الفصل الرابع

العدو الداخلي

انفجارات بركانية هائلة، وأمواج تسونامي عاتية، وزلزال كبير قادم

جحيم على الأرض

تخيل أسوأ منظر ممكن للجحيم؛ الرائحة الكريهة للغاز الكبريتي تملأ عالمًا مظلمًا لا يَشق ظلمتَه سوى وهج أحمر باهت في أفق بعيد غير مرئي؛ رمادٌ ثقيلٌ ينهمر من أعلى كالثلج الحُبيبي يسد العينين والأنف والأذنين بأسرع مما يمكن إزالته. ها أنت ذا تختنق وتحاول التقيؤ، فتُدخل أصابعك في فمك محاولًا دون جدوى إخراج اللعاب الرمادي الذي يقتحم جهازك التنفسي اقتحامًا مع كل نفس تلتقطه بصعوبة بالغة. فجأةً يكشف برق يخطف الأبصار عن المشهد المرعب لأرض موردور — تلك الأرض الخيالية التي ورد ذكرها في ملحمة «سيِّد الخواتم» للكاتب جون تولكين — وقد اندثرت كل معالمها المألوفة تحت رماد يتراكم بمعدل نصف متر في الساعة. يُعلن صوت رعد يصم الآذان عن عودة الظلام وبداية طوفان عارم. وفي غضون ثوانٍ، تتحول انجرافات الرماد إلى سيول مندفعة من الطين تكاد تطرحك أرضًا. وحين يجتمع المطر المتساقط والرماد معًا، تقصفك السماء بكُريَّات لزجة من الطين يزداد سُمكها فوقك لتعيقك عن الحركة. ليس هناك ما يشير إلى أن الشمس قد أطلَّت يومًا على تلك الأرض بأشعتها الدافئة، لكن الجو أبعد ما يكون عن البرد. الواقع أن جسدك يُشوى شيئًا فشيئًا وسط الحرارة الخانقة المتصاعدة من فرن الطبيعة، والعرق يتصبب من كل فتحة مسام في جسدك ليختلط مع أنهار الوحل التي تغطي كل شبر من جلدك.

البعض من نصف المليار نسمة الذين يسكنون مناطق الخطر حول نحو ٥٠٠ من البراكين المعروفة بنشاطها على مر التاريخ لا يحتاج إلى استخدام خياله؛ فقد رأَوْا الجحيم بأم أعينهم. ولو عرضتَ الوصف الذي قدمناه هنا على أحد الناجين من ثورة بركان بيناتوبو عام ١٩٩١ (الفلبين) أو الثورتين التوءمتين لبركانَي فولكان وتافورفور في رابول (بابوا غينيا الجديدة) بعدها بثلاث سنوات؛ لأومأ برأسه قائلًا: «رأيت هذا الجحيم بعيني!» وبالرغم من بشاعة ذلك المشهد لمن يعيش منَّا بعيدًا عن منحدرات البراكين، فليس فيه ما يثير الاستغراب. لكن ماذا لو حدث هذا على بُعد ١٥٠٠ كيلومتر من الثوران البركاني؟ سيكون ذلك حدثًا استثنائيًّا؛ لأنه سيعني أن «الانفجارات البركانية الهائلة» — أحد أشد الظواهر الطبيعية فتكًا — قد مزقت كوكب الأرض. فأمام تلك الانفجارات العملاقة تتضاءل فداحة أكبر الثورات البركانية في العصر الحديث؛ ومقارنةً بها يكاد ينعدم هول الثوران البركاني الكارثي الذي ضرب كراكاتوا (إندونيسيا) عام ١٨٨٣ وأسفر عن مقتل نحو ٣٦ ألفًا من سكان جاوة وسومطرة. بل إن الثوران العملاق الذي مزق أوصال جزيرة ثيرا اليونانية قبل الميلاد بألف وخمسمائة عام (والذي تسبب في زوال الحضارة المينوية، وأطلق أسطورة أطلانتيس الخالدة) سيبدو كمفرقعة نارية إذا ما قورن بذلك الحدث المزلزِل.

لحسن حظنا أن تلك الانفجارات البركانية الهائلة ليست شائعة، وتشير التقديرات إلى أنه طوال المليوني سنة الأخيرة من تاريخ الأرض لم تشهد الأرض من تلك الانفجارات سوى انفجارَين كل مائة ألف سنة. أسفرت آخر كارثة من هذا النوع عن تحطم القشرة الأرضية في تاوبو بالجزيرة الشمالية في نيوزيلندا قبل ٢٦٥٠٠ سنة. لكن لا يعني ذلك أننا سنكون في مأمن مدة أربعة وعشرين ألف سنة أخرى؛ فالظواهر الطبيعية — مثلها مثل الحافلات — لا تبالي كثيرًا بجدول المواعيد؛ ومن ثَمَّ فقد يقع انفجار بركاني هائل خلال ١٠ سنوات أو ١٠٠ ألف سنة. المفزغ في الأمر أن الانفجارات البركانية الهائلة — خلافًا للثورات البركانية «العادية» — حين تقع لن تكون هناك إمكانية لتفادي عواقبها المدمرة. فمن يعيش منا في بلدان أبعد ما تكون عن القلاقل الجيولوجية سيجد عالمنا الدافئ ينقلب رأسًا على عقب بسبب الانفجار البركاني الهائل القادم، حتى لو كان سيحدث في أراضٍ بعيدة على الجانب الآخر من الكوكب. وهذا يرجع إلى ما سيكون له من أثر هائل على المناخ؛ فما يتصاعد من رماد وغاز عاليًا في الغلاف الجوي سيقلل كثيرًا من كم الأشعة الشمسية التي تصل إلى سطح الأرض، ويتسبب في قدوم شتاء بركاني شديد البرودة يشمل العالم بأسره.

وقبل التطرق إلى العواقب الوخيمة للشتاء البركاني القادم، دعونا نُلقِ نظرة أكثر تفصيلًا على مقياس الانفجارات البركانية الهائلة مقارنةً بالثورات البركانية العادية. وُضع عدد من المقاييس في السنوات الأخيرة للمقارنة بين أحجام الثورات البركانية. ومن أقدم تلك المقاييس وأكثرها شيوعًا «مؤشر التفجر البركاني» الذي وضعه عالمَا البراكين كريس نيوهال وستيف سيلف عام ١٩٨٢، وكان هدفه في الأساس تقدير حجم الثورات البركانية التاريخية وشدتها والمقارنة بينها. ويشير حجم الانفجار إلى كتلة المواد التي يطلقها، بينما شدة الانفجار مقياسٌ للمعدل الذي تُطلَق به تلك المواد. ويتميز هذا المؤشر بأنه لوغاريتمي (مثل مقياس ريختر المعروف لقياس شدة الزلازل)، وهو ما يعني أن كل نقطة على المقياس تمثل انفجارًا أكبر عشر مرات من الانفجار الأدنى منه مباشرة. وهكذا يكون ثوران بركاني قوته ٥ درجات على مؤشر التفجر البركاني أكبر عشر مرات من ثوران بركاني قوته ٤ درجات على مؤشر التفجر البركاني، في حين أن ثورانًا بركانيًّ قوته ٦ درجات يكون أكبر مائة مرة، وثورانًا بركانيًّا قوته ٧ درجات يكون أكبر ألف مرة. عند قاعدة المؤشر، تسجِّل التدفقات الطفيفة للحمم البركانية التي تميز معظم الثورات البركانية مثل كيلوا وماونا لوا في هاواي درجة صفر، في حين أن الثورات البركانية الطفيفة التفجر التي تطلِق من الرماد ما يكفي لتغطية لندن أو نيويورك بطبقة خفيفة من الغبار تسجل درجة أو درجتين. ولا يستهوي المؤشر خبراء علم البراكين إلا حين يرتفع إلى قيم أعلى من ذلك؛ فهم يصفون الثوران البركاني الذي يسجل ٣ درجات على مؤشر التفجر البركاني بأنه «متوسط»، والذي يسجل ٤ درجات بأنه «كبير». وهذه النوعية من الثورات البركانية تسفر عن دمار شامل في البقعة المحيطة بها، مطلقة أعمدة من الرماد يصل ارتفاعها إلى ٢٠ كيلومترًا في الغلاف الجوي، وتدفن المناظر الطبيعية المحيطة بها تحت أكوام من الحطام البركاني يبلغ سُمكها مترًا أو أكثر. عام ١٩٩٤، دُمرت بلدة رابول في بريطانيا الجديدة (بابوا غينيا الجديدة) بسبب ثوران بركاني بهذا الحجم، وما هي إلا سنوات قليلة — تحديدًا عام ١٩٩٧ — حتى عانت مدينة بليموث عاصمة جزيرة مونتسيرات الكاريبية من المصير نفسه. الثورات البركانية التي تسجل ٥ درجات على المؤشر — مثل بركان جبل سانت هيلين (بولاية واشنطن الأمريكية) عام ١٩٨٠ الذي نال حظًّا وافرًا من التغطية الإعلامية — عادةً ما تُسبب حالة من الفوضى على نطاق محلي؛ أما الثورات البركانية التي تسجل ٦ درجات فقد تسبب دمارًا على المستوى المحلي وتكون لها آثار طويلة الأمد. وربما تكون ثورة بركان بيناتوبو في الفلبين عام ١٩٩١ أكبر ثورة بركانية عرفها القرن العشرون؛ فقد أطلق من الرماد والحطام ما يكفي لدفن وسط لندن تحت طبقة يبلغ ارتفاعها كيلومترًا واحدًا وتشريد مئات الآلاف. ولسنوات بعد تلك الكارثة ظلت التدفقات الطينية التي يغذيها الرماد تنصبُّ على جانبَي البركان الذي عاد إلى الخمود من جديد، وتسبب ذلك في انسداد الأنهار، ودفن الأراضي الزراعية، وإغراق البلدان والمدن. أما إن تحدثنا عن ثوران بركاني يسجل سبع درجات على مؤشر التفجر البركاني، فعلينا أن نعود بالزمن إلى ما يقرب من قرنين من الزمان؛ تحديدًا عام ١٨١٥ حيث دارت رحى معركة ووترلو الشهيرة. فبينما كان جيشَا ويلينجتون ونابليون يتنافسان للهيمنة على أوروبا، ثار بركان يُسَمَّى تامبورا كان خاملًا منذ فترة طويلة على جزيرة سومباوا الإندونيسية، ثورة عارمة فيما قد يُعد الثوران الأكبر منذ نهاية العصر الجليدي قبل ١٠ آلاف سنة. تحدَّث السير ستامفورد رافلز — الذي كان يشغل حينها منصب نائب الحاكم البريطاني لجزيرة جاوة — عن سلسلة من الانفجارات الهائلة دوَّى صداها في سومطرة على بعد ١٦٠٠ كيلومتر. وعندما انتهت تلك الثورة البركانية بعد ٣٤ يومًا، كانت قد خلَّفت وراءها ١٢ ألف قتيل. ومع ذلك، ففي الأشهر التالية، وقع ٨٠ ألف إندونيسي فريسة للمجاعات والأمراض بينما كانوا يصارعون من أجل العثور على الغذاء والمياه الصالحة للشرب في الأماكن التي فتك بها الرماد البركاني.

لا شك أن بركان تامبورا قد ألحق الدمار الشامل بشعب إندونيسيا، لكن آثاره المباشرة كانت مقتصرة على قطاع واحد من جنوب شرق آسيا. أما عن آثاره غير المباشرة، فقد عانى منها كثير من دول العالم. فإلى جانب نحو ٥٠ كيلومترًا مكعبًا من الرماد، أطلق بركان تامبورا نحو ٢٠٠ مليون طن من الغازات المشبعة بالكبريت إلى طبقة الستراتوسفير، لتحملها رياح الارتفاعات العالية سريعًا إلى جميع أنحاء الكوكب. سرعان ما امتزجت الغازات بالماء في الغلاف الجوي لتشكل ١٥٠ مليون طن من إيروسولات حامض الكبريتيك؛ وهي جزيئات دقيقة من السائل قادرة على حجب الإشعاع الشمسي عن الأرض. وفي غضون أشهر، بدأ مناخ نصف الكرة الشمالي في التدهور، وانخفضت درجات الحرارة إلى حدٍّ عُرف معه عام ١٨١٦ بأنه «عام بلا صيف». تشير التقديرات إلى أن درجات الحرارة العالمية حينها انخفضت نحو ٠٫٧ درجة مئوية — أي ما يساوي تقريبًا سُبع الانخفاض المطلوب لدخول الكوكب في عصر جليدي كامل — ليتسبب ذلك في موجة صقيع صيفي، وثلوج، وأمطار غزيرة. ولعل الأحوال الجوية المتردية تلك هي التي شحذت خيال الكاتبة المبدعة ماري شيلي ليتفتق عن أكثر بنات أفكارها شهرة؛ وهي رواية «فرانكنشتاين»، في حين يقال إن كمَّ الرماد الهائل وغروب الشمس المشبع بالغازات قد ألهما الرسام البريطاني جوزيف مايور تيرنر أهم أعماله.

بالتأكيد كانت الأحوال الجوية في أوروبا وأمريكا الشمالية عام ١٨١٦ سيئة للغاية، لكن هل يمكن لثوران بركاني في جزء بعيد من العالم أن يغير المناخ لدرجة ينهار معها المجتمع وينتهي العالم الذي نعرفه؟ تشير الأدلة المستمدة من الماضي إلى أنه لا شك في إمكانية حدوث ذلك. ولو عدنا بالسجل الجيولوجي إلى الوراء — إلى العصر الأوردوفيشي منذ ما يقارب ٤٥٠ مليون سنة — لوجدنا أن ثورانًا بركانيًّا عملاقًا وقع فيما يُعرف الآن بأمريكا الشمالية قد أطلق من الرماد وتدفقات الحمم البركانية ما يكفي لمحو كل شيء على مساحةٍ لا تقل عن مليون كيلومتر مربع؛ أي ما يعادل مساحة جمهورية مصر العربية، أو أربعة أضعاف مساحة المملكة المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، لا بد أن كمية الغاز والحطام التي أطلقها ذلك البركان في الغلاف الجوي كانت هائلة. ولو اقتربنا قليلًا من عصرنا الحالي — أي قبل مليونَي سنة فحسب — لوجدنا منطقة يلوستون في وايومنج تشهد ثورانًا بركانيًّا مروعًا بلغ من القوة أن خلَّف وراءه فوهة بركانية عملاقة (يطلَق عليها اسم كالديرا) قطرها ٨٠ كيلومترًا، وأطلق رمادًا سقط على ١٦ ولاية أمريكية. وقد وقع ثوران بركاني هائل آخر في يلوستون منذ نحو ١٫٢ مليون سنة، وانفجار ثالث منذ ٦٤٠ ألف سنة. ولو وقعت تلك الكارثة الأخيرة اليوم، لتركت الولايات المتحدة واقتصادها في حالة يُرثى لها، ولجعلت المناخ العالمي في حالة متردية.

اجتاح ذلك الثوران البركاني المناطق الريفية المحيطة بتيارات بلغت قوتها قوة الأعاصير من الصُّهارة البركانية والغازات المتوهجة التي تُعرف باسم تدفقات الحمم البركانية الفتاتية، وكانت أحجام تلك التدفقات كافية — لو نُشرت في جميع أنحاء البلاد — لتغطية الولايات المتحدة الأمريكية بأكملها بطبقةٍ سُمكها ٨ سنتيمترات. تساقط الرماد بعيدًا حتى وصل إلى أماكن تشغلها الآن مدينتا إل باسو (في ولاية تكساس) ولوس أنجلوس (في ولاية كاليفورنيا)، بل وعُثر على الرماد الناجم عن ثوران يلوستون في عينات حفر جيولوجية من قاع البحر الكاريبي. ومع أنه لم تُسجل أي ثورات بركانية في يلوستون لمدة ٧٠ ألف سنة، فإن الينابيع الساخنة، وعيون الماء الحارة المذهلة، والبرك الطينية المتدفقة تشهد أن الصهارة الساخنة لا تزال في مكانٍ ما غير بعيد عن سطح الأرض. ويؤيد هذا أيضًا العديدُ من الزلازل التي تهز المنطقة، وما يطرأ على سطح الأرض هناك من عمليات ارتفاع وهبوط دورية. لا يعرف أحد متى ستشهد منطقة يلوستون انفجارًا بركانيًّا هائلًا مدمرًا آخر، ولا حتى إذا كان هذا سيقع من الأساس أم لا. تتراوح فترات العودة بين انفجارات يلوستون الثلاثة الكبرى بين ٦٦٠ ألفًا و٨٠٠ ألف عام؛ ولذا فلا نبالغ إن توقعنا ثورة بركانية جديدة قريبًا أو إن انتظرناها ما يزيد على مائة ألف سنة. ومن الوارد أيضًا ألا تشهد منطقة يلوستون انفجارات بركانية هائلة أخرى، وأن يخبوَ النظام البركاني العملاق تدريجيًّا إلى أن يفنى تمامًا.

يسيرٌ علينا أن نُطمئن أنفسنا قائلين: هذا جيد، لكن تلك الأحداث المروعة قد وقعت في أزمنة سحيقة. أَمِنَ المؤكدِ أنها قد لا تحدث اليوم؟ إن التفكير بهذه الطريقة لهو خطأ فادح للغاية. في عام ١٨١ ميلاديًّا، أطلق ثوران بركاني عملاق في بحيرة توبو بنيوزيلندا تدفقات حمم بركانية فتاتية أتت على جزء كبير من الجزيرة الشمالية، بينما ألحق آخر انفجار بركاني هائل شهده العالم ضررًا أكبر بالجزيرة قبل أقل من ٢٤ ألف سنة. وقبل ٧٤ ألف عام — أي منذ زمن بعيد وإن كان لا يزال ضمن الفترة الزمنية للإنسانية الحديثة — أسفر ما يمكن القول عنه إنه أكبر ثوران بركاني عرفه التاريخ عن حفرة قطرها ١٠٠ كيلومتر في توبا شمال سومطرة. وهذه الفتحة الشاسعة — التي صارت الآن بحيرة — منطقة جذب سياحي كبير، لكن هناك أدلة على أن وراءها تَرِكة أشد سوءًا. ربما كان ثوران بركان توبا قاب قوسين أو أدنى من القضاء على الجنس البشري. تختلف تقديرات حجم الانفجار، لكن ما من شك في أن انفجار توبا — جنبًا إلى جنب مع انفجارات يلوستون — يرقى لأن يكون انفجارًا بركانيًّا هائلًا قوَّته ٨ درجات على مؤشر التفجر البركاني. كان يُعتقد أن إجمالي الحطام المنبعث أثناء ذلك الثوران البركاني يقارب ٣٠٠٠ كيلومتر مكعب، وهو ما يكفي لتغطية الهند بطبقة من الرماد سُمكها متر واحد. ومع ذلك فالأدلة التي ظهرت مؤخرًا من دراسة العينات الجيولوجية المأخوذة من قاع البحار تشير إلى أن ذلك الثوران البركاني قد استغرق وقتًا أطول مما كان العلماء يعتقدون سابقًا، وأنه قذف من الحطام ما يفوق بكثير ما سُجِّل عنه؛ بنحوٍ قد يصل إلى ٦٠٠٠ كيلومتر مكعب. ولعلك لا تصدق إن قلنا إن هذا الكم يكفي لدفن الولايات المتحدة بأسرها تحت طبقة سُمكها ثلثا متر.

لا شك أن أسلافنا الذين كانوا يعيشون في سومطرة في ذلك الوقت كان مصيرهم الفناء. ومع ذلك، لكي يتعرض الجنس البشري ككلٍّ لخطر الانقراض، فلا بد لآثار الثوران البركاني أن تكون شديدة الوطأة في جميع أنحاء الكوكب، ويبدو أن الأمر كان كذلك. بالإضافة إلى كميات الرماد الهائلة، لعل انفجار توبا قد أطلق من غازات الكبريت ما يكفي لإنتاج ما يصل إلى ٥٠٠٠ مليون طن من إيروسولات حامض الكبريتيك في طبقة الستراتوسفير. ربما كان هذا كافيًا لتقليل كمية أشعة الشمس الساقطة على سطح الأرض بنسبة ٩٠ بالمائة، وهو ما يؤدي إلى ظلام عالمي وبرد قارس. ربما انخفضت درجات الحرارة في المناطق الاستوائية سريعًا بنسبة تصل إلى ١٥ درجة مئوية، فأتى ذلك على النباتات الاستوائية الحساسة، في حين أنه من المرجح أن درجات الحرارة في أنحاء الكوكب ككلٍّ قد انخفضت بمقدار نحو ٥ أو ٦ درجات مئوية، وهو تقريبًا المعدل المطلوب لإدخال كوكب الأرض في ظروف العصر الجليدي الكامل في غضون بضعة أشهر فقط. وتشير سجلات درجات الحرارة التي استُخلصت من عينات الجليد المأخوذة من جرينلاند إلى أن ذلك الانفجار أعقبته ست سنوات على الأقل من الشتاء البركاني، تلته بدورها فترةُ صقيعٍ «عابرة» امتدت ألف عام. وبعد ذلك بوقت قصير دخل كوكب الأرض العصرَ الجليدي الأخير، وهناك بعض التكهنات التي تشير إلى أن أثر التبريد الناتج عن انفجار توبا قد يكون القشة التي قصمت ظهر البعير؛ حيث أخرج الأرض التي كانت صقيعًا بالفعل حينها من الفترة بين الجليدية ليدخلها في مرحلة جليدية لم تستكمل خروجها منها إلا منذ نحو ١٠ آلاف سنة.

fig13
شكل ٤-١: خلَّف انفجار بركان توبا الهائل قبل ٧٤ ألف عام فوهة بركانية طولها ١٠٠ كيلومتر، وأغرق العالم في غياهب شتاء بركاني.
fig14
شكل ٤-٢: انخفاض ضوء الشمس نتيجة انفجار بركان توبا: تشير تقديرات أسوأ السيناريوهات إلى أن إيروسولات حامض الكبريتيك الناتجة عن كارثة توبا قد حجبت الكثير من أشعة الشمس عن الأرض حتى أظلمت الأرض كلها كظلامها ليلة اكتمال القمر.1

ماذا حدث لأسلافنا التعساء الحظ الذين شهدوا تلك الكارثة؟ هل تمكَّنت تلك الفترة من الظلام والبرد البركاني من كسر شوكتهم؟ بالتأكيد يبدو هذا ممكنًا. تكشف الدراسات التي أُجريت على الحمض النووي البشري الموجود في الأجسام شبه الخلوية المعروفة باسم الميتوكوندريا أننا جميعًا متشابهون — من الناحية الوراثية — لدرجة يصعب معها أن نكون قد تطوَّرنا باستمرار ودون عائق لمئات الآلاف من السنين. والطريقة الوحيدة لتفسير هذا التشابه الاستثنائي هي أن الجنس البشري قد مر بفترات دورية مما يطلق عليه «عنق الزجاجة السكانية» والتي انخفض فيها — لسبب أو لآخر — عدد البشر، وتضاءل فيها كثيرًا حجم تجميعة الجينات. وفي نهاية فترة عنق الزجاجة هذه، يحمل جميع الأفراد داخل التعداد السكاني الذي ازداد سريعًا الخصائص الموروثة من تجميعة الجينات المحدودة تلك، وفي نهاية المطاف شمل ذلك جميع أنحاء الكوكب. يرى مايك رامبينو عالم الجيولوجيا في جامعة نيويورك، وستانلي أمبروز عالم الأنثروبولوجيا في جامعة إلينوي، أن آخر عنق زجاجة سكانية مر بها الجنس البشري كان نتيجة انفجار بركان توبا الهائل. ويعتقدان أن الظروف التي أعقبت ذلك الانفجار كانت تضاهي ما يعقب حربًا نووية شاملة، ولكن دون إشعاع. وبينما قد يسفر السخام المتصاعد من احتراق المدن والغطاء النباتي عن شتاء نووي في أعقاب حرب نووية كبرى، فإن مليارات الأطنان من حامض الكبريتيك في طبقة الستراتوسفير على إثر كارثة توبا قد تعني انغماس العالم في ظلام وصقيع يدومان عدة سنوات. ربما تتباطأ عملية التمثيل الضوئي حتى تكاد تتوقف تمامًا؛ مما يدمر مصادر الغذاء لكلٍّ من البشر والحيوانات التي يتغذى عليها الإنسان. مع حلول الشتاء البركاني، تضوَّر أجدادنا جوعًا وهلكوا وأخذت أعدادهم تقل تدريجيًّا، وربما كانوا حينها في مناطق محمية — لأسباب جغرافية أو مناخية — من أسوأ ما في الكارثة. فقد قيل إنه طوال نحو ٢٠ ألف سنة، لم يكن على كوكب الأرض بأكمله سوى بضعة آلاف من البشر. وهذا يعني أن جنسنا البشري كان قاب قوسين أو أدنى من الانقراض، وإن كان هذا صحيحًا، فمعناه أن أسلافنا قد صاروا معرضين للخطر تمامًا كما هي الحال اليوم مع الخرتيت الأبيض أو الباندا العملاقة. وبالرغم من كل الصعاب يبدو أن بقايا جنسنا البشري نجحوا في صراعهم من أجل البقاء في أعقاب كارثة توبا وحلول العصر الجليدي، حتى وصل عددنا الآن إلى ٦٫٥ مليارات نسمة.

هل يمكن لانفجار بركاني هائل في المستقبل أن يُفنيَ الجنس البشري؟ من المستبعد جدًّا أن يحدث انفجار بركاني يكون من الضخامة بحيث يكفي لإفناء مليارات البشر الذين يعج بهم العالم اليوم، لكن من الممكن تمامًا ألا يبقى المجتمع التكنولوجي العالمي الذي أسسناه على حاله. قبل سقوط جدار برلين كانت العديد من حكومات الدول مستعدة تمامًا للتخطيط للاحتمال المروع المتمثل في اندلاع حرب نووية عالمية. ومع ذلك، وفي ظل تبدد هذا الخطر إلى حدٍّ كبير الآن، لا تتحمس الكثير من الدول لوضع خطط دفاع مدني لمواجهة خطر وقوع كارثة جيوفيزيائية عالمية. وفي ظل غياب هذا التفكير المستقبلي، من المرجح أن يكون أثر وقوع انفجار بركاني هائل في المستقبل مروعًا. وحتى لو كانت البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وأستراليا لديها مخزون كافٍ لإطعام سكانها مدة شهر أو اثنين على الأكثر، فكيف لها أن تواجه ست سنوات فوق ذلك دون إمكانية تجديد تلك الموارد؟ أما في بلدان العالم الأكثر فقرًا — حيث لم تكن المجاعة والموت جوعًا بعيدَين يومًا عن سكانها — فسيتفاقم الوضع أكثر بألف مرة، وسيحصد الموت الأرواح حصدًا سريعًا ومريعًا. ومن المرجح جدًّا أن تسود شريعة الغاب فتشمل المنطقة من لندن إلى لاجوس؛ حيث سيتقاتل الناس أفرادًا وأسرًا من أجل القوت والبقاء. وحين تنقشع الغمة فتظهر صفحة السماء أخيرًا، وتنزل أشعة الشمس ضعيفة في بداية الأمر لتجلب معها أول لمسة دفء إلى كوكب الأرض المتجمد حينها، سيكون رُبع السكان قد لقُوا حتفهم بسبب المجاعات، والأمراض، والحروب الأهلية.

من المستبعد كثيرًا — لكنه ليس مستحيلًا — أن يحدث انفجار بركاني هائل آخر خلال المائة سنة القادمة. ولكن أين؟ لدينا الفوهات البركانية غير المستقرة التي تنتفخ وتهتز باستمرار، والتي تبدو مشروع كارثةٍ من هذا النوع، ويضاف إليها أيضًا بركانَي يلوستون وتوبا. لا تزال كميات كبيرة من الصهارة تقبع تحت هذين العملاقين الخاملين، وقد تنطلق عند وقوع أي نوازل مستقبلية. ومع ذلك، من المرجح أن تستمر علامات الإنذار باستيقاظ هذين العملاقين — من زلازل كبيرة وانتفاخات كبرى لسطح الأرض — عقودًا أو حتى قرونًا قبل أن يثورا ثانيةً. وبما أنه لا يَصْدُر عن كلا البركانين في الوقت الحالي أي سلوك ينذر بالسوء، فلا داعي للقلق كثيرًا بشأن حدوثِ انفجار بركاني هائل في توبا أو يلوستون. ومع ذلك فإننا لا نراقب سوى نسبة ضئيلة من براكين العالم النشطة حاليًّا التي يبلغ عددها نحو ١٥٠٠ بركان. علاوةً على ذلك، قد يحدث الانفجار البركاني الهائل المقبل في بقعة خالية من البراكين حاليًّا. وربما أثناء كتابتي هذه السطور تكون كتلة ضخمة من الصهارة التي سبق أن تراكمت تحت أعماق جبال الأنديز الجنوبية النائية في طريقها لتمزيق القشرة الأرضية وتمزيق أوصال عالمنا معها.

كل الانفجارات البركانية الهائلة التي تناولناها حتى الآن من نوع الكوارث المتفجرة. لكنَّ هناك أنواعًا أخرى أقل شيوعًا بكثير، يثور أحدها كل بضع عشرات الملايين من السنين، فيقذف كميات أكبر من الصهارة، ولكن مع قدر أقل نسبيًّا من العنف. ففي ثورات الفيضان البازلتي تخرج كميات هائلة من الحمم البركانية المنخفضة اللزوجة لتنتشر عبر مناطق شاسعة. وقد رُصدت هذه الظاهرة المذهلة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الهند، وجنوب أفريقيا، وشمال غرب الولايات المتحدة الأمريكية، وشمال غرب اسكتلندا، لكن أشدَّها اخترق سطح الأرض قبل نحو ٢٥٠ مليون سنة في شمال سيبيريا. تتفاوت التقديرات في هذا الشأن، لكن يبدو أن الحمم المقذوفة من ذلك الحدث غير المسبوق قد غطت أكثر من ٢٥ مليون كيلومتر مربع، وهي مساحة تعادل ثلاث مرات مساحة الولايات المتحدة الأمريكية.

شهد التاريخ الطويل للأرض العديد من الظواهر المماثلة لذلك، وارتبطت بانقراض أجناس بأكملها. فقبل ثوران بركان سيبيريا — على سبيل المثال — كانت الأرض في فترة العصر البرمي تعج بمظاهر الحياة. ومع ذلك، حين حلَّ العصر الترياسي، وبردت التدفقات الكبيرة وتصلبت، كان ٩٥ بالمائة من جميع الأنواع الحية قد اختفت تمامًا من على سطح الكوكب. وهناك انقراض جماعي مماثل وقع قبل ٦٥ مليون سنة في نهاية العصر الطباشيري، ويربطه العلماء بالفيضان البازلتي لمنطقة «ديكان ترابس» البركانية الواقعة شمال غرب الهند. ومع ذلك، وكما سأتناول في الفصل التالي، هناك أدلة قاطعة على أن الأرض تعرضت في ذلك الوقت لاصطدام من قِبل أحد المذنبات أو الكويكبات، ويعتقد العديد من العلماء أن هذا كان السبب الرئيسي لانقراض الديناصورات والعديد من الأنواع الأخرى في نهاية العصر الطباشيري. لكن ربما تكون حمم ديكان ترابس قد أدَّت هي الأخرى دورًا؛ إذ ضخت كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون الذي ربما يكون قد أدَّى إلى وقوع احتباس حراري شديد، وأدَّت إلى زوال الكائنات التي عجزت عن التكيف بالسرعة الكافية. وبما أن مجتمعنا الملوِّث للبيئة يفعل الشيء نفسه الآن، فلعلَّه ينبغي علينا أن نأخذ هذا كإشارة تحذيرية لما قد يحمله المستقبل لنا، ولعالمنا، وللحياة على هذا الكوكب.

قبر مائي

نال الثوران المذهل لبركان جبل سانت هيلين في ولاية واشنطن الأمريكية عام ١٩٨٠ أوفر نصيب من التغطية الإعلامية، مع أنه بكل المقاييس لم يكن أكبر حدث بركاني شهده القرن العشرون. وربما بسبب وقوعه في أكثر بلدان العالم تناغمًا مع وسائل الإعلام، كاد أزيز الكاميرات وأصوات أقلام الصحفيين وهم يسجلون وقائع الحدث تطغى على أصوات الانفجارات. ومع ذلك، فلو نظرنا إلى الأمر من منظور علمي لوجدنا أن تلك الثورة البركانية كانت حدًّا فاصلًا ونقطة تحوُّل؛ لأنها لفتت الأنظار إلى نمط من الثورات البركانية لم يكن من قبلُ يحظى إلا بقليل من الاهتمام من قِبل علماء البراكين. معظم الثورات البركانية يكون فيها قذف رأسي للحطام البركاني من فتحة مركزية، لكن الثورة العارمة لبركان جبل سانت هيلين جاءت مختلفة تمامًا؛ فقد أدَّى الحطام والحمم المنطلقة من البركان في ثوران آخر قبلها بمائة وعشرين عامًا إلى انسداد القناة المركزية للبركان، فصعَّبت خروج الصهارة الجديدة المتصاعدة في البركان. اضطُرت تلك الصهارة إلى أن تشق طريقها إلى الجهة الشمالية من البركان؛ الأمر الذي أدَّى إلى تضخمها حتى صارت وكأنها جمرة عملاقة. وبحلول منتصف مايو بلغ عرض تلك الجمرة كيلومترين وبلغ ارتفاعها ١٠٠ متر، وبلغت مبلغًا من عدم الاستقرار. وما إن جاوزت الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم ١٨ مايو حتى ضرب زلزال متوسط الأرض من تحت البركان فقلقل ذلك الانتفاخ، وما هي إلا ثوانٍ حتى انفجر ذلك الانتفاخ ليهبط على أحد جوانب جبل سانت هيلين، وكأنه انهيار أرضي هائل. لما نُزع هذا الوزن الضخم من الصهارة الأساسية انطلقت الغازات المضغوطة شمالًا مُحدِثة صوتًا مدويًا، وبلغت من القوة ما جعلها تكتسح بالكامل أشجار التنوب التي كانت تبعد ٢٠ كيلومترًا عن البركان، ودمَّرت فيما دمرت أكثر من ٦٠٠ كيلومتر مربع من الغابات. وسرعان ما اختلطت مواد الانهيار الأرضي مع مياه النهر ومياه البحيرة لتشكل تدفقات طينية مستعرة تدفقت إلى أودية النهر من البركان، بينما مزقت تدفقات الحمم البركانية جوانب البركان وسقط الرماد بعيدًا حتى وصل إلى مونتانا على بُعد ١٠٠٠ كيلومتر.

تسبب انفجار بركان جبل سانت هيلين في مقتل ٥٧ شخصًا، وكان كارثة حلت بالمنطقة، لكن أهميته العلمية تكمن في أنه أوضح لنا الآلية التي تُعرف باسم «الانهيار الجانبي للبركان». يرى معظمنا البراكين على أنها معاقل قوة وصلابة لا تتحرك ولا تتزعزع. والحقيقة أن البركان بنيان نشط يتغير ويتحول على الدوام. وبعيدًا عن كون البراكين قوية فإنها غالبًا ما تكون على درجة كبيرة من الهشاشة؛ إذ لا تعدو كونها أكوامًا غير مستقرة من الرماد وأنقاض الحمم تبحث عن سبب للتفكك. وقد كشفت العديد من الدراسات التي أعقبت ثورة جبل سانت هيلين أن انهيار الجوانب وتكوُّن الانهيارات الأرضية العملاقة هو جزء طبيعي من دورة حياة العديد من البراكين، وأنه ربما يحدث في مكانٍ ما على هذا الكوكب نحو ست مرات خلال القرن الواحد. وعلاوةً على ذلك، فقد أظهرت تلك الدراسات أن الانهيار الأرضي الذي وقع في جبل سانت هيلين كان صغيرًا بالمقارنة بأكبر انهيارات البراكين المعروفة؛ إذ كان حجمه أقل من كيلومتر مكعب مقارنةً بأكثر من ألف كيلومتر مكعب من قطع الصخور الضخمة التي كانت تسقط من براكين جزر هاواي في عصور ما قبل التاريخ.

لعلك تتساءل الآن: وماذا في ذلك؟ فسقوط قطعة صخرية كبيرة — مهما بلغ حجمها — من أحد البراكين لا يمكن أن يكون له تأثير عالمي، أليس كذلك؟ الجواب أن هذا ممكن بالفعل شريطة أن يكون الانهيار في المحيط. في عام ١٧٩٢ تدفق انهيار أرضي صغير نسبيًّا من أحد جوانب بركان أنزين في اليابان إلى البحر، فولَّد الماء المزاح بسبب ذلك أمواج تسونامي بلغ طولها عشرات الأمتار اجتاحت السواحل المحيطة بذلك البركان؛ مما أسفر عن مقتل أكثر من ١٤ ألف شخص في قرى الصيد الصغيرة الواقعة على الشاطئ. وما إن مرَّ قرن من الزمان على تلك النازلة حتى سقط جزء من بركان جزيرة ريتر قبالة جزيرة بريطانيا الجديدة (بابوا غينيا الجديدة) في البحر، وذلك عام ١٨٨٨؛ مما ولَّد أمواج تسونامي وصل ارتفاعها إلى ١٥ مترًا، فاجتاحت التجمعات السكانية على السواحل المجاورة وأودت بحياة ٣ آلاف شخص. من الواضح أنه حين يجتمع انهيار بركاني وكتلة كبيرة من المياه، يكون المزيج مُهلكًا. لا شك أنك تتساءل الآن: لكن كيف يمكن أن يؤثر ذلك على الغالبية العظمى من سكان الأرض الذين يعيشون بعيدًا عن البركان النشط؟ والجواب يكمن جزئيًّا في حجم أكبر الانهيارات، وجزئيًّا في نطاق أمواج تسونامي التي تولدها تلك الانهيارات.

تُظهِر الصور التي التُقطت تحت الماء لقاع البحر المحيط بجزر هاواي أنها محاطة بتجمعات مهولة من الحطام الذي قذفته البراكين على مدى عشرات الملايين من السنين. وضمن تلك الكتل الضخمة المختلطة من مقذوفات البراكين تعرَّف الباحثون على ما يقرب من سبعين انهيارًا أرضيًّا هائلًا بعضها فاق ١٠٠٠ كيلومتر مكعب. وآخر انهيار هائل شهدته جزر هاواي وقع قبل نحو ١٢٠ ألف سنة، وذلك حين هبطت كتل ضخمة من جوانب بركان ماونا على الجزيرة الكبيرة. ارتفعت أمواج تسونامي العملاقة الناتجة عن سقوط هذا الكمِّ الهائل من الصخور في مياه المحيط الهادي ٤٠٠ متر فوق جوانب بركان كوهالا المجاور له، وهو ارتفاع يفوق ارتفاع مبنى إمباير ستيت في نيويورك. ووُجدت ترسُّبات من عصرٍ مماثل قد تكون لها صلة بأمواج تسونامي، ترتفع ١٥ مترًا فوق مستوى سطح البحر، وتقع على بُعد ٧٠٠٠ كيلومتر عن الساحل الجنوبي لنيو ساوث ويلز في أستراليا. ومع أن الجدل لا يزال قائمًا حول طبيعة تلك الترسبات ومصدرها، فإن حجم الأمواج المتولدة يبدو حقيقيًّا في ظل ما أظهرته النماذج الحاسوبية التي تحاكي الانهيارات الأرضية البركانية العملاقة في المحيط؛ إذ وُجد أن أمواج تسونامي التي تولدت عنها كانت مقاربة لها في الحجم.

يبدو الأمر وكأن الانهيارات الكبيرة التي تحدث لبراكين جزر المحيط لديها قدرة تامة على توليد أمواج يبلغ ارتفاعها مئات الأمتار، وأن ارتفاعها يظل على ارتفاع عشرات الأمتار حتى عندما تضرب اليابسة التي تقع على بُعد مساحة تساوي نصف مساحة المحيط؛ ومن ثَمَّ من المرجح أن يولد الانهيار المقبل في جزر هاواي سلسلة من أمواج تسونامي العملاقة من شأنها أن تدمر كل المدن المطلة على المحيط الهادي بأكملها، بما في ذلك العديد من المدن الكبرى في العالم في الولايات المتحدة، وكندا، واليابان، والصين. في المياه العميقة تنتقل أمواج تسونامي بسرعات مماثلة لسرعة طائرة من طراز جامبو؛ ومن ثَمَّ فإنه لن تمر ١٢ ساعة حتى تضرب الأمواجُ الشاهقة سواحلَ أمريكا الشمالية وشرق آسيا بقوة تعادل عددًا لا يُحصى من القنابل الذرية.

لا تقتصر المشكلة على المحيط الهادي؛ فقد كشفت الرحلات العلمية حول جزر الكناري، جنبًا إلى جنب مع عمليات المسح الجيولوجية التفصيلية لليابسة، عن صورة مشابهة جدًّا لتلك التي رُسمت لهاواي. فالكتل الضخمة من الصخور المختلطة والممتدة مئات الكيلومترات عبر قاع البحر، وعلامات الانهيار العملاقة التي تحدها الجروف على اليابسة تشهد على وقوع انهيارات هائلة خلال عصور ما قبل التاريخ من جزر تينيريفي وإل هييرو. وما يثير القلق أكثر أنه يبدو كما لو أن انهيارًا عملاقًا جديدًا قد نشط مؤخرًا في جزيرة لا بالما التي تقع في أقصى غرب جزر الكناري، وبات متأهبًا للانطلاق. خلال الثورة قبل الماضية؛ أي عام ١٩٤٩، حدث هبوط لجزء كبير من الجهة الغربية لبركان الجزيرة الشديد الانحدار والسريع التنامي المسمى بكمبر فيجا، وبلغ ذلك الهبوط ٤ أمتار باتجاه شمال الأطلسي ثم توقف. ويعتقد بعض علماء المملكة المتحدة والولايات المتحدة أن تلك الكتلة الضخمة من الصخور البركانية — التي يُقدَّر حجمها ببضع مئات من الكيلومترات المكعبة؛ أي ضعف مساحة جزيرة مان في المملكة المتحدة — قد انفصلت الآن عن الجسم الرئيسي للبركان، وأنها في نهاية المطاف سوف تهبط لتصطدم كلها بمياه البحر. والمشكلة الحالية أنه ليس لدينا أدنى فكرة متى سيحدث ذلك. من المرجح أن يكون ذلك قريبًا — من الناحية الجيولوجية — لكن لا يدري أحد هل سيحدث ذلك العام المقبل أم في غضون ١٠ آلاف عام. وقد ثبت أن القياسات التي أُجريت خلال أواخر تسعينيات القرن العشرين باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي من الأقمار الصناعية؛ غير حاسمة إلى حدٍّ ما، لكنها تشير إلى احتمال وجود انهيار أرضي لا يزال يزحف ببطء في اتجاه البحر، ربما بمعدل سنتيمتر واحد فقط في السنة أو حتى أقل من ذلك. ومع ذلك، حتى لو كانت هذه هي الحال فمن غير المرجح أن تُتِمَّ الكتلة الصخرية رحلتها إلى شمال الأطلسي دون أن تحركها ثورة بركانية جديدة.

fig15
شكل ٤-٣: سوف يولِّد انهيار بركان كمبر فيجا أمواج تسونامي هائلة تجتاح أفريقيا، وأوروبا، والأمريكتين. يشار إلى ارتفاع قمم الأمواج بالأرقام الموجبة، وإلى القيعان بالأرقام السالبة (جميعها مقدرة بالمتر). توضح الخريطة موضع الأمواج بعد مضي ساعة واحدة من الانهيار.

المؤكد أنه في مرحلةٍ ما في المستقبل ستنهار الجهة الغربية من بركان كمبر فيجا في لا بالما، وستفتك أمواج تسونامي بحافة المحيط الأطلسي بأكمله. وقد أثار ستيفن وارد من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، وسيمون داي من مركز بنفيلد لأبحاث المخاطر الطبيعية في كلية لندن الجامعية ضجةً عام ٢٠٠١ عندما نشرا بحثًا علميًّا وضع نموذجًا لانهيارٍ مستقبلي في كمبر فيجا، والمجرى الذي ستتخذه أمواج تسونامي الناجمة عبر المحيط الأطلسي. يوضح وارد وداي أنه في غضون دقيقتين من دخول الانهيار إلى البحر — إن تخيلنا أسوأ السيناريوهات المتمثلة في انهيار ٥٠٠ كيلومتر مكعب من الصخور — ستتولد في بادئ الأمر قبة من المياه بارتفاع يقارب ٩٠٠ متر، مع أن ذلك الارتفاع سيقل بسرعة. وعلى مدار ٤٥ دقيقة تالية، ستضرب سلسلة أمواج عملاقة يصل ارتفاعها إلى ١٠٠ متر شواطئ جزر الكناري، فتدمر الشرائط الساحلية المكتظة بالسكان قبل أن تصطدم بالبر الأفريقي. وحين تتجه الأمواج شمالًا ستأخذ في الانكسار، لكن ستستمر إسبانيا والمملكة المتحدة في التأثر بأمواج تسونامي يصل ارتفاعها إلى ٧ أمتار. وفي الوقت نفسه، إلى الغرب من لا بالما، ستتجه سلسلة من الأمواج العاتية نحو الأمريكتين. وما إن تمر ست ساعات على الانهيار الأرضي حتى تجتاح أمواج يبلغ ارتفاعها عشرات الأمتار الساحل الشمالي للبرازيل، وبعد بضع ساعات ستنصب في جميع أنحاء الجزر المنخفضة في منطقة البحر الكاريبي لتضرب الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وقد تؤدي آثار التركيز في الخلجان ومصبات الأنهار والمرافئ إلى زيادة ارتفاع الأمواج حتى ٥٠ مترًا أو أكثر في الوقت الذي تعاني فيه ولايات بوسطن ونيويورك وبالتيمور وواشنطن وميامي وطأة البركان والأمواج معًا. لا يمكن التقليل من خطر الطاقة التدميرية لتلك الأمواج التي تضارع ناطحات السحاب ارتفاعًا. فعلى عكس الأمواج التي تسببها الرياح والتي تتحطم كل يوم على الشواطئ في جميع أنحاء العالم، والتي تبلغ أطوالها الموجية (المسافة الفاصلة بين قمة الموجة وقمة الموجة الأخرى) بضع عشرات من الأمتار، عادةً ما تبلغ الأطوال الموجية لأمواج تسونامي مئات الكيلومترات. وهذا يعني أنه ما إن يضرب تسونامي الساحل بجدار مائي صُلب شاهق الارتفاع، حتى يستمر في التدفق — ربما مدة عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة أو أكثر — قبل أن يستغرق المدة الزمنية نفسها في التراجع. إن هجومًا رهيبًا كهذا كفيلٌ بأن يطمس كل مظاهر الحياة، ولن ينجوَ من دماره إلا أكثر المباني والمنشآت ثباتًا.

علَّمتنا الدروس المستفادة من تسونامي المحيط الهندي أنه دون التخطيط المستقبلي الجيد، سيكون من المستبعد أن تكفيَ الساعات التسع التي تستغرقها قوات الإغاثة في الوصول إلى ساحل أمريكا الشمالية لتسهيل عمليات إخلاء ناجحة على نطاق واسع، ومن المؤكد أن عدد القتلى سيصل إلى عدة ملايين. علاوةً على ذلك، ستكون التبعات على اقتصاد الولايات المتحدة وخيمة؛ إذ ستنهار صناعة التأمين بضربة واحدة، وسريعًا ما سيعقب ذلك انهيارٌ اقتصاديٌّ عالمي. وبهذه الطريقة، سيكون من شأن حدث جيوفيزيائي طفيف نسبيًّا في بركان يقع في منطقة نائية من الأطلسي أن يؤثر على جميع سكان هذا الكوكب. تشكل أمواج تسونامي العملاقة — مثلها مثل الانفجارات البركانية الهائلة — ظواهر طبيعية عادية تمامًا، وإن كانت نادرة. في مرحلةٍ ما في المستقبل ستأتي بالتأكيد كارثة لتعيث فسادًا في المحيط الأطلسي أو أحواض المحيط الهادي، لكن متى؟ اختلف العلماء في تقدير وتيرة حدوث الانهيارات في براكين هاواي بين ٢٥ ألفًا و١٠٠ ألف سنة، لكن لو وضعنا الانهيارات الأرضية العملاقة في كافة الجزر البركانية في الحسبان، لأمكنَنَا القول إن انهيارًا كبيرًا يقع كل ١٠ آلاف سنة أو نحو ذلك. في ضوء الجدول الزمني الجيولوجي، فإن هذه وتيرة مرتفعة جدًّا، وينبغي أن تثير لدينا قلقًا حقيقيًّا. بل إن هناك ما يدعو إلى مزيد من القلق، وهو أن معدل الانهيار قد لا يكون ثابتًا، ولعل الحقبة الحالية من ظاهرة الاحترار العالمي الناجمة عن الأنشطة البشرية تسرِّع من موعد الانهيار التالي. وقد ربط فريق البحث الذي أشرف عليه بين زيادة حالات انهيار البراكين في الماضي وفترات تغير مستوى سطح البحر، في حين يرى آخرون أن المناخ الأكثر دفئًا ورطوبة قد يؤدي إلى وقوع أعداد أكبر من الانهيارات الأرضية البركانية الكبيرة. وبما أنه من المتوقع أن مستويات البحار ستستمر في الارتفاع في المستقبل القريب — في حين تُبين الدراسات التي أُجريت حول ما وقع في الماضي من تغيرٍ للمناخ أن زيادة دفء كوكب الأرض تؤدي إلى زيادة غزارة هطول الأمطار على العديد من أكبر سلاسل الجزر البركانية في العالم — ربما علينا جميعًا التفكير في الانتقال إلى المناطق الداخلية (بعيدًا عن السواحل) والمناطق المرتفعة، أو على الأقل الاستثمار في بزَّة غوص من النوع الفاخر.

مدينةٌ بانتظار الموت

من الصعوبة بمكان أن تنقل لشخص لم يشهد زلزالًا كبيرًا بنفسه قط ذلك الرعب المطلق الذي يوقف العقل عن التفكير والذي يشعر به من يمر بهذه التجربة. حتى في ولاية كاليفورنيا، حيث يتلقى السكان فيضًا مستمرًّا من المعلومات حول ما يجب القيام به في حال وقوع زلزال، تتلاشى رباطة الجأش والتعقل ما إن تبدأ الأرض في الاهتزاز تحت الأقدام. في أعقاب زلزال لوما بريتا الذي ضرب شمال ولاية كاليفورنيا عام ١٩٨٩، كشف استطلاع رأي أجرته الهيئة الأمريكية للمسح الجيولوجي أن ١٣ بالمائة فقط من سكان سانتا كروز بحثوا عن ملاذ فوري، في حين أن ما يقرب من ٧٠ بالمائة إما تجمدوا في أماكنهم أو ركضوا إلى الخارج. وهذه مشكلة دائمة مع الزلازل؛ مهما تعلَّم الناس وتثقفوا حول الزلازل، عندما تبدأ الأرض في الاهتزاز وقِطع الأثاث في التساقط هنا وهناك، تستولي على المرء الغريزة العمياء آمرةً إياه بالخروج من المكان في الحال. وللأسف، لا يؤدي ذلك إلا إلى زيادة عدد القتلى؛ إذ يكون أصحاب المنازل المذعورون والمندفعون إلى الشوارع وسط صيحات الخوف أهدافًا سهلة للمباني المنهارة وغيرها من الحطام المنهمر فوق الرءوس. ما ينبغي عليهم فعله أن يقبعوا تحت أقرب قطعة أثاث ثقيلة أو يحتموا تحت أسكفة مدخل مناسب.

للزلازل أثر تدميري بالغ، وهو ما يرجع أساسًا إلى أن معظم المدن في المناطق المعرضة لخطر زلزالي كبير لا تكون معظم مبانيها مشيدة كما ينبغي بما يكفي لتتحمل الاهتزاز العنيف للأرض حين يقع زلزال كبير. تتبع أساليب البناء الحديثة في ولاية كاليفورنيا قوانين بناء صارمة تضمن صمود المباني أمام الزلازل التي قد يكون أثرها مدمرًا في مكان آخر، وقد آتت هذه السياسة ثمارها؛ إذ قللت كثيرًا من عدد حالات الوفاة والإصابة والضرر خلال الزلازل الكبرى في السنوات الخمس عشرة الماضية. إلا أن زلزال نورثريدج الذي ضرب جنوب ولاية كاليفورنيا عام ١٩٩٤ قد تسبب في وقوع خسائر بلغت ٣٥ مليار دولار، يعود جزء كبير منها إلى الأضرار التي لحقت بالمباني القديمة. أما البلدان الأخرى المعرضة للزلازل، فلديها قوانين بناءٍ شُرِّعت بهدف التقليل من الأضرار الناجمة عن الاهتزازات الأرضية، لكنها غالبًا لا تُطبَّق. وقد أصبحت تلك التركة الرهيبة من عدم وجود التزام من جانب السلطات الحكومية والمحلية واضحة كل الوضوح عندما ضرب زلزال بلغت قوته ٧٫٤ درجات على مقياس ريختر منطقة إزميت في تركيا عام ١٩٩٩، فدمر ١٥٠ ألف مبنًى، وأودى بحياة أكثر من ١٧ ألف شخص. انهارت الطوابق المتتالية للمباني السكنية بعضها فوق بعض لتشكل كومة من الألواح الخرسانية تضاءلت معها فرصُ نجاة الضحايا. وفي يناير ٢٠٠١، هز زلزال عنيف منطقة بهوج من ولاية جوجارات شمال غرب الهند، فسوَّى ٤٠٠ ألف منزل بالأرض، وأودى بحياة ١٠٠ ألف شخص. وقد وقعت العديد من الوفيات بسبب أساليب البناء التقليدية المستخدمة في المنطقة، التي في ضوئها كانت المباني تُبنى بأسطح حجرية ثقيلة وجدران سميكة جدًّا مصنوعة من صخور كبيرة يربط بينها طين أو أسمنت غير متماسك. فحين بدأت الأرض تهتز كانت مقاومة تلك المباني ضعيفة؛ فانهارت بسهولة لتسحق مَنْ بداخلها. ومنذ وقت قريب — تحديدًا عام ٢٠٠٣ — ضرب زلزال متوسط الشدة جنوب إيران فأزهق أرواح ٢٦ ألف شخص في مدينة بام؛ إذ لم تستطع المباني التقليدية المبنية بالطوب اللبن مقاومة اهتزاز الأرض، أما عام ٢٠٠٥، فقد لقي أكثر من ٨٠ ألف شخص مصرعهم في زلزال كبير ضرب باكستان.

خلال الألفية الماضية تسببت الزلازل في مصرع ٨ ملايين شخص على الأقل. وبالرغم مما يثيره هذا الرقم من ذعر، فإن النمو السريع للمدن الكبرى في المناطق المعرضة لخطر الزلازل سيؤدي إلى تجاوزه ربما في القرون القليلة القادمة. يحذر بعض علماء الزلازل الآن بالفعل من إمكانية وقوع زلزال كبير في المستقبل القريب يودي بحياة ٣ ملايين شخص. إذا ضرب الزلزال كراتشي أو مكسيكو سيتي، فمع أن عواقبه ستكون وخيمة على باكستان والمكسيك، سيكون تأثيره العالمي ضئيلًا للغاية يكاد لا يؤثر على حياة معظم سكان العالم. أما إذا ضرب الزلزال العاصمة اليابانية طوكيو، فسيختلف الأمر كلية. تشير التوقعات الخاصة بعام ٢٠١٥ إلى أنه بحلول ذلك الوقت سيشكل التوسع المدني لطوكيو-يوكوهاما أكبرَ تجمع حضري على وجه الأرض بتعداد سكان يقترب من ٣٦ مليون نسمة. تقع هذه المدينة في أحد أكثر أجزاء الكوكب المعرضة للزلازل؛ حيث توجد في شرقها صفيحتا المحيط الهادي والفلبين اللتان تقعان تحت الصفيحة الأوراسية العملاقة، وقد دمرها زلزال ضخم قبل أقل من ٨٠ عامًا. ومع أن الأمور هادئة هدوءًا حذرًا منذ ذلك الحين، فإنه لن يطول بنا المقام قبل أن يأتيَ زلزال كبير آخر ليدمر أحد معاقل المؤسسات الصناعية الكبرى في العالم. وعندما يحدث ذلك، ستندفع موجات الصدمة الاقتصادية بقوة وبسرعة في أنحاء الكوكب لتكسر شوكة بلدان العالم واحدًا تلو الآخر. ولكي نتعرف أكثر على المصير الذي ينتظر العاصمة اليابانية، دعونا نُلقِ نظرة على واحدة من الكوارث الكبرى التي شهدها القرن العشرون، أعني الحدث الجلل الذي يسمِّيه اليابانيون «زلزال كانتو الكبير».

fig16
شكل ٤-٤: لم يبقَ في طوكيو سوى أطلال بعد أن ظلت تحترق على مدار يومين كاملين بنيران الحرائق التي اندلعت إثر وقوع زلزال كانتو الكبير عام ١٩٢٣.2

بزغ فجر اليوم الأول من سبتمبر عام ١٩٢٣ على سكان طوكيو ويوكوهاما كأي يوم آخر، لكنه كان آخر عهد الكثيرين منهم بهذه الدنيا. وقع الزلزال قبيل الظهيرة، عندما كانت المقاهي والمطاعم تعج بالعمال الجياع، وكانت الأسر مجتمعة في المنازل أمام وجبة الغداء. في بادئ الأمر كان هناك هدير خافت وعميق، سرعان ما تحول إلى هدير مرعب حين انشق الصدع الموجود أسفل خليج ساجامي، وأرسل موجات صدمة تشق الأرض شمالًا نحو المدينتين التوءمتين، فنالت من يوكوهاما أولًا، ولم يمضِ على ذلك ٤٠ ثانية حتى ضربت قلب العاصمة نفسها. بلغت شدة الزلزال ٨٫٣ درجات على مقياس ريختر، وكان اهتزاز الأرض من الشدة بحيث كان من المستحيل على المرء حينها أن يقف على قدميه. في غضون ثوانٍ، انهارت آلاف المباني التي كان العديد منها ذا جدران خشبية تقليدية وأسقف قرميد ثقيلة، فصارت أكوامًا من الأنقاض، لتُنهيَ حياة قاطنيها. وبعد الضوضاء والجلبة الناتجة عن انسحاق الصخور وانهيار المباني، انطلقت أصوات طقطقة أكثر هدوءًا — وإن كانت لا تقل رعبًا — للنيران؛ حيث بدأت الحرائق التي سببها انقلاب آلاف المواقد تلتهم الأخشاب التي بُنيت منها العديد من المباني. ثم جاءت رياح سريعة لتحرك مليون حريق صغير شكلت مجتمعةً جدرانًا من اللهب تلتهم كل ما في طريقها وسط الأنقاض. حاول الرجال والنساء والأطفال الذين هالتهم الصدمة أن يحتموا في المساحات المفتوحة، ولكن دون جدوى؛ إذ أحرقتهم العواصف النارية وهم أحياء. في منطقة واحدة من الأرض لقي ٤٠ ألف شخص مصرعهم حرقًا، وهؤلاء كانوا مكدسين في تلك المنطقة، حتى إنه قد عُثر على الجثث متفحمة في وضع الوقوف. واصلت النيران التهام ما تبقى من المدينتين يومين كاملين، قبل أن تنطفئ أخيرًا لتكشف عن مشهد من الخراب التام. لن نعرف أبدًا المجموع الحقيقي للضحايا، ولكن يمكن القول إن ما يصل إلى ٢٠٠ ألف شخص فقدوا أرواحهم بسبب ذلك الزلزال وما تلاه من حرائق. وكانت كلفة ذلك على الاقتصاد الياباني هائلة؛ إذ قُدرت بنحو ٥٠ مليار دولار بأسعار اليوم، وأدَّى اتحاد آثار ذلك الزلزال مع آثار «الكساد الكبير» الذي أعقبه بعد ست سنوات إلى انهيار اقتصادي ومعاناة قاسية. بل إن البعض يرى أن تلك الظروف — كما هي الحال في جمهورية فايمار الألمانية — ساعد على تأجيج نيران القومية وصعود الجيش؛ ما أدَّى إلى وقوع عمليات الاحتلال، وظهور الإمبريالية، ونشوب الحرب في نهاية المطاف.

في السنوات الأولى من الألفية الجديدة، تنتظر المدينتان التوءمتان طوكيو ويوكوهاما مرة أخرى مصيرهما، ولكن هذه المرة سيكون الأمر أسوأ بكثير، سواء لليابان أو لبقية العالم؛ فالآن تشكل القوة الصناعية والتجارية لتلك المنطقة أحد المحاور الرئيسية في السوق العالمية، ولها أذرع تمتد إلى أقصى الأماكن على سطح الأرض؛ مما يخلق آلة اقتصاد عالمية تعتمد عليها الآن ثروات كل الأمم. حين تسقط طوكيو، ستسقط اليابان، وستتبعها بقية دول العالم، لكن متى؟ يتراكم الإجهاد في الصخور تحت العاصمة وحولها منذ ٧٨ سنة، وبصرف النظر عن الصغر النسبي للزلزالَين اللذين وقعا عامَي ١٩٩٢ و٢٠٠٥ — بقوة ٥٫٩ درجات على مقياس ريختر — كانت المنطقة وما زالت هادئة من حيث النشاط الزلزالي. ومع ذلك فالحكومة والسكان هناك على علم بأن هذا الوضع لا يمكن أن يظل هكذا، ونرى الآن أموالًا طائلة تُنفق على تشييد المباني المقاوِمة للزلازل، وتحسين التثقيف والتخطيط لحالات الطوارئ، بل وعلى محاولات تحديد توقيت دقيق لموعد الزلزال الكبير التالي. ومع ذلك، ثبت حتى الآن أن التنبؤ الدقيق بالزلازل بعيد المنال، وأن احتمالات تحقيق إنجاز في هذا الصدد في المستقبل القريب ضئيلة. وعلاوةً على ذلك، فإن نسبة كبيرة من المباني القديمة لا تزال عرضة للانهيار إن وقع أحد الزلازل، ولا يزال هناك نحو مليونَي مبنًى خشبيٍّ تمثل مصدرًا مرشحًا بقوة لاندلاع الحرائق التي تعقب الزلازل. منذ عشر سنوات فقط، لقي ٦٠٠٠ شخص حتفهم بسبب زلزال ضرب مدينة كوبي التي تقع على بُعد ٤٠٠ كيلومتر جنوب طوكيو، وهو ما يمكن اعتباره صورة مصغرة للكارثة التي تنتظر العاصمة اليابانية. ساهمت الحرائق في كوبي بنصيب كبير في الدمار الكلي وفي الخسائر الاقتصادية الضخمة التي بلغت قيمتها ١٥٠ مليار دولار أمريكي، وبدا واضحًا أن التأهب لحالات الطوارئ والاستجابة لها بعيدان كل البُعد عن الفاعلية، وبالتأكيد أقل بكثير من توقعات بقية العالم، وذلك بالنظر إلى الانطباع العام بأن المجتمع الياباني نموذج للكفاءة. لسبب أو لآخر عجزت السلطات اليابانية عن التعامل مع تداعيات تلك الفاجعة؛ فلم تكن هناك خطط تضمن نقل الإمدادات والمعدات في حالات الطوارئ إلى حيث توجد حاجة إليها؛ إذ سُدت الطرق بسبب الحطام وتعطلت السكك الحديدية، ولعدة أيام بعد الزلزال لم يتلقَّ العديد من مئات الآلاف من المشردين في المدينة أي مساعدات، أو تلقَوْا مساعدات ضئيلة. من الإنصاف أن نقول إن بعض المشكلات التي ظهرت في كوبي تعكس الهيكل الهرمي للمجتمع الياباني الذي يعيق صنع القرار والعمل المستقل، ويعيق الاستجابة السريعة في حالات الطوارئ. إن لم تحدث تغييرات كبيرة في هذا الشأن، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن لأي خطة طوارئ خاصة بالزلازل في طوكيو أن تنجح في ظل القيود التي تفرضها مثل هذه النظم الاجتماعية المقيِّدة والمتجذرة في المجتمع الياباني.

يتسم الوضع الجيولوجي لطوكيو ويوكوهاما بالتعقيد حيث توجد ثلاث صفائح تكتونية كبيرة تتلاقى هناك. فالإجهادات الهائلة التي تصاحب الحركات النسبية لتلك الصفائح يُتخلص منها دوريًّا عن طريق إزاحات مفاجئة على طول الصدوع الموجودة هناك، التي بدورها تؤدي إلى وقوع زلازل مدمرة. الواقع أن هناك الكثير من الصدوع النشطة في المنطقة المجاورة لدرجةٍ تجعل المنطقة معرضة لخطر وقوع زلازل كبيرة، وذلك في أربعة مواضع مختلفة يرى علماء الزلازل أن وقوع زلزال بها قد تأخر عن موعده أو على الأقل صار وشيكًا. على بُعد نحو ٧٥ كيلومترًا جنوب طوكيو ويوكوهاما، وعلى مقربة من مدينة أُوداوارا، يتوقع العلماء حدوث زلزال تتراوح قوته بين ٦٫٥ و٧ درجات على مقياس ريختر في أي لحظة. ومع ما سيسببه ذلك من أضرار جسيمة للمنطقة، وأضرار متوسطة في طوكيو ويوكوهاما، فليس من المرجح أن يضرب العاصمة بنفس قوة زلزال عام ١٩٢٣. وبالمثل، هناك زلزال وشيك يُسمى بزلزال توكاي ويقع تحت خليج سورجا، وعلى بُعد ١٥٠ كيلومترًا إلى الجنوب الغربي. ويتوقع العلماء أن يكون الزلزال هائلًا حيث ستبلغ قوته ٨ درجات على مقياس ريختر، ويتوقعون أنه بلا شك سيضرب مدينة شيزوكا الساحلية، لكن من المحتمل أن يكون هو الآخر بمنأًى عن العاصمة بحيث لا يكون له تأثير كبير عليها. وهناك زلزالان آخران — يثيران قلقًا أشد بكثير مما سبق ذكره — يتوقع العلماء حدوثهما بحيث يشكلان خطرًا أكبر بكثير على طوكيو، ويترقبهما العلماء ببالغ الخوف. يتوقع علماء الزلازل أن زلزالًا كبيرًا بقوة ٧ درجات على مقياس ريختر قد يحدث في أي وقت، وذلك أسفل العاصمة اليابانية مباشرة. وهذه الكارثة — التي تُعرف محليًّا باسم زلزال تشوكا-جاتا — ستُلحِق بالعاصمة اليابانية أضرارًا بالغة، مع أن يوكوهاما من المرجح أن تكون أقل تضررًا. والأسوأ من ذلك كله، قد تتكرر كارثة زلزال كانتو الكبير الذي وقع عام ١٩٢٣ قبل مرور قرن من الزمان. ومن المرجح أن يكون ذلك في صورة زلزال هائل بقوة ٨ درجات على مقياس ريختر يقع نتيجة انشطار الصدع الواقع تحت خليج ساجامي إلى الجنوب. وكما كانت الحال منذ ما يقرب من ٨٠ عامًا، فإن موجات الصدمة ستندفع شمالًا، فتُسرع في بداية الأمر نحو يوكوهاما، ثم لا تمضي نصف دقيقة حتى تضرب طوكيو نفسها.

لا تزال الحكومة اليابانية تصر على أن علماءها سيكتشفون أمارات الإنذار قبل وقوع الزلزال الكبير بوقت كبير. وهذا اليقين في العلم نادر ومؤثر، لكنه في هذه الحالة في غير محله تمامًا. لو عدنا إلى الوراء لرأينا أنه قد لوحظ أن بعض الزلازل قد يسبقها هبوط في مستويات المياه في الآبار والحفر، وقد تسبقها كذلك تركيزات مرتفعة من غاز الرادون المشع تنبعث من الصخور، لكن هذا لا يكون ملحوظًا دائمًا. علاوةً على ذلك، فإن مثل تلك التغييرات قد تحدث دون أن يعقبها زلزال، وهو ما يجعلها غير جديرة بالثقة فيما يتعلق بأغراض التنبؤ. زعمت مجموعة من العلماء اليونانيين أن بوسعهم اكتشاف إشارات كهربية في القشرة الأرضية قبل وقوع الزلازل، لكن ليست هناك أدلة مقنعة على هذا، وهو ما كان موضع سخرية معظم علماء الزلازل. من ناحية أخرى، يبدو أن ثَمَّةَ شيئًا من الصواب في فكرة أن الحيوانات والطيور والأسماك تتصرف بغرابة قبل وقوع الزلازل، وبالفعل يُجري اليابانيون أبحاثًا جادة لمعرفة ما إذا كان سمك السِّلَّوْر — من بين كائنات حية أخرى — يمكن أن يساعد في التنبؤ بالزلزال الكبير قبل وقوعه. المشكلة هنا أن لا أحد يعرف كيف يمكن للحيوانات الكشف عن الزلازل قبل حدوثها، وإن كان يقال إن الإجهاد في الصخور يولِّد شحنات كهربية في فراء الحيوانات وريشها، وربما حتى في القشور التي تغطي أجسام الأسماك، فتتولد عن ذلك صدمات كهربية صغيرة؛ مما يصيب الحيوانات بحالة من التوتر والهياج غير معروفة السبب. لكن هذا يطرح السؤال التالي: كيف يمكننا أن نقطع بأن حيوانًا كالخنزير مثلًا يتصرف بغرابة؟

في حالة غياب الإنذار الذي من المفترض أن يطلقه سمك السلور، يكون من المحتمل إذنْ أن الزلزال الكبير المقبل سيضرب طوكيو دون أي تحذير على الإطلاق. ستتحمل المباني التي شُيدت مؤخرًا الكارثة إلى حدٍّ معقول، لكن العديد من المباني القديمة سيكون مصيره الانهيار. بالرغم من تركيب أجهزة الإغلاق التلقائي للغاز في بعض المباني، فإن انفجار خزانات الوقود وتحطم أنابيب الغاز، والانسكابات النفطية والكيميائية، سيضمن اندلاع عدد من الحرائق يكفي لالتهام مليون مبنًى خشبي. وكما كانت الحال عام ١٩٢٣، من المتوقع أن تتسبب الحرائق الهائلة في دمارٍ لا يقل عن الدمار الذي يحدثه الزلزال نفسه، وأن تؤديَ إلى زيادة كبيرة في أعداد الضحايا الذين يقدَّرون بنحو ٦٠ ألف شخص. ومع أنه من الصعب إجراء تقدير سابق للخسائر الاقتصادية الناتجة عن ذلك الزلزال الكبير، خرجت علينا إحدى شركات وضع النماذج التي تخدم صناعة التأمين لتقول إن تلك الخسائر ستبلغ ٣٫٣ تريليونات دولار أمريكي. وهذا من شأنه أن يجعل كلفة زلزال طوكيو القادم تفوق ٢٠ مرة كلفة كارثة كوبي التي هي حتى الآن الكارثة الطبيعية الأكثر كلفة في تاريخ البشرية، وتفوق ٦٠ مرة كلفة زلزال نورثريدج الذي وقع في ولاية كاليفورنيا عام ١٩٩٤، وهي الكارثة الطبيعية الأكثر كلفة في تاريخ الولايات المتحدة.

يتوقع الكثيرون أن ينسف ذلك الحدث الجلل الاقتصاد الياباني نسفًا؛ فاليابان دولة مركزية، وإقليم طوكيو لا يستضيف الحكومة اليابانية فحسب، بل وسوق الأسهم، إضافةً إلى ٧٠ بالمائة من المقرات الرئيسية لكبرى الشركات اليابانية والعالمية. والاقتصاد الياباني هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ويمثل ٥١ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في آسيا و١٣ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبالرغم من أزمتها الاقتصادية الحالية، فمن المرجح أنها ستظل قوة اقتصادية حتى بعد أن يضربها ذلك الزلزال الكبير في نهاية المطاف. ومن أجل إعادة بناء اليابانيين لبلادهم وتجديدها، من المرجح أنهم سيُضطرون لسحب استثماراتهم من الخارج على نطاق واسع، فيُغرقون السندات الحكومية في أوروبا والولايات المتحدة، ويبيعون الأصول الأجنبية، ويغلقون مصانعهم خارج اليابان. ومن المرجح أنه حين تصارع الدول واحدة تلو الأخرى من أجل مواجهة الانهيار السريع للاقتصاد العالمي، ستحل عما قريب فترة كساد اقتصادي لا مثيل له منذ كساد عام ١٩٢٩ عندما أغلق انهيارُ وول ستريت ١٠٠ ألف شركة في الولايات المتحدة وحدها. ولن نفاجأ حينها عندما تصل نسب البطالة إلى أبعاد مذهلة، وعندما يبدأ النسيج السياسي والاجتماعي للكثير من الدول في التمزق. لا أحد يعلم كم من الوقت سيستمر كساد ما بعد زلزال طوكيو — ربما سنواتٍ أو حتى عقودًا — أو أيَّ مدًى سيبلغ من السوء. وعلى القدر نفسه من الأهمية، كم من الوقت علينا أن ننتظر حتى يتحقق ذلك السيناريو المتوقع ويصير واقعًا ملموسًا؟ ربما عقودًا، وربما مائة سنة أخرى أو أكثر، لكن لن نفاجأ حين نشهد انهيار تلك المدينة الكبرى قبل حلول فجر القرن القادم.

مع أنهم في وسائل الإعلام كثيرًا ما يصورونني على أنني «رجل الكوارث»، فإنه يسوؤني أن تعتبرني نذير شؤم، فتغلق الكتاب عند هذا الحد، وتشعر باليأس من المستقبل. صحيح أن كوكب الأرض حافل بالأخطار من الناحية الجيولوجية، وأنه كلما تعمقنا أكثر في دراسة هذا الكوكب تجلى لنا الخطر الكامن الذي تمثله الصفائح التكتونية على بقاء حضارتنا، لكن من ناحية أخرى، نحن نتعلم طوال الوقت؛ فنجمع البيانات التي يمكن استخدامها لمواجهة آثار أمواج تسونامي العملاقة القادمة أو الانفجارات البركانية الهائلة المقبلة أو التخفيف منها على الأقل. في نهاية المطاف، سيكون ممكنًا — على الأرجح — التنبؤ بالزلازل بشيءٍ من الدقة، وبالتأكيد في غضون قرن من الزمان ستنجح أقمارنا الصناعية في رصد أي مكان على هذا الكوكب به جزيرة بركانية غير مستقرة، أو مكان به انتفاخ لسطح الأرض بسبب دفعة جديدة هائلة من الصهارة، وذلك قبل وقوع الكارثة بوقت طويل. يتناول علماء الأرض بصورة شبه يومية بعض أكبر الأخطار التي تهدد مجتمعنا، وتدريجيًّا يدركون ماهيتها وكيفية التعامل معها. وعلى أقل تقدير، في المرة القادمة حين تهتز الأرض على نطاق واسع سنكون أكثر استعدادًا بكثير من أسلافنا الأوائل الذين واجهوا بركان توبا وقد استحوذ عليهم الفزع المطلق وعدم الفهم.

حقائق مثيرة للقلق

  • في المتوسط يقع انفجاران بركانيان هائلان كل ١٠٠ ألف سنة.

  • عقب انفجار بركان توبا الهائل قبل ٧٤ ألف سنة، وقع العالم أسير شتاء بركاني لمدة ست سنوات على الأقل.

  • في أعقاب كارثة توبا، من المحتمل أن يكون عدد البشر في العالم قد انخفض إلى بضعة آلاف فقط.

  • في عام ١٩٤٩، حدث انهيار أرضي هائل في الجهة الغربية من بركان كمبر فيجا في لا بالما (جزر الكناري) بمقدار ٤ أمتار بين عشية وضحاها.

  • عندما انهار كمبر فيجا في البحر، ضُربت المدن الساحلية في الجهة الشرقية من الولايات المتحدة الأمريكية بأمواج تسونامي وصل ارتفاعها إلى ٥٠ مترًا.

  • من المتوقع أن يسبب الزلزال الكبير المقبل في طوكيو خسائر تتجاوز قيمتها ٣٫٣ تريليونات دولار أمريكي، وربما يؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي.

هوامش

(1) Apocalypse, Cassell, 1999.
(2) © Hulton Archive/Getty Images.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤