تمهيد

أين سينتهي كل شيء؟

ما سيكونُ سيكون
ما سيكونُ سيكون
المستقبل ليس مِلكنا لنراه
ما سيكونُ سيكون.
جاي ليفينجستون، وراي إيفانز

المشكلة الكبرى في توقُّع نهاية العالم هي أننا لن نفرح بصحَّة هذا التوقُّع إن ثبتت صحته. إلا أن هذا لم يثنِ جحافل مدَّعي معرفة الغيب عن توقُّع زوال كوكبنا أو فناء الجنس البشري، لا لشيء إلا ليلفظوا أنفاسهم الأخيرة دون أن ينالوا الفرصة ليقول كلٌّ منهم: «ألم أقل لكم؟» ولو أجرينا قدرًا من التعديل على كلمات مارك توين العظيم، لقلنا إننا قد بالغنا كثيرًا في الاهتمام بأمر فناء الجنس البشري. ومع ذلك فالسؤال المهم هنا هو: إلى متى ستظل الحال على ما هي عليه؟

وجوابًا عن ذلك، سيكون من المعقول تمامًا أن نقول إن العالم لا شك إلى زوال، وذلك في غضون نحو خمسة مليارات سنة عندما ينفد وقود شمسنا في نهاية المطاف، فتتضخم لتصبح عملاقًا أحمر منتفخًا يحرق كوكب الأرض عن آخره. على الجانب الآخر، سنجد أحد متخصصي علم الأخرويات المتحمسين يعارض قطعًا ذلك الرأي، وينطلق ليسرد بحماسٍ العديد من الطرق البديلة والخيالية التي يمكن أن ينتهيَ بها عالمنا ويَفْنَى بها جنسُنا في وقتٍ أقرب من ذلك، وسيذكر منها — على سبيل المثال — الأمراض، والحروب، والكوارث الطبيعية، والتجارب الفيزيائية الغريبة التي تحيد عن المسار الصحيح. ونظرًا للحالة الراهنة لكوكب الأرض فربما تكون معذورًا لو أعدت النظر في الأمر. لعلنا بالرغم من كل شيء سنواجه «نهاية قريبة» كما قال جون ليزلي بإيجاز في كتابه «نهاية العالم»، وليس «نهاية مؤجَّلة». الواقع أنه في ظل تسارُع ظاهرة الاحترار العالمي، والانفجار السكاني، والهيمنة العسكرية المتجددة للقوى العظمى، قد نكون أكثر منطقية إن قلنا إن المغامرة الكبرى للجنس البشري قد شارفت على الانتهاء، بدلًا من استمرارها في المستقبل وعبر الفضاء الفسيح.

ومما يثير شيئًا من القلق أن عالِم الكونيات براندون كارتر — الذي درس في جامعة كامبريدج — قد خرج علينا بفرضية تؤيد — استنادًا إلى نظرية الاحتمال — هذا الرأي. وتقول فرضيته المتعلقة بنهاية العالم إننا لو افترضنا أن جنسنا سينمو ويستمر ملايين أو حتى مليارات السنين، فهذا يعني أن مَن منَّا على قيد الحياة اليوم لا بد أنهم ينتمون إلى جزء متناهي الصغر من البشر الذين كانوا يعيشون في بداية التاريخ البشري. ويجزم كارتر أن ذلك الأمر مستبعَد إلى أقصى درجة من الناحية الإحصائية. والأكثر احتمالًا أننا نمثل الآن عشرة بالمائة من الجنس البشري. بعبارة أخرى، سوف يفنى البشر قبل أن تُتاح لهم أي فرصة لينتشروا عبر الفضاء بأي عدد يُذكر بفترة طويلة.

ويوضح جون ليزلي هذه الفرضية بما يلي: تخيل أن اسمك مُدرَج في سَحب اليانصيب، لكنك لا تعرف عدد الأسماء الأخرى المدرجة في السحب. مع ذلك، لديك سببٌ للاعتقاد أن هناك احتمالين متساويين: إما أن يكون العدد الإجمالي ألفًا أو يكون عشرة. عندما تُجرَى عملية السحب، تكون ورقتك إحدى الأوراق الثلاث الأولى؛ ومن ثَمَّ، فإن قلةً من الناس هم من سيعتقدون — في مثل هذه الظروف — أن السحب كان يضم ألف ورقة لا عشرًا.

إذا صحت فرضية نهاية العالم — والواقع أنها ثبتت في وجه عدد من الهجمات الشرسة من جانب بعض كبار المفكرين — فهذا يعني أن المهلة التي أمامنا لا تتجاوز بضعة قرون قبل أن يفنى جنسُنا أو كوكبُنا أو كلاهما لسببٍ أو لآخر. ومع أنني منشغل بأمر نهاية العالم والكوارث منذ ما يقرب من ربع قرن، فإنني لا يسعني إلا أن يكون لديَّ على الأقل شيء من التفاؤل؛ فإبادة ٦٫٥ مليارات شخص أو أكثر بضربة واحدة ليست بالأمر الهيِّن، والعديد مما يسمَّى سيناريوهات «نهاية العالم» ليست في الواقع من هذا القبيل، وإنما ستؤدي — في أسوأ الأحوال — إلى انخفاض حاد في أعداد البشر، أو اختزال حضارتنا التكنولوجية العالمية إلى شيء أشد بساطة وأكثر محدودية لبعض الوقت على الأقل، أو كليهما معًا. ولذلك فأنا شخصيًّا منفتح العقل بشأن ما يسمِّيه ستيفن باكستر «كارثة كارتر» في روايته «مجمَّع الأكوان: الزمن». ليس هناك شك في أن الجنس البشري أو نسله إلى فناء في نهاية المطاف، لكن وقت هذا الفناء قد يكون بعيدًا كل البُعد عن يومنا هذا.

لعل هذه هي اللحظة المناسبة لنلقيَ نظرة أكثر تفحصًا على مفهومنا لعبارة «نهاية العالم»، وكيف سنتناول هذا المفهوم في كتابنا. أرى أن هذا المفهوم قد يُفسَّر بأربع طرق مختلفة: (أ) دمار شامل لكوكبنا ولجنسنا البشري؛ وهو أمر سيحدث بلا شك إن ظلت جميع البويضات البشرية محصورة داخل نطاق كوكبنا الأرضي، وذلك عندما تتحول شمسنا إلى «نجم مستعر» بعد خمسة مليارات عام من الآن؛ أو (ب) فقدان كوكبنا الأرضي بسبب كارثةٍ من الكوارث، مع بقاء عدد على الأقل من الجنس البشري في عوالم أخرى؛ أو (ﺟ) فناء الجنس البشري بسبب مرض خبيث لا مفر منه، مع بقاء الكوكب؛ أو (د) نهاية العالم «الذي نعرفه». سأركز في هذا الكتاب على السيناريو الأخير، وسينصبُّ حديثنا على تناول الأحداث الجيوفيزيائية العالمية التي يمكنها أن توجِّه لجنسنا البشري ولمجتمعنا التكنولوجي ضربة قاصمة، إن لم تكن مميتة، وأعني بها الكوارث الطبيعية التي تبلغ من سعة النطاق والقوة ما يكفي لإنهاء عالمنا الذي نعرفه. لن أشغل نفسي بتناول الأخطار التكنولوجية الناشئة عن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات، والهندسة الوراثية، وتكنولوجيا النانو، وتجارب فيزياء الطاقة العالية التي تُجرى على قدم وساق. ولن أتطرق أيضًا — باستثناء الاحترار العالمي — إلى محاولات بعض البشر للحدِّ من أعداد الجنس البشري عن طريق الحروب النووية أو الكيميائية أو البيولوجية. بل إنني أريد بدلًا من ذلك أن أعرض لكم طرفًا من أسوأ ما يمكن للطبيعة أن تفعله بنا، إما من تلقاء نفسها أو بمساعدتنا.

مع أن الطبيعة غير خطرة في الأغلب، فإنها قد تنقلب إلى عدو مخيف، وقد خاضت البشرية معركة شبه مستمرة ضد تقلباتها من فيضانات مغرقة، وعواصف مهلكة، وزلازل مدمرة، وثورات بركانية كارثية. في السادس والعشرين من شهر ديسمبر عام ٢٠٠٤، أذاقنا تسونامي آسيا المفجع جرعة من أسوأ ما يمكن أن تجرعنا إياه الطبيعة؛ فقد دمَّر ٤٠٠ ألف مبنًى، وأودى بحياة ٣٠٠ ألف شخص من ٤٠ بلدًا مختلفًا — من بينهم ١٠٠ ألف طفل — وترك وراءه ٨ ملايين شخص مُعدِمين بلا مأوًى أو عمل. ومع أن نطاق التركة المفزعة التي خلَّفها تسونامي وراءه لم يسبق له مثيل في العصر الحديث، فقد حالفنا كثير من الحظ إجمالًا، ونَمَتْ حضارتنا وتطورت في ظل هدوء نسبي من الناحيتين المناخية والجيولوجية. لكن ما ينتظرنا في القرن المقبل وما بعده لا يبشر بالخير أبدًا؛ فالارتفاع الكبير في درجة الحرارة ومستوى سطح البحر خلال العقود القادمة، والناجم عن الغازات الدفيئة — فضلًا عن الزيادة المستمرة في عدد السكان — سيؤدي دون شك إلى زيادة كبيرة في عدد وشدة ما سيقع من كوارث طبيعية. ومما يتعارض مع حدْسنا أنه قد ينتهي الأمر ببعض الأجزاء من كوكبنا وقد بلغت من البرودة مبلغًا؛ فالمملكة المتحدة — على سبيل المثال — قد تكون في طريقها إلى التجمد في هذا القرن في ظل الضعف الذي يعتري تيار الخليج الدافئ. تُرى ما الذي حدث تحديدًا للعصر الجليدي الجديد الذي تنبَّأ العلماء بقدومه؟ هل تلاشى ذلك الخطر مع بداية ظاهرة الاحترار العالمي التي تسبب فيها الإنسان؟ أم أن الأنهار الجليدية تتحيَّن الفرصة المناسبة؟

مع أن تغير المناخ من الناحية الجيولوجية يُعد سريعًا، فإنه بطيء الظهور مقارنةً بمتوسط عمر الإنسان، ويمكن — إلى حدٍّ ما على الأقل — قياس تقدُّمه والتنبؤ به. الأكثر صعوبةً في التنبؤ هي تلك الأحداث الجيولوجية التي تبلغ من العِظَم ما يكفي لتدمير الجنس البشري بأكمله، والتي لم نشهدها بعدُ في العصر الحديث. ويمكن تقسيم تلك الأحداث بوجهٍ عامٍّ إلى ظواهر تقع خارج كوكب الأرض وأخرى تقع داخله. يتضمن النوع الأول الخطر المعروف على نطاق واسع والناشئ عن اصطدام كوكبنا بالمذنَّبات أو الكويكبات. فاصطدام جرم فضائي صغير نسبيًّا — لا يجاوز قُطره كيلومترين — بكوكبنا قد يمحو من الوجود نحو رُبع سكان الأرض.

أما احتمال أن تأتيَ الكارثة من الأرض نفسها فلم يتناوله كثيرون بالتوثيق، لكن خطر وقوع كارثة طبيعية عالمية تنشأ من غليان قشرة الأرض وصريرها تحت أقدامنا هو خطر حقيقي قائم. وفي انتظارنا ثلاثة أحداث ملحمية سبق لكوكبنا أن شهدها عدة مرات خلال عصور ما قبل التاريخ، لكننا سنشهدها في عصور التاريخ. منذ ٧٤ ألف عام، أحال انفجار بركاني هائل كارثي كوكب الأرض إلى شتاء بركاني مرير، وقبل ما يزيد عن ١٠٠ ألف عام بقليل سحقت موجات عملاقة ناجمة عن انهيار أحد البراكين في هاواي ساحلَ المحيط الهادي بأكمله بلا رحمة. وقُبيل ألف عام من ميلاد المسيح، ومرة أخرى خلال عصور الظلام، ضربت عاصفة زلزالية رقعة كبيرة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، فأتت على مدن عظيمة على مساحة هائلة فسوَّتها بالأرض. وليس هناك شك في أن مثل هذه الكوارث التكتونية ستحدث مرة أخرى في المستقبل، لكن يا ترى ماذا سيكون تأثيرها على مجتمعنا العالمي القائم على التكنولوجيا؟ وإلى أي مدًى سننجح في مواجهة ذلك؟ هذا أمر يصعب التنبؤ به، لكن لا شك أن أوضاع معظم سكان الأرض سوف تنعطف نحو الأسوأ.

نظرًا لأننا نعيش على سطح أكثر أجرام النظام الشمسي نشاطًا، يجب أن نضع دومًا نُصب أعيننا أننا لا نحيا ونزدهر إلا عن طريق الصدفة الجيولوجية. وكما سنتناول في الفصل الرابع، فقد كشفت الدراسات التي أُجْرِيَتْ مؤخرًا على الحمض النووي البشري أن الجنس البشري كان قاب قوسين أو أدنى من أن ينقرض في أعقاب انفجار بركاني هائل لم يسبق له مثيل قبل ٧٤ ألف عام، وأننا لو كنا نعيش على سطح كوكبنا منذ نحو ٦٥ مليون عام عندما ضرب الأرضَ كويكبٌ قُطره ١٠ كيلومترات، لكُنا اندثرنا كما اندثرت الديناصورات. وهناك حقيقة علينا أن نواجهها، وهي أنه ما دمنا نحصر أنفسنا على كوكب واحد في النظام الشمسي، فإن فُرص بقاء الجنس البشري على المدى الطويل ستظل دائمًا ضعيفة. ومهما بلغت تقنياتنا من تقدم، ما دمنا نتقوقع داخل كوكب الأرض، فستظل تحدق بنا دائمًا كل أخطار الطبيعة وتقلباتها العنيفة. وحتى لو كنا نرفض سيناريو اقتراب النهاية، فمن المرجَّح أن التقدُّم الذي يحرزه الجنس البشري سيكون مصيره الإعاقة أو التدمير على يد سلسلة من الكوارث الطبيعية العالمية التي سوف تنشأ على فترات غير منتظمة ما دامت الأرض موجودة، وما دمنا نعيش عليها. ومع أن بعض هذه الأحداث قد تضع نهاية العالم الذي نعرفه، وتمنع وقوع اصطدام كبير لكوكبنا بكويكب آخر أو مُذَنَّب آخر كالذي أتى على الديناصورات، فإنه من المرجح أن يظل الجنس البشري على قيد الحياة وأن يحرز تقدمًا في المجمل؛ ولذلك ففي مرحلةٍ ما في المستقبل، سوف نبدأ في التحرك للخروج إلى الفضاء، لنبدأ بالعوالم الشبيهة بعالمنا ثم نتحول إلى النجوم. وفي ظل المناخ السياسي الحالي الذي يتوخى المصلحة الذاتية، من المستحيل التنبؤ بالوقت الذي سنشهد فيه تحركًا جادًّا نحو الفضاء، لكن متى حدث هذا فإنه سيكون للبشر جميعًا حينها أن يتنفسوا الصُّعَداء. أخيرًا ستنتقل بعض البويضات البشرية على الأقل إلى سلَّة مختلفة. لا يعرف أحدٌ ما قد يحدث بعد ذلك. وكما سيبين هذا الكتاب، عندما يتعلق الأمر بعلم فيزياء الأرض، فإن ما كُتِبَ سيحدث لا محالة.

بيل ماجواير
هامبتون، إنجلترا
أغسطس ٢٠٠٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤