الفصل الخامس

تجزؤ الطب النفسي

غداة الحرب العالمية الثانية؛ أي قبل الهوجة الكبرى من مناهضة الطب النفسي، لم يكن من الممكن النظر إلى الجنون والتجاوب معه بطريقة الماضي؛ فقد تغيرت الكثير من الأشياء. ولم يكن الأمر يتعلق بوازع جديد لاحترام الإنسان بعد كثير من المعاناة، وإنما فكر جديد حول حريته وضميره. وعكف سارتر — بالتحديد في «الوجود والعدم» (١٩٤٣) — على إثبات أن الضمير هو مرادف للحرية. وفي إطار تصوره الصلد للحرية المطلقة في الحكم على الأشياء، يقول سارتر إنه وإن لم يكن كل شيء يعتمد علينا في الكون، فإننا ما زلنا مسئولين بالكامل. وعبر عن فكره بقوله: «نحن محكوم علينا بالحرية.» إنها الحرية الكاملة، ولكن في ذات الوقت المسئولية التي لا تنتهي.

كانت حرية الإنسان وحسه للعمل وأيضًا وحدته وزعزعة يقينياته (وبحثه عن ثوابت جديدة)؛ عواملَ لم تضع المرض العقلي (أو لم تُعِد وضعه إذا لم نصرَّ على تغافل العصور القديمة) وإنما الجنون في قلب تأملاته حول الكائن وحريته. وحلقاته النقاشية التي كان يعقدها منذ عام ١٩٥٣ في سانت آن والمدرسة العليا الطبيعية والكلية العملية للدراسات العليا ثم في السوربون، كان جاك لاكان ينتقد النظرية العضوية للجنون الذي لم يعد أكثر من مرض عقلي: «بعيدًا إذن عن كون الجنون عرضًا ملازمًا لضعف الإنسان، فإنه التعبير الافتراضي الدائم عن الثغرة المفتوحة في جوهره […] وبعيدًا عن كونه «إهانة» للحرية؛ فالجنون هو رفيقها الوفي، ويتبع خطاها بالضبط. وليس أن الكائن البشري لا يمكن فهمه من دون الجنون فحسب، بل إنه لن يكون كائنًا بشريًّا إن لم يحمل في داخله الجنون كحد لحريته.» ويختتم لاكان بهذه الدعابة: «ليس كل من يريد أن يصبح مجنونًا يتمكن من ذلك.»1

نهاية الحبس

بدا في البداية أن المصحة النفسية الفرنسية — على الرغم من الأحداث الرهيبة التي راح فيها كثيرون ضحية الموت جوعًا خلال الاحتلال الألماني — لا تزال تمتلك أملًا في مستقبل أفضل. بالطبع، لدى الجميع الرغبة في تغييره جذريًّا، حتى وإن لم تكن الألفاظ الجديدة للتغيير لا تقوم في النهاية إلا باسترجاع القديم: استخدام المصحة كمكان للشفاء تحت الاسم الجديد «العلاج النفسي المؤسسي»، ووضع تصور للمعمار (أحد أهم قضايا الطب العقلي القديم) يتناسب مع هذا الهدف والترويج للعلاج بالعمل تحت اسم المداواة بالعمل. إلا أن ثورة العلاجات البيولوجية وظهور التحليل النفسي كان لهما دورٌ في تعديل الطب النفسي بصورة كبيرة، كل هذا قبل إعصار مناهضة الطب النفسي.

في فرنسا، عادت نسبة دخول المصحات بسبب الأمراض النفسية إلى نموها التاريخي منذ عام ١٩٤٦، ولكنه لم يمكن تعويض النقص الهائل في العاملِين بسبب الحرب حتى عام ١٩٦٠. ويبدو لنا — في مفارقة اعتاد عليها تاريخ الجنون — أن المؤسسة هي من أوجدت هذه المهنة. فإذا كانت المصحات النفسية مزدحمة، فهذا لأنه ليس لدينا الكثير منها؛ ومن ثم يجب إنشاء مصحات أخرى. والأرقام تتحدث عن نفسها:2 ٧٠٥٠٠ مريض داخل المصحة عام ١٩١٦، ٩٨٠٠٠ عام ١٩٥٤ و١١٢٠٠٠ عام ١٩٦٢ … في هذا التاريخ، ازداد عدد المرضى الرجال بطريقة هائلة (بلغ ضِعف عدد النساء على الأقل)، دائمًا بسبب تأثير إدمان الخمور. ويجب أيضًا الإشارة إلى زيادة عدد النساء المسنات؛ وذلك لسبب ديموغرافي بسيط وهو طول مدة عمرهن، مما يجعلهن أرامل وقت إصابتهن بالخبل (يكون أزواجهن قد ماتوا قبل ذلك الوقت).

في عام ١٩٦٩، بلغ العدد ١١٩٠٠٠ مريض محتجز داخل المصحات النفسية (من أصل ١٦٠٠٠٠ حالة دخلت إلى المصحة) (أي ٠٫٢٥٪ من عدد السكان)، وفي هذا الوقت بدأت حالة من انخفاض الأعداد لم تتوقف حتى أيامنا هذه. وفي ذات الوقت انخفض مؤشر التكدس بصورة كبيرة (هناك مؤشر بالفعل للتكدس بمقارنة عدد المرضى المحتجزين بعدد «أسرَّة المرض»): ١٫١٥ عام ١٩٦٨ ليصبح ٠٫٩٥ عام ١٩٧٤. في هذا التاريخ، كان التقسيم بناء على نوع المريض والشريحة التشخيصية للمرض ويظهر في المقدمة حالات الفصام (٢٧٩٣٢) لتسبق بكثير التأخر العقلي (١٤٥٠٨) والهذيان المزمن (١٤١٠٦). ويليهم إدمان الخمور (١١٨٢٦) (٨٩٣٨ حالة لدى الرجال و٢٨٨٨ لدى النساء)، في حين أن الفئات السابقة أظهرت توازنًا أكثر بين الجنسين. في المقابل، يأتي إدمان الخمور في المركز الأول في حالات دخول المصحة: ٢٢٫٥٪، وبمقارنة هذا الرقم بنسبة المرضى المحتجزين بالمصحة لإدمان الخمور وهي ١٠٪، يتضح لنا سرعة خروج المرضى المصابين به.

من عام ١٩٥٢ وحتى ١٩٦٢، تضاعف عدد الأطباء النفسيين في فرنسا سبع مرات، على الرغم من أن السكان لم يزيدوا إلا بنسبة ٢٠٪. وكانت الحالة مشابهة في باقي الدول الغربية. وعادت مسألة تكلفة الصحة العقلية لتطرح من جديد. عام ١٩٧١ بمصحة بون سوفور يجب ألا يقل عدد العاملين عن ٧٧٩ (كل العاملين بمن فيهم ستة أطباء مديرون للخدمة واثنا عشر متدربًا) في مقابل ١١١٠ مرضى. كان المرضى النفسيون في فرنسا يمثلون في ذلك الوقت ٣٥٪ من عدد المرضى في المستشفيات العامة. وبالطبع، تكون تكلفة الإقامة لأسباب نفسية أكبر خمس مرات منها عن تكلفة يوم في غرفة الإنعاش، إلا إذا مكث هذا الشخص في غرفة الإنعاش لمدة عام، بل عامين أو ثلاثة. باختصار، إنه حتى في ظل الضمان الاجتماعي، لا يزال الطب النفسي مكلفًا للغاية. وبغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، أصبح من اللازم تقليل عدد المرضى الداخلين وعدد أيام الاحتجاز (ولم تعد فكرة الإقامة لسنوات مطروحة!) أصبحت تكلفة اليوم هي الكلمة السحرية التي تتعلق كلها بالمصحة، ولكن يفوقها اتجاه معين للتقسيم يستقر ببطء. وساعدت هذه الأداة الرسمية للقياس على الأقل في ملاحظة أن الاحتجاز في المصحة للإصابات الخطيرة هو الأكثر تكلفة.3
منذ عام ١٩٥٢، قامت لجنة خبراء في الصحة العقلية تابعة لمنظمة الصحة العالمية بصياغة مبادئ جديدة تحكم بنية وعمل المصحات النفسية. ولقد أشارت هذه اللجنة تحديدًا إلى «مدى إفادة كون هذه المصحات يغمرها طابع المجتمعات العلاجية.» وبعيدًا عن الكلمات — التي لا تثبت شيئًا في مجالٍ توالت فيه التصريحات عن حسن النية دون انقطاع منذ عام ١٧٨٥ — كان ما تغير بالفعل أنه منذ الخمسينيات أصبحت المصحة تعد حلقة هامة ولكن مؤقتة في سلسلة العلاج. أصبحت المؤسسات الضخمة والاحتجازات الطويلة سيئة السمعة (كهوف الثعابين). لم تختفِ المصحة النفسية، ولكن أصبحت تعد مركزًا علاجيًّا انتقاليًّا: «من بين كل الحلول، تعد الإقامة الطويلة داخل المصحة هي الأكثر تكلفة. وتنطوي ضمنيًّا على رفض الجماعة نهائيًّا للفرد المريض، وتفرض على العاملين عملًا لا أمل من ورائه في أي نتائج علاجية، بل وتحكم على المريض بتفاقم حالته.»4

ولكن ما هي باقي الحلقات في سلسلة العلاج؟ في البداية يأتي العلاج في المكان (العلاج المتجول)، أو في الأسرة، ثم تأتي العيادة النفسية ومركز العلاج المبكر (به أسرَّة)، ولكن يسبقه وحدة العلاج النفسي داخل أي مستشفًى «عام»، ثم مصحة النهار (يبيت المرضى ويقضون نهاية الأسبوع في منازلهم). وبعد تدخل كل هذه الخطوات المتنوعة، يأتي دور المصحة النفسية إذا تطلب الأمر. تقوم الفكرة على أن الاستشارة المبكرة تتوقع، بل وتقي إذا أمكن، من الاحتجاز التقليدي. ويوفر فريق العمل النفسي (أطباء نفسيون وممرضون متخصصون وعلماء نفس إكلينيكيون ومعالجون بالعمل وأخصائيون اجتماعيون ومربُّون ومتطوعون، وغيرهم) استمرار الرعاية في «جو مشجع نفسيًّا.» فيجب أن يستشعر المريض الأمان، وأن يسعد بالحميمية النسبية بفضل «وحدات الإقامة» (لا يعجز الطب النفسي أبدًا عن اختراع تسميات جديدة) وهي تضم من عشرين إلى ثلاثين سريرًا، وأحيانًا أقل في حالات المرضى الصعبين الذين يعانون في توجيههم. ويجب أن تُحترم تلك النسبة من قِبل الوحدة النفسية داخل المستشفى العام، وأيضًا من قِبل المصحة النفسية المتخصصة التي يجب ألا تتجاوز الثلاثمائة مريض (هناك فكرة لجعل المكان يشبه القرية). لم يعد هناك مهجع، بل غرف بها أربعة أو خمسة أو ستة أسرَّة، وبها مكان مخصص للمريض ليزينه بحسب رغبته، ودولاب خاص به يُغلق بمفتاح.

ولقد أتاح اختفاء التقسيم إلى مناطق للتصنيف القيام بتوزيعات جديدة كانت كثيرًا ما تخطئ قبلًا، ولا سيما في مجالات رعاية الأطفال وطب الشيخوخة. وتساهم المداواة بالعمل والاحتفالات الصغيرة التي تقام في إعادة إعداد المرضى للحياة الاجتماعية من جديد. وعند الخروج من هذه المصحة النفسية الجديدة، تكون هناك حلقات أخرى من العلاج لتدعم من اندماج المريض ثانية في الحياة الفعلية: دور للرعاية اللاحقة داخل المدن، وهي تشبه المنازل الخاصة أو الفنادق الصغيرة إلى جانب ورش عمل مؤمَّنة، ومجموعات عمل زراعية وصناعية تضم ما بين عشرين وخمسين مريضًا خارج المصحة، وتهدف أيضًا إلى رعاية مرضى الفصام المزمنين.

تطلب تنفيذ هذه البنية الجديدة للمصحات — التي ظهرت المطالبة بها منذ الخمسينيات وأصبحت في الإمكان بسبب ظهور بعض أنماطٍ للعلاج انتقدها الجميع، وإن ظلوا يعملون بها — عشرين عامًا. في فرنسا، دائمًا ما يطول الوقت بين الفكرة والتنفيذ. فعلى أرض الواقع، نجد في الأغلب مصحات نفسية ضخمة يجب تحويلها بخطط ومشروعات متباعدة في معظم الأحيان إلى نموذج المستشفى القرية، الذي يحلم به ما تبقى من الأطباء النفسيين المعماريين. وخلال فترة طويلة — على الرغم من الإصلاحات المدونة على الورق — استمر ما يقرب من ١٠٠ ألف مريض عقليًّا يعيشون في مصحات الأمراض العقلية التي ترجع إلى القرن التاسع عشر.

بدأ تنفيذ تفكيك «مركزية المصحات» رسميًّا بمنشور الخامس عشر من مارس ١٩٦٠ الذي أنشأ «القطاع»، وهو تقسيم جغرافي سكاني مكون من ٧٠ ألف مواطن، وسرعان ما أسماه مناهضو الطب النفسي «فليسياتري». نجد فيه كافة المبادئ المنصوص عليها، وبموجبها يجب أن تأخذ الأبنية خارج المصحة مكانًا أكبر. كان الهدف ثلاثيًّا: العلاج في مرحلة مبكرة وعدم فصل المريض عن أسرته وبيئته إلا في أضيق الحدود وتوفير رعاية لاحقة لتجنب الاحتجاز مرة ثانية. ويتولى الفريق النفسي والطبي الاجتماعي في أي قطاع مسئولية كافة الأبنية التابعة له. ونتذكر حينها أن إدوارد تولوز عام ١٩٢٧ قد قام بتنظيم خدمة الوقاية الصحية العقلية في منطقة السين: الحالات البسيطة في العيادة، والمرضى ذوو الإصابات البالغة في المصحة، والخارجون يخضعون لمتابعة طبية. ولكن هذه المرة، كانت حركة الإصلاح تستهدف فرنسا برمتها، تلك الحركة التي غيرت جذريًّا المؤسسة الطبية النفسية. وأقر قانون الحادي والثلاثين من ديسمبر ١٩٨٥ مبدأ التقسيم إلى قطاعات نهائيًّا، معدلًا بذلك قانون ١٨٣٨؛ حيث لم يعد يلزم الأقسام والمناطق بأن يكون لديها مؤسسة عامة (أو خاصة لها مهمة عامة). وجاء مرسوم التطبيق في الرابع عشر من مارس ١٩٨٦ ليميز بين قطاعات الطب النفسي العام وقطاعات الطب النفسي للأطفال والشباب والطب النفسي في المؤسسات العقابية.

استغرقت عملية تطبيق التقسيم إلى قطاعات طويلًا، وكان السبب الأساسي هو التمويل. في البداية، كان الضمان الاجتماعي لا يسدد إلا تكاليف الرعاية في المصحة أما الباقي فتسدده المنطقة أو الدولة. كما توجب أيضًا تعيين فريق عمل من الأطباء النفسيين والتعامل مع الرفض المتكرر للعاملين الفعليين التنقل إلى مكان آخر، إلا في حالة ترك المصحة للعمل في أحد تلك الأبنية القريبة من القطاع. عام ١٩٨١، استشعر اثنان من الباحثين بالمعهد القومي للدراسات الإحصائية القلق: «يرجع فشل سياسة التقسيم لقطاعات إلى التشدد الكبير من قِبل المؤسسات التي تعطي الطب النفسي التطبيقي وضعًا متأخرًا بشدة عن باقي المعارف النظرية. ويرجع هذا التشدد إلى المباني القائمة نفسها وإلى البيروقراطية الإدارية والاتجاه المحافظ على التقسيمات الاجتماعية المهنية المتورطة في الموضوع. أو ربما لم يتم التوصل إلى وسائل مادية لتنفيذ التغيير المطلوب.»5
في النهاية، تم تنفيذ خطة التقسيم بنجاح رغم كل شيء. وشهدت طريقة استقبال المرضى وإدخالهم المصحة ثورة عميقة مع تعميم الدخول الحر للمصحات؛ أي بموافقة من المريض الذي أصبح له الآن نفس حقوق أي مريض في مستشفًى عام. فمن حقه أن يرفض أي علاج أو أن يغادر الوحدة. تأسس الدخول الحر للمصحات منذ عام ١٩٣٧، ولكنه بدأ في النمو بعد الحرب العالمية الثانية. عام ١٩٨٠، أصبح يمثل ٥٨٫٥٪ من نسبة دخول المصحة (٢٦٫٨٪ عام ١٩٧١). خلال عشرين عامًا — من ١٩٦٥ حتى ١٩٨٤ — بلغ عدد خدمات الطب النفسي الملحقة بالمستشفيات العامة ١٣٠ خدمة (٧٩ عام ١٩٧٥).6 وانخفضت بنسبة ٢٨٪ حالات الإقامة الكاملة داخل المراكز العلاجية المتخصصة، أو في المصحات النفسية الخاصة التي تمارس عمل المستشفيات العامة وفي خدمات الطب النفسي داخل المستشفيات العامة، كما انخفض متوسط الإقامة من أحد عشر شهرًا عام ١٩٦٥ حتى ثلاثة أشهر عام ١٩٨٤. إلا أن هذا لم يمر دائمًا دون زيادة حالات الدخول الثاني للمصحة (لم نعد نقول انتكاسات): ٢٨١٪ بين عامي ١٩٦٥ و١٩٨٤، بل أيضًا ونسبة دخول المصحة: ١٥٢٪. وتسمى هذه القفزة الكمية الهائلة في حالات الدخول الثاني للمصحة في الولايات المتحدة «ظاهرة الباب الدوار». وبالطبع يجعل هذا الأمر القول بانخفاض نسبة دخول المصحات أمرًا نسبيًّا، يشهد تغيرات ولكنه لا يختفي. كانت المراكز العلاجية المتخصصة هي التي تجتذب أكبر قدر من تمويل القطاع. أما نسبة الوفيات، التي كانت الشبح الأكبر للطب العقلي، فلم تكن تزيد عن ١٫٥٧٪ عام ١٩٨٤، في حين أنها كانت قد شهدت ارتفاعًا عام ١٩٦٥ حين بلغت ٣٫٤٢٪ (وهنا نتذكر نسبة الوفيات التي كانت تصل أحيانًا إلى خمسين بالمائة خلال العصر الذهبي لمصحة الأمراض العقلية).

لم يكن قانون ١٨٣٨ القديم ليستمر وسط هذا الزخم من الإصلاحات. فاستبدل به قانون السابع والعشرين من يونيو ١٩٩٠، الذي ينظم شروط دخول المصحة لمرضى الاعتلال العقلي وحماية حقوقهم. وفي القانون تم التمييز بوضوح بين الدخول الحر للمصحات والدخول «دون موافقة المريض»؛ أي بناء على طلب طرف ثالث (أي «الاحتجاز الطوعي» القديم) وبين دخول المصحة بناء على طلب جهة رسمية، وهو لا يختلف كثيرًا عن الاحتجاز الإجباري الذي نص عليه قانون ١٨٣٨: في تلك الحالات يجب أن يكون هناك قرار من المحافظ أو شهادة طبية من طبيب المصحة (موضحة في تقارير يومية، ثم كل أسبوعين ثم كل شهر). كما تم تعزيز وسائل المراقبة والعقاب في يد الجهاز الطبي، أكثر من التي في يد المحافظ، حتى وإن كانت هناك في كل قطاع «لجنة من المحافظة للإشراف على حالات دخول المصحة لأغراض طبية نفسية مكلَّفة بفحص أوضاع وحالات الأشخاص الداخلين للمصحة بسبب اضطرابات عقلية؛ لضمان احترام الحريات الفردية وكرامة الإنسان.» ومن المفترض أن تلعب اللجنة دورًا هامًّا في حالات إدخال مرضى للمصحة دون موافقتهم؛ ولذلك يجب إبلاغها فورًا بمثل هذه الحالات. كما يجب عليها أيضًا التحقق من كافة البيانات المدونة في السجلات القانونية وزيارة المصحات وتلقي الشكاوى من المرضى … هذا مثير! ولعل أحد المتشائمين يقول إن الورق لا يدل على شيء.

من المرض العقلي إلى اضطرابات الشخصية

قبل تفكيكه، كان للمصحة النفسية «الكاملة» بريق كبير في العقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية، في وقت ظهور طب نفسي جديد يرغب في الابتعاد عن الطب العقلي (كما رأينا مع إي وبونافيه ولوجيان). من الآن فصاعدًا أصبح الاهتمام يدور حول المصحة. في عالم الطب النفسي الفرنسي أولًا، كان التيار الماركسي يغلب على تيار فرويد الذي اعتُبر أنه يشجع على الفردية ويحمل طابعًا برجوازيًّا. أصبح الأمر يدور أكثر حول الطب النفسي الاجتماعي. وبدأ الحديث عن «العلاج الاجتماعي» (محاولة للتشجيع على الاندماج والتآلف مع قيود الحياة داخل المجتمع)؛ ونتيجة لذلك، أصبحنا نتحدث عن الأصل الاجتماعي للاضطرابات العقلية. درس لويس لوجيان «العصاب الذي يصيب العاملين بالتليفونات» (باستخدام ملاحظات في وقت الدليل الموحد)، أو أيضًا «الأعراض النفسية المرضية التي قد تصيب الخادمات اللاتي يقمن بكل الأعمال، ويعِشْن في وضع غريب في عائلة ليست عائلتهن ويعتمدن عليها تمامًا دون أي تعويض كالأطفال، في حين أنه يتوجب عليهن إطعام العائلة، وهي المهمة التي من المفترض أن يتولاها الآباء.»7 ويعيد كتاب «عصر المناضلين» (جاك هوشمان) تعريف العلاج المعنوي الجديد الذي اتخذ اسم «العلاج النفسي المؤسسي». ولقد ظهر المصطلح للمرة الأولى عام ١٩٥٢ بناء على اقتراح من جورج دوميزن (١٩١٢–١٩٧٩). ويعد هذا الطبيب النفسي — كبير الأطباء بمستشفى البيت الأبيض من عام ١٩٥١ حتى ١٩٥٢ قبل تعيينه سكرتيرًا عامًّا لنقابة الأطباء النفسيين لاستقبال حالات الاحتجاز بمصحة سانت آن — أحدَ أهم الفاعلين في حركة الإصلاح الفرنسية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد رسالة مميزة عام ١٩٣٥ كرسها لدراسة وضع العاملين من الممرضين في مصحات الأمراض العقلية، أنشأ عام ١٩٤٩ — بالتعاون مع جيرمان لوجيان — دورات التدريب والتأهيل الأولى للممرضين في مجال الطب النفسي. وقد انخرط أحد المتدربين معه — فيليب بوميل — عام ١٩٦٠ في مغامرةِ أول مركز طبي للصحة العقلية، في التقسيم الثالث عشر بباريس على هيئة جمعية تطوعية طبقًا لقانون ١٩٠١.

كانت هذه الحركة المفعمة بالحيوية (بل إنه كانت هناك مجلة للعلاج النفسي المؤسسي) مليئة بالآمال التي فجرتها حركة التحرير، وكانت تهدف إلى «استخدام الحياة وسط الجماعة لمساعدة المرضى على استعادة العلاقات الاجتماعية، والتواصل الفعال مع الواقع الذي حرمهم منه المرض والعزلة» (جاك هوشمان). أُخذ الاضطراب الذي يظهر في المحيط الاجتماعي في الاعتبار أكثر من الذي يؤثر على الحياة النفسية للمريض فحسب. ولهذا الغرض، كان لا بد من تغيير العلاقة بين المريض والمعالج داخل المصحات النفسية، أو بالأحرى «وحدة العلاج» كلها «بفريقها» لما هو أبعد من جدران المصحة العقلية عن طريق مضاعفة لقاءات المعالِجين بعضهم ببعض، ولقاءات المعالجين بالمرضى. في البداية، تعددت الطرق المتبعة واختلفت بين بريطانيا؛ حيث انحصر التركيز في النموذج النفسي الاجتماعي لإدارة النزاعات بين فريق العمل (ماكسويل جونز)، وفرنسا؛ حيث فرض الطب النفسي ذاته كأداة علاجية جماعية في الستينيات، ومن ثم أصبح حتى للممرضين وظيفة نفسية علاجية. إلا أنه في البداية في فرنسا، لم يقترب أحد من المصحة، فكان الهدف الأول هو الاستعاضة عن «صحة العزل» المفضلة لدى إسكيرول ﺑ «صحة الحرية».

بلغت هذه الثورة العميقة في طريقة النظر وعلاج الجنون حتى التشكيك في مفهوم المرض العقلي ذاته، بكل ما يحمله المصطلح من تعبيرات مطلقة. وفي هذا الصدد، لعب النموذج الأمريكي في فترة ما بين الحربين — الذي اعتمدته أوروبا منذ عام ١٩٤٥ — دورًا هامًّا: النظرية السلوكية في البداية، والتي تتمحور حول طريقة تفاعل المريض وردِّ فعله على موقف معين. وهكذا، أصبحنا نتحدث عن «ردود فعل فصامية» أكثر من الحديث عن الفصام نفسه. ثم تلته نظرية التعددية بين الطب النفسي والأنثروبولوجيا، والتي تهدف إلى دراسة التجربة الفردية اعتمادًا على الأبنية الاجتماعية، ولا سيما العائلية (إيه كاردنيه). ويتكامل في هذا الطبُّ النفسي الاجتماعي والتحليلُ النفسي والطبُّ النفسي؛ لدرجة أنها أصبحت تشكل منهجًا واحدًا كما في الولايات المتحدة الأمريكية.

بصورة أقل براجماتية، لم تكن فرنسا تنوي أن تحرم نفسها من متعة مناقشة الأفكار كما يبين لنا عمل هنري إي، الذي أدرك خلال عقدِ ما بعد الحرب العالمية الثانية خطرَ تفكك الطب النفسي. واعترض هذا الطبيب «غير المنحاز» على جاك لاكان — المدافع عن أطروحة الأصل النفسي للجنون (خطاب حول السببية النفسية) — وأيضًا على العديد من الأطباء النفسيين في ذلك العصر، الذين يؤيدون النظريات القائلة بالأصل النفسي للمرض العقلي. ويرد إي على لاكان بأنه لا يمكن خلط العقل والجنون، ويرد على الآخرين بأن مفهوم الاندماج في مجموعة لا يمكن أن يكون معيارًا للصحة العقلية.8 إلا أن إي يجمع هذه الإسهامات في طريقة تجميعية لتكامل وتفكك الحياة النفسية. فهو وريث نظريات أستاذه هنري كلود (١٨٦٩–١٩٤٥)، الذي كان يحمل هو ذاته صبغة نظريات علم الأعصاب لجاكسون، والتي تقول بأن الأعراض المرضية تظهر بتفكك المراكز «التي تتحكم فيها وتنظم وظائف المخ بنوع من التجانس.» وبالطريقة نفسها، وضع إي نظرية نفسية مرضية تؤدي إلى اعتبار المرض العقلي كدرجات مختلفة لتفكك النشاط النفسي تخضع لعملية عضوية مشابهة للنوم الذي يطلق العِنان للأحلام. وتقدم نظرية «الحركة العضوية» — ظهرت لأول مرة عام ١٩٣٦ وتطورت على مدار عقود ما بعد الحرب — رؤيةً «ديناميكية وجدلية للعلاقات بين ما هو نفسي وما هو معنوي»؛ مما يفترض أن «أي صورة نفسية مرضية تقتضي لتكوينها اضطرابًا عضويًّا أساسيًّا يصحبه بالضرورة بنية نفسية معينة تمثل قاعدته الوجودية كما في علم الظواهر.»9 وتعد بالفعل هذه المحاولة لتجاوز التناقض بين الأصل النفسي والأصل العضوي للمرض العقلي «أيديولوجية صراع أكثر منها مذهبًا علميًّا. فهي تتيح تبرير استقلالية الطب النفسي كعلم التفككات العامة والوظيفية للوعي، بالمقارنة مع علم الأعصاب الذي هو علم التفككات الموضعية نتيجة إصابة. كما تحدد أيضًا مجال الأطباء النفسيين، الذي هو المرض ذاته — الذي يختلف بوضوح عن التغيرات البسيطة في المعايير — لتبعده بذلك عن أطماع علماء النفس وعلماء الاجتماع والمحللين النفسيين غير الأطباء.»10
عام ١٩٦٧، في «الكتاب الأبيض للطب النفسي الفرنسي» — الذي يختتم العديد من الجلسات السنوية للتفكير لمجموعة تطوير الطب النفسي، والتي تدور حول مستقبل الطب النفسي — أعلن إي الذي كان يترأس هذه الجلسات وقف النزاع: «يميل تيار عارم إلى الفصل العملي بين هذين المجالين الطبيين (الطب النفسي وعلم الأعصاب).»11 وبالفعل، عام ١٩٦٨، انفصل الطب النفسي عن علم الأعصاب، وأصبح يمتلك كراسي أستاذية منفصلة في التعليم الجامعي. كان ذلك بسبب ظهور نظريات «الحركة العضوية»، ومن الآن أصبح مجال الطب النفسي برمته موضعًا للتطور. وتشير إليزابيث رودينسكو أن الطب النفسي الديناميكي (اكتشاف اللاوعي واستخدامه في العلاج)12 وأيضًا العلاج النفسي المؤسسي، شهدا تراجعًا بسبب تسارع عجلة التاريخ الذي أتى بحركةِ مناهضةِ الطب النفسي (التي كانت أكثر من مجرد «تمرد طلابي»). ولكن ألا يستبقُ ما تسميه رودينسكو «الانحدار الكبير للطب النفسي الديناميكي» الانحدار الكبير للطب النفسي بأكمله؟ وبالحديث عن هذا الانحدار، فإن مناهضة الطب النفسي ذاتها سرعان ما تراجعت، بل وأُجبرت على التخلي عن مبالغاتها لتحتفظ في النهاية (بل لتمتلك) الإصلاحات التي بدأت غداة الحرب العالمية الثانية (القطاع، الفريق المعالج … إلخ). في نهاية السبعينيات — في حين أن مناهضة الطب النفسي لم تستقر في أي مكان بصورة مستمرة (إلا في إيطاليا، ولكن في النهاية اقتصر الأمر على التقسيم إلى قطاعات الذي تابعنا حدوده) — كان وضع المرض العقلي داخل الطب غامضًا بطريقة لم يسبق لها مثيل؛ وذلك نتيجة لذاتيته. «ومن هنا تظهر القضية التشخيصية المؤلمة التي تطرح على مدار تاريخ الطب النفسي كله: كيف نجعل الذاتي موضوعيًّا؟»13
ولكن لم ينتهِ التوتر بين الطريقة النفسية الديناميكية والطريقة البيولوجية، بل وتدخل العامل الاقتصادي في الصراع. في الولايات المتحدة الأمريكية — بل وفي كل العالم الغربي بفروق طفيفة في الوقت — تدخلت التأمينات في الرعاية الصحية، مرجحة كفة العلاجات البيولوجية الأسرع (ولكن الأقل فعالية في النهاية إذا ما استخدمت بمفردها) على حساب طرق العلاج النفسية الديناميكية. عام ١٩٨٠، انقطعت القروض الفيدرالية التي تمول الطب النفسي، بينما توقف تسديد نفقات الرعاية النفسية طويلة المدى. لم يعد يؤخذ في الاعتبار إلا العلاج الكيميائي والعلاجات السلوكية التي تقوم على أعراض واضحة.14 ولذلك، كانت هناك حاجة إلى نظام تصنيف جديد، يأخذ في الحسبان عملية «إعادة المعالجة» (لم يعد أحد يتحدث عن «إبطال العلاج»). وبطريقة ما، يمكننا القول بأن وضع تصنيفات متتالية ابتداء من عام ١٩٥٢ (الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي) DSM يعد مناهضة للطب النفسي في حد ذاته. ألغيت حالات العصاب، بالإضافة إلى أي إشارةٍ لأي آلية نفسية مرضية تعتبر شديدة النظرية. فتلك الطريقة لتشخيص المرض العقلي إنما هي وصفية بالكامل، وقد تخلت عن نموذج التحليل النفسي القائل بأن العرض إنما هو التعبير الرمزي عن اضطراب في اللاوعي، لصالح نموذج طبي بيولوجي غير نظري. لم يعد هناك مجال للتأويل، ولا للعرض أي اعتبار. وتم استبدال مفهوم المرض بمفهوم الاضطراب أو الخلل.
وكان يجب أن يصطدم هذا التصنيف الجديد — الذي فرض منذ عام ١٩٨٠ في العالم الغربي مع نظام «الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي» — مع علم تصنيف الأمراض التقليدي، إلا أن هذا العلم كان في حالة يرثى لها. فكتب بيير جيرو (١٨٨٢–١٩٧٤) حينما كان في سانت آن: «إن علم تصنيف الأمراض يشبه الموضة في عدم ثباته […] فمرة واحدة نقدم تصنيفًا لمئات الأمراض، وبعد بضعة أعوام لم يعد يتبقى منها إلا مرض يسمى الانحطاط العقلي والفصام.» ومن ثم، لم يعد أحد — خارج فرنسا — يرغب في فئات تشخيصية يستخدمها المعهد القومي للصحة والأبحاث الطبية «لعمل إحصاءات للطب النفسي»، والتي زادت منذ عام ١٩٦٨ من خمس عشرة إلى عشرين فئة:
  • (١)

    ذهان هوسي اكتئابي.

  • (٢)

    فصام مزمن.

  • (٣)

    هذيان مزمن.

  • (٤)

    ذهان مصحوب بهذيان حاد وحالات اضطراب.

  • (٥)

    ذهان بسبب إدمان الخمور.

  • (٦)

    اضطرابات عقلية بسبب الصرع.

  • (٧)

    حالات ضعف بسبب الخرف وخبل ما قبل الشيخوخة.

  • (٨)

    اضطرابات عقلية عرضية نتيجة إصابة مخية غير المذكورة.

  • (٩)

    اضطرابات عقلية عرضية نتيجة إصابة بدنية عامة غير المذكورة.

  • (١٠)

    عصاب وحالات عصابية.

  • (١١)

    شخصيات وطباع مرضية. انحرافات وإدمان (غير إدمان الخمور).

  • (١٢)

    إدمان الخمور (غير ذهان إدمان الخمور).

  • (١٣)

    حالات اكتئاب غير ذهانية.

  • (١٤)

    اضطرابات نفس-جسمية، واضطرابات جسمية شبه نفسية الأصل.

  • (١٥)

    اضطرابات منعزلة غير مصنفة.

  • (١٦)

    المستوى الأدنى.

  • (١٧)

    الخبل العقلي.

  • (١٨)

    التأخر العقلي المتوسط (البله).

  • (١٩)

    التأخر العقلي العنيف (العته).

  • (٢٠)

    حالات غير مصنفة في الفئات السابقة.

ويضم هذا التصنيف — الذي لا يتضمن فئات خاصة لاضطرابات الطفولة (والتي يجب أن توزع على كافة الفئات التشخيصية الأخرى) — رقمًا مرتبطًا ثالثًا تفصل فيه أشكال أو روابط (مثلًا: ٢-٢ فصام مزمن في صورة شلل).

جاء الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي في الوقت المناسب إذن؛ حيث شكَّل لغة مشتركة طالما تمناها الأطباء النفسيون، بل أيضًا كافة الجهات المؤسسية والاقتصادية وشركات التأمين، وممثلو الصناعات الدوائية الذين أبدوا اهتمامًا كبيرًا، لدرجة تقديم دعم مالي قوي لكافة الأعمال التي تتعلق بالأدلة التشخيصية والإحصائية للمرض العقلي المتتابعة. وفي إطار طريقةٍ لا تنظر إلا إلى العَرَض أو الخلل السلوكي، بل المزاجي، دون التورط في البحث عن أسباب نشوء المرض المختلَف عليها، بدت سوق الأدوية النفسية واعدةً أكثر من أي وقت سابق، بل وعلى المستوى العالمي، تمامًا مثل الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي. فبلغ رقم الأعمال للأدوية المضادة للاكتئاب وحدها أكثر من عشرين مليار دولار سنويًّا.

ظهر الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الرابع عام ١٩٩٤ (وسرعان ما حل محله الخامس الذي لم يقدم إلا تغييرات تتعلق بالمجتمع الأمريكي فحسب). وتم الاحتفاظ بأربعة معايير:
  • الخواص الوصفية للعرض المستهدف.

  • تواتره ومدته.

  • السن التي ظهر فيها العرض.

  • مقاييس الإقصاء المستندة إلى وجود تشخيصات أخرى.

ووضع أربعمائة وعشرة «اضطرابات» نفسية (لم يكن هناك سوى مائتين وثلاثين في الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الثالث) على خمسة محاور كما يلي:
  • المحور الأول: الاضطرابات الإكلينيكية.

  • المحور الثاني: اضطرابات الشخصية والتأخر العقلي.

  • المحور الثالث: الإصابات الطبية العامة.

  • المحور الرابع: الاضطرابات النفسية الاجتماعية والبيئية (أي شيء خطير حدث في حياة الفرد: عوامل مؤثرة، أو صدمات، إلخ).

  • المحور الخامس: التقييم العام وطريقة تفاعل المريض وتأقلمه بشكل عام.

ويميز المحور الأول بين:
  • اضطرابات تشخص عادة في فترة الطفولة المبكرة أو الطفولة أو المراهقة.

  • هذيان وخبل واضطرابات فقدان الذاكرة وباقي الاضطرابات المعرفية.

  • اضطرابات عقلية ناتجة عن إصابة طبية عامة.

  • اضطرابات متعلقة بمادة معينة (الكحول والنيكوتين والمخدرات والأدوية).

  • فصام أو أي اضطرابات ذهانية.

  • اضطرابات المزاج (الاكتئاب والاكتئاب ثنائي القطبية).

  • اضطرابات القلق (الخوف والمرض والوساوس القهرية … إلخ).

  • اضطرابات لها شكل بدني (منها الوسواس).

  • اضطرابات وهمية.

  • اضطرابات مفككة (منها تفكك الشخصية).

  • اضطرابات جنسية واضطرابات الهوية الجنسية (لم تعد المثلية الجنسية موجودة في التصنيف التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الثالث).

  • اضطرابات السلوكيات الغذائية.

  • اضطرابات النوم.

  • اضطرابات التحكم في البواعث غير المصنفة (هوس إشعال الحرائق وهوس السرقة واللعب المرضي).

  • اضطرابات التكيف.

أما المحور الثاني، فهو يميز بين الشخصيات التالية: المريضة بجنون العظمة أو الميالة للفصام أو الفصامية أو الحدية أو الهستيرية أو النرجسية أو المتجنبة أو الاعتمادية أو غير الاجتماعية أو المصابة بالوسواس القهري.

•••

وسرعان ما اتخذ هذا «الدليل الدولي» (وهو كتاب ضخم يهدف لإرشاد الممارس الذي يقع في الحيرة) صفة «القانون»؛ مما يعكس الهيمنة الأمريكية منذ عام ١٩٤٥. عام ١٩٨٣، أشاد رئيس الجمعية العالمية للطب النفسي في طبعة الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الثالث «كونه وثيقة حقيقية للطب النفسي»، تمثل «تاريخًا هامًّا في تطور الطب النفسي تضاهي ظهور الطبعة السادسة من وثيقة كرابلين عام ١٨٩٦، التي حددت الأطر الرئيسة لمفاهيم الطب النفسي، والتي لا تزال تسيطر حتى الآن على تخصصنا.» من جانبه، رأى بول بيرشيري في الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي لغةً مشتركة كانت ضرورية بسبب الفوضى التي شهدها مجال الطب النفسي. فهؤلاء هم الذين يرون في الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي لغة مشتركة لدى جميع الإكلينيكيين لا غنى عنها لاتخاذ إجراءات الصحة العامة، مضفيةً على المجال نظامًا يقاوم أي محاولات لجعله موضوعيًّا.

ولكن من ينتقدون الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي هم الأكثر عددًا؛ وذلك لأن الإحصائية حلت محل الطب الإكلينيكي والتشخيص، وأصبحت هي ذاتها تشخيصًا يمنع أي تفكير حول الجانب النفسي الباثولوجي. فلم يعد الشخص هو ما يتم تقييمه، بل اضطرابه فقط: «ألم يعد الشخص في الدليل خاضعًا للعلم، وكأن الجانب البشري تقلص إلى مجرد ظاهرة وقتية؟» ويشكك موريس كوركوس الذي طرح هذا السؤال بشأن البرهنة غير النظرية التي هي الدليل الرابع، ويقول: «أليس ذلك لأنه من الصعب تصور أن واضعي هذا الدليل ليسوا مثل باقي البشر كائنات نظرية واجتماعية؛ أي إنهم لا يستطيعون الوجود بمفردهم، بل يعيشون في وسط بيئة ثقافية وأيديولوجية وأسطورية تخضع لقوانين معينة، وأن إدراكهم ثم تعبيرهم عن الواقع إنما هو تأويل وترجمة لهذا الواقع؟»15 ويسري الأمر على الصور التي للمجتمع الأمريكي «الصحيحة سياسيًّا»، والتي تُعنى في المقابل بتحديد الكائن الصحي السليم المتكيف.
«ويدعو هذا النداء إلى الخروج عن الإطار النظري الاعتقادي أو أسطورة العلم المحض الذي يتحدث عن فرد بحت […] ويشكل هذا الوهم تراجعًا خطيرًا في اتجاه علم الصحة في القرن التاسع عشر. فسيأتي يوم ندرس فيه مجموعة الأدلة التشخيصية والإحصائية للمرض العقلي كنموذج تاريخي لإعادة تمثيل المعتقدات السائدة في عصر ما. وسيعتبر الدليل في حد ذاته قاموسًا للأطباء النفسيين المتجولين، أو يعتمده مجموعة من التقليديين مرجعًا ثابتًا يهتدي به التائهون الذين يتوقون إلى معيار للطبيعية، مقدمًا صورة كاملة للمجالات العقلية خادعة كحدود البحر على الكروت البريدية التي بسبب كونها شديدة التساوي والتعديل، تعطي تقييمًا براجماتيًّا للنفس يفسر الوهم واللاوعي والدوافع وما هو جنسي، وتختزل تنوع الحياة النفسية.»16
وفي انتظار تحول الدليل إلى محط الانتقادات والإهانات — الأمر الذي لم يتأخر على غرار كافة الأنظمة التي سبقته منذ قرنين — يكمن الخطر الحالي في «الافتقار الرهيب في فن اللقاء والحوار والتعاطف والدراسة في سياق» ممارسة الطلاب في فترة التدريب والتأهيل النفسي الباثولوجي اعتمادًا فقط على الكتاب النظري «الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي» الرابع:17 «إن الطبيب النفسي أو الممارس العام المستقبلي — الذي لم يحتكَّ بأي عامل غير متوقع أو مزعج في العلاقة لكونه ملاحظًا علميًّا غير منحاز — لن يكون أكثر من خبير في وصف سطحي للسلوك الإنساني المحدد.»18
كان من الممكن أن يصطدم الانتشار العالمي السريع للدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي بتصنيف منظمة الصحة العالمية «التصنيف الدولي للأمراض» CIM. كان هذا التصنيف الإحصائي وحيد المحور (اختيارًا حصريًّا لمرض رئيس) يعتمد في الواقع منذ إنشاء منظمة الصحة العالمية عام ١٩٤٥ على تصنيف الأمراض الأوروبي. وبعد اثني عشر عامًا من المناقشات بين منظمة الصحة العالمية والجمعية الأمريكية للطب النفسي، كان لمبادئ الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الغلبة في النهاية عام ١٩٩٢؛ بنشر الطبعة العاشرة من التصنيف الدولي للأمراض الذي يتوافق مع الدليل: الأسس نفسها والنظام نفسه متعدد المحاور والألفاظ المستخدمة نفسها مما يتيح توافقًا أكبر بين التصنيفين. ومن أصل واحد وعشرين «فصلًا» تضم كافة الأمراض البشرية، يتناول الفصل الخامس «الاضطرابات العقلية والسلوكية» (من إف. ٠٠ وحتى إف. ٩٩). في حين باقي الفصول معنونة بكلمة «أمراض»، يطلق على هذا الفصل «اضطرابات». إلا أن الأمر لا يتعلق بالمرض العقلي، فإن إضافة «اضطرابات السلوك» إلى «الاضطرابات العقلية» تفتح آفاقًا غير واضحة ولكن لانهائية. وفي تفصيله، يؤكد التصنيف الدولي للأمراض الطبعة العاشرة باستمرار على مفهوم الاضطراب (فقط التأخر العقلي لم يكن من الممكن إخضاعه لهذه التسمية الجديدة):
  • اضطرابات عقلية عضوية، بما فيها النفس-جسمية.

  • اضطرابات عقلية وسلوكية ناتجة عن استخدام المواد التي تؤثر على الحالة النفسية (بالمعنى الأشمل للكلمة وليس الأدوية فقط).

  • الفصام والاضطرابات الفصامية والاضطرابات المصحوبة بهذيان.

  • اضطرابات المزاج (العاطفية).

  • الاضطرابات العصابية المتعلقة بالضغط النفسي والاضطرابات البدنية.

  • متلازمة أعراض السلوك المرتبطة بخلل فسيولوجي أو بعوامل نفسية.

  • اضطرابات الشخصية والسلوك.

  • الاضطرابات العقلية.

  • اضطرابات التطور النفسي.

  • اضطرابات السلوك والاضطرابات الانفعالية التي تظهر عادة خلال الطفولة والمراهقة.

  • اضطرابات أخرى.

التصنيف الدولي للأمراض في طبعته العاشرة ليس إذن بديلًا للدليل الرابع والخامس. البديل الحقيقي هو الدليل التشخيصي النفس-حركي PDM19 الذي يبدو تكميليًّا أكثر من كونه منافسًا للدليل الرابع والذي تم تطويره على أيدي أهم المنظمات الأمريكية في التحليل النفسي لإعادة تقديم طب إكلينيكي «نفس-حركي». وهكذا، يصف الدليل التشخيصي النفس-حركي بطريقة منظمة:
  • سير الشخصية السوية والشخصية التي يظهر عليها الاضطراب.

  • النماذج الفردية للعمل العقلي.

  • أشكال الأعراض (بما فيها الفروق الشخصية والذاتية لهذه الأعراض لدى كل شخص).

باختصار، كان الأمر يتعلق بإعادة تقديم «الشخص الكامل» داخل التشخيص. «تم تطوير الدليل التشخيصي النفس-حركي بناء على فكرة أن وجود تصنيف نافع إكلينيكيًّا يجب أن يبدأ بفهم طريقة عمل العقل السوي. فالصحة العقلية تتضمن ما هو أكثر من غياب الأعراض، بل تشمل السير العقلي العام للشخص بما في ذلك علاقاته وثباته الانفعالي وقدراته على التكيف ومراقبة ذاته. فكما أن صحة القلب يجب ألا تُعرف فقط بأنها غياب الألم في الصدر، فإن الصحة العقلية تتجاوز غياب الأعراض التي يلاحظها الطب النفسي الباثولوجي. ويشتمل هذا على مجموعة كاملة من القدرات البشرية المعرفية والانفعالية والسلوكية.»20

أزمة أم انهيار؟

لم تكن أزمة الطب النفسي — التي فجرتها هوجة مناهضة الطب النفسي — إلا البداية. وتعددت التساؤلات التي تطرح منذ الثمانينيات، والتي يمكن تلخيصها في الآتي: هل اتخذ الطب النفسي بداية خاطئة؟

عام ١٩٨٤، قام كلٌّ من مارسيل جوشيه (فيلسوف) ومارسيل جاجير (عالم اجتماع) وجلاديس سواين (طبيبة نفسية) — الذين كانوا في محور الصراعات المناهضة للطب النفسي ولكن يمكن اعتبارهم من «غير المنحازين» (ولقد واتتنا الفرصة قبلًا للتوقف عند كتاب «ممارسة العقل البشري» الذي نشره جوشيه وسواين عام ١٩٨٠) — بالرد بوضوح على هذا التساؤل العصيب، مع ملاحظة «الصمت المستسلم» للأطباء النفسيين، متسائلين عن أسبابه.21 ورأوا فيه في البداية «انهيارًا للخطاب المعارض السائد وموتًا لليسارية الثقافية التي كانت حركةُ مناهضةِ الطب النفسي تمثل أحد وجوهها الأساسية.» كانت مناهضة الطب النفسي هذه «هي الأيديولوجية التي بِاسْمها تم اعتماد التحليل النفسي الذي يمارسه غير الأطباء مع الجمهور ودخوله إلى مجال الرعاية الطبية النفسية.» ويؤكد المؤلفون أن هذا التحليل النفسي «تخرج ممارسته عن أي إطار تنظيمي». كما بدا لهم البديل للعلاج النفسي التحليلي في هذا العصر في حالة تراجع داخل المهنة وعلى مستوى الرأي العام (وهو ما ليس صحيحًا تمامًا في ذلك الوقت، وإن حدث لاحقًا). كان «الجنون هو محور الأحداث، ولكنه لم يعد كذلك».
وعلى نحو مثير للمفارقة، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، أسف العديد من الأطباء النفسيين القدامى لاختفاء الطب النفسي كنظرية وليس كخطاب. لم يعد هناك خصوم ولا مؤسسات لتحاربها، بل إن عددًا كبيرًا من مطالب حركةِ مناهضةِ الطب النفسي دخلت بالفعل حيز التنفيذ، قاطعةً بذلك الصلة بين السياسة والصحة، ومحولةً موضوعيًّا الأفكار الثورية إلى حركات إصلاحية. ذهب الهدف الأساسي، فقد شهد هذا العصر رواج أفكار الانحدار. أما الأقل تشاؤمًا فكانوا يكتفون بالإشارة إلى عوامل تدمير الطب النفسي: عدم المساواة في الرعاية داخل الخدمات العامة، وتوجُّه العناصر الجيدة في الطب النفسي إلى التحليل النفسي، وانخفاض الإنفاق على الصحة؛ فقد كانت الفكرة السائدة، هي أنه «من بين جميع أنواع الطب، كان الطب النفسي في أضعف موقف للمقاومة»22 (بسبب أن بنيته نفسها كانت تتعرض لانتقادات شديدة من داخل المهنة ذاتها).

واليوم، على الرغم من موته المعلَن، فإن الطب النفسي لا يزال موجودًا، لا يزال موجودًا كما أن الجنون لا يزال موجودًا. تمامًا كما في عرض مسرحي، حينما يتم تغيير الديكور أمام ناظرينا، يكون التغيير كبيرًا لدرجة أنه يمكن أن نقول بطريقة ما إن الديكور «اختفى»، لكن سريعًا ما يولد من جديد. كذلك الطب النفسي؛ فلقد تعدد وتنوع واختلفت طرقه، ولكن لا تعبر إحداها بمفردها — مهما ادعت — عن المجال بأكمله. أصبحت الانتقائية هي السائدة.

وعلى نحو موازٍ للطريقة التجريبية التي يؤسسها الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي والتصنيف الدولي للأمراض، لم تستطع الطريقة البيولوجية أن تَفِيَ بوعودها الرنانة. عام ١٩٨٣، ظهر «الإنسان العصبي» لعالم الأعصاب جان بيير شانجو، والذي عُني بنشر نموذج جديد أصبح مرجعًا لدرجة أن وسائل الإعلام أعلنت حينها نهاية الطب النفسي. «إن الإمكانيات التركيبية المرتبطة بعدد وتنوع الاتصالات العصبية في مخ الإنسان تبدو بالطبع كافيةً لإدراك القدرات البشرية. ولكن ليس هناك تفسيرٌ للتفاوت بين النشاط العقلي والنشاط العصبي. من الآن فصاعدًا، ما فائدة الحديث عن الذهن؟ فلم يعد هناك سوى جانبين لحدث واحد يمكن وصفه بمصطلحات مقتبسة عن لغة علم النفس (أي الاستبطان)، أو لغة علم الأعصاب.» ونذكر بصورة عابرة أنه عام ١٨٤٥، أعلن جريزينجر أن «الأمراض العقلية هي أمراض في المخ.» في الواقع، كان أبقراط قد أكد من قبله أن كل شيء — بما في ذلك الجنون — يأتي من المخ. أسنرى، وعلى عكس كل التوقعات، هذه النظرية «المبسطة» تتحقق أخيرًا؟ في جميع الأحوال، كانت الطريقة العصبية البيولوجية في أوجها (والدليل على ذلك كمُّ القروض المخصصة للأبحاث)، وبدا أن المخ لم يقل كلمته الأخيرة. «تبدو بعض المناطق في المخ المتعلقة بالتعرف على الانفعالات وكأنها تعمل بطريقة غير طبيعية لدى المصابين بالتوحد والفصام؛ مما أثبت — عن طريق اختبارات معينة — وجود نقص في المعارف الاجتماعية في حالات الفصام والتوحد لدى الأطفال؛ أي عدم وجود القدرة على استيعاب وفهم الحالات العقلية المختلفة عن حالاته وإضفائها على الآخر.»23 وقلَّتِ الحاجة إلى حسم الجدل القديم بين الأصل العضوي (التحدي) والأصل النفسي (المفضل) للمرض العقلي، وأصبح هناك اتجاه لتجاوزها أو الالتفاف حولها في إطار تعريف جديد للعلاقات بين الجسد والذهن.
وحاليًّا تشهد الطريقة المعرفية — أحدث القادمين — أكبر قدر من التشجيع، فهي علم النفسي التجريبي الذي أصدر الافتراضية بأن التفكير إنما هو عملية معالجة للمعلومة (على غرار علم التحكم الآلي)، الذي يدرس المبادئ التي تدير تفاعل الكيانات الذكية مع بيئتها. وتعد النظرية المعرفية هي أساس تقنية جديدة للعلاج النفسي: العلاج المعرفي السلوكي، الذي ظهر في الولايات المتحدة بالتزامن مع العلاجات السلوكية. وتعمل طريقة العلاج المعرفي بطريقة تكاملية على أفكار المريض التي تُظهر نوعًا من التشوش المعرفي. وهي تؤكد على أهمية الأشكال التوضيحية غير الواعية للفكر، والطريقة التي يمكن أن تتسبب بها هذه الأشكال المعطلة (آراء أو معتقدات) في الإصابة باضطرابات عقلية. ولا تهدف العلاجات المعرفية السلوكية إلى تعديل جذري لمجمل الشخصية عبر جلسات طويلة ومكلفة للمريض أو للتأمينات. اعتمادًا على التقويمات المتتالية التي تعالج كميًّا بحرص، يكفي التأثير على هدف محدد يبلبل حياة المريض: الهوس المرضي أو الإدمان أو الوسواس القهري أو اضطرابات السلوكيات الغذائية، بل وأيضًا تحمُّل الألم، ولإدارة الضغوط في الرياضة أو التحكم في التعلم، وفي الحالات الاكتئابية لدى المرضى المتقدمين في العمر … إلخ.24 كل هذا في ظل اتساعٍ لمجال الطب النفسي، وسنتطرق إليه لاحقًا أثناء الحديث عن الصحة العقلية.
حتى طريقة التحليل النفسي ذاتها شهدت تنوعًا ليس له مثيل من قبل. ويجب أن نبدأ بذكر مَواطن اختلافها عن العلاجات المعرفية السلوكية التي تميل حاليًّا إلى اكتساح مجال الطب النفسي كله، مصحوبة بدعم الإدارات الصحية. وسنذكِّر فقط أنه — على عكس العلاجات المعرفية السلوكية (التي لا تشكل نظرية) — يكون العرض من المنظور النفسي الباثولوجي التحليلي — كما يتضح من اسمه — ذا معنًى بالنسبة للمريض؛ لأنه يتكون كتعبير عن التفرد والتاريخ الذاتي المرتبط باللاوعي. وهذا هو الفرق بين السبب والأصل. اهتم بعض المحللين النفسيين بدراسة العلاجات المعرفية السلوكية، ولكن يظل غالبيتهم معادين لها، متهمين إياها بعدم أخذ «البعد الإنساني للمريض» في الاعتبار مثلها مثل الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي. وجاءت دراسات حديثة تؤكد حججهم، مبينة أن النتائج الجيدة للعلاجات المعرفية السلوكية لا تستمر طويلًا مع الوقت.25
أصبحت هذه التقارير أكثر خلافية، ولا سيما أن «أوضاع التحليل النفسي والعلوم المعرفية في مجال المعارف لا يزال ينقصها مزيد من التحديد.»26 وتضيف هيلين أوبنهايم — الطبيبة والمحللة النفسية — أنه إذا كانت هاتان الطريقتان مختلفتين تمامًا، «فإن المناقشات الإكلينيكية والحوارات النظرية حول الطرق الخاصة بكل منهج وحول حدودها (قضايا مثل التوحد والفصام والمرضى المصابين في المخ وحالات الخبل) قد تكون محفزة. ويمكن للطب النفسي — نظرًا لتعدد مرجعياته الضرورية — أن يكون أحد أطر استقبال هذه المواجهات.»27
إلا أن «المحللين النفسيين المتورطين في النزاع» لم يكونوا أكثر اتفاقًا، فتصف إليزابيث رودينسكو العلاجات المعرفية السلوكية ﺑ «الطرق المهجنة». وفي حوار في جريدة ليبراسيون،28 يقول جاك آلان ميلر — صهر لاكان ومؤسس مدرسة السبب الفرويدية عام ١٩٨١ والجمعية العالمية للتحليل النفسي عام ١٩٩٢ — عند سؤاله عما إذا كانت النظرية المعرفية تفسر أي شيء: «آه! نعم! فهي أيديولوجية تحاكي العلوم الصعبة وتتطفل عليها وتقدم ملخصًا وهميًّا. ولكن انتشارها الهائل يرجع إلى أنها تعبر عن شيء شديد العمق، عن طفرة في علم الوجود وتغيير في علاقتنا بالكائن. واليوم، نحن على يقين بأنه يوجد شيء ما، وأنه قابل للترقيم. أصبح الرقم هو ضمان الكائن. ويرتكز التحليل النفسي أيضًا على الرقم، ولكن بصورة الرسالة المشروحة، فهي تستغل غموض الكلام. وفي هذا الصدد، تكون متعارضة مع النظرية المعرفية، بل لا تحتملها.» ويسأله نفس الصحفي: ألا يزال التحليل النفسي في وضع الدفاع عن ذاته؟ ««فلنعِشْ سعداء، فلنعِشْ في الخفاء»، كان ذلك هو شعار المحللين النفسيين، ولكنه لم يعد كذلك؛ فالانغلاق على ذواتهم قد يكون قاتلًا للتحليل النفسي؛ ببساطة لأنه لا يوجد مجال محدد لهم. باختصار، فإن الأطباء النفسيين لن يستطيعوا تجنب المشاركة في الجدل العام.»
دائمًا ما ظلت طريقة التحليل النفسي ثابتة، حتى وإن تكاثرت الهجمات وحركات التشكيك مع اقتراب القرن الحادي والعشرين. وهي تتناسب مع الغرور الذي تملك المحللين النفسيين — باعترافهم اليوم — عندما بدأ الطب النفسي غير التحليلي في الظهور. في عام ١٩٨٠، أشاد بول بيرشيري ﺑ «التدخل الفعال للمحللين النفسيين — زاد عدد الذين يمتلكون بينهم لقبًا أو تأهيلًا في الطب النفسي — في مؤسسة الطب النفسي […] ولقد شرع التحليل النفسي بقوة في عمله لتفكيك الطب النفسي بسرعة تآكل الحمض.» ويختتم بيرشيري حديثه قائلًا: «إن الحالات الصعبة التي يواجهها الأسلوب الإكلينيكي (على سبيل المثال؛ صعوبة الفصل في قضية الأصل العضوي أو النفسي للمرض العقلي) سيكون من السهل تجاوزها عندما يتخلص المحللون كعلاج من الطبيب النفسي (بالمعنى السيئ للكلمة) الذي يرقد بداخلهم. وحينها، سيتمكنون من اكتشاف الآليات داخلهم التي تنظم الذهان، والتي يمنع هذا الرقيب الفصل بينها.»29
ولم ينتظر الفيلسوف جيلز دولوز والمحلل النفسي فليكس جاتاري حالة التشاؤم التي صاحبت نهاية القرن لينشرا عام ١٩٧٢ كتابهما «ضد أوديب»،30 الذي هو هجاء أحدث ضجة رافضًا مفهوم الغربة باعتباره نقصًا يستدعي وجود آلة تنتج. فالمقصود بأوديب هو ناتج تطور الرأسمالية. لم يكن اللاوعي مسرحًا، بل كان مصنعًا. وكان للعامل «الاجتماعي» الغلبة على ثنائية «الأب والأم» (أوديب)، ولم يعد يقتصر عليها.31 فالأمر بالنسبة لمؤلفي «ضد أوديب» يتعلق ﺑ «زعزعة أسس المذهب الفرويدي بفضل آراء ماركس، والعكس صحيح»،32 ومن هنا بلغ «المذهب الفرويدي الماركسي» ذروته.
ابتداءً من التسعينيات، سادت هوجة «عالمية من الكراهية والإقصاء» (لاستخدام نفس ألفاظ بومارشيه) ضد التحليل النفسي. دائمًا في وضع الاستعداد، ندد جينتيس عام ١٩٩٨ ﺑ «الإرهاب اليساري»، المتمثل في تأصل نظرية التحليل النفسي في فرنسا، «والتي كانت تقدم نفسها في وسائل الإعلام بكونها أداة لا تقارن للتحرر»، ولكنها سرعان ما أصبحت «أداة للتفكير التقليدي الشمولي». كما يتهم جينتيس المحللين النفسيين بأنهم «كسروا» (على الأقل في بعض الأماكن) حركة التغيير في الجانب المعالج. وهو هنا لا يهاجم التحليل النفسي (لا أحد يعتقد بالطبع أنه سيحمل إجابة عن جميع الأسئلة، ولكن يلاحظ أنه يوضح بعض المشكلات، ونكون مخطئين إذا استغنينا عن دوره)، بل المحللين النفسيين في وسط الطب النفسي. على أي حال، حتى بعد بلوغه عامَه السبعين، لم يفقد جينتيس من حدته: «لا ينبغي لنا أن نتعجب في مثل هذه الظروف من وجود رد فعل قوي مناهض للطب النفسي. فالقيام بعمل التحليل النفسي — أي أن يكون الشخص محللًا نفسيًّا — لا يعني أن يعزل نفسه في مكتبه لعدة ساعات أسبوعيًّا مع بعض المرضى المختارين، على اعتبار أن الباقي ليس ذا أهمية، بما أن التحليل النفسي لا يستطيع أن يفعل شيئًا حياله.»33
ولكن كل هذا لا يضاهى بالهجمة الشرسة خلال هذه الأعوام الأخيرة. عام ٢٠٠٢، جاء كتاب «أكاذيب فرويد …»34 لعالم النفس الإكلينيكي والمحلل النفسي للأطفال جاك بينيستو ليتحدث بلهجة حازمة، منددًا ﺑ «أكاذيب» المذهب الفرويدي، متهمًا فرويد ذاته بأنه لم يلقَ إلا الفشل في علاج حالاته، ولكنه فشلٌ «حوله إلى انتصار ليجتذب مزيدًا من الأتباع وليتلاعب بمعجبيه.» (كتب جاك كوراز عنه في المقدمة «مدعٍ بقامة عملاق».) أصبحت هذه الوسائل مدرسة لمن خلفوه، «الذين انتظموا في شبكات صلبة تحمي ذاتها وتتفنن في الحفاظ على سلطتها وغموضها عن طريق تقديم الكثير من الأشياء المغلوطة.» عام ١٩٩٥، ما زلنا مع نفس الناشر البلجيكي (ربما كان قطاع النشر أكثر انفتاحًا عنه في فرنسا)، قام جاك فان ريالير بنشر «أوهام التحليل النفسي». ويعرض هذا العالم النفسي الإكلينيكي والأستاذ بكلية الطب بلوفان، وأيضًا المحلل النفسي السابق، لأسباب «ارتداده عن التحليل النفسي»، مهاجمًا «الطابع السري الباطني والتعصب والتكبر والتلهف على الكسب وحب السلطة، وقبل كل شيء أسس المذهب الفرويدي ذاته؛ تلك الأسس التي لم تَثبت إلا نادرًا أمام أي اختبار علمي.»
ثم كانت الصاعقة مع «الكتاب الأسود للتحليل النفسي»35 (٢٠٠٥)، الذي ينتقد بقسوة وعلى مدار أكثر من ثمانمائة صفحةٍ الأكاذيبَ (الوجه الخفي لتاريخ فرويد) والطريقة وفعاليتها وشرعية المحلل (بالأمس كانوا ثائرين ومن دعاة الحداثة، واليوم أتباع فرويد ولاكان هم الأكثر عدائية ودفعًا عن معاقلهم الفكرية الجامدة) والخضوع في النهاية بالتزامن مع قانون الصمت الإعلامي إزاء أي انتقادات للتحليل النفسي. ولا يكفي القول بأن «الكتاب الأسود» قد أثار جدلًا عارمًا في فرنسا، حتى إن مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» قد جعلت منه غِلافًا لها (أيجب القضاء على التحليل النفسي؟) بينما انحازت جريدة «فيجارو» إلى لاكان (التحليل النفسي: وثيقة المرفوض). وتتساءل إليزابيث رودينسكو: «لماذا كل هذا الكره؟»36 في كتاب يحمل نفس الاسم، بينما ظهر في العام التالي «الكتاب الأسود للتحليل النفسي المضاد».37 كانت الحرب دائرة أيضًا على شبكة الإنترنت، ونأسف لعدم استطاعتنا تقديمها كلها في هذه الدراسة. كما سنجد أيضًا الأستاذ فان ريالير الشديد الميل للتهكم، وأحد مؤلفي «الكتاب الأسود للتحليل النفسي»؛ يجيب عن الهجوم اللاذع الذي شنته عليه رودينسكو التي غضبت من كون فرويد يُشنَّع عليه وتلصق له صفات «الكذاب والمزوِّر والسارق والمنافق ومدعي الشهرة وأنه يمارس زنى المحارم»، فيجيبها ريالير بسخرية: «لم نقل قط إن فرويد كان يمارس زنى المحارم.»38
قبل هذه المشاجرة، كانت إليزابيث رودينسكو — أثناء أحد العروض العامة للتحليل النفسي عام ٢٠٠٠ — قد ألمحت أنه «من الآن فصاعدًا، أصبح المعالج الحديث مجردًا من أي معرفة حول فن معالجة وشفاء المريض بالمريض نفسه […] لأنه الآن أصبح المريض هو من يصنع علاجه بنفسه باستخدامه لعلاجات نفسية متعددة بنفس الطريق التي يتناول بها أي مواد كيميائية: يومًا أدويةً واليومَ التالي علاجًا بالحوار، ولماذا لا يتبعه محاولة علاج الداء بالداء أو المعالجة بالنباتات؟ يوجد مرض في نهاية القرن يقوم على تسارع العلاجات المتعددة أو على معالجة ذاتية دائمة تستند إلى التحرر من أوهام العالم.»39 وبالعودة إلى التحليل النفسي، تختتم رودينسكو بأن التحليل النفسي هو «المذهب النفسي الوحيد في نهاية القرن التاسع عشر الذي ربط بين فلسفة الحرية ونظرية نفسية […] ومن ثم، يجب عليه أن يكون اليوم قادرًا في مثل هذه الظروف على تقديم رد إنساني في مواجهةِ وحشيةِ مجتمعٍ يميل إلى توحيد الشكل، وإلى اختزال الإنسان في كائن فردي نرجسي، تغمره عبادة الذات ويسعى دون توقف إلى محو الحلم واللاوعي.» ومن جانبه، عمل جوان دافيد نازيو على إثبات أن «أوديب»40 وأيضًا الهستيريا41 لا يزالان موجودين.
ويتساءل جي داركور — الطبيب النفسي وعضو جمعية التحليل النفسي — عما إذا كان التحليل النفسي لا يزال نافعًا للطب النفسي،42 وسرعان ما أجاب بنعم، محاولًا إثبات أنه يمكن إيجاد حوار بنَّاء بين الطب والتحليل النفسي، مفسرًا الانحدار الذي شهده الأخير بسبب إمبريالية الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي والعلاجات المعرفية السلوكية (التي تمثل بالنسبة لمعارضيها آلاتٍ تنتج كائنات تتأقلم مع «مقتضيات الإمبراطورية»: مرونة وتنافسية، إلخ). ومثله مثل الكثيرين من زملائه، أصبح جي داركور من دعاة «العلاجات المركبة»، وهو الأمر الذي أصبح — بعيدًا عن نزاعات المدارس المختلفة — الطريقةَ المتبعة بالفعل. وعلى نفس التساؤل (أيمكن للتحليل النفسي أن يكون نافعًا للطب النفسي؟) يجيب بيير هنري كاستل:
«بلغ التراجع التدريجي للتحليل النفسي في مجال الطب النفسي أقصى مداه تقريبًا في هذه الأعوام العشرين الأخيرة. وتقترح بعض المؤشرات أن الكفة تميل برفق إلى الجانب الآخر، في الوقت الذي نستشعر فيه لدى الجمهور دعوات فردية لتولي مسئولية العلاج، وإن كانت ليست «موضوعية» في كل الأحوال، حيث أظهرت فيه الفضائح الصحية المختلفة من جديد ضرورة وجود طب نفسي اجتماعي (مكان طبيعي للتفاعلات النفس-حركية القوية)، وأن البدائل العلاجية المعارضة للطب النفسي السلوكية والدوائية تمثل ببساطة «خطوة ما تبقى لعلاج ما لا يتحكم فيه الإنسان». في الوقت ذاته، أعتقد أنه لبعض الأسباب، يمكننا أن نراهن أن الميزان لن يعود إلى حالته خلال الثمانينيات. فالقطيعة — على حد ما أفترض — ستظل نهائية بين الوضع الفكري للتحليل النفسي (مما يجذب علماء النفس) والطابع العلمي العصبي البيولوجي الذي سيصبح هو السائد (محددًا سيرة الطبيب النفسي المهنية).»43
وعلى نحو أكثر عملية، يدافع سيمون دانيال كيبمان — رئيس قسم «التحليل النفسي في الطب النفسي» بالجمعية العالمية للطب النفسي — عن وجود تدريب على التحليل النفسي داخل منهج الأطباء النفسيين المهني.44
كل هذا الفوران كان ناتجًا بنسبة كبيرة عن تعديل مشروع قانون حول سياسة الصحة العامة لنائب حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» برنارد أكواييه. ولكن ماذا يُفهم عن القانون من ديباجَتِهِ؟ «يعد الفرنسيون على مستوى العالم أكثر المستهلكين للأدوية النفسية، وشيئًا فشيئًا يزداد عدد الشباب الذين يصابون بأمراض نفسية خطيرة في الغالب. وعادة ما يُعهد برعاية هذه الأمراض النفسية إلى العلاجات النفسية. إلا أنه في هذا المجال، كان هناك فراغ قضائي كامل حول هذا الموضوع في فرنسا. فهناك أشخاص غير مؤهلين بالقدر الكافي، بل غير مؤهلين تمامًا يدَّعون كونهم «معالجين نفسيين». ويمكن أن يتسببوا في أخطار جسيمة للمرضى الذين هم بالطبيعة ضعاف وقد تتفاقم أزمتهم وحالتهم بسرعة […] ومن ثم كان من الضروري أن يكون المريض على دراية تامة بمهارات وجدِّية القائمين على علاجه. ويجب أيضًا اعتبار العلاجات النفسية علاجًا حقيقيًّا. وفي هذا الصدد، يجب أن تكون وصفات الأدوية واستخدامها مهمة المتخصصين الذين يحملون شهادة جامعية وشهادة تدريب مهني مؤسسي تضمن الكفاءة النظرية، ويمكن زيادتها بالخبرة العملية.» أيوجد ما هو أفضل من ذلك؟ ألم يكن الأمر عبارة عن مقاومة النصابين والمشعوذين؟ إلا أن المحللين النفسيين (حوالي خمسة آلاف في فرنسا، موزعين فيما يزيد عن عشرين جمعية؛ أي المعدل الأعلى في العالم) شعروا بأنهم هم المستهدفون، واستشاطوا غضبًا، واتهموا الدولة بالرغبة في «تصفية العلاج النفسي المؤسسي والتحليل النفسي.»45 وبمناسبة إحدى القفزات العديدة لفكرة «التعديل الدنيء» (عام ٢٠٠٨، طرح مجلس الدولة تلك القضية المحرجة)، اقتحم جاك آلان ميلر المعركة بموهبته في الجدل. تسعى الدولة إلى الاستعاضة عن طبيب العائلات: «الذي يسمعكم» و«أمامه تستطيعون أن تكشفوا ذواتكم بكل حرية» ﺑ «الطبيب التقني». «والحقيقة أن هذا الطبيب ليس طبيبًا: إنما هو عامل للسيطرة الاجتماعية الكاملة، ويخضع هو ذاته لرقابة دائمة. أنا أعلم: يبدو وكأننا أمام مشهدِ خيال علمي، فحتى ستالين نفسه لم يجرؤ على فعل هذا الأمر. وبسيطرة تفوق أمن الدولة في ألمانيا الشرقية، يتم وضع ميكروفونات، ويأتي تقنيٌّ ليراقب عمل أدمغتكم.»46 نحن أمام تفسير جميل، ولكن بعيد عن القضية المطروحة في التعديل.
نتحدث اليوم عن «حرب الأطباء النفسيين» … فالمحللون النفسيون يشنون حربًا على المعالجين بالطرق البيولوجية والمعرفية ويتهمونهم بالرغبة في أن «يحلوا محلهم». أما الأطباء النفسيون، الذين تلاشت أخيرًا الضغينة التي يحملونها للمحللين، فيتصارعون بالأحرى مع علماء النفس الإكلينيكيين على أرض الواقع في المستشفيات. فطريقة معالجة كل منهم للمريض مختلفة تمامًا، دائمًا في إطار ثنائية الطبيب/غير الطبيب. في الفريق العلاجي (على الأقل لا يزال موجودًا)، يحتفظ الطبيب النفسي بالمسئولية والسلطة، بينما يتعين على علماء النفس إقامة روابط وعلاقة شخصية مع المريض (الذاتية المتبادلة)، وفجأة أصبح الأطباء النفسيون — الذين اقتصر دورهم على التشخيص — يحسدون علماء النفس على الحرية والوقت الذي يقضونه خلال العلاج الإكلينيكي. «في الواقع، دفع انخفاض عدد العاملين في الطب وزيادة الطلب وثقل عبء الإدارة هؤلاء المختصين (الأطباء النفسيين) إلى التخلي عن كونهم معالجين نفسيين، والتحول إلى خبراء يقوم عملهم على توزيع المهام. وسرعان ما أبعدهم دورهم الأساسي، الذي هو إعادة توزيع العمل بين المتدربين وإدارة تنوع المواقع والأوضاع المهنية، عن مكانهم القديم «كممارسين عموميين نفسيين»؛ حيث كانوا هم من ساهموا في اختراع الطب النفسي وتحويله بفضل نظام القطاع.»47 وعلى جبهة المستشفيات، كان على الأطباء النفسيين أن يتخلوا أكثر فأكثر عن المرتبة الأولى لصالح علماء النفس، بل وحتى الممرضين. باختصار، فإن من يرغب على الرغم من كل هذا في استكمال عمله الإكلينيكي (أي أن يصبح طبيبًا) يتم إغراؤه بترك الخدمة العامة.48 في الولايات المتحدة، بلغ عدد علماء النفس الإكلينيكيين ٢٠٠٠٠ عام ١٩٨٠ في مقابل ٢٦٠٠٠ طبيب نفسي، وعلى مدار الأعوام استمر استقلال الأوائل. وفي هذه الدولة أولًا رأينا طاقمًا صحيًّا من غير الأطباء يحل محل الأطباء النفسيين. فشخصية الآنسة راتشد — كبيرة الممرضات في «طار فوق عش المجانين» — هي التي تدير جلسات علاج جماعي ليست فقط على الشاشة.
كان جورج لانتري لورا (١٩٣٠–٢٠٠٤) — الذي ذكرناه قبلًا عدة مرات، وهو الطبيب النفسي، وأيضًا الفيلسوف ومؤرخ الطب النفسي — قد ذكر أن الطب النفسي لا يمكن اختزاله بالكامل في الطب، متسائلًا هو الآخر عما إذا كان يجب الاستسلام لفكرة اختفاء الطب النفسي لصالح المعالجين البيولوجيين وعلماء النفس، «التقنيين القادمين للَّاوعي والمعرفة والسلوك».49 وهو تساؤل شهير أجاب عليه بالنفي. فلا يوجد إخضاع ولا تفوق فيما بين «المناهج النظرية أو التطبيقية، بل طرق أسهل لفهمها.» ويضيف أن الطب النفسي «أصبح أكثر استعدادًا من ذي قبل.» ولكنه ينعى الخطر المتناقض الذي يمثله تراجع الطب النفسي إلى المرتبة الثانية: «ففي مواجهة مريض واحد، نعرف ما يجب فعله بطريقة أفضل يومًا بعد يوم، ولكننا قد نتعرض لخطر عدم امتلاكنا للطرق الملموسة.»
حرب الأطباء النفسيين … حرب ضد الأطباء النفسيين … أصبح الطب النفسي في أزمة تفوق أزمته خلال العقدين اللذين شهدا حركةَ مناهضةِ الطب النفسي. ولكن يجب ألا يكون الصراع داخليًّا. وتوالت اللقاءات عامة (مثلًا في مونبلييه عام ٢٠٠٣) والمنتديات على شبكة الإنترنت. وينصح توبي ناثان — أستاذ علم النفس الإكلينيكي والباثولوجي، وأيضًا الطبيب النفسي الأنثروبولوجي — مثله مثل الكثيرين بأنه من الممكن العمل معًا: «فلنترك الكاريكاتير! فلا يوجد بين الأطباء النفسيين «مروِّضو وحوش» ولا مشعوذون. ومن ثم فلا يوجد صراع بين «التحليل النفسي الإنساني» على اليسار وبين التفكير العلمي على الطريقة الأمريكية الذي يهدد الحضارة الأوروبية على اليمين! فالمجال في حالة فوران وأزمة، بل وطفرة: فالعلاج النفسي […] وتعدد طرقه ليس شرًّا بل فرصة! ففي وسط هذا الزخم بالتحديد يمكن الاستفادة من خبرات المرضى الذين يشاهدون ويختبرون ويتناقشون وينتقدون.»50 وسنلاحظ أن «خبرة المرضى» تعود لتتقدم المشهد من جديد. وسنلحظ أيضًا أن ثنائية اليسار/اليمين تُطرح هنا حرفيًّا (بينما كانت عادة ضمنية). ومن المؤكد أن «هذه الشبكة من التحليلات» — التي أصبحت هاجسًا في فرنسا — كانت كافية لتقسيم الآراء.
وكانت هناك المؤلفات التي تحذر من أن الطب النفسي أصبح الحلقة الأضعف في سلسلة الصحة التي تتدهور:51 «اتسمت بداية هذه الألفية بأزمة كبرى لنظامنا الصحي. فالحال التي قادته إليه النظام الاقتصادي الحر قد أفقدته رؤية ضرورة المشاركة في دعم الجانب الإنساني.»52
وماذا عن «الأطباء النفسيين الأساسيين» في كل هذا؟ «إن معظم الممارسين — الذين أحبطوا بسبب الخطاب النظري الذي يزداد تعقيدًا بعيدًا عن متطلبات الممارسة اليومية — قد تحولوا عنه ليكوِّنوا معرفةً خاصة بهم، مكونة من مقاطع نظرية مأخوذة عن نماذج مختلفة وغالبًا متعارضة، في محاولة لملاءمة المعارف المكتسبة مع الحاجات التي يواجهونها مع مرضاهم.»53 ويظل المنهج التجريبي والمنهج الاختياري هما الوصفات الدائمة …

الطب النفسي في كل مكان

القول بموت الطب النفسي — أو على أقل تقدير بانهياره — بسبب وجود انتقادات توجَّه إليه، أو منافسته من قِبَل طرق علاجية أخرى؛ يرجع إلى رؤية الأمور من زاوية ضيقة. ويمكننا أيضًا أن نتوقف عند نقد القطاع الذي لم يفِ بعهوده، في محاولة لمواجهة الطلب المتزايد على الرعاية بتوفير عدد أكبر من الأسرَّة التي تقل باستمرار، وأيضًا مراكز جديدة غير متوافرة للطب النفسي العام. وعلى الرغم من كل هذا، كانت فرنسا تضم ١٢٥٠٠ طبيب نفسي (٥٥٠٠ يعملون أحرارًا، و٤٠٠٠ في المستشفيات العامة، و٤٥٠٠ في القطاع و٧٥٠ منهم في المستشفيات الخاصة — مع الأخذ في الاعتبار الخدمات المختلطة). ويعني هذا — بالمقارنة بعدد السكان — أنها أكبر نسبة في العالم (صحيح أن وضع رقم مغلق لفترة التخصص في الطب سيشهد انخفاضًا إلى ٧٥٠٠ عام ٢٠٢٠). أما عن الجمعية العالمية للطب النفسي ومقرها منذ عام ١٩٩٦ في نيويورك — وهو أمر ذو مغزًى، فهي لا تضم أقل من ١٨٠٠٠٠ عضو. وإذا أضفنا إلى هذا الرقم عدد الأطباء النفسيين غير المتخصصين في الطب — وهو أكبر بكثير — لا يصبح الطب النفسي أو علاج الاضطرابات النفسية بشكل عام في طريقه للاختفاء، بل للازدياد.

أما عن طلب الرعاية فأهميته لا تقل عن تنوعه. في فرنسا، لم يتوقف الطلب عن التقدم: شهد زيادة بنسبة ١٧٪ من الحالات التي تَوَلَّى مسئوليتها أطباء نفسيون أحرار بين أعوام ١٩٩٢ و٢٠٠٠، في نفس الفترة شهد أيضًا زيادة بنسبة ٤٦٪ في القطاع العام. عام ١٩٩٥، تولت القطاعات متابعة حالة ٩٢٠٠٠٠ مريض بالغ و٣٣٠٠٠٠ طفل ومراهق (في عام ١٩٩٩، زادت النسبة بمعدل ٢٠٪). في الطب العام، كان مريض من كل أربعة تظهر لديه أعراض الاضطراب العقلي.54 ومن الآن فصاعدًا، أصبح هناك طلب، دون أدنى حركة تطور في الطب النفسي. «فكل شيء يتم كما لو كان مفهوم العصاب — الذي رفضه الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية — قد عاد مرة ثانية من خلال الضغط العصبي والأمراض المسماة «ذات الشكل البدني» (وهي تختلف عن الأمراض النفس-جسمية، التي هي أمراض عضوية بالفعل)» (هوشمان).
في بداية القرن الحادي والعشرين، يأتي المرض العقلي في المرتبة الثالثة على مستوى الأمراض في العالم (المصدر: منظمة الصحة العالمية)، ولقد شهد تراجع الذهان لصالح اضطرابات القلق والسلوك، ولا سيما الاكتئاب الذي أصبح المفهوم الشامل الجديد. ومنذ الستينيات، كان بيشة — رأيناه قبلًا — يتحدث عن «الدخول في عصر الاكتئاب». وهو بالفعل اليوم من أكثر أمراض المجتمع55 اجتياحًا. وأيضًا وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن الاكتئاب سيصبح عام ٢٠٢٠ السبب الأول للعجز في الدول المتقدمة بدلًا من أمراض القلب والشرايين.56
تغير مشهد الأمراض العقلية بالكامل، ولم يعد هناك حديث عن الطب النفسي، بل الصحة العقلية. وانتقلنا من المرض العقلي إلى الاضطرابات العقلية، ومنها إلى «المعاناة النفسية» وإلى سوء الحال، وأصبح هناك «ثقافة فعلية للألم الداخلي»57 الذي تأصل اليوم في مجتمعاتنا. ويقول عالم النفس الأمريكي ألبرت إيليس — أحد رواد العلاجات المعرفية السلوكية — إن النوبات الاكتئابية تأتي من الرؤية العظيمة التي لدينا عن أنفسنا، وهي رؤية يهدمها الواقع بالطبع.
في فرنسا عام ١٩٩٤، كان هناك أربعة عشر مليون وصفة طبية بمضادات الاكتئاب (دون باقي الأدوية النفسية). عام ٢٠٠٧، تم بيع أكثر من مائة وتسعة ملايين علبة دواء نفسي — أي أكثر من المضادات الحيوية — وتولى الضمان الاجتماعي تسديد نفقاتها. وتأتي فرنسا في المرتبة الثالثة عالميًّا في استهلاك الأدوية، والأولى في أوروبا في استهلاك الأدوية النفسية. وتعد كل هذه الأدوية من الجيل الجديد أكثر تكيفًا وقبولًا من سابقتها، ولم تستطع الاتهامات الحديثة بأنها أدوية وهمية دون عناصر فعالة أن تقلل من ظاهرة استهلاكها. وكما تشهد الكثير من المطبوعات،58 فإن تعديل أكواييه لم يكن الوحيد الذي تأثر لهذا الرقم الذي لا نحسد عليه. ولقد نشرت مجلة «علوم نفسية» (يباع منها ٢٨٥٠٠٠ نسخة) في أغسطس ٢٠٠٨ نداءً من خمسة عشر طبيبًا ينددون فيه بمخاطر «المبالغة في علاج حالات عدم الارتياح»، ويذكِّرون «بوجود بدائل أخرى غير دوائية.» ولقد تفاقمت المشكلة بسبب أن من يصفون الأدوية هم في الأساس ممارسون عموميون (من ٦٠ إلى ٧٠٪، بل ٧٥٪ وفقًا للتحقيقات)، الذين لم يتلقوا أي تأهيل مبدئي في الطب النفسي الذي هو تخصص منفصل. أليس من المفارقة أن يكون على غير الأطباء النفسيين أن يجيبوا عادة على هذا السؤال: ما هو حد استخدام الأدوية النفسية بين العلاج والراحة، ولكن راحة من؟ ولقد أجرت صحفية بمجلة «علوم نفسية» تحقيقًا بين ثمانية ممارسين عموميين59 (أربعة رجال وأربع سيدات تم اختيارهم بالمصادفة من الدليل)، وفي كل مرة قامت بوصف وجود أعراض الضغط والقلق وصعوبة النوم والاستيقاظ، ولكن دون الإشارة إلى أي عرض محدد للاكتئاب. ومنذ الزيارة الأولى، وُصِفَ لها سبعة من أصل ثمانية أدوية مضادة للاكتئاب أو مضادة للقلق، وأحيانًا النوعان معًا. ولقد بدأ ممارس عام منهم — الذي لم يتجاوز متوسط مدة جلسته سبعَ دقائق — العلاج بوصف مضاد للقلق، ثم أضاف إليه دواءً آخر. وعندما سألته المريضة المزيفة عن ماهية هذا الدواء، كانت الإجابة: «إنه لرفع حالتك المعنوية.» كان الدواء هو «ستابلون»، وهو من مضادات الاكتئاب. ولم ترفض إلا طبيبةٌ واحدة إعطاءَ مضادات الاكتئاب: «إذا كنتِ تريدين دواءً مضادًّا للاكتئاب فلن تنالي منه هنا!» ولكن لم تطلب الصحفية في أي لحظة علاجًا معينًا، بل اكتفت بسرد أعراضها المحفوظة. ولكننا نخطئ إذا اعتقدنا أن جميع المرضى أبرياء. ويكفي للتأكد الاطلاعُ على منتديات الأدوية على شبكة الإنترنت. في معظم الأحيان تكون الرسائل مفجعة، فقد نرى لدى بعض المصابين بالهذيان: «صباح الخير، أنا أتعاطى الحشيش وبدأت أتناول دواء ستابلون؛ لأني أعاني من حالة اكتئاب وفقدان للرغبة الجنسية تصاحبها مشاكل في الانتصاب […] والأمر على ما يرام، وأعتقد أنني سأتمكن سريعًا من التوقف عن تناول ليفيترا (دواء لعلاج مشاكل الانتصاب). أرغب في معرفة رأيكم الطبي حول الخلط بين دواء ستابلون مع الحشيش؛ لأنه يتسبب لي في حالات سيئة وتسمم؛ نظرًا لحالة الاكتئاب لدي. ولكن، أأستطيع الآن الاستفادة من المخدرات التي تسعدني دون المخاطرة بإفساد العلاج؟ شكرًا.»

إنه طلب فردي، بل وأيضًا طلب مجتمعي … ويتطور القطاع (٧٠٠٠٠ مواطن في مجال الطب النفسي) من هيكل منطوٍ (الطب النفسي الإجباري) إلى هيكل منفتح، يتعاون مع باقي الأجهزة الصحية والطبية الاجتماعية. يجري الحديث الآن عن «التداخل بين القطاعات» («مخزن للوسائل والإمكانيات» فيما يتعلق بإدمان الخمور مثلًا أو الإدمان) أو أيضًا عن العمل في شبكات. فأصبح للطبيب النفسي الآن دورٌ في مجال أمراض الشيخوخة وعلاج السرطان، بل وأيضًا في حالات الطوارئ، وأيضًا مع المعاقين بالتحديد. في فرنسا، يوجد في المستشفيات العامة ما يقرب من ثلث القطاعات النفسية.

إلا أن المصحة النفسية المغلقة لم تختفِ على الرغم من كل هذا، بل إن عدد حالات «دخول المصحة دون موافقة المريض» (الاحتجاز الإجباري سابقًا) لا يتوقف عن الازدياد: بلغ ٨٦٪ بين أعوام ١٩٩٢ و٢٠٠١، عقب إصدار قانون السابع والعشرين من يونيو ١٩٩٠ الذي كان من المفترض أن يحل محل قانون ١٨٣٨، بينما كانت الزيادة قبلًا بين أعوام ١٩٨٠ و١٩٨٨ لم تكن «سوى» ٣٤٪.60 ولا تشير هذه المؤشرات المتوسطة إلى وجود تفاوت إقليمي كبير، فهناك بعض القطاعات لا تتوافر لديها الإمكانات البديلة لإدخال المريض للمصحة. ويبدو أن «اللجوء المعتاد لإدخال المريض المصحة دون موافقته أصبح هو الدليل على حدود حركة السعي لإخراج المرضى من المصحات.» ويصطدم المصطلح الرنان والحديث، دائمًا، «إخراج المرضى من المصحات»61 — والذي يطمح إلى «إعادة استقلالية المرضى وضمان حقوقهم وحرياتهم وتخفيض نفقات الصحة» — بالعديد من حالات الدخول الثاني للمصحة، وأيضًا بتنوع واختلاف «طرق العلاج النفسي»، وكذلك بارتباطها بتقنين تولي الأطباء مسئولية رعاية المرضى بطريقة متقطعة ومتشتتة بين عدة مؤسسات، ويصطدم أيضًا بالحدود التي تختلف كلية باختلاف الوسط الاجتماعي والعائلي.62
في الولايات المتحدة الأمريكية، نتحدث عن إعادة تكيفٍ أو إعادة اندماجٍ نفسي، والتي تترجم للأسف — أو إذا أردنا بشكل ذي مغزًى — بكلمة «إعادة التأهيل».63 أنشئ في البداية مركز إعادة التأهيل النفسي بجامعة بوسطن بهدف إعادة تأقلم المرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية كبرى؛ وذلك لتحسين «سيرهم وعملهم» عن طريق برامج لدعم الدراسة والوظائف والسكن.
أصبح الطب النفسي من الآن في عصر «الصحة العقلية» — مفهوم ممتد وبدأ في الظهور منذ عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية — يتماشى مع آمال الطبِّ النفسي الاجتماعي (بل وأيضًا بعض أوامرِه). وظهر مفهوم الصحة العقلية و«المواطنة» … «وتسللت إجراءات ضمان الصحة العقلية داخل إجراءات الاندماج المجتمعي.»64 وأصبح من اللازم مواجهة «المعاناة النفسية» عن طريق فحوصات ورعايات غير ثابتة. وفي الواقع، لم يعد الكثير من المهمشين في وضع يخولهم المطالبة بأي شيء؛ ومن ثم نشأ «الطب النفسي الاندماجي»، الذي يقوم على بنية معينة، بل وأيضًا «ترتيبات صغيرة»:65 شبكات صحية قريبة، وفريق عمل متنقل، و«أماكن» وطرق علاج «ديل» (حالات الإدمان)، وأيضًا أماكن للاستماع والرعاية الصحية؛ وهي كلها عوامل تتدخل بصورة طارئة ولا تتوقف عن لعب دور متنامٍ في مجال الصحة العقلية.66
ويتوسع مجال الطب النفسي بالتناسب: علاقة الأسرة/الطفل وأيضًا العمل/البطالة، فنتحدث الآن مثلًا عن «متلازمة أعراض الإنهاك والقلق والاكتئاب الذي يصيب المدرس.»67 وكذلك ظهر ما يعرف ﺑ «شعائر العنف» أو «الهوية الممزقة» … كما يصاحب أي كارثة إنشاء وحدة للمساعدة الطبية النفسية. وتقول كارولين إلياشيف (محللة نفسية) ودانيال سوليز (محامٍ)،68 إننا في الحقيقة أصبحنا في عصر يميل إلى «الإيذاء»، ولكن في ظل مجتمع يشجع إعلاميًّا كل ما هو تعاطفي وانفعالي؛ مما يشكل خطرًا على الضحايا أنفسهم؛ ربما لأن «الدعاية التي تصاحب الأمر (الاهتمام الإعلامي والجمعي) لا تكون متوافقة مع عملية إعادة بناء خصوصيته الداخلية.»69 واليوم، اتخذ «علم الدراسات المتعلقة بالضحايا» — والذي نشأ بنوايا طيبة عقب الحرب العالمية الثانية على يد المحامي الجنائي بنجامين مندلسون — من الضحايا أنفسهم رهائن، وهم عاجزون حتى عن التعبير عن أحزانهم وهم محتجزون بهذه الطريقة.
كما يوجد ما يُعرف ﺑ «إدارة العائلة» — الذي يدفعنا إلى التفكير في برنامج الواقع التليفزيوني «سوبر ناني (المربية الخارقة)» (وسرعان ما اتضح أن مصطلح «المربية» يحمل معنًى نفسيًّا عميقًا، ولا سيما أن «الدولة المربية» تعني «الدولة الأبوية»). واتخذ الطلب — الخاص أو المؤسسي — للطفل أو المراهق أهمية بالغة. وإلى الاضطرابات الخطيرة التي تؤثر على تطور الطفل وسلوك المراهق (فقدان الشهية المرضي والإدمان والسلوك العنيف أو الانتحاري، إلخ)، يُضاف حالات السقم «التي قد تظهر بعنف أو بهدوء في صورة مشاكل جسدية أو مدرسية.»70 وتتكون البنية التحتية العامة من قطاع محدد: قطاع الطب النفسي للأطفال والشباب (يشمل حوالي ٢٠٠ ألف مواطن). وتضم فرنسا ثلاثمائة وواحدًا وعشرين منهم، ولكن بنسب غير متساوية. وهنا أيضًا شهد عدد أسرَّة المصحات انخفاضًا جذريًّا أمام الهاجس المستمر للميزانية والخوف المحتمل من فكرة «الاحتجاز»، معطيًا فرصة لظهور بدائل للعلاج غير المستمر (٩٧٪)، وعادة بدوام جزئي. وفي عام ٢٠٠٠، تمت متابعة ما لا يقل عن ٤٣٢ ألف طفل ومراهق، بزيادة تقدر بالضعف عن عام ١٩٨٦ (زيادة في عدد الصبية أقل من خمسة عشر عامًا والعكس بعد ذلك). ويضاف إلى هذا النظام العام، مؤسسات أخرى ملحقة، ولعل أكثرها أهمية هي المراكز الطبية النفسية التربوية، والتي وصل عددها عام ١٩٩٦ إلى ثلاثمائة وثمانية مراكز. كما نلاحظ أيضًا التدخل المتزايد لروابط الأهالي الذين أصبح لديهم دور، وإن كان لا يتفق في كثير من الأحيان مع فريق «الأطباء النفسيين».
وعلى الرغم من كل هذا النظام (وهو بالتأكيد أكثر تعقيدًا مما نقوله هنا) وهذه الخطط العملية الدورية — التي ظلت دون تنفيذ (مثلًا خطة الكشف المبكر عام ٢٠٠١) — فقد أدت زيادة الطلب على هذا العالم المغلق للصحة العقلية «عالم داخل عالم» إلى حافة الاختناق. وأصبح من العادي أن تمتد مدة الانتظار للخضوع للكشف الأول إلى ستة أشهر. «نحن نساعد عددًا من الشباب، ولكن الكثير منهم لا يتمكن من بلوغ أنظمة الرعاية التي نوفرها»،71 وفي انتظار تحقق ذلك، يعد «الهاتف الطبي» (المستوحى من «الهاتف الاجتماعي» للكبار) طريقة للرعاية موجهة خِصِّيصَى للمراهقين. وأيضًا، بدأ الطب النفسي عن بعد (لئلا نخلطه بالطب النفسي التليفزيوني الذي يعدنا بوعود جميلة)، الذي هو امتداد للتطبيب عن بعد، بوضع شبكات جديدة للمساعدة النفسية عن بعد. وبدأ الأطباء النفسيون يتحدثون عن الأدوات وآخرون عن التطور الحتمي (والأقل تكلفة للجميع).
وبعيدًا عن الابتهاج بقدوم هذا الطب النفسي الجديد، أعرب الأطباء النفسيون بكل الطرق عن قلقهم إزاءه. فكان هنري إي قد ندد بالفعل بالاتجاه — التابع للطب النفسي الاجتماعي بعد الحرب — إلى «معالجة كافة التغيرات الطبيعية للسلوك الإنساني نفسيًّا: الطفل الذي يبكي بصوت عالٍ، أو الطالب الذي يرسب في امتحان البكالوريا، أو الطاغية الذي يأمر بمذبحة […] هذه هي بالفعل صورة الطب النفسي الاجتماعي الصِّرف، الذي — نظرًا لغياب أي تعريف لبنية الحدث النفسي الباثولوجي بعلاقته السببية الحقيقية — يخلط بينه بالضرورة وبين كافة آثاره الممكنة.»72 ووفقًا لإي، كان الأمر يتعلق بحكم الطب النفسي على ذاته بألا يضع تحديدًا للشكل النفسي الباثولوجي للمريض، و«بألا يفسره أبدًا، بل ولا يفهمه إلا بمعناه المضاد.»
وبعد عشرين عامًا، أثار هذا النفيُ للطب النفسي بسبب الامتداد غير المحدد لهدفه قَلَقَ لانتري لورا: «تميل ممارسة الطب النفسي إلى التدخل في مجالات قريبة، وإن بدت لنا ملاءمتُها محطًّا للنقاش؛ لأنه بِاسْم أي معرفة مزعومة يمكننا أن نعطي رأيًا تقنيًّا حقيقيًّا يتعلق بالقدرة على التبني أو المشورة الزوجية أو مخاطر الانتكاس؟»73 ويخشى لانتري لورا من التوسع المبالغ فيه للممارسة — المشروعة — للطب النفسي، «ليس فقط في مهام جديدة لم يتم التأكد فيها من قدرات الطبيب النفسية بصورة قطعية، بل أيضًا في مجالات تقليدية، ولكن بأهداف جديدة مثل الخبرة الجنائية.»
وتعد هذه المشكلة الأخيرة من المشاكل الجسيمة، فخبرة الطب النفسي لم تتوقف عن ملازمة الجنون؛ سواء لإصدار حكم بالمنع ضد المريض عقليًّا بسبب عجزه المدني (مأخوذ عن القانون الروماني)، أو لتقييم مسئوليته عن عمل إجرامي. وتنص المادة رقم ٦٤ من القانون الجنائي لسنة ١٨١٠ على الآتي: «لا توجد أي جريمة أو جنحة إذا كان المتهم في حالة من الجنون أثناء ارتكابه للفعل، أو إذا كان مقيدًا بقوة لا يمكنه مقاومتها.» وعلى مدار قرنين، انقسم الأطباء النفسيون حول قدراتهم على تعريف وتقدير ما هي «المسئولية». ويقول جيلبير باليه: «نحن لسنا مؤهلين للحسم في قضية المسئولية التي هي قضيةٌ ميتافيزيقية وليست طبية.»74 إلا أن هذا لم يمنع مجال ممارسة الطب النفسي عن التوسع ليشمل المجال الجنائي أيضًا (إطلاق السراح المشروط لأحد السجناء مثلًا)، بل وأيضًا المجال المدني (مثل البحث حول العواقب النفسية للإصابات الجسدية).

واليوم، أصبح هناك مجال واسع يسمى الطب النفسي الشرعي. وفيما يتعلق بمجال الاستعانة بالطب النفسي، فقد تنوعت أشكالها؛ فقد يضاف إلى طلب القاضي أو المحامي تقريرٌ نفسيٌّ إلى جانب التقرير الطبي النفسي (على الرغم من أن القانون ينص على الثاني فقط). كما اتسعت المجالات المعنيَّة: أنواع الوصاية المختلفة وحقوق الضحايا و«التشريح النفسي» عقب حالة انتحار (١٢ ألف حالة سنويًّا في فرنسا، وعلى الأرجح عشرة أضعاف هذا العدد من المحاولات) والأوامر العلاجية (الإجبار على الخضوع للعناية الطبية) تحت متابعة الإدارة العامة للشئون الصحية والاجتماعية في حالات الإدمان وإساءة المعاملة، بما في ذلك الإصابة «بمتلازمة أعراض مانشهاوزن» (وفيها يُحضر الآباء أبناءهم للخضوع للفحص النفسي لإصابتهم بأعراض تَسبب فيها الأبوان ذاتهما)، إلخ.

ومن الناحية القانونية، لا تعد المادة ٦٤ من القانون الجنائي هي الأساس في مجال الطب النفسي. فالمادة ١٢٢ الجديدة تنص في فقرتها الأولى على بند المسئولية الجنائية، ولكن تنص في فقرتها الثانية على أن: «الشخص الذي كان مصابًا وقت الواقعة باضطراب نفسي أو عصبي نفسي أحدث خللًا في قدرته على التمييز أو أعاق سيطرته على أفعاله؛ يظل خاضعًا للعقاب. إلا أن القضاء يأخذ في الاعتبار هذه الظروف أثناء تحديد العقوبة وتنظيم طريقة تطبيقها عليه.» ولكن أي نظام؟ على مستوى المؤسسة، يتم احتجاز مرضى الاعتلال العقلي الخطرين في «وحدات خاصة بالمرضى ذوي الحالات الصعبة»، ويبلغ عددها خَمسًا في فرنسا. وتم إنشاء قطاعات خاصة داخل المؤسسات العقابية البالغ عددها مائة وسبعًا وثمانين داخل فرنسا؛ حيث تزداد المشكلات الطبية النفسية: مثل قطاعات الطب النفسي في الأوساط العقابية. وتتساءل الطبيبة بيتي براهمي كبيرة الأطباء بقطاع الطب النفسي للمؤسسات العقابية بسجن فلوري ميروجي، ونائبة رئيس جمعية القطاعات النفسية بالمؤسسات العقابية: «لماذا يوجد هذا العدد من المرضى عقليًّا داخل السجون الفرنسية؟» عام ١٩٩٧، كانت نسبة «المرضى النفسيين» في السجن تصل إلى ٣٠٪ من السجينات و٢٠٪ من السجناء. بينما تشير أرقام أخرى إلى وجود ٤٥٪ من حالات الاكتئاب الحاد. ولقد قدمت تفسيرات عديدة لهذا الأمر على يد هذه الطبيبة الممارسة: لا تميز العدالة — ولا سيما في حالة المثول الفوري — إلا نادرًا المتهمين المصابين باضطرابات عقلية. أما الخبراء، فهم ليسوا على دراية ببيئة السجن، ويقللون تدريجيًّا من الإعفاء من المسئولية الجنائية، تاركين بالتالي مرضى اعتلال عقلي حقيقيين يذهبون للسجن؛ أحيانًا بحجة «استعادة مكانهم أمام القانون»، وأحيانًا أخرى لئلا يفرضوا على زملائهم العمل مع «هذا النوع الصعب من المرضى.» وإلى كل هذا، يضاف لوم الرأي العام لكل حادثة مأسوية تشكك في عدم مسئولية الفاعل جنائيًّا. ووفقًا للأطباء النفسيين، فلا يوجد مجال لاستمرار حجز شخص داخل المصحة النفسية (حتى وإن كان غير مسئول جنائيًّا) دون سبب لبقائه في المصحة. نعم، قد تحدث انتكاسة بعد الخروج، ولا سيما إذا توقف المريض عن العلاج. ولكن، كما يشير الخبير الطبي النفسي دانيال زاجوري: «فإن الانتكاسة الخطيرة هي استثناء الاستثناء. فكل مرة، تكون المشكلة أن هذا الأمر يفجر داخل الإعلام والسياسات خطابًا يتمحور حول الجانب الانفعالي فقط.»75 وتضيف الطبيبة براهمي أن عدم معرفة محاكم النقض بهذه الحالات النفسية قد يؤثر سلبًا على متهم مريض بالفصام، والذي تترك طباعه «السلبية» انطباعًا سيئًا لدى القاضي والمحلفين.
ويعد تأثير ظروف الاعتقال على المحتجزين معروفًا، ولن نزيد عليه. فهذه الظروف تفسر «الإصابات النفسية مثل نوبات الهذيان الحاد التي تصيب أشخاصًا لم يتم اعتبارهم مرضى اعتلال عقلي خارج السجن.» ولا تُبدي الطبيبة براهمي أيَّ تهاون أمام الطب النفسي العام الذي يبرِّر — على حد قولها — «جزءًا من زيادة عدد مرضى الاعتلال العقلي المعتقلين.» فهناك دائمًا نقص في الوسائل، ومقاومة من الإدارة، وقلة في عدد الأسرَّة وعدد المراكز، وقلة المتابعة بعد العقوبة … ولقد نص قانون التوجيه والبرمجة للعدالة (قانون آخر جديد) بتاريخ التاسع من سبتمبر ٢٠٠٢ على إنشاء وحدات علاجية مُهيَّأة خِصِّيصَى ومزودة بفريق عمل من الأطباء النفسيين، ولكن في حماية فريق عمل من المؤسسة العقابية. لم يلقَ هذا الحلُّ البراجماتي إجماعًا، إلا أن مجتمعنا من باب الحيطة (ليس فقط أخذ ما هو محتمل في الاعتبار، بل محاولة القضاء على أي احتمالية)76 جعله متضمنًا للخطر النفسي منطقيًّا.
«وكتب بوريس سيرولنيك77 — دون أن ندري بالضبط مِن أين له هذه الإحصاءات المماثلة — أن شخصًا من كل اثنين في نهاية حياته يكون قد تعرض لحدث يمكن وصفه بالصدمة النفسية، أو خضع لعنف ما جعله يقارب الموت. وأن هناك شخصًا من كل أربعة أشخاص قد يتعرض لعدة نوبات من الهذيان. وأن هناك شخصًا من كل عشرة أشخاص لن يتمكن من التخلص من آثار هذه الصدمة النفسية.» وهذا بالطبع عدد كبير، إلا أن الطب النفسي موجود في كل مكان، حتى وإن ألمحت عالمة الاجتماع ديلفين مورو «أنه بدأ يتراجع على ساحة التصور العام، ليغوص في أشكال غير مرئية.»78

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤