الفصل الثالث

ثورة الطرق العلاجية البيولوجية

عندما نذكر — فيما يتعلق بالبحث العلمي — كلمة «السرنديبية» (وهي تعني بالإنجليزية المصادفة السعيدة؛ أي اكتشاف أشياء عَرَضًا)، نميل إلى التركيز فقط على المصادفة، ناسين أنها لا تأتي بمفردها، وأنها عندما تحدث يجب أن نعرف كيف «نقودها». هنا يكمن المعنى الحقيقي للفن الإرشادي. كانت كلمة sérendipité (التي تأخذ أحيانًا طابعًا فرنسيًّا في نطقها) قد ظهرت في إنجلترا عام ١٧٥٤، وهي مقتبسة من قصة فارسية تحكي عن ثلاثة أمراء لجزيرة سرنديب (سيلان) كانوا يكتشفون دوما أشياء ومكافآت لم يكونوا يبحثون عنها عن طريق «المصادفة وحدَّة الذهن.»

كانت هذه هي الحال وقت الاكتشاف الثوري لِأول مضاد للذهان، في سياقٍ من المعارف الخاصة بالفسيولوجيا العصبية، ولا سيما الوسائط العصبية (مواد كيميائية عضوية تطلقها الخلايا العصبية وتخلق «وسطًا» كيميائيًّا يؤثر على وظائف خلايا عصبية أخرى). ولقد بدأ هذا الاكتشاف السرنديبي بعملية تركيب الفينوثيازين من كلورور الميثيلين عام ١٨٨٣. كان الفينوثيازين يستخدم في البداية كمبيد للحشرات؛ للديدان (لمكافحة الطفيليات المعوية في الطب البيطري). وبعد ذلك، في عام ١٩٣٧، اكتُشِفَ أن بعض مشتقات هذا الجزيء تمتلك خواص مهدئة ومضادة للهستامين (والهستامين مادة تُفرز من العضو المصاب، مثل حالة الحساسية). كان الفينيرجان يستخدم كمضاد للهستامين منذ عام ١٩٤٠ على يد الطبيبَين النفسيين جيرو ودوميزن؛ لقدراته المهدئة في حالات هياج المرضى. وهناك أنواع أخرى من الفينوثيازين تستخدم في مجال علم الأعصاب بسبب خواصها المعالجة لمرض الشلل الرعاش (باركنسون)، ولكن دون أن يكون هناك تفسير لطريقة عملها. عقب الحرب العالمية الثانية، أصبحت دراسة آثار مشتقات الفينوثيازين الهدف الرئيس للباحثين. خلال حرب المحيط الهادئ، كان الأمريكيون قد بدءوا بالفعل في دراسة الفينوثيازين ومشتقاته في إطار أبحاثهم لمكافحة الملاريا، ولكنهم تركوها عام ١٩٤٤. في عام ١٩٤٩، استخدم هنري لابوريت (١٩١٤–١٩٩٥) — الجرَّاح التابع للبحرية في موقع فال دي جراس — أحد مشتقات الفينوثيازين لتجنب صدمة الجراحة، وهو الكلوربرومازين، من خلال «شراب محلولي» يعطى للتخدير ويتسبب للمريض في «حالة من اللامبالاة بما حوله». اختبر لابوريت في البداية الكلوربرومازين على أحد زملائه الأطباء الذي شعر «بحالة من الانفصال عن كل ما حوله».

ولكن كل هذا ليس إلا استخدامات تجريبية محدودة، حتى وإن كان لابوريت هو رائد ومحرك علم الأدوية النفسية في المستقبل. ولكن اختلف الأمر في السادس والعشرين من مايو ١٩٥٢، عندما نشر طبيبَا علم النفس العصبي جان ديلاي (١٩٠٧–١٩٨٧) — أول رئيس مؤتمر وطني للطب النفسي عُقد في باريس قبل عامين — وبيير دينيكر (١٩١٧–١٩٩٨)؛ نتائجَ أول سلسلة من عشرين حالة مصابة بالذهان الحاد عولجت فقط بالكلوربرومازين.1 وبدا الكلوربرومازين — كعلاج ممتد — يؤثر تحديدًا على بعض المظاهر الذهانية، ولا سيما الهلاوس. وكان علاج حالات الذهان الحادة في قلب اهتمامات الأطباء النفسيين في ذلك العصر. ولقد أدركت المطبوعات الأجنبية أهمية الحدث حتى قبل نهاية عام ١٩٥٢. وتمت أولى المحاولات الإكلينيكية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا منذ مطلع العام التالي.

ونال الكلوربرومازين شهرة واسعة تحت اسمه التجاري «لارجاكتيل» (أي «ذو التأثير الواسع»). وكان للاكتشاف صدًى كبيرٌ، لدرجة أنه — بناء على مبادرة جان ديلاي — أقيم احتفال دولي في مكان ميلاد الاكتشاف في سانت آن عام ١٩٥٥، ألقي فيه ما لا يقل عن مائة وسبعة وأربعين بيانًا، تنطق بمدى الأمل الوليد. وفي العام ذاته، بأكاديمية الطب، اقترح ديلاي ودينيكر مصطلح «الشلل العصبي»، الذي أصبح فيما بعد «المثبط العصبي». ويفضل الأمريكيون الحديث عن «المهدئ الأخطر» (وهو مصطلح غير مناسب؛ لأن المهدئات المعروفة حتى ذلك الوقت لم يكن لها أي تأثير فعال على الذهان).

ويعد الدخول لعصر علم الأدوية النفسية ثورة على عدة أصعدة؛ فهي «تجبر الطبيب النفسي على التفكير بطريقة فسيولوجية» (جان ديلاي)، ولا سيما أنها تعدل جذريًّا بنية المصحات النفسية. كانت طرق العلاج بالصدمات المستخدمة حتى ذلك الوقت طرقًا علاجية للأزمات. ولكن أصبح لدينا أخيرًا أدوية فعالة ويمكن استخدامها في العلاج الممتد، تسمح بالتأثير على المدى الطويل على تطور الذهان المزمن.

ومن نتائج هذا الاكتشاف — وهو ليس بالأمر الهين — التطور العظيم للمثبطات العصبية في الأعوام التالية، الذي شجعته حركة التنافسية البحثية، بينما أعلن ديلاي ودينيكر الخاصية ثنائية القطبية النفسية والعصبية. في عام ١٩٥٤، كان اكتشاف الريزيربين — دواء يُستخلص من زهرة «راولفيا سربتينا» — (السيربازيل)، وهو مادة قلوية تستخرج من ذوات الفلقتين بجبال الهيمالايا. كانت الزهرة نفسها تستخدم منذ العصور القديمة في آسيا لعلاج لدغات الحيات، وكانت تسمى «عشبة المجانين» كما هو مسجل في الطب الهندي في القرن السادس عشر. وكان من توصل إلى فصل القلويات الأساسية لهذا النبات هم أطباءَ هنودًا في ثلاثينيات القرن العشرين، ومن بينها الريزيربين الذي أصبح فيما بعد المثبط العصبي الوحيد المستخلص من مادة طبيعية. كما اكتُشِفَت جزيئات أكثر قوة من اللارجاكتيل في أعوام ١٩٥٩ و١٩٦٠ و١٩٦٨ و١٩٧٧ و١٩٧٨. وتطلبت كثرة عددهم وضع تصنيفٍ لهم. ويضم تصنيف ديلاي ودينيكر عام ١٩٧٣ ما لا يقل عن ثماني عائلات كيميائية للمثبطات العصبية، تنتج خمسة عشر دواءً مختلفًا يتراوح ما بين المهدئات وحتى الكوابح مرورًا بالأدوية متعددة الوظائف.

ويضاف إلى المثبطات العصبية المهدئاتُ ومضادات القلق. وتتجاور آثارها المهدئة للقلق والتوتر الانفعالي إلى آثارها المنومة؛ مما جعلها مفضلة أكثر من البربيتورات. في عام ١٩٥٤، ظهرت مجموعة الكربامات (من بينها الإيكانيل)، ثم في عام ١٩٥٧، ظهر أول بنزوديازيبين (بي دي زي)، وهو نوع جديد من الأدوية ذات الخواص المنومة والمضادة للقلق والتشنجات وفقدان الذاكرة والمساعدة على ارتخاء العضلات. كان هذا هو الكلورديازيبوكسيد — والذي صُنِعَ في البداية بالخطأ، قبل أن يصبح أحد أكثر الأدوية نجاحًا في تاريخ صناعة الأدوية: الليبريوم. في الأعوام التالية، ستُسَوَّق أنواع أخرى من البنزوديازيبين: الفاليوم والترانكسين والسيريستا والليكسوميل … وسرعان ما تجاوز وصفُ هذه المهدئاتِ لحالاتِ القلقِ الإطارَ الصارمَ للمرض العقلي، وأصبحت تُصرف بأمر الممارس العام. وفقًا لتحقيق عام ١٩٨٤، كان الأطباء الممارسون يصفون بالفعل ثلاثة أرباع الأدوية المخصصة لعلاج الأمراض العقلية والنفسية، سواء لأغراض العلاج الذاتي أو لاستخدامها في مجال الرياضة. وهكذا، كان القناصة يتعاطون أحيانًا البنزوديازيبين ليساعدهم على القضاء على تشنج العضلات. كما يستخدمها المدمنون كمسكنات في حالة عدم توافر المخدر الذي يدمنونه.

وُلدت العائلة الكبيرة لمضادات الاكتئاب خلال الخمسينيات (فلم يكن البنزوديازيبين ملائمًا كمضاد للاكتئاب). في غضون عدة شهور، في عام ١٩٥٧، ظهر بحثان طبيان يعلنان الوصول إلى طريقة شفاء حالات الكآبة عن طريق جزيئين شديدَي الاختلاف: إيبرونيازيد وإيميبرامين. ويستخرج الأول من الإيميوزادين (ريميفون) الذي يستخدم في علاج الدرن، وقد لوحِظت آثاره المنشطة والمحفزة منذ عام ١٩٥٢، لدرجة دفعت إلى التخلي عن استخدام الدواء. أعاد الأمريكي ناثان كلاين دراسة هذا الدواء من منظور الطب النفسي، ونشر في أبريل ١٩٥٧ أول نتائج هذا «المنشط النفسي» في حالات الاكتئاب. وأصبح الإيبرونيازيد هو نموذج الأدوية المضادة للإنزيمات التي تحفز أكسدة الموصلات الطبيعية.

في أغسطس من العام نفسه، شكلت إعادة تحويل الإيميبرامين فرصة جديدة للسرنيديبية. فقد تم اقتراح استخدام الإيميبرامين (تقترب بنيته من الكلوربرومازين) كمثبط عصبي، ولكنه أثبت عدم فعاليته، وسرعان ما «لحق بمقبرة الجزيئات عديمة الفعالية» (بيرون-مانيان)، عندما راود الطبيب النفسي السويسري رولاند كون حدس ما باستخدامه مع مجموعة من المصابين بالاكتئاب. وكانت مفاجأة الأطباء كبيرة عندما اتضح أن الإيميبرامين مضاد قوي للاكتئاب. وظل هو الجزيء المرجعي الذي تشتق منه باقي مضادات الاكتئاب (المحفزة للمزاج لدى المكتئب)، حتى اكتشاف جزيئات جديدة مثل مضادات الاكتئاب رباعية الحلقات وحاصرات البيتا.

لم يعد ينقص إلا طرق تنظيم الحالة المزاجية لكي تصبح كبرى التقسيمات للأمراض العقلية مستوفاة عمليًّا. تم هذا في وقت متأخر بعض الشيء مع ظهور الليثيوم. كان لهذا المعدن الرخو — المكتشَف منذ عام ١٨١٧ والذي جرى فصله عام ١٨٥٥ — استخدام في علاج النقرس ثم الصرع (دون إغفال استخدامه المعاصر كقطب صاعد للبطارية) في صورة أملاح الليثيوم. في عام ١٩٤٩، قدم الطبيب النفسي الأسترالي جون كاد هذه الأملاح كعلاج لحالات الهياج الهوسي. إلا أن بعض حوادث التسمم، بالإضافة إلى وصول المتقبضات العصبية قد أدت إلى التخلي عن استخدامها. ولكن ابتداء من عام ١٩٥٤، أعاد طبيبان نفسيان دراسة أملاح الليثيوم، وأوضحا عام ١٩٦٧ الدور الوقائي لليثيوم في حالات الذهان الهوسي الاكتئابي. وبعد إعادته وتحويله مرة أخرى، أصبح الليثيوم الممثل الأول للفئة الجديدة من الأدوية النفسية وأدوية علاج الاضطراب ثنائي القطبية وأدوية ضبط المزاج.

أتاح ظهور مضادات الاكتئاب وأدوية ضبط المزاج في السوق تلبية الطلب المتنامي على الاهتمام بعلاج الاكتئاب. ويتحدث بيير بيشو عن «الدخول في عصر الاكتئاب»، اعتبارًا من ستينيات القرن العشرين. في عام ١٩٧٦ — ولأول مرة في فرنسا — تراجعت نسبة الاحتجاز بسبب الإصابة بالفصام، التي بلغت ٣١٣٤٨ حالة (وأصبحت معاييره تميل أكثر فأكثر إلى الاتساع)، في مقابل ٣٢٧١٢ حالة مصابة باضطرابات ذهانية دورية هوسية اكتئابية — التي سميت لاحقًا ﺑ «ثنائية القطبية» — و«اضطرابات أخرى للغدد الصعترية» (ولا سيما «أحادية القطب»: الاكتئاب الدوري دون مرحلة «الهوس»).

لقد كان ظهور علم الأدوية النفسية خلال بضعة أعوام من شأنه إحداث تغيير جذري في علاج الأمراض العقلية؛ حيث أتاح وجود علاجات في العيادات الخارجية (دون الحاجة إلى إقامة طويلة في المصحة) قادرة على كبح التزايد في حالات الاحتجاز التي استمرت بعد الحرب. في الولايات المتحدة الأمريكية، يمكننا حتى أن نتحدث عن الحركة في الاتجاه العكسي. كان الاستخدام المكثف للكلوربرومازين (وباقي علاجات الذهان التي ستضاف إليه) ابتداء من عام ١٩٥٥ قد تَسبَّبَ في تقليل نسبة الاحتجاز في المصحات التي كانت قد بلغت ذروتها بحوالي ٥٥٠ ألف فرد (أي أعلى من عام ١٩٤٥ بحوالي ٩٠ ألف مريض). في عام ١٩٦٠، انخفض العدد إلى ٥٠٠ ألف فرد تقريبًا، ثم إلى ٤٠٠ ألفٍ عام ١٩٧٠. في عام ١٩٧٥، أصبح العدد ٢٠٠ ألف2 … في فرنسا، عام ١٩٥٧، جاء في التقرير السنوي بمصحة بون سوفور بكاين: «على المستوى العلاجي، تؤدي العلاجات الممتدة بالكلوربرومازين إلى نتائج مدهشة. ونال الكثير من المرضى، الذين كانوا في عداد المرضى المزمنين، الشفاءَ واستعادوا نشاطهم الاجتماعي والمهني الطبيعي.»
«اختفت المظاهر الصاخبة للجنون، أو جرت السيطرة عليها سريعًا» (جاك هوشمان). ففي عام ١٩٨٥، كتب جان كريستوف روفين — مختص الطب النفسي العصبي بمصحة سانت أنطوان بباريس في ذلك الوقت: «إن الاختفاء التقريبي لأكبر صور الجنون في التاريخ قد فتح الطريق لطب إكلينيكي يختص بأوجه الجنون الأخف والمختفية والمبتدئة أو المتبقية.»3 ومنذ ذلك الحين، بدأ الحديث عن «التمويه النفسي». «في النهاية، أوجدَ هذا التبسيطُ للمرض العقلي في صوره الأعتى الماضيةِ الظروفَ المناسبة لظهور حركة فكرية تسمى «المضادة للطب النفسي».»4 وكان من نتائج تلك الثورة العلاجية، إعادة تقييم مهنة الطبيب النفسي. فبعد أن كان يُنظر إليه بوصفه الأب المسكين للطب، أصبح الطبيب النفسي يصف علاجات وتحسده معامل الأدوية. ولقد ظهر تحسُّن وضعه، بالتالي تحسَّن الأجر الذي يتقاضاه.

على غرار المصحات الأخرى، سرعان ما استحوذت مصحة بون سوفور بكاين على هذه العلاجات الثورية (مظهرةً المزيد من التفاعل أكثر من مثيله لدى الاستماع للنظريات «الباريسية»). منذ عام ١٩٥٤، يقول كبير الأطباء في قسم الرجال: «في مجال العلاج، نحصل دائمًا على نتائج ممتازة عن طريق الاستخدام الموسع للعلاجات البيولوجية التي أصبحت اليوم تقليدية.» لم يظهر التقرير الصيدلي إلا عام ١٩٦٠، ليحظى من وقتها بمكانة متنامية بين التقارير السنوية المقدمة للمحافظ؛ ذلك لأن استهلاك الأدوية النفسية لم يتوقف عن الازدياد، وبطريقة سريعة للغاية: مثبطات عصبية ومهدئات وبربيتورات ومخدرات ومضادات للاكتئاب ومنشطات نفسية … بلغ الاستهلاك ألف لتر (بالنقطة!) وأكثر من أربعمائة ألف حبة دواء في عام ١٩٦٢، وألفًا وخمسمائة لتر وما يقرب من مليون حبة عام ١٩٧٠ — كل هذه الأرقام تغطي عدد المرضى في المصحة العقلية (حوالي ألف ومائة). لقد كانت المنتجات الجديدة تلغي دائمًا بقوة ما سبقها، وإن لم تختفِ تمامًا، ففي عام ١٩٥٩، نقرأ: «إن العلاجات الحالية للحالات الذهانية ازدادت ثراءً هذا العام بإضافة الكثير من المهدئات (المثبطات) العصبية والمهدئات و«مضادات الذهان»، التي تحدث تحسنًا ملموسًا في التنبؤ بالأمراض العقلية.» أما عن عام ١٩٦٠، فعلى الرغم من شكوى الطبيب «من وجود بعض الحالات التي يعجز فيها العلاج (الخبل والخرف)، أو لا يمكنه فعل الكثير حيالها (التأخر العقلي)، أو يكون العلاج غير مضبوط (العصاب)»؛ فإنه يوجد خبر طيب: «يسعدنا أن نشكر مخترعي هذا الدواء الجديد: هالوبيريدول الذي يصنع عجائب في حالات الهوس والهلاوس.»

في عام ١٩٧٠، بمصحة بون سوفور، كانت الأدوية التي تعالج الجهاز العصبي (جاء في حصر لإحدى اتفاقيات الأمم المتحدة أن عددها مائة وأحد عشر في ذلك الوقت) تحتل المركز الأول في نفقات الأدوية: ٤٥٪ متقدمة بكثير عن المضادات الحيوية (٩٪). كانت المثبطات العصبية وحدها تشكل ثلاثة أرباع هذه الأدوية، متضمنة ثلاثة وثلاثين دواءً مختلفًا، متقدمة أيضًا على المهدئات والمنومات (تقلل اليقظة) ومضادات الاكتئاب والمنشطات (تزيد من يقظة المخ). وفجأة، ارتفعت الميزانيات. في مصحة بون سوفور — مقارنة بعام ١٩٦٠ — زادت نسبة النفقات الدوائية بنسبة ١١٩٪ عام ١٩٦٧، ولم يكن هذا إلا البداية: ٢٤١٪ عام ١٩٦٩ و٣٢١٪ عام ١٩٧١ …

إلا أن هذا النجاح للأدوية النفسية لم يكن ليمر دون عواقب. فقد كانت الأدوية العصبية تتسبب جميعها تقريبًا في إدمانٍ ذي أعراض عنيفة. كما كانت تسبب حالات من الهذيان غير مفهومة. وأخيرًا — في معظم الحالات — كان العلاج بالنسبة إلى الذهان وقتيًّا وليس علاجًا شافيًا. «صحيح أن الفصامي الذي يشعر أن العالم من حوله يشكل تهديدًا يستخدم هلوسته كنظرية لهذا التهديد وأيضًا كحصن له ضده. وهكذا، فإن بعض الفصاميين الذين لا يشعرون بهلاوس يكونون كمثل الأرامل اللاتي في حالة عوز.»5 كانت الأعراض الجانبية كثيرة وقوية: نعاس واضطرابات في الذاكرة واختلاط الأفكار واضطرابات في الكلام وسمنة ورعشة وحركات غير طبيعية كمرض باركنسون وسقوط وموت مفاجئ في بعض الحالات، أو أيضًا آثار متعارضة (حيث يزيد العرض بدلًا من أن يقل أو يختفي). أحيانًا، تكون الآثار ضارة لدرجة تستدعي وقف الدواء. ولكن عادت هذه الأدوية من جديد في التسعينيات بعد أن انخفضت درجة سُميتها؛ مثل البروزاك الذي يعد أشهر دواء من فئة السيروتونينات (التي تزيد من كمية السيروتونين في الجهاز العصبي المركزي)؛ مما زاد من استهلاكها (الذي تضاعف في فرنسا من عام ١٩٩٢ وحتى ١٩٩٧) بصورة أكثر من ذي قبل خارج المصحات، أو حتى من دون وصفة طبية. فعندما يكون هناك مواطن فرنسي من كل أربعة مواطنين يتعاطى أدوية نفسية (دفع التأمين الاجتماعي مقابل مائة وخمسين مليون علبة دواء عام ٢٠٠٠)، يصبح من الصعب تحديد المرض العقلي.
وفيما يتعلق بالمحتجزين في المصحات، ارتفعت أصوات منذ عام ١٩٥٥ تندد بدواء لارجاكتيل «كأسبيرين نفسي». وبعد عشرة أعوام، انتشر الحديث عما يسمى «سترة المجانين الكيميائية» فيما يتعلق بالأدوية التي تؤثر على الجهاز العصبي. وأصبحت المشاكل الأخلاقية المتعلقة بالعلاجات البيولوجية تُطرح بسهولة من قبل الأطباء النفسيين ذاتهم؛ مما ساهم في نشر نوع من الإحباط في نهاية الستينيات. فلم يتوصل الطب النفسي البيولوجي إلى تحديد طريقة عمل الاضطرابات التي تفسر المرض العقلي. ألدينا الحق في استخدام المريض عقليًّا كمادة للتجارب؟ ألم نتوصل عبر معركة مشكوك فيها إلى هذه «السلبية التي تُحوِّل على نحو مأساوي المريض عقليًّا الهائج — ولكن الحي — إلى كتلة طيعة من اللحم خالية من أي روح للمبادرة؟» (جي هوشمان). في النهاية، ألا يؤدي اللجوء العملي للعلاجات البيولوجية — على نحو مفارق — إلى تنحي الطب النفسي؟ «أي القول بالضبط أن التخلي عن العلاقة والرابطة النفسية مع المريض يصاحبه تضخم في استخدام العلاج الكيميائي.»6
فحتى هنري لابوريت رائد الطرق العلاجية البيولوجية ساورته الشكوك حولها. فرأى فيها في البداية مستقبل الإنسان الذي تخلص أخيرًا من «التعقيدات ما قبل الدماغية التي ينغمس فيها أكثر فأكثر.» ابتداء من السبعينيات، تغيرت لهجته في كتاباته، ربما بعد فشل أحد الأدوية العصبية الجديدة التي كان يروجها وهو الكانتور، بعد أن طغى عليه البروزاك. ويندد لابوريت: «يا له من عالم غير متماسك بسبب كثرة اليقينيات الرائعة! هذا العالم الذي له ضمير مرتاح؛ لأنه لا يمتلك ضميرًا في أي شيء، هذا العالم الذي لا يبحث عن شيء؛ لأنه وجد كل شيء.»7
بالطبع، تجاوزت ثورة الطرق العلاجية البيولوجية إطار الرعاية فقط لتشمل الجنون بأكمله. تغير الوضع، وفتح التقدم المذهل أبوابًا جديدة، طارحًا تساؤلات جديدة. «منذ ذلك الحين، أصبح الطب النفسي يرجع كثيرًا إلى النموذج العصبي التشريحي — على المستوى المجهري — بطريقة عمله المعقدة كنموذج للمرض العقلي. وأعيد تشكيل تقسيمات وتصنيفات الأمراض. كان الطب النفسي كله مدعوًّا للتغيير، على مستوى تصور المرض العقلي وأيضًا على مستوى بروتوكولات العلاج. ولكن لم يكن إكسير الهدوء مقبولًا كعلاج ناجع للمعاناة النفسية، وفي مقابل اتساع مدى الثورة الدوائية، كانت هناك حركات واسعة مناهضة للتحليل النفسي والطب النفسي.»8
أيمكن القول بأن الطرق العلاجية التقليدية قد اختفت فجأة؟ نعم ولا؛ فقد حدث تعديل بالغ في هذا المجال، ولكنها لم تختفِ تمامًا. فعلاجات النمساوي ساكيل لم تختفِ، ولا اختفت طريقة العلاج بالصدمات الكهربائية. واليوم أيضًا — بعد مرور خمسين عامًا على ظهور العلاجات البيولوجية — لا تزال الصدمات الكهربائية موجودة تحت اسم «العلاج الإليكتروكونفولسيفي» ECT. ولكن تطورت بشدة طريقة إخضاع المريض له: يكون المريض تحت التخدير الكلي، ويصاحبه علاج آخر للحد من آثاره الجانبية. وتكون موافقة المريض «الواعية» إجبارية، وإذا كان في حالة لا تخوله الموافقة، فيجب أن يوافق الوصي القانوني عليه. وعلى الرغم من الجدل، تبلغ حالات العلاج الإليكتروكونفولسيفي في فرنسا سبعين ألف مرة سنويًّا، ومائتي ألف مرة في بريطانيا عام ١٩٩٩. ويعني هذا أن هذا النوع من العلاج لم يختفِ. وتظل المؤشرات عديدة: فعالية علاجية على المدى القصير في حالات الاكتئاب الشديدة، بل وأيضًا على المدى المتوسط، سواء بمصاحبة أو كبديل عن علاجات دوائية أخرى. وبعيدًا عن مؤشراته في علاج ما كان يسمى قبلًا بالسوداوية، فلقد أثبت العلاج الإليكتروكونفولسيفي فعاليته في «استثارة أعراض الفصام»، وأيضًا — ولكن بصورة أقل قطعية — في حالات الصرع المعقدة.
نخطئ إذا تخيلنا أن العلاج بالمياه البالغ من العمر ألفي عام قد تراجع بمجرد وصول العلاجات البيولوجية. في الستينيات والسبعينيات، أراد الطبيب النفسي الأمريكي مايكل وودبري أن يجدد بالطبع عندما ابتكر طريقة «التغليف»، وهي طريقة تقوم على لف المريض من ساعة إلى عدة ساعات في ملاءات مبللة بالماء البارد (ولكن دون خفض حرارته) على مدار عدة جلسات يومية. ويستخدم «التغليف» أساسًا في حالات الذهان الحادة، ولا سيما الفصام. ومن المفترض أن يتسبب في خلق ظروف تسهل تراجع المرض، و«تساعد المريض على استعادة صورة جسدية عن طريق تحفيز حواسه وانفعالاته». ولقد نالت هذه الطريقة التي تستخدم في كل الأوقات — خاصة مع الأطفال المصابين بالتوحد أو الذهان9 — انتقادات عنيفة. واعترضت الجمعيات التي تضم أهالي الأطفال المرضى: «أوقفوا سوء معاملة الأطفال المتوحدين!» في الواقع، جرى التوصل إلى شيء جديد اعتمادًا على القديم، فقد كتبت الجريدة الساخرة «شاريفاري» — في العدد الصادر عام ١٨٤٢: «يقوم (ممرضك) بتغطيتك بعناية في أغطية انتُشلت حالًا من أعماق إحدى الآبار، حيث ظلت هناك لمدة أربع وعشرين ساعة […] ويتركك، وهو يقول لك بصوته العذب: «تصبح على خير يا سيدي، فلتَنَمْ وتعرق جيدًا».»

كانت توجد أيضًا طريقة معالجة التسمم الكحولي بواسطة إسبيرال (التي تسبب اضطرابات مؤلمة أثناء تعاطي الكحوليات). أما فيما يتعلق بعمل المريض عقليًّا، فأصبح يسمى «المداواة بالعمل». ظلت المهام كما هي في السابق، ولكن على العكس لم تعد موكلة إلى المرضى. إلا أن هذا الأمر لم يفلح، على الرغم من إيجاده لمهنة جديدة في مجال الرعاية الصحية: المعالج بالعمل. وتتضمن المداواة بالعمل الجماعي ألعابًا وأنشطة ترفيهية؛ بهدف تيسير إدماج المريض في بيئته وزيادة استقلاليته، ولكن لم يفلح هذا الأمر أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤