الفصل الرابع

مناهضة الطب النفسي

الحديث عن مناهضة الطب النفسي يقودنا تلقائيًّا إلى الاستشهاد بأسماء مثل بازاليا وفوكو وساس وكوبر ولاينج ومجموعة مؤيديهم، الذين يقارب عددهم الخمسين فردًا، والذين نشروا — خلال الستينيات والسبعينيات — مقالات شديدة اللهجة لانتقاد مؤسسة الطب النفسي التي لم تعد قادرة على فعل شيء. ولا يمكن اعتبار هذه الهوجة — ذات النتائج المدمرة بالنسبة إلى الطب النفسي التقليدي — ثورة مفاجئة. ففي الحقيقة، تعد حركةُ مناهَضة الطب النفسي قديمة قدم الطب النفسي ذاته، ولقد بدأت مظاهرها خلال القرن الذهبي للمصحات العقلية. إلا أن المؤسسة الطبية النفسية — على عكس الستينيات والسبعينيات — كانت في ذلك الوقت مؤسسة صلبة.

حركةُ مناهضةِ الطب النفسي قديمة قدم الطب النفسي

نظرًا لعدم إظهار الإمبراطورية الثانية ميلًا لتشجيع المعارضة السياسية أو الاجتماعية، فقد كانت المطبوعات المناهضة للطب النفسي نادرة، ولم تكن تلقى قبولًا واسعًا. ولكن يلاحظ على الرغم من ذلك وجود بعض الكتابات الطبية، مثل «عزل المجانين في مصحات للأمراض العقلية، والأثر السلبي على هؤلاء، وعدم كفاية الحماية التي يوفرها القانون للمريض عقليًّا» بقلم الطبيب تورك عام ١٨٦٤. ولكن اختلف الوضع تمامًا مع الأعوام الأولى للجمهورية الثالثة؛ حيث نجد الصحافة المعارضة تهاجم بضراوة قانون ١٨٣٨ وتنتقد المصحات العقلية، على إثر بعض القضايا المثارة حينها حول الحبس التعسفي. وفي أكتوبر ١٨٧٩، شنت مجلة «المصباح» — التي اشتهرت منذ عددها الأول عام ١٨٦٨ بفضل «الستة والثلاثين مليون موضوع، إلى جانب موضوعات أثارت الاستياء» — حملة ضد مصحات الأمراض العقلية.1 «لم نعد نسمع أصوات صرير الأبواب الثقيلة ذات المفصلات الصدئة: تم تزييت كل المفصلات.» كان قانون عام ١٨٣٨ هو محط الهجوم: «وضع هذا القانون ليس لصالح مرضى الاعتلال العقلي، وإنما لصالح عائلاتهم. دائمًا ما يسيطر النظام على المنظومة الاجتماعية: دائمًا تكون التضحية بالفرد لصالح أي جماعة، وكأن هذه الجماعات ليست مكونة من أفراد!» ويرد أطباء الأمراض العقلية: «أما عن الأطباء، فأعتقد دومًا أنه لا يوجد إلا القليل جدًّا منهم الذي قد يلجأ إلى مناورات غير شريفة ليحرم فردًا من حريته تحت ادعاء المرض العقلي» (هنري داجونيه بسانت آن، كان لجريدة «المصباح» بالضرورة مراسلون يمدونها بالمعلومات). ولم يعد الطبيب — المسلح بقانون عام ١٨٣٨ — محطًّا للتأنيب أو السخرية: «فلم يكن الطبيب كامباني — وكله ثقة — يقبل بإدخال أي شخص يقدَّم إليه على أنه مريض عقليًّا، سواء برضاه أو رغمًا عنه. ولم يفُته إلا أمر واحد، وهو أن يقدم نفسه كنمط «المتفاخر المغرور». صحيح أنه وفقًا لما ذكره، إذا أردت أن تكون مجنونًا مفكرًا، فلا بد من أن تكون ذكيًّا. إنَّ تشدده في البحث عن هذه الصفة الأخيرة، كان يضمن له عدم الخطأ في تشخيص مرضاه.»
لقد مضى قانون ١٨٣٨ وسط العواصف؛ حيث كتب ماكسيم دي كامب عام ١٨٧٣: «إنه قانون ممتاز في أحكامه الأساسية، إلا أنه يعمل دون أي عوائق لصالح المستفيدين منه، ولمدة عشرين عامًا، وفجأة، دون أي دوافع جدية، يُشَن عليه هجوم حاد بعنف مبالغ فيه. فيتحدث الناس عن حبس تعسفي وإنكار للعدالة وخطابات سرية […] وتمت الاستعانة بكلمة، يمكنها إثارة العقول في فرنسا بسهولة، وبكل اللهجات؛ وهي أن الحديث يدور حول الحرية الفردية.»2 مُنيت مشروعات قوانين — أُعدتْ بجهد شديد — بالفشل في أعوام ١٨٨٢ و١٨٨٦ و١٨٩٣ و١٩٠٧ … أيجب إعطاء مزيد من السلطة للقاضي، أم للإدارة، أم للطبيب؟
وعندما روى جول فاليسا — أحد أنصار الثورة الفرنسية الرابعة القدامى، الذي حُكم عليه بالإعدام، والعائد من المنفى بعد تخفيف الحكم عام ١٨٨٢ — عن زيارته لمصحة سانت آن في رواية «جيل بلاس»،3 كان ذلك ربما يثير انتقادًا لاذعًا من جانب الرأي العام. ولكن ما حدث كان أسوأ. ففي لوحة مليئة بملامح الإحباط والفزع، روى قائلًا: «انتهت الرحلة، جعلونا نرى أثناء المرور مغسلة الثياب بما فيها من أثواب للتعذيب وسترات المجانين المصنوعة من ليف القنب الجديد الناعم الأصفر. كانت الملابس التي ترتديها كل مريضة وقت دخولها المصحة موضوعة في صفوف بالترتيب، وقد تمت خياطة أرقامها على البطن. لعله كان يجب إحضار بعض الأزواج أو الآباء إلى هنا الذين لا يرغبون أن يروا زوجاتهم أو بناتهم وقد تحولن إلى كائنات محطمة صامتة تُجر أمامهم في الممرات؛ فربما تعرفوا على الثوب أو الشال أو السلة الصغيرة، هذا الدانتيل على غطاء الرأس، هذا القماش على قبعة القش.» ومن خلال قصة بسيطة، يصدر فاليسا حكمًا بخصوص المؤسسة: ذهبنا إلى منطقة المريضات المسالمات المشغولات بأعمال الخياطة، «كانت بعضهن يأخذن قطعة من الشرائط ويضعنها في سلاتهن أو وردة صغيرة يضعنها في شعورهن، ولم يكن الطبيب راضيًا بذلك. كان يخاف من الورد، ولا يحتمل الشرائط الوردية. كان يفضل رؤية المريضات يعملن ويَخِطْنَ كسندريلا في انكسار. كان يحب بالتحديد المريضات اللاتي لا يتذمرن أبدًا ولا يعارضْنه عندما يؤكد لهن أنهن مجنونات.»
جاءت هذه الهوجة على هوى رسامي الكاريكاتير، كما اتضح في العدد الصادر بتاريخ الثالث والعشرين من يوليو ١٩٠٤ من مجلة «أسيت أو بور» بعنوان المصحات والمجانين. ولكن يظل التقرير الأكثر مناهضة للطب النفسي هو الذي كتبه ألبرت لوندر عام ١٩٢٥. ولقد اشتهر هذا الصحفي الكبير الملتزم — الذي كتب: «ليست مهنتنا أن نسعد الناس، ولا أن نشهر بالأخطاء، بل أن نضع ريشتنا على موقع الداء» — العام السابق بفضل مقاله «دانتي لم يرَ شيئًا»، وهو تنديد عنيف بالمستعمرات العسكرية للعقوبات. من السادس وحتى العشرين من مايو ١٩٢٥، كتب — لجريدة «الباريسي الصغير» — سلسلة من المقالات حول مصحات الأمراض العقلية. كان هو نفسه قد حاول أن يدخل رعاية التمريض التابعة للمستشفى الحكومي على أنه مريض عقليًّا. فاقترح عليه الطبيب كليرامبو — الذي تظاهر بأنه لا يعرفه (كانا قد التقيا قبل عشرة سنوات في تسالونيكي) — أن يقيم في زنزانة مبطنة؛ فتراجع لوندر خوفًا من عدوى المكان. فأعاد له كليرامبو قبعته قائلًا: «حاول أن تدخل مصحة أخرى.»4 لم يكتفِ ألبرت لوندر بالمشاهدة: «المجنون يكون فرديًّا، فلا يهتم بمن هو بجواره؛ فيقوم بحركته، ويطلق صرخته بكل استقلالية […] إنهم ملوك منعزلون. والجسد الذي نراه إنما هو بديل يُخفي وراءه شخصية أخرى غير مرئية للعامة أمثالنا، ولكنها تحيا داخله. وعندما يبدو لنا المجنون كائنًا عاديًّا، فربما خرجت شخصيته الثانية تتجول […] فالمجنون الهائج يمكن أن يهدأ أو تقل حدة هياجه. لا أحد يسأله ماذا يفعل، فعندما لا يكون هناك وقت كافٍ لتهدئته، يتم تخفيض هياجه. وعندما ينخفض، يمكن حينها تهدئته. يتم التعامل معه كأنه أحد أواني الطبخ التي تغلي. هناك بعض الحالات — لدى الرجال — يتم التعامل فيها مع المريض بنعل الحذاء. لا يأمر الأطباء بهذه الطريقة في المعاملة، ولكنها تحدث بالتحديد أثناء الليل.» كان يذكر في كل صفحة: «المجانين متروكون دون رعاية، دون حراسة. وإذا نال أحدهم الشفاء، فإنما يكون هذا بمحض المصادفة […] واجبنا ليس التخلص من المجانين، وإنما تخليص المجنون من جنونه.»
وقد نالت هذه الحملات الصحفية فرصة الاستمرار بفضل من جاءوا بعده. في عام ١٨٦٦، كتب شخص غامض يدعى فالابريج موبخًا: «لم يكن الأمر يحتاج جهدًا كبيرًا للتأكد واقعيًّا مما كنت قد درسته قبلًا، من أنه — بملاحظتها عن كثب — تبدو مصادر هذا الفن ثابتة تقريبًا منذ عهد الملك شارل الرابع.»5 وأيضًا في نهاية عهد الإمبراطورية الثانية، كان لجرسونيه — الذي ذكرناه قبلًا (كلما ازدادوا مهارة؛ ازددتُ خوفًا منهم) — بصمة أكثر استمرارية. فعلى عكس نظرائه الذين يروُون أدق تفاصيل معاناتهم، تركزت مذكراته بالكامل حول ضرورة إصلاح قانون ١٨٣٨، وذلك في ضوء فترتي الاحتجاز المتتاليتين اللتين تم علاجه خلالهما «بطريقتين مختلفتين». ويندد جرسونيه بتعسفية القانون (الذي يشبه بالفعل «شبكة العنكبوت») وبعجز الحامين الطبيعيين للمريض عقليًّا — أي عائلته — (فأين هي في النهاية؟) والقضاء (المخدوع إن لم يكن المتواطئ). كانت الآلة تدور بنفسها: «فتلك السلطة لا تتبع أحدًا، أو بالأحرى تتبع الجميع.» ويذكر جرسونيه «هذه الآلات والاختراعات الحديثة» (كنا في عام ١٨٦٩) ذات التروس الرائعة: «يكفي أن تعلق بها قطعة قماش، لتجر معها الفرد كله.» أما عن غاية الاحتجاز، «يا له من نفاق لغوي! لا تدع نفسك تقول إنه مريض، وإنهم يأخذونه ليعيدوه إليك قريبًا وقد نال شفاءه. لا وألف لا! إنه ضحية، يُعتقد أن التضحية به ضرورة للأمن العام.» ويختتم جرسونيه ببراعة وهو يقتبس عن الطبيب تورك: «إن فاعل الخير الحقيقي للبشرية، هو من يدمر عمل بينيل.»
وتضاعفت الشهادات بعد انهيار النظام الإمبراطوري، وحملت عناوين ضخمة: «نظام مرضى الاعتلال العقلي في فرنسا»، «مصحة شارنتون»، «جرائم تمهيدية للخارج»، «سرقات وتبديد»، «أفعال تعسفية»، «مفاسد إدارية منظمة من الداخل» …6 ويندد المؤلف — الذي يقدم نفسه كمريض هارب — بالمفاسد والمعاناة داخل المصحة العقلية، مشددًا على الحرمان من الآدمية الذي تعانيه أي ضحية جديدة تدخل المصحة. أما عن أي وسيلة يمكن اللجوء إليها، فيقول: «إنه لا يوجد قانون ضد القانون!»
كان هذا ما ناضلتْ ضده إليزابيث باكار في الولايات المتحدة الأمريكية. فلقد تم احتجازها — وهي زوجة كاهن من أتباع مذهب الكالفينية — بناء على طلب زوجها بمصحة جاكسونفيل (إلينوي) من عام ١٨٦٠ وحتى ١٨٦٣. ويبدو أن السبب كان قصصًا تعيسة عن اختلافات تتعلق بالمذهب (أو ربما كانت هي النهاية؟) أُطلق سراحها بناء على طلب زوجها، ولكن تم حبسها في المنزل، وعندها قررت أن ترفع الأمر إلى القضاء بصورة مزدوجة ضد احتجازها الذي اعتبرته تعسفيًّا وضد السلطة العرفية.7 وأصبحت تلك بالتحديد المعركة النسائية التي ستتذكرها الأجيال القادمة.8 وفي نهاية المحاكمة التي نالت اهتمامًا إعلاميًّا واسعًا، انتصرت إليزابيث باكار. وخلال جلسات الاستماع، بدا الطبيبُ الذي أعلن أنها مجنونة مضطربًا: ففيما يتعلق بالخلافات الدينية بين الزوجين، يجب الاعتراف بأنه ليس خبيرًا في اللاهوت. ويسأله القاضي: إذن ماذا كانت أعراض الجنون الأخرى لديها؟ فيرد الطبيب بسذاجة: «كانت تشعر بغضب شديد عندما نقول لها إنها مجنونة. وأظهرت عداءً قويًّا لي حتى قبل أن أنهي الحوار معها، وكانت تعاملني باحتقار.» ولم تعترف المحكمة فقط بأن إليزابيث باكار سليمة العقل، بل أيضًا حكمت بألا يكون هناك (في إلينوي) أي احتجاز دون قرار مبدئي من هيئة محلفين. إلا أن عددًا من أطباء الأمراض العقلية والصحافيين الأمريكيين الذين تابعوا القضية لم يُبدوا ارتياحًا لهذا القرار. ففكرة اللجوء إلى هيئة محلفين ليست بجديدة، ولكن كيف للجنة مكونة من مجموعة مواطنين بسطاء أن تفصل في الجنون أفضل من طبيب؟ باختصار، فإن المناهضين للطب النفسي في ذلك الوقت لم يكونوا يريدون قضاة بقدر رفضهم للأطباء.
لكلٍّ من هؤلاء «الشهود والفاعلين» الذين شنوا حملة ضد الاحتجاز لأسباب نفسية، كان السؤال الذي يُطرح بالطبع هو معرفة ما إذا كانوا بالفعل مجانين أم لا. لم يصل الأمر إلى حالة إليزابيث باكار — التي كان يشتبه في إصابتها بحالات سابقة من المرض العقلي9 — الأمر الذي لم يغير إطلاقًا من حجاجها القانوني. وفيما يختص بهارسيلي روي، فالسؤال لا يستحق أن يُطرح. في عام ١٨٨٣، ظهر كتابها «مذكرات مريضة عقليًّا». فبعد أربعة عشر عامًا من الاحتجاز المتقطع، رفعت قضية ونالت من الدولة تعويضًا ضخمًا بسبب الاحتجاز غير القانوني. وها هي تصبح في فرنسا بطلة حالات الاحتجاز التعسفي، مُشعلة الجدل مرة أخرى حول قانون ١٨٣٨. في الواقع، تم تنقية طبعات كتابها «مذكرات» التي صدرت بعد وفاتها (توفيت عام ١٨٨١) بعناية من هذيانها المتعلق بميلادها الغامض (تعتقد أنها ابنة دوقة بيري، ولكن تم اختطافها من قصر التويلري). إلا أن الحكم استند إلى خطأ في الشكل وليس في المضمون. فجأة، جذبت رواية هارسيلي عن عائلتها اهتمام الأطباء النفسيين الذين اعتبروها نموذجًا لحالات «الهذيان الواعي» (هلوسة منطقية ومتماسكة). وهكذا، من هذه الناحية، تمكَّنت من أن تثبت أنها ضحية احتجاز تعسفي ونالت شهرتها. لكن هذا لا يمنع أنه يتم ذكرها على يد المؤرخين إلى اليوم باعتبارها ضحية للحبس النفسي.10
وأيضًا في عام ١٨٨٣، ظهر ديوان للذكريات كتبه أندريه جيل بمصحة شارنتون.11 كان جيل رسامَ كاريكاتير، ولكنه لم يعرف إلا البؤس طوال حياته. كان صديقًا لجول فاليسا، وتم احتجازه بشارنتون عام ١٨٨١ بسبب إصابته بهلاوس الثراء والعظمة المصحوبة ﺑ «هياج هوسي»، وفي النهاية تم تشخيصه بالشلل العام. أطلق سراحه للمرة الأولى، وأثناء نقاهته، رسم لوحة تعبر عن ظروفه في صالون عام ١٨٨٢: «المجنون»، وهي تجسد مريضًا عقليًّا مقيدًا بسترته وملقًى في زاوية الزنزانة (ولسخرية القدر، كانت هذه اللوحة أفضل لوحة بيعت من مجمل أعماله). ولكن أعيد احتجازه مرة أخرى بشارنتون، ومات عام ١٨٨٥ في الخامسة والأربعين من عمره. إن جنون جيل ليس موضع شك لأي شخص، كما يظهر ذلك في لوحة الملاحظات الطبية الكئيبة حول حالته.12 كان يمكن أن تذهب كتاباته القصيرة أدراج الرياح — شأنه شأن الكثيرين — لولا أن ألفونس دوديه — الذي كان أحد أصدقائه — كان قد وافق على كتابة مقدمة لها. «فجأة، أُبلغت أنه محتجز في مصحة شارنتون. وقيل لي: إن المقيمين حوله لم يندهشوا من هذا الأمر. ولكن بالنسبة إِليَّ، سبَّب لي الأمر ذهولًا ورعبًا. كان جيل هو ثالث عضو في مجموعتنا الصغيرة الذي يصيبه الجنون: شارل باتاي وجان ديبوا كانا قد ماتا في مصحات الأمراض العقلية.» وفي الفترة ما بين الاحتجازين، التقى دوديه بجيل: «لقد خرجتُ من شارنتون، لقد شُفيتُ.» «وبعد ثلاثة أيام، وجدوه ملقًى في إحدى الطرق الريفية فوق كومة من الحجارة والفزع يملأ عينيه، فاغرًا فمه، فارغ العقل، مجنونًا! كان ذلك منذ عدة شهور، ومن حينها وأنا أسعى لكتابة مقدمة مؤلَّفه مقاومًا الرعشة التي تنتابني بمجرد إمساكي لريشتي. جيل يا صديقي! أأنت هنا؟ أتسمعني؟ أين أنت؟ … أُقسم إني أردت أن أقدم لك شيئًا فصيحًا، كتابة جيدة مثلك، وفيرة وفنية ومشرقة مثل مذكراتك العزيزة. لقد حاولت، ولم أستطع.» ولكن يبدو الأمر هنا متعلقًا أكثر بالخوف من الجنون منه بمناهضة الطب النفسي. فلم يخطر لأحد أن ينكر الجنون.

ولم يكن هناك بدٌّ من تورط الأدب. ولكن لن نتوقف هنا إلا عند تعبيره عن مناهضة الطب النفسي، دون التطرق لقضية الجنون الإبداعي أو الخبل الشعري الذي تحركه مصادر الإلهام. «وصمني الناس بالجنون، ولكنَّ العلم لم يقل لنا إلى الآن عما إذا كان الجنون أسمى درجات الذكاء أم لا، وعما إذا كان كل ما هو عميق يأتي من مرض في التفكير» (إدجار بو). وسنترك جانبًا حالاتِ الجنون المعترف بها، التي أصابت بعض الكُتاب مثل جيرارد دو نيرفال وهولدرلين وأنطونين أرتو، ولا سيما أن هذا الأخير قد أصبح — خاصة منذ فوكو — أحد أعلام مناهضة الطب النفسي. ألم يقل أرتو — أثناء حلقة إذاعية عام ١٩٤٦: «إن مصحات الأمراض العقلية ليست سوى مستودع للسحر الأسود الواعي والمتعمد.» وليس فقط أن الأطباء يشجعون هذا السحر بطرق علاجهم، بل إنهم يمارسونه أنفسهم. فإذا لم يكن هناك أطباء، فلن يكون هناك مرضى؛ لأن المجتمع بدأ أولًا بالأطباء، وليس المرضى. فالذين يحيون إنما يحيون من الأموات، ولكن يجب أيضًا أن يحيا الموت […] لا يوجد شيء مثل مصحة الأمراض العقلية يخفي الموت بكل هدوء، ويحتفظ بالموتى. وكتب أرتو أيضًا: «يوجد لدى كل مخبول قدر من العبقرية غير المفهومة، ولكن فكرته التي تشع في رأسه تثير الخوف، فلم تستطع أن تجد مخرجًا لها من الضغوط التي تمارسها ضدها الحياة إلا الهذيان.»

لم تكن الروايات في النصف الأول من القرن العشرين، والتي يمكن وصفها بالمضادة للطب النفسي — أو إذا أردنا الدقة المناهضة لأطباء الأمراض العقلية — لها أيديولوجية اجتماعية أو سياسية بالمعنى الذي نقصده اليوم. كانت لها أيديولوجية نوعًا ما في طريقتها في إظهار التخوف من مصحة الأمراض العقلية والطب العقلي. كانت هذه هي حال أول جائزة جونكور أهديت عام ١٩٠٣ لجون أنطوان عن روايته «القوة المعادية».13 لم تكن الرواية في حد ذاتها تقدم شيئًا هامًّا. وكان المؤلف أندريه توركيه (اسمه الحقيقي) كتب عدة مسودات من قصته، وفي إحداها تدور أحداث الرواية على ظهر سفينة أشباح، وفي النهاية كان مسرح الأحداث هو المصحة؛ حيث يشارك القارئ فشل البطل. أهو مجنون؟ في جميع الأحوال، إنه يشعر بأن هناك «قوة معادية» تسكنه، كما يظهر في نص الرواية المكتوب بصيغة المتكلم؛ حيث تتجلى باستمرار ازدواجية شخصية البطل. ولكنَّ وعيه ويقظته انتهيا بأن تحول الأطباء والممرضون إلى متهمين. فالطبيب بيدهوم — الشرير قبيح الشكل — انتهى بأن أصبح هو نفسه مجنونًا في أجمل مشاهد الرواية على الإطلاق. في قاعة العلاج بالمياه، حيث أوشك فيلي — البطل — على الموت غرقًا تحت عنف دفقات المياه، أثناء جولة الطبيب بيدهوم الذي يملك ما يكفي من النفوذ ليعطي الممرضين أوامر بالعمل: «أعطوه دفقة صغيرة كالطفل! احترسوا؛ فعظام كتفه رقيقة! أمطارًا قليلة! لا أحد يطلب منكم طوفانًا!» انتهى الأمر بفيلي بالفرار، وانتهت الرواية — التي ازداد اختلاطها — كأنها رواية حب ومغامرات في أعالي البحار. نتعجب عندما نتخيل أن كبار الكُتاب في ذلك الوقت (ويسمانس وميربو وليون دوديه) قد تحمسوا لمثل هذا الكتاب! ولكن ما يهمنا هنا هي الرؤية الشديدة القتامة التي تقدَّم عن مصحة الأمراض العقلية. لا! فالمصحة لا تشفي بالطبع.
يزداد الجو قتامة في رواية «مدينة المجانين – ذكريات عن سانت آن»، وهي سيرة ذاتية لمارك ستيفان (مارك ريتشارد) ظهرت عام ١٩٠٥.14 كان المؤلف مدمنًا للمورفين، وتم احتجازه لمدة ثلاثة أشهر بمصحة سانت آن، ويروي رحلته داخل هذا الجحيم الفردي والجماعي. إنه سجن يرتدي فيه الناس الثياب البيضاء، و«فيه يتم تعذيب بقايا البشر البائسين بكل وقاحة على يد مجموعة من المخابيل مدمني الخمور أو مجموعة من مدعي العلم، الذين تدل حركاتهم الجنونية غير المتماسكة على أنهم أول مرضى للاعتلال العقلي داخل المصحة.» إنه مكان لا سبيل للخروج منه …

ونجد بشكل واضح نفس الجو في رواية «الغرفة رقم ٦» لتشيكوف، الذي كان طبيبًا قبل أن يتفرغ بالكامل للعمل الأدبي. وفيها أيضًا نجد الجحيم والفزع. جاء طبيب جديد ليغرق في البداية في حالة من اللامبالاة (لم يعد يذهب للمستشفى كل الأيام)، حتى لَمَسَتْه إنسانيةُ مريض عقليًّا مصابٍ بهلاوس الاضطهاد. وعبر محادثات طويلة، بدأ ينغمس هو الآخر تدريجيًّا في الجنون حتى انتهى به المطاف في النهاية إلى الاحتجاز في الغرفة رقم ٦. «وفجأة، وفي عمق هذه الفوضى، ظهرت داخله وبطريقة عاصفة فكرةٌ مفزعة لا تُحتمَل، بأن هناك ألم شديد يرزح تحته هؤلاء الرجال منذ أعوام يومًا بعد يوم، حتى بدءوا يشْبهون الظلال السوداء تحت ضوء القمر. كيف استطاع طوال العشرين عامًا الماضية ألَّا يعرف أو حتى يرغب في المعرفة؟»

في منتصف القرن العشرين، جاء أيضًا ذكر الرواية الوثائقية لأندريه سوبيران، والتي ذكرنا بضعة مقاطع منها قبلًا. ويفسر مؤلف رواية «الرجال ذوو الثياب البيضاء» الأسباب التي قادته كطبيب إلى استكشاف عالم المصحات النفسية. وانطلاقًا من مرضى الاعتلال العقلي المجرمين، توصل إلى ملاحظة المرضى الآخرين المسالمين «الذين يستحقون عن جدارة كل الشفقة، بل وكل الاحترام مثل أولئك الذين يعانون أمراضًا جسدية»؛ فهم «محبوسون ومكدسون، وفوق ذلك مجردون من كل شيء حتى من كرامتهم.» «فعندما نفرض على سفينة حَجْرًا صحيًّا لأنها تحمل مرضى مُعْدِين، لا يجرؤ أحد أن يدَّعي أن هذا لرعايتهم.» ويذكر الطبيب سوبيران ما يسميه «الموت الروحي الطويل في وسط الجهل واللامبالاة العامة داخل مؤامرة من الصمت المطلق.»

ويجب أيضًا ذكر هيرفيه بازين لروايته التي تشبه السيرة الذاتية «الرأس يضرب الحائط» المنشورة عام ١٩٥٩ وأيضًا لتحقيقاته المرعبة حول مصحات الأمراض العقلية التي أجراها خلال الخمسينيات. وهناك العديد من الكتاب الآخرين، ولكن ليس من العدل أن نعتقد أنه خلال العقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية لم يكن إلا الأدب الذي أعلن سخطه إزاء مؤسسة مصحات الأمراض العقلية التي فقدت مصداقيتها بالكامل. فهناك الكثير من الأطباء النفسيين — الذين تأثروا بالأعوام السوداء للاحتلال والذين كانوا يخوضون على الأرجح معارك سياسية أو نقابية — كانوا أول من نددوا بالمؤسسة كلها. والمثال على ذلك الطبيب لوسيان بونافيه — الذي التقيناه قبلًا أثناء الحديث عن مرضى الاعتلال العقلي الذين ماتوا جوعًا خلال فترة الاحتلال الألماني — المناضل لصالح «طب نفسي يبعد عن الطب العقلي»، منددًا في مجلة «عقل» بالظروف التي يحيا فيها عشرات الآلاف من مرضى الاعتلال العقلي ممن يعانون من «وضع أبعد ما يكون عما توصلت إليه المعارف الطبية في هذا المجال، بل ويعانون من قسوة لا تغتفر.»15 في هذا العدد من المجلة الصادر بتاريخ ديسمبر ١٩٥٢ حول موضوع «مأساة الطب النفسي»، كتب هنري إي: «عندما نعتبره (المريض) «إنسانًا آليًّا» (يستخدم إي بعد ذلك صورة «المريض الآلة»)، يرفض الجميع أن يُقارَنوا به أو أن يضعوا أنفسهم مكانه بهذه الآلية المتفجرة، يكون الأمر خطيرًا ومقلقًا، فالجميع بدءًا من طبيب الأمراض العقلية وحتى المشرع، مرورًا بالأقارب والعائلة والأصدقاء والممرضين، إنما هم موجودون لإقصائه بعيدًا عن المجتمع وحرمانه من دليل إنسانيته.»16 وفي العام ذاته، كتب سيوران: «نحن نتحصن خلف وجوهنا، أما المجنون فيخونه وجهه. فيظهر بجلاء أمام الآخرين منتقدًا ذاته. فبعدما فقد قناعه، أصبح يعلن عن فزعه ورعبه ويفرضه على كل من يأتيه، مظهرًا ألغازه كلها. كل هذا القدر من الانكشاف يزعج بالتأكيد. ومن الطبيعي أن نقيده ونعزله» (مقاييس المرارة، ١٩٥٢).

هوجة الستينيات والسبعينيات

ليس من المفارقة أن يبلغ تاريخ الجنون — الذي لم يكن يهم أحدًا حتى هذا الوقت — درجة من الاهتمام الشعبي بفضل الهوجة المضادة للطب النفسي في أعوام الستينيات والسبعينيات. وأصبح المجنون — أكثر من الجنون ذاته — فجأة في مقدمة الأحداث والاهتمام الإعلامي، ليتحول إلى صورة كبش الفداء لمجتمع يرفضه.

لا يسعنا أن نعي أو نقيس مدى اتساع حركةِ مناهضةِ الطب النفسي في النصف الثاني من القرن العشرين دون أن نضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي؛ ألا وهو أزمة الغرب، أزمة البلاد الثرية في عصر «الثلاثين عامًا التي تلت الحرب العالمية الثانية». كان «المجتمع الاستهلاكي» محطًّا لكافة أنواع الانتقادات. فالزيادة المطردة في الإنتاج ليست دليلًا كافيًا على نجاحه، ولا علاجًا للمشكلات الاجتماعية (جي كيه جالبرايث «عصر الثراء»، ١٩٥٨). وكانت أزمة القيم والتمرد الطلابي الناتج عن الزيادة السكانية قد زعزعَا بالفعل المجتمعات الغربية. في الولايات المتحدة الأمريكية، اتسمت الستينيات بالصراعات — العنيفة أحيانًا — ضد «السلطة» لصالح حقوق «السود» والنساء والأقليات وحرية التعبير والسلوكيات. في بيركلي، ظهرت حركة «حرية التعبير» عام ١٩٦٤، لتسبق وتلهم حركة مايو ١٩٦٨ في فرنسا. وبالفعل، في بيركلي، تمكن هيربرت ماركوس — الفيلسوف الألماني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة خلال صعود النازية — من التنديد باغتراب الفرد وضياع قيمته وسط المجتمع الذي أصبح يتسم بالوفرة. ويصم هذا الماركسي الفرويدي مبدأ الربح نفسه بالطابع اللاإنساني الذي يقوم بإخضاع وتشويه الغرائز وكبت الطاقات البشرية الكامنة. وفي كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» (١٩٦٤) — المترجم إلى الفرنسية عام ١٩٦٨ — ينتقد العالم الذي يأتي في نفس الوقت بالرأسمالية والشيوعية، العالمَ المصنوع من الاحتياجات الوهمية، والذي يتم فيه إبعاد أي عقل نقدي أو أي معارضة للنظام. هذا ما أسماه ماركوس «الرفض الأعظم».

وتأتي معارضة الطب النفسي إذن في هذا السياق الواسع، وتختلف في هذا تمامًا عن المعارضة التي صاحبت الطب النفسي طوال تاريخه، والتي لم تكن تهدف إلا إلى تخليصه من العيوب. هذه المرة، تُطرح جذريًّا مسألةُ نسبيةِ ما هو طبيعي وما هو مرضي. فالجنون ذاته، وليست المصحة العقلية فحسب، هو الذي يخضع للتشكيك. وأصبح الجنون — بمعناه الواسع — صورة مجازية لكل ما يزعج المجتمعات ذات المقاييس الموحدة «للإنسان ذي البعد الواحد». «إن أصل التحريم، هو تحريم التفرد. فعندما تكون مختلفًا عن المجموعة، تكون ضدها. وإذا كنت ضدها، فقد تدمرها. وفي هذه الأوضاع وفي سبيل الحماية، يجب على المجموعة أن تقصي الخطر الذي يمثله الاختلاف.»17 فالمجتمع الذي يقصي، يحدد النموذج الذي يرفضه في المريض عقليًّا نفسه … منذ عام ١٩٧٩، ذكر ميشيل كروزيه «سنوات مناهضة الطب النفسي الجنونية»: «إن منطق اليسار — السائد في ذلك الوقت — كان منطقًا جنونيًّا؛ أي من دون حدود أو قيود. ولم تكن حركةُ مناهضةِ الطب النفسي إلا أحد مظاهره ولكن أكثرها قوة، ولا سيما في بلد كانت دائمًا حذرة بل ومتأخرة في هذا المجال. كان يسود هذه الأعوام أساسًا مزيجٌ عجيب وغير عادي من العنف المناهض للمؤسسات والأساليب ذات المضمون الثقافي الأكثر جذرية من دون أي تماسك إلا هذا المنطق.»18
يعد توماس ساس أحدَ الآباء المؤسسين لحركةِ مناهضةِ الطب النفسي المعاصرة، وأحدَ أكثرهم تشددًا، وإن كان دوره قد بدأ يخبو اليوم أمام الذين استلهموا أفكاره (وعلى رأسهم فوكو). ولد ساس في بودابست عام ١٩٢٠، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٣٨. كان يعمل فيزيائيًّا، قبل أن يصبح طبيبًا ويتحول في النهاية إلى طبيب نفسي. وسرعان ما حرمته مواقفه العنيفة تجاه مؤسسة الطب النفسي منذ بداية الخمسينيات من متابعة نشاطه في العمل داخل المستشفيات. ومنذ عام ١٩٥٦، أصبح أستاذًا للطب النفسي بجامعة نيويورك (سيراكيوز) وحتى تقاعده عام ١٩٩٠. ويزخر تاريخه المهني بالكتب النظرية (ما يقرب من الثلاثين كتابًا) نذكر منها بالتحديد: «أسطورة الطب العقلي» (١٩٦١)،19 و«الأيديولوجية والجنون» (١٩٧٠)،20 و«صناعة الجنون» (صناعة الجنون: دراسة مقارنة لمحاكم التفتيش وحركة الصحة العقلية) (١٩٧٠)،21 وأيضًا «أسطورة العلاج النفسي» (١٩٧٨).22 ويستحق كل عنوان من هذه أن يصبح منهجًا يُدرس. المرض العقلي أسطورة. بالطبع، يوجد «تفاوت في السلوك داخل المجتمع» (يتحدث ساس أيضًا عن «المشكلات الوجودية»)، ولكن من الخطأ اعتباره مرضًا. «في مجتمعاتنا المعاصرة، يتم إذن فرض تشخيص للمرض العقلي بمجرد أن نتمكن من تحديد الفجوة بين السلوك الفردي بالنسبة إلى بعض المعايير النفسية الاجتماعية والأخلاقية أو القانونية […] فما يسمى بالأمراض العقلية ليست في معظم الحالات إلا حوارات تعبر عن أفكار غير مقبولة، تُترجم أحيانًا في لغة غريبة» (الأيديولوجية والجنون).
وينطلق ساس من الفكرة القائلة بأن الحكومات تتآمر دومًا ضد رعاياها لتبقيهم في حالة عبودية بفضل الأيديولوجيات. ولكن اختلف الفخ: «في عصر الإيمان، كانت الأيديولوجية مسيحية، والطريقة كهنوتية والخبير هو رجل الدين، ولكن في عصر الجنون، أصبحت الأيديولوجية طبية والطريقة إكلينيكية والخبير هو الطبيب النفسي» (الأيديولوجية والجنون). ويعود ساس كثيرًا إلى هذا التشبيه: «من يجرؤ أن يسخر من الله أو يعارضه داخل مجتمع ديني؟ المهرطق فقط! ومن يجرؤ على السخرية من الصحة (العقلية)، بل ويعارضها في مجتمع علاجي؟ المجنون فقط!»23 انتقلنا إذن من عصر الإيمان إلى عصر العقل (ويتعمد ساس أن يسميه «عصر الجنون»). «فبدلًا من أن يولد الإنسان حاملًا الخطية، فهو يولد حاملًا المرض.» وهكذا، بعيدًا عن أن يكون عالمًا حياديًّا كما يدَّعي، ينحاز الطبيب النفسي (فلا يمكنه معالجة أحد إن لم يسِئْ معاملة الآخر)، وتحولت دلالة الطب النفسي إلى ألفاظ جديدة لتصف وتروِّج لقيم أخلاقية وبالتالي سياسية. «كل هذا ليس سوى خداع كبير.» كما أن الأمر يتعلق بالترويج لقيم أخلاقية، وليست لقيم طبية؛ لأن «القيم الأخلاقية تخص الجميع، ولا يمتلك أي فصيل أن يدَّعي أنها ملكه وحده» (على عكس القيم الطبية التي تظل حكرًا على المتخصصين في مجال الصحة).

وفي كل أعماله، ظل يندد بهذه المحاولات لوضع معايير موحدة لكل شيء: «إذا لم تنجح الفاشية والشيوعية في فرض أيديولوجية جمعية على المجتمع الأمريكي، فربما تنجح أدبيات المرض العقلي في هذا الأمر.» وقد تمتد هذه السطوة لتطول العالم أجمع، وقد أصبحت هي مجال التطبيق العملي للطب النفسي. باختصار، أصبحت الصحة هي الحجة الجديدة لسيطرة الإنسان على الإنسان. فنحن نتجه إلى «الدولة العلاجية» ضد الفردية والاستقلالية، ضد حماية المواطنين من الدولة، وأيضًا ضد الحكم الحر والمسئولية الفردية.

سندع الآن جانبًا التجاوزاتِ العديدة في الحوار، التي سبق بها مَن تبعوه، والتي لم تساهم بالطبع في جعل حركةِ مناهضةِ الطب النفسي أكثر مصداقية. وبالتالي، فكرة أن المجنون حتمًا هو كبش الفداء الذي تضحي به «مجتمعاتنا الرحيمة» والذي تنقذ تضحيتُه المجموعةَ كلها من التفكك والأنا من الانحلال … أيمكننا أن نضيف إلى المجنون الساحرات واليهود؟ كما يخصص كتاب «صناعة الجنون» فصلًا كاملًا «لكبش الفداء المثالي للطب النفسي: الشخص المثلي الجنس»، في حين لم يكن يهتم به الطب النفسي التقليدي إلا نادرًا. ويتحدث فصل آخر عن «منتج جديد: جنون الاستمناء» الذي رأينا أن تشخيصه قد ظهر منذ العصر الرومانسي للطب النفسي. إن المبالغة الكبرى بالطبع هي التأكيد على أن المرض العقلي ليس له وجود، على الرغم من أن هذه الفكرة كانت هي الترجمة المختصرة لأفكار ساس في فرنسا بالتحديد. فإذا بحثنا جيدًا، فسنرى أن ساس قد تقبل فكرة الجنون؛ بما أنه يعتقد أن طرق العلاج النفسي لها مكان بشرط أن تكون مطلوبة.

يُدين ساس أيضًا التحليل النفسي بشكل قوي. فيعتقد أن العلاج النفسي إنما هو أسطورة (مثله مثل المرض العقلي) وأن التدخلات العلاجية النفسية إنما هي طرق علاجية مجازية، وكأن العلاج النفسي صورة من صور البلاغة. أما عن النموذج الذي اتخذه — أي التحليل النفسي — فهو ليس علمًا كما ادعى فرويد، وإنما دين جديد مليء بالمعتقدات الثابتة. بل ووصل الأمر بساس حتى الحديث عن طوائف داخله. فيرى في عقدة أوديب (وليست وحدها) مفتاح لغة التحليل النفسي، والتي توازي مكانتها بالنسبة إلى المحلل النفسي التقليدي، مكانة سر التناول لدى الكاثوليكي. ولقد صنع منها فرويد واقعًا — بعيدًا عن أي مجاز — تمامًا مثل سر القربان المقدس. «فبالنسبة إلى كنيسة فرويد، فأي طفل ذكر يرغب في قتل والده وممارسة الجنس مع والدته، والفتيات العكس.» ولقد أبعد فرويد يونج لرفضه أن يتقبلها إلا في صورتها الرمزية. «محاولًا دحض اعتراضات يونج الذي رفض أن يعتبر عقدة أوديب السبب وراء كل أنواع العصاب، كشف فرويد من جديد عن الطابع الفظِّ لبلاغته.»24 «كان حماسه بالإضافة إلى مواهبه هو ما أتاح لفرويد أن يتحول إلى أسطورة في مجال الجنون في النمسا.» ولكن فرويد مدعي ثقافة، مصاب بجنون العظمة وكاره للنساء (وفوق هذا يهودي ينتقم تاريخيًّا من المسيحية)،25 كان يستخدم لغة شبه علمية للتدليل على عبقريته: «وبالتالي، يصبح الذهن الجهاز النفسي، والعاطفة ليست إلا اﻟ «هو»، والشخصية هي «الأنا» والضمير هو «الأنا العليا».»

في عصره، أصبح ساس من المناهضين القلائل للطب النفسي الذين عارضوا أيضًا التحليل النفسي؛ مما تسبب في فزعٍ كبير في وسط حركةِ مناهضةِ الطب النفسي في فرنسا؛ حيث كان التحليل النفسي فيها يحظى بأوج فترات الانتصار. ولقد تولد عن هذا الأمر مؤامرة صامتة نسبيًّا. ولكن هذا لم يمنع رولاند جاكار — المؤرخ لحركة الجنون والتحليل النفسي — من أن يكتب في عموده بجريدة «لوموند»: «تعد أعمال ساس القطعية في رفضها والمفرطة في النقد وذات المنطق الضعيف من الأعمال التي تسير ضد التيار، ضد كل ما يقال وكل ما يفعل في مجال الطب النفسي، بل وأيضًا التحليل النفسي […] وباسم العقلانية والإنسانية المتفتحة، تعد دفاعًا شديدًا عن الإنسان لم نقرأ مثله منذ أمد بعيد.»

ومثله مثل الطب النفسي والتحليل النفسي، لم يلقَ الطب النفسي الحيوي قبولًا لدى ساس، الذي يقول لجي سورمان في لقاء عام ١٩٨٨:26 «دعونا نتوقف عن القول بأن خلف كل تفكير ملتوٍ، جزيئًا ملتويًا داخل الدماغ.» «فإذا كانت الحال كذلك، فيجب إذن علاج الفصام مثل أي مرض عادي، ولا نجعل من الأمراض العقلية فئة منفصلة نعزلها ونعتني بها بموجب سلطة ما.»
وهكذا، تكوَّن تفسير شامل للجنون من منظور علم الاجتماع، في الوقت الذي كانت العلوم الإنسانية تفرض نفسها بقوة في الجامعات. وكثيرون هم الرواد في هذا المجال. ومنذ ذلك الحين، كرَّس أدولف ماير (١٨٦٦–١٩٥٠) — عالم الأعصاب السويسري المهاجر إلى الولايات المتحدة عام ١٨٩٠ — نفسه لدراسة طب الأمراض العصبية والنفسية. ولكنه كان معارضًا لتصور كرابلين عن كيان الأمراض، وكان يدرِّس أن الاضطرابات العقلية إنما هي طرق غير ملائمة للتفاعل مع المواقف المختلفة، وأن العلاج النفسي يجب أن يقوم على مساعدة المريض على التأقلم بصورة أفضل. في إنجلترا، بعد الحرب العالمية الثانية، كان ماكسويل جونز — أحد رواد الطب النفسي الاجتماعي — يدرِّس من جانبه أن المرض العقلي يجب ألا يعد مطلقًا مجموعة من الأعراض، وإنما «المورد الأخير لفرد ينقصه الدعم الاجتماعي المناسب ويعجز عن مساعدة نفسه.»27 ومبكرًا، اقترح ما يسمى ﺑ «المجتمع العلاجي» كحلٍّ ليكون نموذجًا نظريًّا وأداة عملية في ذات الوقت (مثل سيفادون وأوري وتوسكيل في فرنسا). ويقوم الأمر — وسنرجع إليه لاحقًا — على تحويل تنظيم المصحة لكي نضمن أن يكون هناك دور لكل فرد؛ المُعالَج والمُعالِج في المشروع العلاجي.
ولن يكون البحث عن أسباب الجنون «داخل» الفرد وإنما خارجه. (بالنسبة إلى ليفي ستروس، فإن المجنون — خارج مجتمعاتنا — يمثل بالفعل الملمح الأقل أهمية من نظام الجنون.) وعلى عكس التصور الفردي الذي يؤكد على الشخص المريض، لم يعد الجنون موجودًا داخل الشخص، وإنما داخل نظام العلاقات والبيئة المرضية التي تحيط به. «علمتني خبرتي الإكلينيكية أن الفرد يصاب بالفصام جزئيًّا بسبب الجهد المتواصل — بنسبة كبيرة في اللاوعي — الذي يبذله المحيطون به لجعله مجنونًا» (سيرلز، محلل نفسي أمريكي).28 كان هذا هو العصر الذي ارتسمت فيه صورة والدَي الفصامي الشاب: «أم متحكمة عاطفيًّا ومبالغة في الحماية بنفس قدر إبعادها لابنها، بينما يكون الأب ضعيف الشخصية وسلبيًّا ومنشغلًا أو مريضًا أو «غائبًا» بشكل أو بآخر كعضو حقيقي في العائلة.» وبالتالي، تنتج الكثير من حالات الذهان ليس بسبب انقطاع العلاقات الأسرية، بل بالعكس بسبب توطدها الزائد. ويضيف رولاند جاكار: «من بين المحللين النفسيين الفرنسيين الذين درسوا طريقة سير العائلات الذهانية، يجب أن نفرد مكانًا خاصًّا لفرانسواز دولتو، التي وصفت كيف يشكل الوالدان زوجًا عصابيًّا منطويًا على ذاته، يهتمَّان فقط بتنشئة أولادهما ماديًّا، «فيعملان» و«يُربِّيان» فقط. وكأن أطفالهما ليسوا إلا ثمرة رغبات يخجلان منها ولا يعترفان بها. فيربيانهم في جو من السخافة والفزع من الجنس الذي يكبتونه بعنف، شاعرين بالذنب الدائم إلى درجة خطيرة؛ لأنه لم يكن لديهم والدان يسمحان لهما بالتعبير عن الرغبة الجنسية بفخر.»

في جميع الأحوال، ليس المريض هو الذي في حاجة للطب النفسي، بل الأسرة والمجتمع، ذلك المجتمع غير الإنساني الذي ندد به المناهضون في فترة الستينيات. ويقول جورج ديفرو (١٩٠٨–١٩٨٥) — رائد التحليل النفسي العرقي: إن الفصام وضياع الهوية إنما يتسبب فيهما المجتمع الذي هو ذاته مضاد للهوية محاولًا تفكيك أي كيانات. باختصار، المجتمع هو الذي يعاني من الفصام.

«المرض العقلي ليس كيانًا في ذاته، فلا وجود له؛ لأنه ينتج عن المواجهة بين فردين، يقدم أحدهما ألغاز اضطراباته، ويحاول الآخر تفسيرها.»29 فالمرض العقلي «شيء يدور بين المريض والطبيب»،30 ولكنه في النهاية «حوار بين قسمين من المجتمع أكثر منه حوارًا بين فردين.»31 إلا أن هذين العالمين يشكلان جزءًا من نظام عالمي. «النظام الذي نسميه نظام العقليات الطبيعية يعد جزءًا لا يتجزأ من عالم الجنون […] فنحن نحمل جميعنا داخلنا تلك الهوة التي قد تبتلع عقلنا (حسب التعريف المتفق عليه اجتماعيًّا)، ليمثل الجنون ظهور هذه الميول الدفينة الموجودة لدى كل البشر […] أي إننا نشعر جميعًا داخلنا بخلجات الآخر المظلم الذي يسكن فينا.»32
هذا الجنون، الجنون الذي يعتبر كبش فداء لمجتمع العقل، قد بلغ ذروته مع أطروحة ميشيل فوكو عام ١٩٦١. لم يرد فوكو أن يكون مؤرخًا ولا مناهضًا للطب النفسي، ولكنه أصبح كذلك بصفته امتدادًا لنظريات ساس في فرنسا (على الرغم من أنه لا يقتبس عنه أبدًا): «لم يكن الطب هو من وضع حدودًا بين العقل والجنون، ولكن منذ القرن التاسع عشر والأطباء أصبحوا مكلفين بمراقبة هذا الخط الفاصل بيقظة.» بعد كتابه «الجنون والحماقة» عام ١٩٦١، استأنف فوكو في محاضراته بكلية فرنسا تدريس نظرياته المضادة «لسلطة الطب النفسي».33 وظل الجنون — أو العلاج الإكلينيكي للجنون — «نوعًا من التخصص» يختلف عن أي تخصص آخر بسبب «طابعه الطبي». «فلم يعد هناك مكان للقراءة الرومانتيكية (أطروحة عام ١٩٦١) التي ترتكز على تاريخ الظواهر وأزمة الحدود التي يمثلها الجنون بكونه تجسيدًا «لعدم التعقل»، بل القراءة المناضلة تستخرج جذور «التخصص» الذي كان يسمى بالطب العقلي، بكونه نظامًا لا يتوقف شكله — وهذا هو قلب المحاضرة — على ظهوره في كافة مناحي الحياة الاجتماعية كنموذج مميز للسلطة وعلى بقائه بعد تدهوره كنمط طبي نفسي، في ظل حالة من التعميم لوظيفة «الطبيب النفسي» في المدرسة وفي القضاء … إلخ.»34
ومرة أخرى، لم نكن لنركز انتباهنا في هذه النقطة على فوكو، لو لم يكن يحتل اليوم تقريبًا كل الساحة التأريخية للجنون. فلا يوجد اليوم كتاب عن تاريخ الجنون أو قاموس أو موسوعة إلا كتب فوكو، وهذا ليس أقل مفارقة من أن نراه يتحول في النهاية إلى المؤرخ الرسمي للجنون. وباستثناء بعض المحاولات التي تُعنى بتحليل «فوكو والجنون»35 — وهو ليس بالأمر الهين — يظل الباقون في أغلب الأحوال متقبلين لآرائه.
«يعتبر ميشيل فوكو الفيلسوف الأكثر أهمية في عصرنا […] فهو معلم لا يضاهيه أحد في فن الكشف عن كافة آليات السلطة. ولم يتجنب نقده، الذي هدم كافة علاقات السيطرة والقمع والسلطة، الطب النفسي التقليدي ولا عنف السجن ولا جو الاعتقال ولا علاقة الإنسان بالجنس في المجتمعات الحديثة […] الجنون في البداية: فلقد أعاد فوكو للمحتجزين بالآلاف الذين يملَئون مستشفياتنا النفسية صوتهم وعباراتهم وحواراتهم. فقد كان المجنون — مثله مثل الطفل أو المرأة — لمدة طويلة محرومًا من اللغة والكلام. فجاء فوكو ليعيد إليه صوته […] بإتاحته فهم العلاقة بين العقل وعدم التعقل، ظل كتابه «تاريخ الجنون» يبدد الأوهام حول موضوع العنف في المستشفيات النفسية الذي كان يتم تبريره بادعاءات علمية. وتعد أعماله قراءة واعية ودرسًا لا يزال صالحًا لعصرنا هذا، في وقت كان كلام المجنون يظل دائمًا دون صدًى، ويظل سؤاله دون إجابة. جاءت أعمال فوكو لتبحث بعمق وتحطم سطح ظاهرة الاحتجاز لأسباب نفسية. وليس من العجيب أن تساؤل فوكو حول السلطات قد بدأ بتحقيق حول الجنون؛ لأن الجنون ذا المعايير المحددة إنما هو نتاج جميع أبنية الطب العقلي وجميع حالات الإقصاء وجميع القيود وكل أنواع الرفض والحصار.»36
كان ذلك في عام ١٩٧٩ وفوكو لا يزال على قيد الحياة، أما الآن فالحوار لا يزال متعلقًا في الأغلب بالطابع التاريخي. ويتساءل الفيلسوف بلاندين كريجيل:37 ما الذي يتبقى من ميشيل فوكو؟ ولماذا فوكو أكثر من آلتوسير ولاكان «اللذين تَركا هُمَا الآخرَيْن أثرًا لا يُمحى على جيلنا؟ لماذا — من بين كل هذه الشخصيات — نختاره بالذات؟» ذلك لأن فوكو — على عكس الاثنين الآخرين — «كان بعيدًا عن أي تصنيف سريع. ومن هنا، برز سحره الخاص والتأثير الجذاب الذي مارسه علينا جميعًا، المتمثل في رفضه أن يتم تحديده أو قولبته في دور اجتماعي معين […] ومن هذا التلاشي المقصود وهذه الحرية التي لفوكو، والتي تسمح بتأويلات مختلفة ومتعددة لأعماله، خرجت تعبيرات متناقضة ومتفرقة. أعاد فوكو الصوت للبائسين، مثلما أعاد بيكون اللون الأكثر بدائية، ليس للتقليل من شأن الثقافة وإلصاقها بعادات وقمع، وإنما للانتصار للبشرية التي اقتنصت حريتها: كان هذا هو ما علَّمنا إياه فوكو، وهذا هو ما يتبقى من عظمة أي كلمات أو لوحة انتهت بإعطائنا قدرًا من السعادة.»
وفي هذا الاتجاه تحدثنا عن «الإنجيل وفقًا لفوكو»، لدرجة أن كتابه «تاريخ الجنون» لا يتم تقديمه أبدًا كسابقة تاريخية لحركةِ مناهضةِ الطب النفسي. إلا أن كبار الأطباء النفسيين المعاصرين لنظرية فوكو كانوا يتحدثون بوضوح، على عكس الجيل الشاب الذي أغرته «الحركة الثورية» التي للعصر وأخافته حالة الإرهاب الفكري التي ملأت الأجواء. في عام ١٩٦٩، كانت الأيام السنوية لجريدة تطور الطب النفسي مخصصة «للتصور الأيديولوجي لتاريخ الجنون لميشيل فوكو».38 ولقد قدم جورج دوميزون له «قراءة تاريخية» مشددًا — على غرار هنري ستولمان (جنون أم مرض عقلي؟ دراسة نقدية ونفسية ومعرفية لمفاهيم ميشيل فوكو) — على «الغموض الدائم لمفهوم الجنون، الذي هو محور تفكير المؤلف.» هنا في الحقيقة تكمن نقطة الضعف، وسنجد في هذه التقارير نفس انتقاداتنا عند قراءة فوكو. «نادرًا ما نأسف لأن عملًا متفردًا بجمال لغته، ورقة وجودة بعض تحليلاته، والحماس المذهل الذي يتطلب عملًا غير محدود؛ تُنتقص قيمته في النهاية بسبب غفلة مؤلفه عن الحقيقة الإكلينيكية في مجال العلاج النفسي» (ستولمان).

ومن جانبه، لم يكن هنري إي رقيقًا (تعليقات نقدية حول تاريخ الجنون لميشيل فوكو): «إن هذا الفيلسوف المتبحر في مجال الطب، والدارس جيدًا لبعض نقاط تاريخه، ولكن مدفوعًا بمزاج سيئ تجاه الأطباء؛ قد شرع في إثبات أن «المرض العقلي» […] ليس إلا تأثير قمع اتجاهات عدم التعقل عن طريق العقل والفضيلة ومصالح المجتمع. ومن هنا ينوي فوكو عدم الفصل بين الجنون (الذي يدور حوله وحده مجال الطب النفسي) وعدم التعقل […] وهكذا، أصبح لدينا علم بالجريمة التي سيرتكبها الطب النفسي باستيلائه على مجال لا يتبعه: عدم التعقل العجيب […] أي القول بأن الجنون إنما هو نتاج ثقافي يولد ولا يتطور إلا في هذا الحيز؛ حيث يدين العقل عدم التعقل. من مثل هذا المنظور — الذي نسميه «الأيديولوجي» — كوْن الشخص مجنونًا أو كونه يبدو مجنونًا أو موصومًا بالجنون ليس له صلة بظاهرة طبيعية: فلكل شيء يحدث في التاريخ مثل في التطبيق العملي لمفهوم المرض العقلي وكأن «الباثولوجيا» الخاصة به مصطنعة بالكامل وعلاجه اجتماعي تمامًا. هذا بالطبع يعني التقليل من قيمة ما يتضمنه الموضوع من ثوابت متماسكة في «الخلل العقلي». إلا أن هذه المقاومة بالتحديد وهذا الثقل النفسي الباثولوجي هو الذي يمثل بالنسبة إلينا أساس الطب النفسي. […] «فالمرض العقلي» هو مرض الواقع والحرية المقيدة — مثل الحلم — بفوضى الشخص الواعي؛ أي إنه يظهر تقريبًا في مرضه العقلي عكس العلاقات التي تنظم عضويًّا الكائن الواعي داخل اللاوعي.»

ولم يكن هناك بد أمام الكتب النادرة التي تناولت تاريخ الجنون (لم تهتم جميعها إلا بالفترة المعاصرة) — التي تلت «تلك اللحظة» من الجنون وفقًا لفوكو — من أن تتخذه مرجعًا لها، مثل «نظام الطب النفسي: العصر الذهبي للطب العقلي»39 لعالم الاجتماع روبرت كاستل. فنجد اتباعه لأعمال فوكو جليًّا من الوهلة الأولى: «فهي تمثل نقطة فاصلة، لا تستطيع أي محاولة من هذا النوع إلا أن تندرج تحتها.» ولكن لننتبه! فروبرت كاستل يحرص على أن يرفض «لهجة الإدانة الأخلاقية (و) موقف ملقن الدروس.» ولكن ماذا نقرأ؟ «لعلنا قلنا بما يكفي إن المعرفة الطبية النفسية لم تكن جدية وإن طرق التحليل النفسي كانت رتيبة. على أي حال، فإن القائمين عليها لم يكونوا سذجًا يتسلَّون أو مدعين وقحين، بل كانوا فنيين على مستوًى عالٍ تمتد معرفتهم ويزداد نفوذهم.» وبعيدًا: «إن عملية تآكل القانون عن طريق المعرفة (أو عن شبه معرفة، ولكنها ليست قضيتنا الأساسية هنا) والتخريب التدريجي للشرعية عن طريق أنشطة تعتمد الخبرة؛ يمثلان أحد أكبر الانحرافات التي — منذ صعود المجتمع البرجوازي — تتولى عملية اتخاذ القرار الذي يشكل المصير الاجتماعي للبشر، بداية من العقود وحتى الوضع تحت الوصاية. ولقد كان الطب العقلي عاملًا أساسيًّا في هذا التحول.» ويتلخص الطب النفسي للقرن التاسع عشر في «الرغبة القهرية للأطباء النفسيين في تعريف الجميع بأنهم ليسوا أقل علمًا من الأطباء الآخرين، وأن السيطرة على الجنون أصبحت أخيرًا ممكنة بفضلهم […] وبدأت سلسلة طويلة من الأحداث المرعبة تُرتكب بدم بارد باسم العلم والعقل.»40
ولكن — وليس فقط في دراستنا — يبدو أن نقد «أسطورة» فوكو قد بدأ منذ قليل. كانت هذه هي الحال مع المقدمة الجديدة للطبعة الثانية عام ٢٠٠٧ من «العقل البشري التطبيقي» (جوسيه وسواين)؛ حيث صيغت بوضوح القطيعة المعرفية بين فوكو وتابعيه: «ما أنتجه فوكو — بحماسته المعروفة عنه — ليس إلا «أسطورة»، يشير أثناء روايتها إلى لعنة منذ الميلاد. فالإقصاء هو الدافع إليها وإقصاء الجنون هو نموذجها. لقد أسرت الأسطورة التاريخ «ابتداء من حاضر اعتقد في ذاته القدرة على الخروج عن المألوف» […] باختصار، اتضح أن التشبه بالجنون المتخيل هو العامل المؤدي إلى إنكار الجنون الحقيقي. اختفى الألم النفسي وراء نشوة جنون الكتابة. ومن مبدأ أن المجانين مثلنا، ومن ثم يجب معاملتهم بناء على هذا، واستنادًا إلى فكرة أن الجنون ليس له وجود؛ لا توجد أي خطوة سهلة يمكن تجاوزها بما أن المنطق التكافئي يعمل بطريقة عاطفية وأحادية الجانب.» ويحدق بنا جهل آخر: «الجهل بالعصر الحديدي القديم لعدم المعرفة الإرادية» الذي ينبع من «تأصل المحددات الضرورية التي يفرضها المنطق التكافئي».41

•••

وبلهجة أكثر اعتدالًا، كان مؤرخو الطب النفسي الأنجلوساكسونيون أيضًا من مناهضي الطب النفسي (أكثر من مؤرخي الجنون). لن نذكر هنا إلا «متاحف الجنون» لأندرو تي سكول،42 الذي يسترشد التاريخ الذي كتبه عن الطب النفسي البريطاني في القرن التاسع عشر بأكمله بفكرة مقدسة؛ وهي «الاستحواذ الطبي على الجنون»؛ أي المؤامرة الكبرى. صدَّق الأطباء على أطروحة الجنون المرضي، الذي تقع مسئولية علاجه على عاتقهم بنوع من الاحتكار الأيديولوجي. مرت الأعوام، وبدأت الأيديولوجية الفوضوية تمَّحي، مع وجود شبكة التأويلات المناهضة للطب النفسي. وبدوره، وضع جان جولدشتاين في كتابه «عالج وصنف»43 أساس شكل تسييس الطب النفسي. ويدعو للعجب التحول الذي جعل من العلاج المعنوي أداة فرنسية، متناسيًا أنه في الأصل كان فكرة إنجليزية، وأنه لا يمت بصلة للنظام الديني أو لنظام العلاج. ونقرأ — بنحو ذي مغزًى — في مطلع خاتمته هذه الجملة التي اقتبسها عن بروست: «لدى الكاهن كما لدى طبيب الأمراض العقلية؛ يوجد لديهما شيء يشبه قاضي التحقيق.»
وأيضًا، ثار الأطباء النفسيون في ذلك الوقت، ولكن لم تُسمع اعتراضاتهم في وسط صخب حركة مناهضة الطب النفسي. في يونيو ١٩٧١، أثناء ندوة بروزيز المخصصة لحركةِ مناهضةِ الطب النفسي، اتهم هنري ستولمان — الطبيب والمحلل النفسي — متهميه: «إن الباثولوجيا أشمل من دراسة الشذوذ ولا تقتصر عليه فقط»،44 وإن النمطية «ليست دليلًا على الصحة العقلية.» وتخلط حركةُ مناهضةِ الطب النفسي بين مفهومين مختلفين. «أن مثل هذا المزيج الموجود لدى ميشيل فوكو — الذي لم يعرف عن الجنون سوى حوار مع الأرشيف — ليس مفاجئًا. ولكن أن يتمكن الأطباء النفسيون — لعلهم كانوا من المناهضين للطب النفسي — من التجاوز عن مشاهد الاقتياد إلى الموت، وأن يسدوا آذانهم عن سماع شكاوى اليأس؛ هذا ما يثير العجب!» ويقارن ستولمان مناهضة الطب النفسي بأزمة المراهقة: الميل إلى العقلانية ورفض النظريات والزهد والنرجسية وطفرات الهوية … «أقول في النهاية إنه يجب الاعتراف بأن مناهضة الطب النفسي تمتلك أسبقية؛ فهي تجري تحقيقًا مع كلٍّ منا بعنف رقيق. فعندما تكون معارضة الطب النفسي نقدًا جذريًّا للمؤسسة، أكون مناهضًا للطب النفسي، ولكن عندما تحتمي وراء نفي وجود المرض العقلي، أعارضها.»
وأثناء نفس الندوة — التي لم تتصدر بالطبع الصفحات الأولى في الجرائد التي كانت تذكر بالكاد حركةَ مناهضةِ الطب النفسي الغامضة — ندد هنري موريل — عضو جريدة تطور الطب النفسي — من جانبه بسخافة المصطلح الجديد «مناهضة الطب النفسي». ويتساءل، فماذا يفعل كوبر بازاليا إذن إذا لم يكن الطب النفسي؟ بالطبع هم مصلحون ومجددون، ولكنهم يبقون في النهاية أطباء وأطباء نفسيين. أما إنكار وجود المرض النفسي وقصره على كونه «منتجًا ثقافيًّا»، فهذا تراجع كبير: «أَمِنَ الضروري التذكرة بأنه منذ زمن طويل قد وعى الأطباء النفسيون أن القضية التي يطرحها الجنون ليست مَعْرفةَ ما إذا كان المريض الذي يهلوس محقًّا أم لا، أو إذا كان المريض بالغيرة المرضية مخدوعًا فعلًا أم لا، أو أن المصاب بوسواس المرض مريض بالفعل بأي إصابة باطنية أو قلبية؟»45 ويستكمل موريل حديثه بأن مناهضة الطب النفسي ليست سوى نوع من التناقض: «فنفي الجنون يرتبط عادة — في مضمون مناهضة الطب النفسي — بالاعتراف به. فبعد تفكيك «أسطورة المعيار الطبيعي»، نال الجنون حقه بشرط أن يصبح في مصاف القيم. بينما تميل مناهضة الطب النفسي — تحت غطاء التنديد بالعنف — إلى تحويل مجال الطب النفسي إلى مجال ثوري.» باختصار، يجب إزالة الأوهام حول مناهضة الطب النفسي. «فهناك تيار من المثالية والتصوف والتنبؤ والرومانتيكية والعقلانية المشوبة بجنون العظمة بدأ يسري في «مملكة» مناهضة الطب النفسي البائسة.»
بالنسبة إلى هنري إي، فمناهضة الطب النفسي ليست سوى احتجاج على الطب النفسي السيئ. «ولكن بإصرارها على الرفض المطلق، تتحول إلى أيديولوجية أسوأ من أساطير الطب النفسي التي تنتقدها؛ لأنها بذلك لا تناقض خطاب الطب النفسي الرديء، وإنما طبيعةَ المرض العقلي نفسه.» ومرورًا، يتساءل إي بخبث، لماذا لا نتحدث عن «مناهضة علم النفس» أو «مناهضة علم الاجتماع» — مشيرًا بذلك إلى هؤلاء الذين انكشفوا بوضوح. «الطب النفسي لا يمكن أن يكون سوى فرع من الطب؛ لأن المرض العقلي ليس ظاهرة ثقافية، وإنما أثر ارتباك وتفكك الكائن نفسيًّا.»46
اتخذت حركةُ مناهضةِ الطب النفسي أوسع مدًى لها داخل المصحة النفسية ذاتها على يد ممارسين كانوا — من دون أن ينكروا وجود الجنون الذي يواجهونه يوميًّا (نتحدث عن المرض العقلي دون أن يكون سَبَقَ لنا رؤية مريض)47 — يعارضون جذريًّا الطب النفسي بالطريقة التي يمارسونه بها، والذين يجبرهم المجتمع (الرأسمالي) عليها. وإذا جاز القول، فإن الأطباء الإنجليز هم من كانوا في الطليعة. كان ديفيد كوبر (١٩٣١–١٩٨٦) يدير في البداية وحدة تجريبية للفصاميين تسمى «الجناح ٢١» بمستشفى شيلي بلندن من عام ١٩٦٢ وحتى ١٩٦٦. واجتمع فيه فريق علاجي — بعيدًا عن أي ترتيب طَبقي وبإلهام من ماكسويل جونز — أطباء وممرضون ومرضى. إلا أن عداء الجهاز الطبي والنزاعات الدائمة مع إدارة المصحة، بالإضافة إلى إنهاك المعالجين نفسيًّا، قد سارع بوضع نهاية لهذه التجربة الرائدة. اعتقد كوبر أن الجنون ليس مرضًا عقليًّا، وإنما تجربة شخصية واجتماعية، «حالة معدلة من الوعي»، أو «رحلة» يجب اتباعها.48 في الوقت ذاته، اعتبر عالِم الأنثروبولوجيا البريطاني جريجوري باتيسون (١٩٠٤–١٩٨٠) أن الفصام ردٌّ على الأوامر المتناقضة والمتعارضة (القيود المزدوجة) التي تنتج عن مرض في التواصل. ويتحدث كوبر أيضًا عن «المجنون الموجود في كل منا، في حين أن كل شخص طبيعيٍّ بالكامل لا يحمل داخله إلا جثة مجنونه المقتول داخله.» وكان هو أول من استخدم مصطلح مناهضة الطب النفسي،49 ككيان معارض، ليس للمجتمع فحسب بل وأيضًا لأسرة المريض عقليًّا. «من الغباء الحديث عن موت الله أو موت الإنسان — بالسخرية من الأحاديث الجادة لبعض اللاهوتيين والفلاسفة البنيويين المعاصرين — قبل أن نعِيَ بالكامل موت الأسرة (النواة)، هذا النظام الذي — بموجب التزامه الاجتماعي — يقضي بخبث على أساس تجربتنا؛ وبالتالي يحرم أفعالنا من أي تلقائية حقيقية.»50
أُعِيدَ إحياءُ تجربة «الجناح ٢١» مرة أخرى عام ١٩٦٥ بتأسيس دور لرعاية الفصاميين — هذه المرة بعيدًا عن إطار أي مستشفًى عام — ومن أشهرها دار كينج سي، المكان التاريخي للحركة العمالية البريطانية في شرق لندن. ويرجع الفضل في هذه المبادرة «المستشفى-المضاد» لديفيد كوبر وآرون إيستيرسون ورونالد لاينج (١٩٢٧–١٩٨٩). ويقول الأخير في كتابيه «الأنا المنقسمة» (١٩٦٠)51 و«سياسة التجربة» (١٩٦٧)،52 إن الأزمة النفسية هي رحلة يسميها «شفاء النفس» (التحول والتغيير الروحي). وبالنسبة إلى لاينج، تكمن هنا التجربة الثرية أو «المنعطف الرائع لتطور الشخصية»، بشرط أن يكون هناك من يصحبها جيدًا ولا يعالجها نفسيًّا إلا إذا أصبحت مزمنة. بل وذهب إلى الدعوة إلى «هذه الرحلة» على غرار من يتعاطون ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك (عقَّار الهلوسة LSD). إلا أن لاينج — الذي تم اتهامه لاحقًا بالتشجيع على الإدمان — قد شكك في أعماله عام ١٩٨٥ في سيرته الذاتية «حكمة وعدم تعقل وجنون». أما عن تجربة دار كينج سي، فلم تستمر لما بعد عام ١٩٧٠، لعداء المحيطين بالإضافة إلى طابعها المتعلق بأقلية صغيرة.
نتيجة تأثرهما بالفيلسوف سارتر (العقل والعنف، ١٩٨٤)، كان التزام لاينج وكوبر سياسيًّا وثوريًّا؛ فكانا يرفضان المجتمع الغربي ككلٍّ: «إن الشخص الذي يفضل الموت على أن يكون شيوعيًّا (كان ذلك في أوج الحرب الباردة) طبيعيٌّ. أما الشخص الذي يعلن أنه فقد روحه، فهو مجنون. والإنسان الذي يقول إن البشر ما هم إلا آلات قد يعد عالِمًا كبيرًا. ولكن الشخص الذي يقول إنه آلة يكون مريضًا بتفكك الشخصية وفقًا لمصطلحات الطب النفسي» (لاينج). في عام ١٩٦٧، بلندن، عُقد مؤتمر عن جدلية التحرر بناء على مبادرة منهما. وكان من بين الحاضرين هيربرت ماركوس. كان الأمر يتعلق بتكوين «وعي حقيقي ثوري، يضم الأيديولوجية إلى العمل المباشر مع الأفراد والجموع دون رفض العنف إذا كان ضروريًّا» لدى الجزء الأكثر تقدمًا. ويذكر جاك بوستيل بمكر: «يبدو أن المعارضين الإنجليز للطب النفسي يمارسون أناركية مثالية للغاية. من الصعب إيجاد فعل مقاومة بهذه الجدية والخطورة في هذا المجال، بما ينصحون به لتمزيق الجريدة اليومية الفاسدة التي اشتراها من بائع الجرائد علانية. وسرعان ما غرقت حركةُ مناهضةِ الطب النفسي الإنجليزية في هذه المثالية الطوباوية.»53
في إيطاليا، حظيت حركةُ مناهضةِ الطب النفسي بنجاح أكبر بفضل نشاط فرانكو بازاليا (١٩٢٤–١٩٨٠) المولود في فينيسيا، ويعمل طبيبًا منذ عام ١٩٤٩ وطبيبًا نفسيًّا منذ ١٩٥٩. كان شديد التأثر بالفكر الظواهري الوجودي وبأعمال بينسفاجنر ومينكويسكي، واهتم بتعزيز قيمة اللقاء مع المريض عقليًّا. كان متأثرًا أيضًا بأفكار ماكسويل الذي تدرب معه في لندن. وإيمانًا منه بفائدة المجتمعات العلاجية، رفض الطب النفسي التقليدي والتحليل النفسي، الذي هو «الصورة المثالية للمجتمع الرأسمالي». تسببت آراؤه السياسية في نفيه في المصحة النفسية الكئيبة بجوريزيا بالقرب من ترييست؛ حيث اصطدم بالواقع الحزين للحال في المصحات العقلية. ومن هناك، تأصلت مواقفه وقرر إطلاق سراح مرضاه، وهم في الأغلب الفقراء الذين لفظهم المجتمع. «العلم دائمًا ما يكون في خدمة الطبقة المسيطرة»، والمصحة النفسية «هي إحدى مؤسسات العنف». ولقد ضمت حركة «تحرير المرضى من التمييز في المصحات النفسية»، التي ساهم في تأسيسها حوالي ألفي عضو (أطباء وعلماء نفس واجتماعيين وممرضين) عام ١٩٧١. في عام ١٩٦٨، ظهر كتابه: «نفي المؤسسة: تقرير عن مصحة جوريزيا للأمراض النفسية».54 لم تعد القضية تحسين أوضاع مصحة الأمراض العقلية وإنما القضاء عليها. تم تعيينه في ترييست عام ١٩٧٢، ونظم هناك عام ١٩٧٧ اللقاء الثالث للشبكة الدولية لبدائل الطب النفسي. ومنذ ذلك الحين أصبحت الحركة الإيطالية متزعمةً حركةَ مناهضةِ الطب النفسي، في حين أن بازاليا نفسه كان يرفض أن يكون «مناهضًا للطب النفسي».

نجحت حركة «تحرير المرضى من التمييز في المصحات النفسية»، وهي تمثل أقلية يسارية ومؤثرة — بالضغط على السلطات العامة وبِنَيل تأييد المعارضة النقابية والحزب الشيوعي الإيطالي (وإن كان ستالينيَّ النزعة أكثر من كونه يساريًّا، إلا أنه لم يكن من الممكن إعلان ذلك في ذلك العصر) — في الحث على إنشاء لجنة برلمانية يتم فيها تمثيل كافة الأحزاب السياسية. في الواقع، لم يكن هناك من يريد استمرار قانون ١٩٠٤ القديم، الذي كان يعهد بقرار الاحتجاز الأساسي إلى السلطة القضائية. وأضاف «تعديل ١٩٣٠» في عهد إيطاليا الفاشية خطوة تسجيل المرضى المحتجزين في ملف قضائي. في السابع عشر من مايو ١٩٧٨، تم التصويت على «القانون ١٨٠» الذي لا يُلغي — كما كان يُكتب عادة — المصحاتِ النفسيةَ، وإنما يحظر أي احتجاز جديد بها أو إنشاء أي مصحات جديدة. وتأسست وحدات صغيرة للطب النفسي داخل المستشفيات العامة، في حين أن الاحتجاز الرسمي (الذي أصبح يسمى «العلاج الإجباري») لم يعد مسموحًا له بأن يتجاوز ستة أشهر، ويجب عدم اللجوء إليه إلا بعد الفشل المعلن لكافة البدائل الأخرى. وأنشئت مراكز للصحة العقلية في كافة المناطق، وكان لها بنية متوسطة: مستشفيات اليوم الواحد وبيوت وشقق علاجية. بالطبع، لم يكن مناضلو حركة «تحرير المرضى من التمييز في المصحات النفسية» راضين عن هذه الإجراءات، التي اعتبروها «نوعًا آخر من التطبيب» للجنون بعيدًا تمامًا عن آمال الثورة وتغيير المجتمع.

وإذا كانت النتيجة حدوث طفرة سريعة (اثنا عشر يومًا في المتوسط مقابل سبعة وأربعين يومًا في باقي دول أوروبا)، فإن حدود النظام الجديد بدأت تظهر على مدار الأعوام. في البداية، لم تتبع الأبنية الجديدة الطريقة نفسها من منطقة إلى أخرى. ولم يكن يتم احتجاز مرضى إلا المصابين بنوبات هائجة من الذهان (وتتم معالجاتهم بجرعات عالية من الأدوية المضادة للذهان)، في حين أن المرضى المزمنين كان يتم «إخفاؤهم» في الملاجئ ودور الرعاية. وكان يذهب القادرون على الدفع إلى الإقامة في عيادات خاصة. ولكن انتبهت العائلات إلى خطورة سلوك المريض ذي الميول الانتحارية، أو تهميش المرضى النفسيين المتروكين دون رعاية؛ مما تسبب في إنشاء جمعيات جديدة، مثل «الدفاع عن مرضى الاعتلال العقلي من ذوي الحالات الصعبة»، لتطالب بإلغاء قانون ١٨٠.55 أصبحت الظاهرة مخيفة، ولا سيما بسبب تشرد وتسكع مرضى الاعتلال العقلي المزمنين في الولايات المتحدة عقب إغلاق عدد ضخم من مصحات الأمراض النفسية. «كان بازاليا قد قال إن التأخر الموجود في بلاده سيتيح تغييرها بطريقة أكثر من الدول الأخرى، إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق.»56 واليوم في الحقيقة، تشهد إيطاليا إقبالًا أقل على الرعاية النفسية؛ نظرًا للظروف هناك. إن مناهضة الطب النفسي دمرت الطب النفسي، ولكنها لم تستطع أن تحل محله.
في فرنسا، انصهرت حركةُ مناهضةِ الطب النفسي قليلًا في الثورة الثقافية في مايو ١٩٦٨. وكما تشير مود مانوني، فإن خطاب مايو لم يكن يدور «كثيرًا حول «المريض» بقدر الحديث عن الوضع المزري الذي وصل إليه. أيجب الاستمرار في حماية المجتمع ضد الجنون؟ أم هل حرية المريض عقليًّا هي التي يجب الدفاع عنها في مواجهة مجتمع لا يتقبله؟»57 ولم يغب عن الأحداث الممارسون «المعارضون للطب العقلي» المناضلون في أغلب الأحيان منذ زمن طويل: دوميزون وبونافيه وسيفادون وتوسكيل وأوري …

يتميز روجيه جينتيس — الطبيب والمحلل النفسي — بكتاباته اللاذعة التي جعلت منه أكثر الأطباء النفسيين الفرنسيين معارضة للطب النفسي في عصره. في عام ١٩٧٠، ظهر كتابه «جدران المستشفى العقلي» الذي يقول فيه: «إن الأطباء النفسيين أنفسهم هم الذين يفقدون يومًا بعد يوم إيمانهم بالطب النفسي، مثلما يتضاءل إيمان البرجوازيين بأيديولوجية طبقتهم.» فما فائدة الطبيب داخل المصحة النفسية؟ «فالطبيب عندما يقابل مريضًا — إذا حدث — يكون اللقاء في مكتبه، في «عيادته». إن سلطة الأساطير مرعبة: فبعد عشرين عامًا من تجربة المصحة العقلية، بعد ثلاثين عامًا منها، ثلاثين عامًا من الفساد والاختناق داخل فساد المصحة؛ لا يزال هناك أطباء يعتقدون في العلاقة بين الطبيب والمريض، ويؤمنون بمزاياها وسحرها العلاجي.» ويضيف جينتيس: «وماذا عن الممرضين؟» ألا يمارسون هم أيضًا العلاج النفسي لساعات وساعات يوميًّا؟ وماذا عن الأدوية؟ إنها «المهزلة الكبرى»؛ فالمرضى لا يأخذونها إلا إذا أرادوا، والعاملون يتغاضون عن الأدوية إذا لم يكونوا موافقين على ما وصفه كبير الأطباء، أو في حالات المرضى المزمنين «الذين استقر وضعهم وحياتهم وليس هناك رغبة في تغيير هذا.» أليس المريض هو محطَّ استغلال الجميع في المصحة؟ باختصار، فإن الأطباء «ليسوا عالمين بمجريات الأمور»، ولا يهتم أحد في المصحة بإعلامهم أي شيء. أما «الطب النفسي الحديث»، (الذي يتنكر للطب النفسي القديم ويشبِّه جينتيس ﺑ «المؤيدين الجدد للاستعمار»)، فسيكون من الخطأ الاعتقاد بأنه سيتمكن من الاستغناء عن المصحة العقلية التي أصبحت مكتظة: «لا أحد يظن أن عقلية المصحة بسبب الرعب الذي يمارسه الطب النفسي تجاهها، والذي اتضح أنه ناجح معها، ستتغير بهذا الشكل، وأن الناس سيتقبلون الآن مثل هذا الأمر التافه الذي يعرفه الجميع منذ زمن طويل، متظاهرين بأنهم لا يعرفونه، بأن الجنون موجود في كل منا وأننا نحمله معنا منذ ميلادنا، ودونه لن نكون ما نحن عليه بالفعل.»

في عام ١٩٧٣، في مقال «الطب النفسي لا بد من أن يمارسه ويتجنبه الجميع»، اتفق جينتيس على واقعية «تلك التجربة الضخمة التي تمثلها نوبة هذيان»، وضرورة «وجود أماكن لرعاية الجنون» بالتبعية. ونلاحظ أن لفظ «الجنون» — الذي رفضه الطب النفسي العقلي — عاد مرة أخرى إلى الظهور، فلم يكن يتبقى إلا التحرر من الألفاظ. وبأماكن رعاية الجنون، كان جينتيس يقصد «جمعيات تتولى مسئوليتهم». إلا أن الطب النفسي كان أمرًا يخص الجميع مثل التعليم. فلقد أصبح وعدًا بالحرية، بينما وعد الأمس لم يكن إلا «مزحة سيئة من التاريخ». وماذا عن التحليل النفسي؟ في ذلك الحين (نحن في عام ١٩٧٣)، كان جينتيس أكثر تدقيقًا، الأمر الذي ستغيره الأعوام المقبلة. ولاحظ أن المحللين قد ثبَّتوا أقدامهم في المؤسسة عن طريق القيام ﺑ «التحليل النفسي من دون أريكة». ويؤكد أنهم في جميع الأحوال يسيرون في اتجاه التاريخ. ولكن، يجب ألا يكون التحليل النفسي حكرًا فقط على المتخصصين، أو «الامتياز الممنوح للمثقفين البرجوازيين»، بل «وسيلة فعالة لقلب النظام الاجتماعي ولنشر حقيقة تحرير الرغبة.» وأصبح التحليل النفسي يتماشى إذن مع مناهضة الطب النفسي.

بعد مرور أربعة أعوام، لم يهدأ جينتيس — على الرغم من تفتت أحلام ثورة مايو ١٩٦٨ — بل على العكس.58 ماذا يرى في تجربته الجديدة للقطاع (الذي سنتحدث عنها لاحقًا)؟ «كل ما تنطقون به إنما هو بؤس.» بؤس مادي وعاطفي وجنسي. ويندد جينتيس أيضًا بالوحدة: «قد يكون من المفروض على من يمارس الطب النفسي أن يمارس تمارين للوحدة.» وفيما يخص المجتمع، «فهو مصحة للأمراض العقلية من الخارج» أو «مؤسسة لانتزاع روح المبادرة والمسئوليات من الأفراد، وهناك الكثيرون الذين يرون ذلك أمرًا جيدًا.» «إذا أردت أن تتحدث عن الصحة العقلية، فأخرج زجاجة المولوتوف خاصتك! فالمهووس على الأقل شخص يفكر قليلًا بمفرده ولا يقبل بالطرق التي ترسمها له العقلانية المثبتة.»
كانت طريقة مود مانوني (١٩٢٣–١٩٩٨) أكثر اعتدالًا.59 وتعد مود مانوني — المحللة النفسية وتلميذة لاكان والمعروفة بسبب أعمالها حول الطب النفسي للأطفال والشباب — منظِّرة وأيضًا من رواد التطبيق العملي. في سبتمبر ١٩٦٩ أُسست بالاشتراك مع روبرت لوفور — متخصص الطب النفسي للأطفال والمحلل النفسي على طريقة لاكان — مدرسةٌ تجريبية ببونوي سير مارن (لا تزال تعمل)، لتستقبل الشباب المصاب بالتوحد والأمراض النفسية أو الخبل، في إطار تجربة مضادة للطب النفسي تشهد باستفادة التحليل النفسي من هذا المجال.

لم يُوصَف «التوحد المبكر لدى الأطفال» للمرة الأولى إلا عام ١٩٤٣، على يد الطبيب النفسي الأمريكي ليو كانر في مقال بعنوان «الاضطراب التوحدي للاتصال العاطفي». وتميز الوصف الإكلينيكي للمرض بعجز الطفل عن إقامة تواصل عاطفي مع المحيطين به (مع بداية ظهور للاضطرابات قبل عمر العامين). وجعل منه كانر متلازمة أعراض إكلينيكية تختلف تمامًا عن الفصام، وإن كان لفظ «التوحد» (أوتيزم) قد اخترعه بلولير عام ١٩١١ للإشارة إلى فقدان الاتصال مع الواقع الخارجي في حالات الفصام لدى البالغين (من الكلمة اليونانية «أتو» التي تعني ذاتيًّا). «ولكنه ليس كما في الفصام لدى البالغين أو الأطفال بداية من علاقة تواصل أصلية موجودة؛ فهو ليس تراجعًا عن المشاركة في الوجود السابق. يعاني مريض التوحُّد، منذ بداية ظهور أعراض المرض، من شعور شديد بالوحدة؛ فهو يَحتقر ويَتجاهل ويُقصي، متى استطاع ذلك، أيَّ شيء قادم من خارجه» (كانر). وإلى جانب التوحد الذي يصيب الأطفال، تم تحديد أمراض ذهانية أخرى تصيبهم، وأصبحت هناك طرق رعاية خاصة تضاف إلى المقررات الدراسية. في باريس عام ١٩٥٩، قام سيرج ليبوفيتشي (١٩١٥–٢٠٠٠) — المتخصص في الطب والتحليل النفسي للأطفال وفي العلاج النفسي الجماعي — بافتتاح أول مستشفًى لليوم الواحد للأطفال، ثم افتتح رينيه دياتكين (١٩١٨–١٩٩٨) مركزًا للكشف والعلاج للحالات العرضية. في الثمانينيات، أسس ليبوفيتشي — الذي اهتم في ذلك الوقت بالعلاج النفسي الباثولوجي للطفل — خدمة للعلاج النفسي الباثولوجي للأطفال والمراهقين بمستشفى أفيسين بوبينيي.

كانت فكرة تطبيق تعاليم التحليل النفسي على «الأطفال المجانين» حديثة نسبيًّا في فرنسا. فأول أعمال تتناول هذا الأمر في ذلك الوقت كانت أعمال فرانسواز دولتو (١٩٠٨–١٩٨٨) المحللة النفسية والصديقة المقربة لجاك لاكان. إلا أن برونو بيتليهيم (١٩٠٣–١٩٩٠) كان قد فتح الطريق لهذا الأمر في مدرسة «تقويم النسل» بشيكاجو. ولدى وصوله لم يكن هناك محلل نفسي واحد وَطِئَت قدماه المدرسة المخصصة للأطفال الصعاب المراس بما فيهم المرضى النفسيون. إلا أنه بالنسبة إلى بيتليهيم، فكان من الواضح أن الطب النفسي للأطفال لا يقدر على الاستغناء عن طريقة العلاج بالعلاقات ومن ثَم التحليل النفسي. وكان علاجًا فرديًّا كما تشهد «ثلاث حالات» في كتاب «القلعة الفارغة».60 كان العلاج أمرًا يخص الجميع، وأصبح المعالجون يشاركون الأطفال حياتهم اليومية طوال الأربع والعشرين ساعة. ومهما كانت الأعراض الظاهرة لدى النزلاء، كانت هذه الطريقة هي الرد الأفضل على مخاوفهم، كما يؤكد بيتليهيم (والذي يلاقي اليوم انتقادات كثيرة).
في مدرسة بونوي، كان جميع العاملين — بما فيهم الطاهي وعمال النظافة — أعضاءً في الفريق العلاجي، الذي ينال معظمه تدريبًا في التحليل النفسي. ويجب ألا يكون التحليل النفسي هنا مجرد أداة للمعرفة، وإنما وسيلة عمل وتبادل مع الآخر. ويهدف مفهوم «تدمير المؤسسة» إلى الاستفادة من كل شيء غريب يظهر (لا أن نقهره) والانفتاح على العلاقات المختلفة التي تساعد في إظهار «الفرد الذي يتساءل حول أي شيء يريده».61 في ظل روح مناهضة الطب النفسي السائدة في ذلك العصر وحتى الآن، كان يجب على المتدربين في مجال علم النفس أن يتركوا أجهزة الحاسب المحمولة وأدوات القياس ليغوصوا تمامًا في الحياة الجماعية بالمدرسة. لا يكون لديهم ملفات يطلعون عليها؛ حيث إنه أقل أهمية من معايشة الواقع الفعلي للطفل. إلا أن مود مانوني تحذر: «إذا اتخذنا موقفًا مناهضًا للطب النفسي، فسنكون رافضين للنظرية التي تفترض وجوده. فكل مراجعنا النظرية مراجع بنيوية.»62 وإذا كانت مانوني تبتعد عن مناهضة الطب النفسي المثالي (فالاعتقاد بأنه في وجود الحرية سيختفي الجنون هو اعتقاد خاطئ)، فإنها تعتقد بأنه من الممكن وجود تعاون بين «المواقف المناهضة للطب النفسي والأبحاث التحليلية.» كان هذا الأمر مستحيلًا داخل مؤسسة الطب النفسي التقليدي، الذي هو مكان للحبس لا يهتم فيه أحد بخلق مؤسسةٍ (مؤسسة التحليل النفسي) تهدف لتحرير التعبير. وتستكمل مانوني أنه على عكس الأطباء النفسيين — الذين يغارون من معرفتهم ويعطون تشخيصًا لا يفعل المريض شيئًا حياله — يكون المحلل «أكثر اهتمامًا بالحقيقة التي تخرج من وراء حوار المريض النفسي. وهو الأمر الذي سعى المناهض للطب النفسي (لاينج) للمحافظة عليه في صورة تحليل ولكن دون أن يصيغه بصورة واضحة؛ أي إنه صورة للمعرفة تنكشف عبر لغة «المريض» […] فهو يسعى لوضع شروط تتيح لأقوال المجنون أن تخرج دون قيود.» وتُشِيد مانوني بالتجربة الإنجليزية (التي تقول بأن الهذيان عملية لاستعادة الشفاء)، والتي يرجع استحقاقها إلى أنها «اتبعت أقوال فرويد حرفيًّا».

سنلاحظ أنه من الآن فصاعدًا، أصبح «هذا التساؤل الثاني» للجنون يتضمن الذهان بالطبع. ولم يرغب التحليل النفسي — المنتصر في ذلك الوقت — أن يكتفي بكلام الأنا لدى العصابي، وإنما أراد أن يهتم أيضًا (بل وبالتحديد) بالأنا «المباشرة» لمريض الذهان. ولم يعد المثل الذي قاله فرويد عن ملك اسكتلندا وطريقته لمعرفة الساحرات قابلًا للتطبيق. وفي ظل هذه الهوجة الضخمة المعارضة للطب النفسي في الستينيات والسبعينيات، لم يعد التحليل النفسي كما كان — بالضبط كما تنبأ فرويد عام ١٩٣٩ — الأداة التي تقوم بكافة المهام للطب النفسي. وسرعان ما سينقلب الأمر إلى العكس.

وعلى عكس مناهضة الطب النفسي تحت حكم الجمهورية الثالثة الذي لم يجذب عددًا كبيرًا من المريدين، كان هناك تركيز إعلامي ضخم على الحركة خلال الستينيات والسبعينيات بسبب تأثر الرأي العام بها. في كل العالم الغربي، كانت هناك مؤلفات ولقاءات ومناقشات جعلت من مناهضة الطب النفسي والجنون محور الأحداث. كان طلبة مايو ١٩٦٨ يقرءون بحماس أعمال ساس ولاينج وكوبر وفوكو وجينتيس … ولم تكن هناك تجربة معارضة للطب النفسي لم تصبح هدفًا للتقارير الصحفية (بل وتقارير ذاتية)، إلى جانب الدور الهام الذي لعبته السينما التسجيلية. ومن بين أوائل الأفلام التي ظهرت «نظرة إلى الجنون» (١٩٦٢) بفضل الطبيب بونافيه الذي سمح بالتصوير في مصحته سانت آلبان بمنطقة لوزير. عام ١٩٦٧، غاص فيلم «تيتيكاتفوليز» في أعماق مصحة بريدجووتر للأمراض النفسية بماساتشوستس. ولقد مُنع عرض هذا الفيلم لأكثر من خمسة وعشرين عامًا. كان الفيلم هو أول عمل إخراجي لفريديريك وايزمان المولود عام ١٩٣٠، الذي استكمل سعيه وراء سينما الحقيقة في كل مكان، في مستشفًى عامٍّ أو في سجن أو حتى في مركز تدريب تابع للجيش. رفضت أمريكا الاعتراف بوجود مثل هذه الأماكن التي كان إرفينج جوفمان (١٩٢٢–١٩٨٢) — عالم الاجتماع الأمريكي — يدرسها ويصفها بالمؤسسات الكلية (والتي تمت ترجمتها إلى الفرنسية عن عمد إلى «المؤسسات الشمولية»).63 وسعى جوفمان إلى إثبات أنه داخل المصحة العقلية — مثل السجن — يتأسس فصل تام لا يمكن تجاوزه بين الحراس والمحبوسين (ولا يعدو «المكان الحر» إلا التعبير المعارض له) عن طريق قوانين غير مكتوبة ولكن مطبقة بشدة لا تقبل أي تفاهم.

ظهر فيلم «الحياة في بونوي» في دور العرض عام ١٩٧٠ و«مصحة الأمراض العقلية» (مجانين الحياة) عام ١٩٧٢. ويبين لنا الفيلم الأخير بقيادة الطبيب لاينج الحياة اليومية لمجتمع الطب النفسي بأرشواي بلندن. وجذبت التجربة البريطانية الرائدة انتباه وسائل الإعلام بشدة. ومن بين رموزها كانت ماري بارنز — عملت ممرضة أثناء الحرب — ولكن تم احتجازها عام ١٩٥٢ بسبب الفصام في مصحة هانويل. وبعد أن قرأت عام ١٩٦٢ كتاب «الأنا المنقسمة»، اتصلت بالطبيب لاينج والتحقت عام ١٩٦٥ بكينجسلي هول (كان الالتحاق يتم عن طريق التصويت بين الموجودين بالداخل). وهناك خضعت للعلاج التراجعي، الذي مهد لاكتشاف موهبتها في الرسم. وأصبحت فنانة كبيرة، ونشرت أعمالًا كثيرة حول الفن والجنون وطفولتها. وكان الفصل الأول من كتابها «حسابان لرحلة عبر الجنون» يحمل عنوان «عائلتي اللطيفة غير الطبيعية».

لم تكن هذه الموهبة السينمائية وقتية أو مرهونة بالظروف، فقد استمرت ومعها مناهضة الطب النفسي، كما يشهد بذلك عقد مهرجان السينما التسجيلية النفسية عام ١٩٧٧ بلوركان داخل المصحة النفسية القديمة بهذه المنطقة الصغيرة في اللورين. وحتى وإن لم يذكره التلفاز، فإن المهرجان لا يزال يعقد. عام ٢٠٠٥، أتاح لنا فيلم متوسط الطول لأرنو هوبين في تلفاز الإقليم الفلامندي أن نتواصل ثانية مع جيل (أحد رواد حركةِ مناهضةِ الطب النفسي): ٣٣ ألف مواطن، من بينهم ٥٥٠ مجنونًا يعيشون في أسر تتبناهم ويقيمون هناك إقامة كاملة وليس مجرد إجازات، ويمرون على أربع عائلات متتالية خلال الفصول الأربعة … عام ١٩٨٢، قام ريموند دوباردون — الخليفة الفرنسي لوايزمان — بتصوير فيلم «سان كليمنت» على جزيرته المطلة على بحيرة فينيسيا، التي تشبه على نحو غريب سجن ألكاتراز. ولكن دوباردون كان في الأساس مراسلًا ومصورًا كما يظهر في الصور الرهيبة التي قام بتصويرها عام ١٩٨٠ بمصحة ترييست للأمراض العقلية، حين كان بازاليا هناك. وتمتلك تلك الصور بالأبيض والأسود قوة هائلة تحركنا ولا يضاهيها أي كلام؛ ممر الحمامات لدى الرجال، وفناء منطقة النساء (الهادئات)، وتلك القاعة التي تضم هذا المجنون الخائر القوى، وفي الجانب الآخر توجد شجرة عيد الميلاد، وعلى الحائط كتابة بالطباشير: «عيد سعيد».

ومن جانبها، اهتمت السينما العادية أيضًا بالجنون منذ «جنون الدكتور تيوب» (١٩١٥) لآبل جانس و«عيادة الدكتور كاليجاري» (١٩١٩). كما اهتمت أيضًا بالتحليل النفسي … كان «ألغاز الروح» (١٩٢٦) هو أول فيلم يدور بأكمله حول هذا الموضوع. لم يرغب فرويد في مثل هذا الأمر (لم أعتقد أنه من الممكن التعبير فنيًّا عن أكثر ما بداخلنا تجريدًا). كما تسبب مزيج السريالية والجنون في إنتاج «صفحة مجنونة» (١٩٢٦) للياباني تينوسوك كينوجاسا، أحد أوائل أعمال مخرج فيلم «باب الجحيم». وكان ﻟ «كهف الثعابين» (١٩٤٨) — أول فيلم سينمائي مأخوذ عن رواية سيرة ذاتية وبالطبع مناهض للطب النفسي — صدًى ناجح وكبير. وقد قام داريل إف زانوك بإنتاج هذا الفيلم للمخرج الأمريكي أناتول ليتفاك، بعد رفض العديد من المنتجين. ولقد قضى كُتاب السيناريو ثلاثة أشهر في مختلف المصحات النفسية، وتلقوا النصائح من بعض الأطباء النفسيين ليتمكنوا من عرض قصة فيرجينيا المصابة بالفصام، والتي تروي لنا جحيم الاحتجاز والصدمات الكهربائية والطرق العلاجية النفسية المفزعة. ولقد أدت أوليفيا هافياند — الرائعة في الحقيقة — دورها ببراعة وتقمص لشخصية المريضة بالفصام. وحتى اليوم، لم يفقد الفيلم شيئًا من قيمته بسبب اهتمامه بالتفاصيل والملاحظة والرسم الخلاب لشخصيات المرضى و«الذين يرعونهم».

كانت السينما تتأثر وتستلهم من حركةِ مناهضةِ الطب النفسي. ومن بين عدة عشرات من الأفلام، لن نذكر هنا إلا تلك الأفلام (الأساسية) التي تبدو غايتها المناهضة للطب واضحة للعيان، مثل «ممر الصدمة» (١٩٦٣) لصامويل فولر، حيث يخطر لصحفي شاب فكرة رديئة بطلب الاحتجاز ليتمكن من عمل تحقيق صحفي؛ و«الحياة العائلية» (١٩٧١) لكين لوتش، وفيه تعيش جانيس — ١٩ عامًا — جحيمًا بسبب ضغط الأسرة عليها نفسيًّا، وتقاسي لأنها تكون موصومة بالفصام (ولقد استُلهمت شخصية الطبيب دونالسون «محامي الدفاع» من شخصية لاينج). كان عام ١٩٧٥ عامًا زاخرًا بفيلم «قصة بول» لريمي فيريه، و«مجنون يطلق سراحه» لماركو بيلوتشيو، وخاصة «طار فوق عش المجانين» لميلوس فورمان المأخوذ عن رواية كين كيسي (١٩٦٢). وتوالت أفلام أخرى: «فرانسيس» (١٩٨٣)، و«بيردي» (١٩٨٤)، و«الأشخاص الطبيعيون ليسوا مميزين» (١٩٩٣)، إلخ. لكن لم يكن لأي منهم حتى اليوم قوة التعبير التي لِماك ميرفي (جاك نيكلسون) في مواجهةِ كبيرة الممرضات المرعبة، الآنسة راتشد (لويز فليتشر)، في معركة خاسرة مقدمًا من الطرف المعزول، مجنون أم لا — لا نعرف الكثير عن هذا الأمر — ولكنه كان في جميع الأحوال ماكرًا ووقحًا مليئًا بالحيوية في مواجهة مؤسسة الطب النفسي في شكلها الجديد الهادئ المبتسم، ولكن الذي لا يرحم والمجسد في صورة الممرضة. تم تصوير هذا الفيلم، الذي حاز على خمس جوائز أوسكار، في مصحة أمراض نفسية حقيقية (مستشفى سالم بأوريجون). كانت بعض الشخصيات من المرضى الحقيقيين، ولكن لم يسبق لفيلمٍ ما أن قدم مثل هذا القدر من المعارضة للطب النفسي للجمهور العريض.

في عام ١٩٦١، نرى أيضًا هذا الفيلم الشهير «البرتقالة الميكانيكية» لستانلي كوبريك، وفيه يندد بالمجتمع ذي المستقبل غير المعلوم ولكن القريب، ونرى فيه الدولة ترد بالعنف على عنف ألكس وعصابته من المجرمين. لم يكن هناك إعدام، ولا سجن، وإنما يتم إعادة تأهيل باستخدام طرق العلاج السلوكي نفسها التي كانت ترى النور في الولايات المتحدة (واتسون، سكينر) استنادًا إلى مبدأ الاستجابة الشرطية التي أثبتها العالم الفسيولوجي بافلوف. وخلال هذه الفترة — التي اتسمت بالمعارضة الشديدة — لم يعد الطب النفسي القديم هو موضع الانتقادات، بل الحديث، وعلى الأخص النظرية السلوكية التي تقلص الطريقة التأملية الباطنية للعمليات العقلية لصالح طريقة السلوك كهدف أي فرد (مفهوم وظيفي). وعلى الرغم من النتائج الجيدة، ولا سيما في مجال علاج الخوف المرضي، يُتهم العلاج السلوكي بأنه يجرد المريض من إنسانيته من قِبل تيار جديد من علم النفس الأمريكي، وهو علم النفس الإنساني (كارل روجرز) الذي يسعى إلى إعادة الإنسان إلى مركز الاهتمام في مجال العلاج النفسي غير الموجه ولا الرنان، عاكفًا على تنمية القدرة على القيام باختيارات خاصة لدى من يستشيره. ويسمى «القوة الثالثة»، إلى جانب طرق التحليل النفسي والعلاج السلوكي.

كما أن الفاعلين في المجال هم الذين خلقوا من مناهضة الطب النفسي تيارات جديدة طبية وتحليلية نفسية. ولقد تمرد العديد من الآباء الذين كونوا جمعيات ضد المبالغة في تطبيق النظريات النفسية الوراثية التي «تتهمهم» بكونهم السبب وراء الاضطرابات النفسية التي أصابت أبناءهم. ألم يكن هناك حديث وقتها عن «الأم المسببة للفصام»؟ ولقد أدى رد الفعل المتصاعد هذا ضد «لوبي الأطباء النفسيين» إلى طمس حقيقي للتقدم الذي أُحرز في هذا المجال، ولا سيما طب نفس الأطفال. وندد المستخدمون المباشرون — أي المرضى — الذين يعرفون أكثر ﺑ «السترة الكيميائية»؛ أي الأدوية، وبالاعتداءات على حريتهم. في هولندا، نجد أنهم — بالتعاون مع الحركة الطلابية — تمكنوا من تكوين تجمعات من المرضى (روتردام، أوترخت). عام ١٩٧١، اجتمعوا في «فيدرالية العملاء» التي لا تهدف فقط إلى تحسين الرعاية وإنما إلى تغيير المجتمع.64 وتأسست جريدة للمجنون، وظلت تظهر حتى عام ١٩٧٨، حينما أُعلن أنه ليس من الممكن بلوغ الهدف الأصلي: السماح للمجنون أن يحقق ثقافته المضادة الخاصة.
أما عن حركةِ مناهضةِ الطب النفسي العنيفة التي شنتها كنيسة الساينتولوجي التي تأسست عام ١٩٥٤، فأين يجب تصنيفها؟ فعقيدة الساينتولوجي ترفض قطعيًّا الطب النفسي وتصفه بأنه «صناعة قاتلة». عام ١٩٦٩، تأسست جمعية تحمل اسمًا مطمْئنًا ولكن باعثًا على الحيرة في الوقت ذاته بدعم من توماس ساس: «لجنة المواطنين لحقوق الإنسان» التي هي النظير الفرنسي للَّجنة نفسها في الولايات المتحدة. كان يوجد في فرنسا أيضًا «جمعية للأطباء والمواطنين ضد العلاجات المُهينة التي يستخدمها الطب النفسي.» كانت الحكومة تفرض «فائدة للتأخير» على تطبيق العلاج النفسي، بالإضافة إلى وجود لجنة متعددة المجالات تهدف إلى «الترويج لرؤية جديدة للإنسان والصحة تختلف عن تلك التي تدعو لها باستمرارٍ مؤسسةُ الطب النفسي.» ويهدف كل هذا في الواقع إلى اقتراح «تكنولوجيا» منافسة — «الصحوة الروحية» — والتي تُعرف بأنها أثر الروح على الجسد؛ أي قوة الفكر على البدن. «تتيح الصحوة الروحية الكشف عن مصدر الأحاسيس والانفعالات غير المرغوب فيها، وأيضًا عن الحوادث والجروح التي تسبب الأمراض النفس-جسمية. وتسمح أيضًا بعلاج أسبابها بقضائها على «التفاعل العقلي»، الذي هو سبب الضغط والقلق وقلة الثقة بالنفس وباقي الأمراض النفس-جسمية.»65
في الرأي العام للعالم الغربي، تلقَّى الطب النفسي الرسمي التابع للدولة الضربةَ القاضية بعد الكشف عن استخدامه على يد اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية في ذلك الوقت. وهو الأمر المعروف جدًّا اليوم، وشهد ضجة إعلامية ضخمة في إطار الدعاية الإعلامية خلال الحرب الباردة، وكان بمنزلة الصاعقة في ذلك الوقت، ليس فقط في أوساط المناضلين الشيوعيين. ويجب أيضًا القول إنه في عالم الطب الغربي للخمسينيات كان الطب النفسي السوفييتي مثلًا يحتذى، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يتردد جوزيف ورتيس (١٩٠٦–٢٠٠٨) — الطبيب والمحلل النفسي الذي حلله فرويد شخصيًّا — والذي يعد أحد رموز الطب النفسي الرسمي بالولايات المتحدة حيث أدخل إليه علاج ساكيل؛ أن يكتب عام ١٩٥٣: «يسير الطب النفسي السوفييتي على نمط بافلوف؛ فهو فسيولوجي وطبي وتجريبي، ويعتبر في الوقت ذاته اجتماعيًّا. ويتميز عن علم النفس السوفييتي بكونه تعليميًّا وعمليًّا وموجهًا لإنتاج نشاط صحي وخصب بين المواطنين السوفييتيين في المجتمع الاشتراكي. ولقد ساهم كلٌّ مِن الطب النفسي وعلم النفس السوفييتي في دعم الانهيار العميق للطب النفسي الغربي، خلف الملامح الاستنباطية والصوفية التي تدعو إلى إعادة التذكير بآراء فرويد ونقصه الأساسي في التجربة المادية وابتعاده عن الممارسة الحية.»66 وفي ذروة المكارثية، كانت هذه الآراء كفيلة بتحويل قائلها إلى التحقيق على يد لجنة داخل مجلس الشيوخ مكلفة بمراقبة أي محاولات للتسلل الشيوعي في التعليم. ودافع ورتيس عن نفسه بطريقة غامضة: «علمتني والدتي دائمًا أنه من غير اللائق أن أسأل أحدًا عن آرائه السياسية.»67 وفي غمرة الحماس، برر ورتيس طريقة الاحتجاز في الاتحاد السوفييتي، الذي تتولي مسئوليتَه لجنةٌ متخصصة تضم بالطبع طبيبين، منهم طبيب نفسي، ولكن يرأسها «مدير الهيئة الصحية بالمنطقة». وكان «لمحاكم الشعب، وهي بنية قانونية وقضائية في الاتحاد السوفييتي» «حريةُ تصرف واسعة لتأويل هذه المبادئ في الاتجاه الذي يناسب الظروف دون أي اعتبار لهدف القانون والمصلحة العامة أو الرسميات البسيطة للدليل.»
بعد عشرة أعوام من هذه التصريحات الفخورة، في الوقت الذي بدأت ممارسات الطب النفسي السوفييتي تغري نظيره الأمريكي، لدرجة أنه استوحى منها طرق العلاج السلوكي، ظهر في بريطانيا كتاب «بلوبوتل» (لاموش، ١٩٦٣)، الذي ينتقد بضراوة الحياة والنظام في الاتحاد السوفييتي بتوقيع من إيفان فاليري. كان في الحقيقة اسمًا مستعارًا فرضه الناشر، ولكنه كان معروفًا في الاتحاد السوفييتي بأنه لفاليري تارسيس، الكاتب والمترجم الذي أعلن بقوة معارضته للنظام. وبعد عامين من ظهور «بلوبوتل»، تم القبض على تارسيس واحتجز بمصحة كوشينكو للأمراض النفسية بموسكو. وعلِمَ أنتوني دي ميوس — محرر ومترجم «كتابات ساميزدات» والوسيط بين تارسيس وناشره البريطاني — سبب احتجازه في مصحة الأمراض العقلية: «قرأ أحدهم على نيكيتا خروشوف «لاموش»؛ حيث كتب تارسيس أن الثقافة بالنسبة للرجل الأعظم في الكرملين تقتصر على زراعة البطاطس والذرة. فاستشاط خروشوف غضبًا وأعلن أن تارسيس هذا لا بد من أن يكون مجنونًا. ولقد نفذ الشهود على المشهد كلامه حرفيًّا، وبعد بضعة أيام وجد تارسيس نفسه في مصحة الأمراض العقلية بموسكو، وظل هناك لستة أشهر.»68 بالطبع، يجب أن نتساءل حول صحة هذه القصة، «الجميلة بصورة مبالغ فيها».
فالاحتجاز النفسي للمعارضين ليس بالأمر الآمن، بما أن شهادة تارسيس في كتابه «الغرفة رقم ٧»69 (في إشارة واضحة إلى رواية تشيكوف «الغرفة رقم ٦») قد بلغت أقصى جنبات العالم. «كان العصابيون والفصاميون والمصابون بجنون العظمة والهوس والمكتئبون كلهم تتم معالجتهم باستخدام الأمينودين العلاج العام كزيت الخروع في «الغرفة رقم ٦» لتشيكوف.» وفجأة اكتشف الغرب في ذهول أنه يوجد معسكرات اعتقال نفسية للمعارضين.

«كانت رواية «القاعة رقم ٧» بمنزلة فُلْك نوح الذي وجدت فيه كافة أنواع الخليقة. وكانت الأنواع المذكورة في الرواية تنقسم أساسًا إلى ثلاثة: أولًا أصحاب محاولات الانتحار الفاشلة الذين يتم تصنيفهم كمجانين باعتبار أن من لا يكون سعيدًا بالفردوس الاشتراكي لا بد من أنه مجنون […] وكانت تتم معالجته على مدار شهور باستخدام الأمينودين، وأحيانًا لسنوات. كان البعض يعتاد عليه ويرفض التخلي عنه. كان بعضهم من ذوي المزاج المتشائم يقول: «ربما الوضع بالخارج أسوأ» […] أما المجموعة الثانية من حيث الأهمية، فكانت مجموعة «الأمريكيين» أو الأشخاص الذين حاولوا الاتصال بسفارة أجنبية أو بسائحين في العالم الحر. والأشجع بينهم هم الذين جاهروا برغبتهم في الهجرة إلى الخارج. وأخيرًا كانت هناك فئة الشباب دون أي تعريفات أكثر إيضاحًا، ويبدو أنهم مَن فشلوا في أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في مجتمعنا فرفضوا مبادئه. ربما لا يزالون لا يدرون ماذا يريدون، ولكنهم يعرفون بالتحديد ما لا يريدون […] لم يكن هناك في الواقع مرضى ولا أطباء، فقط سجانون مهمتهم حراسة المواطنين المتكدسين.»

ولا يمكن عزل حالة تارسيس؛ والدليل على ذلك قضية بوكوفسكي التي أثارت ضجة كبيرة. ولد فلاديمير بوكوفسكي عام ١٩٤٢، وتم إرساله من يونيو ١٩٦٣ وحتى فبراير ١٩٦٤ إلى مصحة الأمراض النفسية لقيامه بتنظيم لقاءات شعرية في وسط موسكو أسفل تمثال مايكوفسكي (الشاعر الثوري المحبط، فبعد إيمانه بتحرير الفرد، انتحر عام ١٩٣٠). عام ١٩٦٧، ألقي القبض ثانية على بوكوفسكي لدفاعه عن المعارضين. ثم أفرج عنه عام ١٩٧٠، وتمكن من إرسال مجموعة كتابات إلى الغرب يتحدث فيها عن المعاملة السيئة داخل المصحات النفسية، مطلِقًا حملة للرأي من الغرب إلى الشرق. وها هو يُعتقل ثانية. ونشر بالتعاون مع زميله في الزنزانة — طبيب نفسي — «دليل الطب النفسي للممرضين» و«مرض عقلي جديد في الاتحاد السوفييتي: المعارضة».70 في ديسمبر ١٩٧٦، أفرج عنه بالتبادل مع زعيم شيوعي قديم من شيلي مسجون في الغرب. ثم جاء واستقر في كامبريدج. وفي مواجهة الصحافة الغربية التي تهاجمه، أجاب: «لست من معسكر الرجعيين، ولست من معسكر الثوريين، أنا من معسكر الاعتقال.»
عام ١٩٧٥، أثناء عيد الإنسانية، أعلن بونافيه رفضه وتنديده بالاستخدام القمعي للطب النفسي بالاتحاد السوفييتي. (عام ١٩٤٩، كان من الموقعين «رغمًا عنه» على البيان الشيوعي «التحليل النفسي والأيديولوجيا الرجعية» — كان الاتحاد السوفييتي بعد انهيار الرايخ الثالث قد حرم التحليل النفسي.) أما ساس — أكثر من سار ضد التيار — فقد اعتقد أنه فيما يتعلق «باستخدام الطب النفسي»، لم يقدم الغرب دروسًا تُحتذى. فالفرق بين الاتحاد السوفييتي والعالم الغربي ليس إلا درجة استغلال الطب النفسي فقط. «لم نصل بعدُ إلى هذه الدرجة، ولكن في الشرق كما في الغرب، يكون الأطباء النفسيون عملاء للدولة.»71 على أي حال، انسحب الاتحاد السوفييتي عام ١٩٨٣ من الجمعية العالمية للطب النفسي.
بعد مرور عشرين عامًا، جاء دور الصين لتكون في موقع الاتهام من قبل الجمعية العالمية للطب النفسي، التي تظاهرت بأنها تفاجأت من وجود طرق استغلال الطب النفسي على الطريقة السوفييتية في الصين. إلا أن المنطق واحد، فيصبح التشخيص مباشرة سياسيًّا دون الالتفات للنواحي الطبية النفسية. وبدأ الحديث عن «الفصام السياسي»، ودوره في تماسك النظام.72 كانت المسألة كلها تتعلق — كما في الاتحاد السوفييتي سابقًا — بمعرفة النسبة المئوية لهؤلاء المجانين الجدد الذين يجب أن يكونوا موجودين. وأكثر من أي مكان في العالم، كان الطب النفسي يبدو بالطبع للنظام الصيني كطفل غير مرغوب فيه للطب. على الأقل هنا اتضح الأمر، على الرغم من أن العولمة الجارية ستكون عولمة للطب النفسي. ولكن يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت الضربات التي سددتها مناهضة الطب النفسي في الغرب لا تُظهر وجود هذا الطفل غير المرغوب فيه، الذي أصبح اليوم بالغًا بل ومسنًّا؛ ألا وهو تلك المؤسسة الضيقة والمكدسة التي تشبه الفنادق الإسبانية بالفعل؛ حيث لا يوجد شيء إلا ما يحمله الشخص معه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤