١٠٢ ٢٢ ٣٨٣١
خروج للتحسن ٥٨٩ ٧١٥ ٢١١ ١٦٧ ١١٩ ٣٣ ١٨٣٤
خروج من دون شفاء ٦٤٥ ٥٦٦ ١٨٠ ١٧٨ ١٢٨ ٣٧ ١٧٣٤
حالات خروج أخرى* ١٩٧ ٨٣ ١٢ ٢٢ ١٤ ٤ ٣٣٢
تنقلات (٢٢٣) (٣٦٣) (١٨٠) (٢٠٢) (٢٦٤) (٣٨٨) (١٦٢٠)
وفيات ١٥٩٢ ١٥٦٤ ٩١٥ ١١٧٢ ١٦٣٦ ١٩٠٧ ٨٧٥٦
هروب أو إقامة غير مبررة.

يُظهر الجدول الإحصائي بوضوح فئتين من المرضى: بعد حوالي عام من الاحتجاز. من بين الفئة الأولى، خرج حوالي ٦٢٪ (سواء نالوا شفاءهم أم لا)، في مقابل ٣٠٪ من الفئة الثانية؛ مما يدل — على عكس الفكرة الثابتة — على نوع من الدوران النسبي. استبعدنا من الحسابات حالات التنقلات (٩٪)، مؤكدين على أن هذه التنقلات من مصحة إلى أخرى، تضم كافة أنواع المرضى عدا الذين تم شفاؤهم. ومنها هذا النموذج المعروف: عام ١٨٨٨، كانت هناك هذه المريضة المحتجزة منذ أحد عشر عامًا. في البداية كانت تبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا، وكانت مصابة بالهستيريا مصحوبة بحالة هياج تستدعي القيود. وفي غضون عدة أعوام، أُصيبت بحالة خبل عام. كانت من مواليد منطقة أورن، ونظرًا لأن تكاليف الإقامة اليومية في مصحة منطقة ألنسون أقل من مصحة بون سوفور، التي كانت قد بدأت فعليًّا في التخلص من مرضى الاعتلال العقلي الفقراء أصحاب الحالات المزمنة، والذين لا يقيمون في المنطقة التي وُلدوا فيها؛ فقد حُوِّلَت المريضة إلى مصحة ألنسون للأمراض العقلية. كان الأمر يدور حول رغبة المصحات في التخلص من الحالات الصعبة، حتى بلغت درجة أنها كانت تحاول إرسال المريضات العجائز المصابات بالخرف غير المؤذي إلى دور المسنين. فها هي حالة مريضة تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا مصابة بالبله، حين دخلت مصحة بون سوفور. في عام ١٩٣٣، أصبح لديها ثلاثة وسبعون عامًا قضت تسعة وخمسين منها في المصحة. وهي مريضة هادئة، تمارس الأعمال المنزلية؛ مما يجعل دار المسنين مناسِبة لها، حتى وإن تطلَّب الأمر مساومات صعبة. فبمجرد حدوث النوبة أو صدور أي صرخات أثناء الليل — على الرغم من أنه كان أمرًا معتادًا في دور المسنين — سيتم طرد العجوز المسكينة على الفور وإعادتها إلى المصحة؛ حيث اعتادت عليه بعد أن قضت هناك أكثر من نصف قرن. لكننا سنرى أن هذه التنقلات للمرضى «داخل المؤسسة» كانت قاتلة بالنسبة لهم.

بعيدًا عن هذه التنقلات، كيف يتناقص عدد المرضى في الفئة الهامة التي تضم خمسة وخمسين بالمائة من المرضى المحتجزين لأقل من عام (نصفهم لأقل من ثلاثة أشهر)؟ يموت حوالي ٣٤٫٥٪ منهم، بينما يخرج الباقون تارة بحجة شفائهم أو تحسنهم أو لعدم شفائهم. وتفرض المقارنة مع الجزء الثاني (٤٥٪) نفسها: فهنا تطول فترات الاحتجاز (٢٠٪ من المرضى يقيمون لخمسة أعوام، و١٢٪ حتى خمسة عشر عامًا). وليس من النادر لدى النساء أن يمكثن لنصف قرن داخل المصحة. وتعد أقدم مريضة محتجزة هي مريضة مصابة بالبله محتجزة منذ خمسة وستين عامًا. يموت في الغالب ما يقرب من ٧٧٪ منهم، وتكون الدهشة كبيرة عندما نشاهد بعضهم يخرجون، ولا سيما بعد إعلان «شفائهم» بعد مرور كل هذه السنوات. فنسبة الخروج من المصحة تتناسب عكسيًّا مع طول المدة التي يقضيها المريض في المصحة. فهؤلاء الذين لا ينالون الشفاء ولا تتحسن حالتهم خلال العام الأول من الاحتجاز، تقل فرصهم جذريًّا في الخروج، ولا سيما أن ثلاثة أرباعهم سيموت داخل المصحة.

بشكل عام، يخرج ٢٣٫٢٪ من المرضى المحتجزين لشفائهم، و١١٫١٪ لتحسن حالتهم، وحوالي ١٠٫٥٪ لعدم شفائهم. يخرج هؤلاء المرضى الذين لم يَبْرَءُوا بناءً على طلب العائلة أو المؤسسة (في حالة الاحتجاز الإرادي)؛ في أغلب الأحيان لأنهم يكونون على وشك الموت، وبالتالي فليس من اللائق أن تترك العائلة أحد أعضائها يموت «وسط المجانين»: «زوجته تطلب خروجه، فهي لا تريده أن يموت هناك» (١٨٧٥). ولكن في معظم الأحيان، يرجع سبب الخروج إلى إدراكِ مَن طلب الاحتجاز لعدم تحسن حالة المريض، بل تدهورها. يضاف إلى هذا مسألة دفع تكاليف الإقامة؛ حيث قد تضطر العائلة إلى دفعها مدى الحياة، إذا تأكدت عدم قابلية المريض للشفاء. كذلك الحال مع مرضى الصرع الذين مر عليهم وقت طويل دون أن تداهمهم أي نوبات، وإن ظلوا مندفعين ومن السهل استثارتهم، أو حتى ضعاف العقول الذين أصبحوا مسالمين. ويمكن للطبيب أيضًا أن يطالب بخروج المريض، أو المحافظ في حالة الاحتجاز بناء على طلب الحكومة. وفي بعض الأحيان قد يتعارض رأي السلطة مع وجهة نظر الطبيب: «إنه مدمن خمور خطير، وقد يرتكب أثناء نوباته أفعالًا يعاقَب عليها. ونحن نرى أنه لا يجب إخراجه، على عكس رأي الطبيب الذي أبلغنا به» (ولكن خرج المريض رغم كل شيء). وفي المقابل، قد يأتي الرفض من المحافظ لطلب قدمه الطبيب؛ نظرًا لتكرار حالات الانتكاس. وفي الأغلب، يوافق الطبيب على طلب الخروج الذي تقدمه أسرة أحد المرضى المحتجزين بناء على طلبها، ولكن دون خداعها: «يبدو مظهره هادئًا، ولكنه ليس أقل جنونًا من الداخل.» يمكن للطبيب قبول الطلب أو رفضه (المريض ليس في حالة تجعله يحسن التصرف) أو قد يؤجله قليلًا. فهذا المريض ذو الثلاثة والستين عامًا احتُجِزَ عام ١٨٥٥؛ بسبب عدم اتزانه وهوسه بالشراء بشكل غير معقول، كان في حالة هياج عند دخوله المصحة، ولكن بدأ يتحسن منذ ستة أشهر، وكان على وشك الخروج. ولكن جاء في تقرير كبير الأطباء: «نظرًا لسلوكه العنيف للغاية مؤخرًا تجاه مريض آخر أبله بائس، لا تواتيني الجرأة على الموافقة على خروجه.» كان هذا المريض يستعد للخروج — وقد أصبح هادئًا وواعيًا مؤخرًا في غضون شهر من الاحتجاز — ولكن يقول كبير الأطباء: «بعد رؤيتي لسجله في البلدية، عدلت عن قراري؛ فقد كان يهدد جيرانه بالقتل، وطارد بالفعل زوجته عدة مرات ممسكًا بسكين في يده ليذبحها. إنه يمثل رعبًا في قريته.» إلا أن المريض خرج بعد سبعة أشهر.

وتوجد أيضًا حالات — وإن كانت نادرة — لمرضى لم يتم شفاؤهم ولكنهم يفضلون البقاء في المصحة، حتى وإن طالبت العائلة بخروجهم: «جاء والداه ليخرجاه، ولكنه رفض تمامًا المغادرة وانتابته حالة هياج.» وعلى العكس، يوجد أيضًا مرضى يهربون من المصحة ولكنهم قلة. ولا يبتعدون كثيرًا عن المصحة، وإن تمكن بعضهم من العودة إلى منازلهم. ويقول أحد الآباء عام ١٩٢٠: «كانت مفاجأتنا كبيرة عندما وصل ابننا المسكين صباح اليوم إلى المنزل. وأمام رفضه العنيف للعودة إلى المصحة، وبعد وعوده بالبقاء هادئًا، قررنا إبقاءه معنا.» كان هذا هو ما يحدث عادة، بشرط أن تكون المسألة موضع نقاش إذا ما عاد المريض لعادته القديمة.

ومن النادر وجود حالات الاحتجاز غير المبررة لأكثر من أسبوع بقرار طبيب المصحة. فدوافع الاحتجاز مهمة للغاية: «لا يمكننا اعتباره مريضًا عقليًّا، بل بالأحرى متشردًا ينقصه تمامًا أي حس أخلاقي» (١٨٨٨). «المريض مصاب بضعف عقلي مصحوب بانحرافات غريزية وغياب للحس الأخلاقي، إلا أنه لا يعاني من أي هذيان؛ ومن ثم فمكانه ليس مصحة الأمراض العقلية» (١٩١٦). وأحيانًا تكون الفروق بين رأي طبيب وآخر هامة جدًّا؛ فقد يسمح أحدهم بالاحتجاز والآخر لا يسمح. وإذا جرى اتباع القيود الموضحة سابقًا، لكان عدد المحتجزين قد قل بصورة مؤكدة.

وأخيرًا، ماذا عن «المرضى الذين تم شفاؤهم» و«الذين تحسنت حالاتهم»؟ تحمل هذه الصيغ — التقليدية — قدرًا من الغموض وتطرح إشكالية هامة حول معايير الخروج من المصحة. ولنبدأ بالذين شهدت حالاتهم نوعًا من التحسن … فها هو واحد منهم كان يعمل بقالًا ويبلغ من العمر ثلاثة وخمسين عامًا، ولقد أدخلَته عائلته المصحة بإرادتها عام ١٨٢١. ثم خرج «لتحسن حالته» بناءً على طلب الأسرة ذاتها، وإنْ ذَكَرَ الطبيب الموقِّع على قرار الخروج الآتي: «أصبحت حالته أهدأ وأفضل، ولكنه قد يصبح مضطربًا إذا تعرض لضغط ما.» ولا تبدو الصيغة أكثر وضوحًا من تعليق الطبيب، «فالمريض الذي تحسنت حالته» هو أي شيء ولكنه ليس سليمًا، فهي تعني بالأكثر: إنه أصبح هادئًا.

وهكذا، في بون سوفور — وفي باقي المصحات العقلية — تخرج كمية كبيرة من المحتجزين بسرعة نسبيًّا؛ مما يتعارض مع فكرة أنه بمجرد احتجاز المريض، فهو يبقى هناك للأبد. ويلقي المنشور السنوي الوزاري بتاريخ العاشر من نوفمبر ١٩٠٦ — الموقع من جورج كليمنصو رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية — الضوء على هذه المسألة الهامة. فالأمر لا يقتصر على اكتظاظ المصحات بالمرضى، بل على «تخفيف التكدس فيها»: «تعاني غالبية المصحات العقلية في الأقاليم من تكدس فاضح […] ومن ثَم يجب فورًا إخراج كل من لم يعودوا في حاجة للبقاء فيها أو من لا يوجد داعٍ لإقامتهم هناك. من يستطيعون الخروج هم المرضى الذين لم ينالوا شفاءهم بالكامل، ولكنهم ليسوا في حاجة لعناية خاصة […] أما من يجب ألا يكونوا في المصحة أصلًا فنوعان: المرضى الذين تم شفاؤهم، ولا يزالون صغارًا نسبيًّا في السن، واليوم يكون هناك دائمًا استعداد لإخراجهم بشرط توافر معلومة عما سيئول إليه حالهم. والنوع الآخر — الذي لا مبرر لإبقائه في المصحة — هم كبار السن من الرجال والنساء الذين يعانون من تدهور حالتهم العقلية، ولكنهم ليسوا مجانين أو مرضى اعتلال عقلي بمعنى الكلمة، ولا تستدعي حالاتهم أي رعاية طبية خاصة، من ثم يكون مكانهم دور المسنين وسط المسنين الفقراء غير المؤذين مثلهم.» وعلى الرغم من قلة شهرته وقلة العمل به (مثله مثل الباقين)، يعد هذا المنشور هامًّا للغاية؛ لكونه يوضح ثانية أن الأمر لا يتعلق بتكدس المصحات وإنما بإخلائها على الأقل جزئيًّا.

ومن حينها، أصبح هناك وعي أكثر بمنطق خروج المرضى، ليس فقط «مَن تحسنت حالتهم»، بل وأيضًا «الذين نالوا الشفاء». ولكن من هو «المريض الذي نال الشفاء»؟ ازدادت مصطلحات مثل «مريض شُفي ولكن تحت التجربة»، و«مريض من المفترض أنه شفي»، و«مريض شُفي ظاهريًّا، ولا يبدو خطِرًا ويمكن إخراجه من المصحة دون أضرار»، وإن اشتملت على بعض التناقضات في الألفاظ. وعلى سبيل الدعابة، نذكر هذا التعليق: «مريض شُفي مؤقتًا.» باختصار، لا يكون المريض الذي أُعلن «شفاؤه» أفضل كثيرًا من ذاك الذي «تحسنت حالته». والأمثلة كثيرة؛ فها هو طالب في المدرسة اللاهوتية ذو خمسة وعشرين عامًا ومحتجز منذ الثالث من أكتوبر ١٩٢٥ لإصابته ﺑ «هوس حاد». وفي اليوم الخامس من الشهر ذاته، شُخِّصَت حالته على النحو التالي: «هوس حاد مصحوب بهياج شديد ومتقطع.» في التاسع عشر من الشهر، بدأ يتحسن. وفي العشرين من الشهر ذاته، أُعلن أنه ليس فقط يتحسن، وإنما شُفي، وخرج في اليوم نفسه. ومرة أخرى، تتكاثر الحالات من هذا النوع. فها هي مثلًا حالة هوس حاد لدى امرأة في السادسة والأربعين، تعاني من انتكاس لمرضها. كانت قد دخلت المصحة في الثامن من مارس ١٩٢٤ وهي تعاني من «أفكار اضطهاد وحالة من الهياج والغضب والتهديد.» في الرابع والعشرين، شُخِّصَتْ حالتها بالهوس الحاد. وبحلول اليوم السابع والعشرين من الشهر نفسه، تقرر خروجها «لشفائها». حدث الأمر ذاته مع هذه المريضة بالاكتئاب السوداوي والتي خرجت من المصحة لشفائها في أقل من شهر، ومع هذا المريض ذي الميول الانتحارية الذي دخل المصحة في شهر أكتوبر ليخرج في نوفمبر. أو ذاك المريض الذي لا يفكر إلا في «عدم الكلام عن اختراعاته»، ومع ذلك يتقرر خروجه. أو هذا المريض الذي يطلب عملًا، فيطلب كبير الأطباء خروجه. وتلخص إحدى الشهادات — من بين أخرى كثيرة — المقصود ﺑ «المريض الذي يخرج لشفائه»: فقد جرى احتجاز هذا المزارِع ذي الخمسة والأربعين عامًا في أغسطس ١٨٨١ بسبب نوبات هياج خطيرة انتابته، وأيضًا بسبب عدم الإدراك (فلم يعد يعرف من هو)، بالإضافة إلى هلاوس ثراء. وبعد ستة أشهر، لم تكن هناك إلا ملاحظة واحدة: إنه هادئ. وبعد شهر آخر ونصف شهر، كان قد شُفي وخرج من المصحة: «إنه في حالة من الهدوء الدائم تسمح بإخراجه، صحيح أن نسبة ذكائه ضعيفة، ولكن لم يصدر عنه أي سلوك طوال فترة بقائه في المصحة يحملني على الاعتقاد بأنه خطر …»

وفيما يتعلق بنسبة الوفيات في المصحة العقلية، فهي تتمثل في هذه النسبة المرعبة: ٥٣٫١٪ من عدد من دخل من المرضى. صحيح أنه — إذا أردنا النظر إلى نصف الكوب المملوء أو الفارغ — يمكننا القول بأن نصف عدد المحتجزين يخرجون (أيًّا كانت حالتهم)، ولكن دائمًا ما تزيد احتمالية الخروج من المصحة بسبب الوفاة عن الخروج منها على قيد الحياة. ويوضح الحوار الذي أُجري عام ١٩٧٤ مع الطبيب لومارشاند — البالغ من العمر مائة وثلاثة أعوام، والمتدرب بمصحة فيلجويف منذ عام ١٨٩٨:

المحاور : إذن، ماذا عن «مصابي الشلل العام»؟ أكان هناك علاج محدد لهم عام ١٩٠٠؟
الطبيب لومارشاند : لا.
المحاور : أكنتم تكتفون باحتجازهم؟
الطبيب لومارشاند : كنا ننتظر موتهم.

وتعد نسبة الوفيات المسجلة في مصحة بون سوفور أقل بكثير منها في باقي المصحات العقلية. وتزيد نسبة الوفيات في الرجال عنها لدى النساء (٥٤٫٢٠٪ في مقابل ٥١٫٨٥٪)، ويزيد الفرق في أقل من عام. ولكن ما هو سبب الموت داخل المصحة؟ أي شيء — كما في الخارج — وخاصة الدرن. فربما توجد حالات وفاة لأسباب خاصة، مثل «حالات الوهن الحادة»، والتي هي السبب الرئيس للوفيات داخل المصحة العقلية، وهي تبدأ بالضعف البدني العام الناتج عن قلة أو رفض الطعام؛ مما يؤدي إلى الهزال الشديد والإسهال المزمن والموت في النهاية. ولم تعد الإصابة بخلل جميع وظائف الجسم مقصورة فقط على المسنين؛ فيكثر الإصابة به في المصحة (وسنتحدث عن هذا الأمر لاحقًا فيما يتعلق بزيادة نسبة الوفيات وقت الحرب العالمية الثانية). لدى النساء — اللاتي تزيد فترات إقامتهن في المصحة — يموت ٦٢٫٥٠٪ منهن نتيجة الإصابة بخلل في جميع وظائف الجسم فوق عمر الستين، في مقابل ٣٧٫٥٠٪ منهن يمُتْن قبل الستين. أما الرجال، الذين يكونون أكثر ضعفًا داخل المصحة، فتكون النسبة معكوسة؛ حيث تكون حوالي ٤٣٪ بعد الستين في مقابل ٥٧٪ قبل الستين. فالتقسيم المرضي لمن هم تحت الستين يكون مختلفًا — هم ضعاف عقليًّا أو بُلْه أو مرضى بالصرع أو غالبًا بالاكتئاب — بينما من هم فوق الستين، يكونون دائمًا مصابين بالخرف. وتزيد معدلات «الوهن العام» الذي يسبب الوفاة وفقًا لأسباب معينة، ومن بينها نقل المرضى من مصحة إلى أخرى؛ مما يجعل المريض يفقد عاداته والأماكن المعروفة لديه. ويعاني أغلبية المرضى المنقولين أساسًا من منطقة السين — غالبًا بأعداد كبيرة (أربعين أو خمسين أو أكثر، وصل عددهم إلى مائة وأربعة عام ١٨٩٠) — من «الوهن العام»، ويموتون خلال بضعة شهور، بل بضعة أسابيع؛ ولهذا، التصقت بمصحة الأمراض العقلية صورة المكان الذي يحوم حوله الموت. والأمر ذاته يكون مع حالات الاحتجاز المتأخرة، كما في حالات العجائز المصابات بِالعَتَه، ولكنهنَّ لَسْنَ فقيرات بالضرورة. ففي أغلب الأحيان، تقرر عائلاتهن فجأة أنهم لا يرغبون في وجودهن؛ لأنهن أصبحن «شريرات» … ومن ثم يدخلونهن المصحة وهن بعمر الثمانين، بل والتسعين. ويمُتْن خلال أسبوعين.

ومن المثير للدهشة، أن نسبة حالات الانتحار في المصحة قليلة للغاية. فعلى مدار مائة عام، لم ينتحر سوى أربعة وثلاثين رجلًا وثلاث وعشرين امرأة (من أصل ثمانية عشر ألفًا) محتجزين بمصحة بون سوفور. وأكثر الطرق استخدامًا هي الشنق (وإلا فما هي الطريقة الأخرى؟) «شنق المريض نفسه في أثناء الليل باستخدام السير المستخدم لتقييده في ملاءة سريره على عارضة إغلاق نافذة مهجع التمريض [!]» (١٩١٤). إلا أن لفظ «الانتحار بمصحة الأمراض العقلية» لا يملك بالطبع المعنى نفسه في الحياة «العادية». أيجب أن تتضمن هذه الفئة (نظريًّا، لاستحالة الأمر عمليًّا) مجموعة مرضى الاعتلال العقلي — وهم كثر هذه المرة — الذين يمتنعون عن الطعام داخل المصحة بغرض الموت؟

أمام هذا المشهد، ندرك أن «مصحة الأمراض العقلية، أداة الشفاء» لا تشفي في الحقيقة. وفي عام ١٩٠٨، يذكر كبير الأطباء بمصحة بيجار (وهي فرع لمصحة بون سوفور مخصص للنساء في السواحل الشمالية) أن «علاج مريضات المنطقة — وجميعهن تقريبًا من ذوات الحالات المزمنة — كان يقتصر للأسف على متابعة حالتهن البدنية.» ويؤكد الأمر ذاته هذا الخطاب المتواضع المرسل عام ١٩١٧من والدة مريض في الثلاثين من عمره مصاب بالبله ومحتجز منذ ثمانية أشهر. «سيادة المديرة، مرفق لسيادتكم مبلغ مائتين وخمسة وثلاثين فرنكًا وعشرة سنتيمات، قيمة إقامة أندريه بي، لست مندهشة من عدم تحسن الحالة العقلية لطفلي المسكين؛ لأنه منذ طفولته وتصرفاته غريبة. كان يلعب بالخيوط طوال اليوم، ويتلذذ بالطعام أحيانًا، ولكنه أصبح الآن غريبًا مما يقضي عليه.» ولقد مات الشاب بعد ذلك بسبعة أشهر.

من الناحية الطبية، كيف تكون الفترة ما بين الدخول، والخروج أو الموت؟ وتتوالى الملاحظات والتشخيصات شهريًّا في السجلات القانونية، وإن كانت تتركز أساسًا على بداية الاحتجاز، ولا تتغير إلا في حالة حدوث تغيير ملحوظ. فالإقامات ذات المُدد الطويلة عادة ما تتضمن فترات طويلة من «الصمت» ما بين الدخول — أو على الأقل السنة الأولى — وبين الملاحظات الأخيرة التي تسبق الخروج أو الوفاة.

ولا تهتم الملاحظات إلا بتدوين السلوك غير الطبيعي أو السلوك السلبي المخالف لما يجب أن يكون عليه المريض عقليًّا النموذجي، ويتلخص في الآتي: «هادئ ومطيع، يعمل بجد وينام ويأكل جيدًا.» وتشير ٣٧٪ من الملاحظات إلى حالات الهياج المستمرة أو النوبات بجميع أشكالها: «نوبات الاستثارة أو النشوة أو الاضطراب أو التمرد أو الوقاحة أو الكلام أو الإزعاج.» ويُضاف إليها «نوبات الشر»: «الغضب والاندفاع وتمزيق الملابس وضرْب من حوله والعنف والانتحار.» لكن، يجب ألا تعطي هذه الملاحظات صورة دائمة عن اضطراب المكان. ففي حوالي ٣٢٪ من الملاحظات نجد حالات الانهيار بكافة صورها: «الضعف البدني والفكري واللامبالاة والبطالة والخمول والذهول والفتور والبلاهة وحالات الخوف والحزن والبكاء والفزع والقلق»، إلخ. ويشتمل جزء كبير من الملاحظات (٣٥٪) على تعبيرات تحمل طابع الطب النفسي: «تفكك الأفكار أو العبارات، عدم القدرة على التعرف على نفسه، الصمت، الهلاوس (خاصة السمعية)، أفكار الاضطهاد والذنب واللعنة والتسمم والإفلاس»، إلخ. وأمام هذه الفئة الكبرى الأولى من الملاحظات، توجد فئة أخرى — ولكن بنسب أقل — تشير إلى حالات التحسن المحتملة: فتأتي ألفاظ مثل «أفضل» و«هادئ» بعد «انخفاض حدة الهياج» أو «المريض يعمل.» مثل هذه الملاحظات إنما تمهد الطريق للخروج.

وبالإضافة إلى قدم الملاحظات، يأتي قِدم وسائل التشخيص. بالطبع، تختلف أنظمة تصنيف الأمراض قليلًا من طبيب إلى آخر (ويعد هذا الأمر من خصوصيات الطب النفسي بالمقارنة مع باقي فروع الطب)، ولكن ليس بصورة قاطعة. فجميعهم يشتركون في تصنيف انتقائي للأمراض، يقدم ملخصًا عمليًّا لمختلف التصنيفات الرسمية (ونذكر الرئيسِين منهم: إسكيرول وجورجيه وبارشاب وفالريه وبايارجيه وموريل). ويعد هذا دليلًا آخر على الفجوة الدائمة — في فرنسا بالأخص — بين النظرية (النظريات) والتطبيق العملي في المصحات. في عام ١٨٦٩، ينعى لودجر لونييه «غياب التوحيد في طريقة وقواعد الأطباء في مصحات الأمراض العقلية؛ مما يعد عقبة أمام محاولة مقارنة الأرقام التي يقدمونها.» والأشد طرافة أنه يمكن اكتشاف أن بارشاب أو موريل لم يكونا يستخدمان أبدًا تقسيماتهما النظرية الخاصة (وهي شديدة التعقيد) في الممارسات اليومية في مصحتيهما.

يمكننا الحديث إلى حد ما عما يشبه التصنيف الفعلي الذي يختلف من طبيب إلى آخر ومن مصحة إلى أخرى، ولكنه يبقى ثابتًا بشكل عام، وفيه نجد: الهوس والهوس الأحادي والكآبة المرضية المزمنة والهذيان والخبل والضعف العقلي والشلل العام والعته والبله والصرع وإدمان الخمور … ولكن كيف يتوزع هذا التصنيف «العام» في بون سوفور ما بين ١٨٣٨ و١٩٢٥؟ على رأس التشخيصات بنسبة ١٨٫٥٪، تأتي الإصابة ﺑ «الهوس» وكافة ملحقاتها: هوس حاد (واحد من كل خمسة) وهوس قديم وهوس مصحوب بهياج وهوس متقطع وهوس مستمر وهوس مزمن وهوس اكتئابي وهوس متعلق بالنفاس، إلخ. ولكن كلما تقدم الوقت، أصبح المصطلح بائدًا، وإن كنا نراه حتى عام ١٩٢٥، بل وحتى قبل الحرب العالمية الثانية، في حين أنه اختفى تمامًا منذ زمن من الوثائق النظرية. فدائمًا ما يقصد به الهوس القديم الذي تحدث عنه بينيل ومن قبله القدماء. وعلى العكس، لا يظهر لفظ «الهوس الأحادي» إلا نادرًا.

وبسبب تحول مرضى الاعتلال العقلي إلى مرضى مزمنين؛ تزيد نسبة «العته» إلى ١٨٪، وغالبًا ما يقصد به العته الذي يصيب المسنين بكافة درجاته، ومن جديد يؤثر نوع السلوك على التصنيف: خرف أو هياج أو شر … (ونرى عادة في تعليقات الطبيب هذه الملحوظة الغريبة ولا سيما لدى النساء: «إنها أشر من أن تكون مريضة عقليًّا».) وعلى مدار الأعوام، انتشرت تعبيرات مثل «ميل إلى الخبل»، «في طريقه للخبل»، «هوس (أو اكتئاب) يتحول إلى خبل.» أما اللفظ الطبي «الخبل المبكر»، فلم يكن يظهر إلا في ١٫٢٪ من التشخيصات.

ويشكل «الهذيان» (١٧٫٥٪) ثالث أكبر فئة في التشخيص. وبعيدًا عن التفرقة التقليدية بين الهذيان الحاد والمزمن والمستمر (أو حتى بين هادئ ومهتاج)، يكون ما يقرب من نصف هذه الهلاوس المتنوعة يتعلق بأفكار الاضطهاد في مقابل الهذيان الديني أو هذيان أفكار الثراء أو العظمة، أو حتى «الهذيان العام». ومن قبيل الفضول، نجد أنه من أصل خمسة آلاف ملاحظة، توجد ثلاث حالات من «الهذيان المبهج»؛ مما يدل على أن المجنون لا يكون سعيدًا إلا في خياله. من وقت لآخر يظهر لفظ «هلاوس» في التشخيص.

تنقسم ٥٤٪ من التشخيصات بنسب متساوية بين «الهوس» و«العته» و«الهذيان». بينما لا تمثل «السوداوية» — ويضاف إليها «الكآبة المرضية المزمنة» و«الهوس أو الهذيان الاكتئابي» — إلا ١٢٪ فقط. ثم تقل نسب التشخيص لأقل من ١٠٪: إدمان الخمور (٧٫٥٪)، و«ضعف العقل والضعف الفكري والوهن العقلي والانحطاط العقلي» (٧٪)، والشلل العام (٦٪)، والبله والعته (٥٪)، والصرع (٣٫٤٪)، و«الاضطراب العقلي» (١٫٨٪) … أما الهستيريا (وهناك أيضًا «هوس هستيري»)، فتكون بعيدًا عن باريس؛ حيث إن الهستيريا لا تمثل إلا (١٪) من التشخيصات، بما فيها ملحقات الصرع. وتكون الإشارة إلى الذهان (٠٫٣٪) والوهن العصبي والوهن النفسي نادرة للغاية …

يمكن أن تتجمع لدى المريض الواحد أكثر من فئة من هذه الأمراض؛ فمثلًا قد يدخل مريض لإصابته ﺑ «الهوس» أو حتى «الكآبة»، ولكنه نظرًا لطول مدة بقائه في الاحتجاز، قد تزيد «فرص» إصابته ﺑ «ضعف الوظائف العقلية» أو «الخبل»؛ ومن ثم فيجب عدم اعتبارها إلا في إطار مدى ترددها الدلالي. وتمثل اثنتان من هذه الفئات مشاكل خاصة؛ إحداهما بسبب المبالغة في التقييم، والأخرى على العكس لضعف التقييم. وتختص المبالغة في التقييم بالشلل العام (٦٪)؛ أي حوالي ألف وستمائة تشخيص، في حين أن الرقم الفعلي للمرضى بالشلل العام أقل بكثير (ربما عشر مرات أقل من هذا التقدير). ولكن فلنحذر التشخيص بأثر رجعي! ويمكن تفسير هذا التضخم بأن علم الأمصال لم يظهر في مصحة بون سوفور إلا في عام ١٩١٨، وأن التحليل التفاعلي لبورديه وفاسرمان لم يتم العمل به إلا في عام ١٩٠٦. وحتى هذا التاريخ، لم يكن سبب الشلل الرباعي المرتبط بالإصابة بالزهري معروفًا في مصحة بون سوفور، في حين أن الأطباء الممارسين خارج المصحة كانوا قد توصلوا إلى إدراكه. فكان كبار الأطباء يرون أنه يرجع إلى «الإفراط في المشروبات الروحية.» في تقرير ورد عام ١٨٩٩، يفسر طبيب مصحة بيجار حالات الوفاة السبع عشرة من أصل إحدى وخمسين حالة مصابة بالشلل العام بأنها نتيجة «فرط الإجهاد والحياة النشيطة.» وبدا الشلل العام تشخيصًا جامعًا وعامًّا (أكثر من أي مرض آخر)، يقوم فقط على الدلالة. وعلى العكس، أظهر تطبيق تحليل بودريه وفاسرمان — ابتداء من عشرينيات القرن العشرين؛ أي قرب نهاية فترة العينة — وجود كمٍّ كبير من الأمصال التي تعالج الزهري (في عام ١٩٢١، كانت نسبتهم ٢٦٪ لدى النساء فقط؛ وهو يبدو كثيرًا).3 إلا أن الإصابة الأولية بالزهري لا تعني بالضرورة الإصابة بشلل عام.

والفئة الثانية المشكوك فيها — ولكن دون داعٍ هذه المرة؛ حيث إن النسبة فقط ٧٫٥٪ — هي إدمان الخمور النفسي («هوس كحولي» أو «هذيان كحولي»)، إلا أنه يجب دراسة هذه المشكلة الهامة على المستوى الوطني. وسنركز هنا فقط على مسألة إدمان الخمور في فرنسا وآثارها النفسية.

«تصاعد الإصابة بالجنون بسبب إدمان الخمور»

سنظل في مصحة بون سوفور؛ حيث تشير التقارير الطبية في نهاية القرن التاسع عشر إلى أن متوسط معدل إدمان الخمور بين المرضى المحتجزين بلغ ٢٥٫٢٪ بين الرجال من عام ١٨٩٩ وحتى ١٩٠٨،4 و١٦٫٦٪ بين الداخلين في الفترة من ١٨٩٣ و١٨٩٨ مع إضافة النساء، وهن أقل عددًا نسبيًّا.5 «وإلى هذا الرقم، يجب إضافة الحالات التي يتسبب فيها شرب الخمور في الإصابة بأمراض نفسية أخرى.» بالطبع، تبلغ الأعداد نسبة أكبر من ٧٫٥٪ التي وضعت لتشمل الفترة من ١٨٣٨ و١٩٢٥. وقد يرجع ذلك إلى تأخر إدراك الأطباء بمصحة بون سوفور لما يسمى بالمرض العقلي الناتج عن إدمان الخمور، إلى جانب عدم الاهتمام بتسجيل كل الحالات. فبالإضافة إلى من تُشَخَّص حالتهم كمدمني خمور، يوجد بالتأكيد كثيرون آخرون «مختفون»؛ إذ إنهم مصنفون في فئات مرضية أخرى: الاضطراب العقلي والهوس (بعيدًا حتى عن «الهوس الكحولي») والضلالات والوهن العقلي (بعيدًا أيضًا عن «كونه نتيجة للإدمان») والانحطاط العقلي والهذيان الحاد والهياج الهوسي والخبل (بعيدًا عن «الخبل الناتج عن الإدمان») …
وفي دراسة أخرى عن مصحة بون سوفور وفي الفترة نفسها (١٨٣٨–١٩٢٥)، توصل الدكتور فرانسواز لوكلير من جانبه إلى أن النسبة قد تصل إلى ٨٫٨٪. إلا أننا لا نزال بعيدين — كما سنرى — عن الإحصاءات القومية. فمن أصل ألف وستمائة وسبعة محتجزين بسبب الإصابة بإدمان الخمور، تكون النسبة ٧٩٫٥٪ من الرجال و٢٠٫٥٪ من النساء. ويدخل الرجال المصحة عادة ما بين عمر الثلاثين والأربعين، بينما تدخل النساء ما بين الأربعين والخمسين. وعادة ما يُتخذ قرار احتجازهم على إثر حادثة خطيرة.6
ولقد بدأ ظهور المريض المحتجز لإدمان الخمور أو المريض مدمن الخمور (وتكمن المشكلة كلها في أن هناك فرقًا بين الاثنين) في فترة مبكرة داخل المصحات (بل وحتى قبل ذلك كما في طلبات الاحتجاز الواردة في خطابات مختومة في عهد النظام القديم). وهكذا، يرى بارشاب — بمصحة سان يون7 — أن ١٨٫٣٪ من أسباب الاحتجاز في الفترة من ١٨٢٥ وحتى ١٨٤٣ ترجع للإصابة بإدمان الخمور. وتشير إحصائية للداخلين في مصحة بيستر إلى تزايد نسبة مدمني الخمور من ١٢٫٧٨٪ عام ١٨٥٥ إلى ٢٥٫٢٤٪ عام ١٨٦٢.8 ومن جانبهما، أشار مانيان وبوشرو أنه — بخصوص مصحة سانت آن عام ١٨٧٠ — كانت نسبة الداخلين ٢٨٫٤٣٪ من بينهم ٦٫٧٧٪ من مدمني الخمور. وعلى المستوى الوطني هذه المرة، يضم تقرير عام ١٨٧٤ ١١٫٨٨٪ من المصابين بإدمان الخمور (١٧٫٦٧٪ منهم من الرجال و٥٫٤١٪ من النساء). ويشدد التقرير ذاته على أنه لا يزال هناك ضعف في تقدير العدد على الرغم من أن النسبة بلغت ٨٪. «غالبًا ما تنقصنا البيانات، وفي بعض الأحيان لا نبحث عنها بالانتباه الكافي في بعض المؤسسات.»
رأينا أيضًا كيف جعل الطب النفسي النظري من إدمان الخمور أحد مجالاته الجديدة. فأصبحت البحوث العلمية الكبرى والمجلات الشهيرة — مثل الجريدة السنوية للطب والطب النفسي — تُخصص له مقالات عديدة.9 إلا أن إدمان الخمور لم يُؤخَذ فعليًّا على محمل الجد إلا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد تقرير السيناتور نيكولا كلود، الذي قدمه لمجلس الشيوخ عام ١٨٨٧.10 كان مجلس الشيوخ قد أمر بالفعل بعمل تحقيقين حول إدمان الخمور عام ١٨٤٩ وعام ١٨٨٠، ولكن هذه المرة انصب الاهتمام بشكل خاص على «المرض العقلي الناتج عن إدمان الخمور». كانت هذه هي الجزئية الأطول من هذا التقرير المسهب، وإن كان لا يأخذ في الحسبان إلا المصحات الخاصة بالأقاليم (أي النصف). وفيما يسميه كلود «دي فوج» على سبيل الاقتراح «تصاعد الإصابة بالجنون الناتج عن إدمان الخمور»، لا يتم التشديد على زيادة متوسط الإصابة على المستوى الوطني (من ٨ إلى ٩٪ عام ١٨٦١ حتى ١٦٪ عام ١٨٨٥)، وإنما على الفروق العميقة بين المناطق. ففي شمال فرنسا، توجد مصحة كاتر مار للأمراض العقلية (مخصصة للرجال) في جنوب السين، تضم ٤٠٫٣٤٪ من حالات الاحتجاز لإدمان الخمور. وفي وسط فرنسا، نجد النسب أقل وتصل لحوالي ٥٪. وكأنها مقارنة بين الأماكن المعروفة بجودة الخمور وتلك التي لا تمتلك نوعية خمور جيدة … «نعتقد أنه يجب تجريم رداءة نوعية الخمور […] فأنواع النبيذ الجيدة وخمر التفاح والجعة غير المغشوشة لا تتسبب في إدمان الخمور.» ولقد ظلت هذه الفكرة الجامدة — التي دافع عنها بقوة نواب وأعضاء مجلس الشيوخ في المناطق المعروفة بزراعة الكروم — ثابتة. ولقد ذهب تقرير كلود إلى التأكيد على الآثار الجيدة «لخمر العنب الذي يتسبب في سُكْر غير مؤذٍ تزول آثاره سريعًا.» وبغض النظر عن هذا الوهم المحبب، هناك تأكيد لتكرار حالات الانتكاس، الناتجة عن قصر فترة الاحتجاز بالنسبة للمرضى مدمني الخمور.
كانت تلك هي المشكلة الكبرى. ففي مصحة بون سوفور، من بين المرضى الرجال المحتجزين لإدمانهم الخمور خرج ٤٦٪ قبل ستة أشهر (و٧٨٪ قبل مرور عام)، أما النساء — اللاتي يمكثن فترة أطول داخل المصحة أيًّا كانت إصابتهن — فخرج ٦٢٪ منهن في أقل من عام.11 وتوضح ملاحظة بتاريخ ١٨٧٥ الكثير عن هذا الأمر: «يجب عدم اعتبار هذا الشاب المصاب بإدمان الخمور مريضًا عقليًّا بالمعنى الدقيق. فقضاء بضعة أيام دون تعاطي خمور مع بعض الراحة سيعيدانه إلى حالته، وسيتمكن من مزاولة خدمته (العسكرية).» وتكثر الملاحظات من هذا النوع: «سيسترد قدراته كاملة بعد ثمانٍ وأربعين ساعة من الراحة والامتناع عن الشرب. ولا نظن أن هناك أي داعٍ لمد إقامته» (١٨٨٠). هذا بالإضافة إلى حالات إدمان الخمور غير الملحوظة؛ لأن النوبة كانت قد مرت بالفعل؛ مما يجعلها تندرج تحت بند «نوبة هوس». وبالطبع لا ينخدع الأطباء تمامًا بهذه الأوهام: «يخرج المريض لشفائه، حتى حدوث أزمات جديدة بسبب نوبة هوس أخرى.» في عام ١٩٠٧، سجلت مصحة بون سوفور ثلاثًا وتسعين حالةَ خروج لدى الرجال من بينها خمس وثلاثون من مدمني الخمور. وكان كبير الأطباء أول المستاءين: «من الواضح أن شاربي الخمور الذين يصابون بالهذيان للمرة الأولى أو الثانية يشفون بسهولة، ولكن تكمن المأساة في أنهم بمجرد خروجهم يصابون بانتكاسة قد تكون حتمية، وبعد عدة انتكاسات يتحولون إلى مرضى ميئوس من شفائهم. وعلاج هذا الأمر يكون بإبقائهم في المصحة لفترة كافية؛ ليس لكي يتخلصوا فقط من هلاوسهم، وإنما من عادة الشرب نفسها، إلا أن القانون لا يسمح بتمديد فترة إقامة واحتجاز المريض بمجرد زوال أعراض الاضطراب العقلي.» ولقد بلغ الأمر أوْجَهُ مع هذا القاتل الذي قتل عشيقته تحت تأثير الخمر، وحُكِم عليه بالمؤبد. ولكن في غضون ثمانية أعوام، أطلق سراحه وهو في عمر الثانية والأربعين. وسرعان ما خرج، حتى ألقي القبض عليه ثانية بسبب السُّكْر والقيام بأفعال فاضحة في الطريق العام. واحتُجِزَ بمصحة بون سوفور في الثامن عشر من يونيو ١٩٠٣، قبل أن يخرج بعد إعلان شفائه في الثلاثين من يوليو؛ أي بعد أقل من ستة أسابيع من الاحتجاز.

ما يتطلب الاحتجاز كان «الهذيان الناتج عن إدمان الخمور» وليس الإدمان في حد ذاته. في عام ١٩٠٢، كتب إدوارد تولوز — كبير الأطباء بمصحة فيلجويف ورائد فكرة الخدمة المفتوحة كما رأينا — في «مجلة الطب النفسي»: «يعد احتجاز مدمن الخمور في المصحة بعد زوال أعراض الاضطراب العقلي الحادة من أكثر المسائل التي توجب على الأطباء التعامل معها بحساسية. فإذا أصدر شهادة لإطلاق سراح المريض، فقد يعجل بخروجه؛ ومن ثم تعرضه للانتكاس، وإذا لم يخرجه وقرر إبقاءه، يكون الوضع متعارضًا مع الأحكام العامة لقانون عام ١٨٣٨.» ويدرك مدمنو الخمور المحتجزون هذا الأمر جيدًا، مثل هذا المريض ذي السبعة والثلاثين عامًا، الذي كتب في أكتوبر ١٩١٠ إلى عمته أثناء فترة احتجازه منذ سبعة أشهر بعد أن نُقِل من السجن إلى المصحة: «إذا عوقب كل مَن ثمل، فسيكون لدينا الكثير من المعذبين.»

وفي سبيل سد هذه الفجوة الإدارية، تمنى الكثير من أطباء الأمراض العقلية إنشاء مصحات للأمراض العقلية مخصصة لعلاج إدمان الخمور، مثل مصحة إليكون بالقرب من زيورخ، التي أنشئت بناء على مبادرة من أوجست فوريل، شديد الاهتمام بمقاومة هذا الإدمان (وهي تعرف الآن بعيادة فوريل). «يجب الاعتراف بهذا الأمر، فمدمن الخمور يجب ألا يخضع لإعادة التأهيل النفسي والأخلاقي داخل مؤسسة للمرضى عقليًّا: فالطبيب — الذي تشغله الحالات الخطيرة التي يجد لها بالكاد وقتًا لدراستها — لن يكون لديه الوقت ولا المواد المادية والمعنوية اللازمة للشروع في عملية شديدة الحساسية مثل إعادة تأهيل مدمن للخمور. وبالتالي، يخرج المريض من المصحة — كما كان في السابق — بالعادات والإفراط نفسه، ليعود ثانية بإصابة أبلغ؛ مما يقلل فرص شفائه. إن هذا الاحتجاز المتكرر يعتبر في نظر المجتمع إجراءً نافعًا وحمائيًّا؛ لأنه يجعله بمأمن من أعمال مدمن الخمور المهلوس الخطيرة، ولكن من ناحية فعالية هذا الإجراء في القضاء على الرغبة في الشرب، فإنها فعالية وهمية؛ فهو في الحقيقة مجرد اعتقال للمدمن لكونه مريضًا عقليًّا خطيرًا، ولكن ليس علاجًا لمرضه.»12

فإذا كانت هناك مؤسسات صغيرة (من أربعين إلى خمسين مريضًا) في الريف مخصصة لإقامات طويلة وبها نظام عمل منتظم — زراعي على وجه الخصوص — فسيكون هذا بالفعل علاجًا لإدمان الخمور وليس مجرد احتجاز وعزل الجنون الناتج عنه. في عام ١٨٩٤، طالب فالنتين مانيان وبول لوجرين بإنشاء سبع مصحات متخصصة في فرنسا على غرار تلك الموجودة في ألمانيا وسويسرا والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية. كان هذا الأمر يتطلب وسائل وتشريعات جديدة. ولقد تمخضت هذه المشروعات عن لا شيء، فلم تُنشأ إلا هيئة واحدة مخصصة لخدمة مدمني الخمور داخل مصحة الأمراض العقلية بمدينة إفرار. وتُبين لنا صورة فوتوغرافية من ذلك العصر صالة الطعام بها؛ حيث نجد الممرضين واقفين بصلابة — فلا نميز بين هذا المشهد وبين مصحات للأمراض العقلية التقليدية — وعلى روافد السقف نجد عبارات عملاقة مثل: «الكحول يُفقِد العقل ويدعو للشر»، «امتنعوا عن السُّكْر وكونوا مستقلين.»

خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، تغيرت خريطة توزيع نسب إدمان الخمور المرضي (أو إدمان الخمور فقط) بوضوح في الغرب؛ فمنطقة نورماندي بدأت تنازع بريتاني على الصدارة. فما أكثر الكتب الصحية والوقائية ضد إدمان الخمور التي كانت تذكر نورماندي على أنها المثال الذي يجب ألا نحتذي به: «يخلق إدمان الخمور سلالة خاصة ويبدو كل أعضائها متشابهين. ففي القرى الصناعية بروان، نجد أن الجميع يتشابهون. فاحذروا أن تظنوا أن هذا هو النموذج النورماندي! لا، إنه نموذج مدمن الخمر!»13 ويعكس ازدياد عدد حالات الاحتجاز للجنون الناتج عن إدمان الخمور (مثل حالات إدمان الخمور في المصحات وأمام المحاكم) مدى زيادة الميل للخمور لدى الشعب. وفي الوقت ذاته، تسببت الحملة ضد إدمان الخمور في تضخم في التشخيص دعمته نظريات الانحطاط العقلي التي كانت في أوجِها. وفي خطاب أرسله عام ١٨٨٦، يكتب لوجرين — كبير الأطباء بالخدمة الخاصة بمدمني الخمور في مصحة إفرار والعضو المؤسس للاتحاد الفرنسي لمكافحة إدمان الخمور: «إن مدمني الخمور إنما هم مرضى بالانحطاط النفسي.»14
ولقد لاحظ المشرع هذا المزج بين إدمان الخمور كسبب رئيس في الاحتجاز وكونه عاملًا مساعدًا بسيطًا، في تحقيق عام ١٩٠٧ الذي أجراه وزير الداخلية حول «أهمية الدور الذي يلعبه الخمر والمشروبات الكحولية في التسبب في الجنون» (كنا بعيدين عن إدراك باقي المواد التي تحتوي على C2H5OH (الإيثانول) بما فيها النبيذ)، وطُلب من مديري المصحات العكوف على التمييز بين ثلاث مجموعات: (أ) إدمان الخمور البسيط (اضطراب عقلي وهذيان مصحوب بضلالات وصرع وضعف في القدرات والشلل العام، إلخ)؛ حيث ثبت أن التسمم الكحولي هو السبب الحصري لهذه الاضطرابات العقلية. (ب) إدمان الخمور الذي يزيد من تعقيده الإصابة بالانحطاط أو الوهن العقلي أو الوراثة. (ﺟ) وجود أجدادٍ مدمني خمور.
وبعد كل هذا، ظل المرضى مدمنو الخمور — سواء أكانوا ذوي الحالات النفسية المرضية أم لا — طوال القرن العشرين يتكدسون في مصحات الأمراض العقلية، باستثناء حالات «كُمُون المرض أو الإقلاع» التي حدثت خلال الحربين العالميتين. ولقد ظل الأطباء النفسيون في المصحات يتساهلون مع وجود هؤلاء المدمنين تحت رعايتهم، دون اعتبارهم في حاجة للطب النفسي. فإدمان الخمور شديد التحول هذا سيختفي — على نحو مفارق — وراء وجوده الكلي، تاركًا المبالغة و«الجنون الناتج عن الكحوليات» (د. جان إيف سيمون) وصولًا إلى الابتذال.15 في التقرير الذي قمنا به عام ١٩٨٣ حول موضوع «إدمان الكحول والطب النفسي» لصالح اللجنة العليا لدراسة وجمع بيانات حول إدمان الخمور،16 توصل الأستاذ هنري برنارد إلى الآتي: «يبدو إدمان الخمور من دون وجه ولا صوت؛ فهو يندمج في المشهد الكبير ككلٍّ، فاقدًا عمقه كمجال خاص، ويشارك في رمادية الأشياء، ولا يستدعي اهتمامًا مباشرًا خاصًّا. وعلاوة على ذلك، ألَا يعتبره الطب — مهما ازداد اهتمامه به — أمرًا إضافيًّا لا نفعل الكثير حياله؟ ألَا يستخدمه كسبب خارجي غامض لأمراض كثيرة، عندما ظهر علم تتبع سبب المرض ليحل محل علم نشأة الأمراض؟ الأمر مشابه في مجال الطب النفسي بشكل عام. فمكانة إدمان الخمور في مجالات الدراسة والبحث وأدب التخصص لا تتناسب أبدًا مع مكانته داخل خدمات المصحات، وكأن باقي مجالات علم النفس الطبي كانت هي وحدها الجديرة بالتقدير والدراسة. فالمناقشات الطويلة الفارغة حول انتماء إدمان الخمور من عدمه لمجال الطب النفسي — في الوقت الذي كان فيه مدمنو الخمور موجودين بالفعل في مصحات للأمراض العقلية — إنما يدل قبل كل شيء على عجز كبير. باختصار، يمكن القول بأنه إذا كان مدمن الخمور يحوِّل إدمانه إلى أمر عادي، فإن الطب النفسي يزيد من هذا الأمر!»17

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤