خطبة العرش لافتتاح الدور الثاني للبرلمان المصري

ونثبت هنا خطبة العرش التي ألقيت في الدور الثاني من انعقاد البرلمان المصري في يوم الأربعاء ١٢ نوفمبر سنة ١٩٢٤، بعد ثمانية شهور من افتتاحه الأول أقفلت فيها أبوابه نظرًا للعطلة الرسمية، فلم يكد يتنفس صباح ذاك اليوم حتى ازدحم الطريق الممتد من ميدان عابدين إلى شارع دار النيابة بجماهير متلاصقة الأجساد صفت على جانبي الطريق على امتداده، ولم تكن شرفات الدور وسطوحها بأقل منه ازدحامًا، فقد احتشدت في هذا وفي تلك عشرات الألوف من النظارة.

وقد اصطفت الحامية المصرية على الجانبين تحمل كل أورطة علمها، ومع كل منها ضباطها بملابس التشريفة، وبين كل جندي وجندي منها نحو متر واحد ومن ورائهم جنود البوليس المصري تحت إمرة ضباطهم، وقد قامت خلف هذين الصفين ربا من الخلق، كان بعضهم جالسين على مقاعد أعدت لمثل هذا اليوم بأجر مرتفع.

ووقف فرسان الجيش في ميدان الإسماعيلية بقيادة قائدهم، واصطف وراء أبواب دار النيابة قره قول شرف من الجنود المصرية لتأدية التحية العسكرية أثناء تشريف حضرة صاحب الجلالة الملك، وكان قد توافد إلى هذه الدار في الموعد المحدد؛ لتشريف جلالته المدعوون من حضرات أصحاب السمو الأمراء والنبلاء، وأصحاب الدولة والمعالي الوزراء، وحضرات أصحاب الفضيلة العلماء ورجال الدين، وحضرات سفراء الدول ووكلاء وكبار موظفي الحكومة من المحافظين والمديرين وغيرهم.

وفي الساعة العاشرة إلا ثلث أطلق من ميدان الإسماعيلية واحد وعشرون مدفعًا، إيذانًا بتحرك ركاب حضرة صاحب الجلالة الملك من القصر الملكي، وعزفت موسيقي الحرس التي كانت مصطفة في ميدان عابدين بالسلام الملكي، ودوى الفضاء بالنداء العسكري والتصفيق والهتاف.

وخرجت المركبة الملكية تقل حضرة صاحب الجلالة المعظم وإلى يساره حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، ويجرها ستة من جياد الخيل، وقد ركب أولها سائس وركب مؤخر المركبة ثلاث سواس بملابسهم الحمراء المزركشة وتقدم المركبة الملكية مركبة حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء، ورئيس الياوران وتأخر عنها مركبتان ملكيتان أخريان، تقلان كبار موظفي القصر.

وكان الموكب كلما اجتاز نقطة هتفت تلك الجماهير هتافًا يشق عنان السماء، ودوَّى التصفيق وصدحت الموسيقات، وكان حضرة صاحب الجلالة يحيي الشعب مبتسما حتى وصل الموكب إلى شارع دار النيابة. واجتازت المركبة الباب المخصص لدخول جلالة الملك، وكان يقوم على حراسته معاون بوليس البرلمان وثلة من عساكر البوليس.

ولما نزل جلالته من المركبة بدئ بإطلاق مائة مدفع ومدفع، ورفع العلم الكبير على الدار، وتقدم حضرات أصحاب السمو الأمراء والنبلاء وحضرات أصحاب الدولة والمعالي الوزراء، ورئيس المؤتمر واللجنة البرلمانية المنتدبة للاستقبال، فحيوا جلالته وساروا بين يديه إلى الغرفة الملكية الخاصة، فاستراح فيها هنيهة ثم سار منها إلى قاعة المؤتمر، وأعلن كبير الأمناء قدوم جلالته فوقف الجميع إجلالًا وتعظيمًا، ووقف جلالته أمام العرش، وعن يمينه الأمراء وعن شماله الوزراء، ثم جلس وتفضل فأذن للواقفين جميعًا بالجلوس فجلسوا.

وبعد أن جلس حضراتهم جميعًا تسلم حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد زغلول باشا خطبة العرش من حضرة صاحب الجلالة الملك، فألقاها على الحاضرين الذين كانوا يقاطعونها بالتصفيق، وكانت المدافع لا تزال تطلق وهذا نصها:

خطبة العرش

حضرات الشيوخ حضرات النواب

أحييكم أحسن تحية وأهديكم أجل احترام وأذكر بالسرور وبالفخار يوم حضرت بينكم منذ أقل من ثمانية شهور لافتتاح اجتماعكم، وأداء القسم العظيم بالإخلاص للدستور، الذي وفقني ربي لإنشائه وتدبير الأمور طبق أحكامه.

الثناء على البرلمان

واليوم أهنئكم على نتيجة أول اختبار للعمل بنظامه في الدور الأول، ووقوع أكثره في أقسى فصول السنة، جاءت نتيجة حسنة مشجعة وباعثة على الرجاء في التقدم والارتقاء.

ذلك بفضل ما انطويتم عليه من الحب لخير البلاد، وما أبديتموه من حكمة واعتدال، وما امتازت به مكاتبكم ولجانكم من النشاط المستمر، والإدارة الحسنة والبحث الدقيق.

قد وضعتم لوائحكم الداخلية ونظمتم مكاتبكم وانتخبتم لجانكم ووضعتم من الأسئلة والاستجوابات والاقتراحات، ما كان له أثر عظيم في مراقبة الشؤون، ومعرفة حاجات الجمهور، والاطلاع على سياسة الحكومة، وتبين الحكمة في ما عملت والسر في ما تركت.

ولقد تناقشتم في ميزانيات الدولة وصدقتم عليها بعد درس جاء بحكم الضرورة موجزًا محددًا ولكنه دقيق ومفيد. وقد أعدتم النظر في قوانين مهمة كقانون الانتخابات، وأدخلتم عليه تعديلات سيكون لها أثر عظيم في الأعمال المقبلة، وأيدتم بقراراتكم الإجماعية وتصريحاتكم الواحدة وحدة الأمة في جهادها للحصول على استقلالها التام. (تصفيق)

بذلك أثبتم بالبرهان المحسوس الواضح أن البرلمان المصري جدير بالسلطة التي خولها له الدستور.

استقلال مصر والسودان

إن حكومتي صرفت كما وعدت أكبر همها في السعي لاستقلال البلاد بجزأيها مصر والسودان (تصفيق)، وبناء على دعوة رئيس الوزارة الإنكليزية توجه رئيس حكومتي إلى لندن في شهر سبتمبر الماضي للدخول في محادثات قد تؤدي إلى مفاوضات رسمية، وذلك بعد ما حصل على التأكيد بأن هذا السعي لا يمس بأية صورة حقوق مصر.

لم تؤد هذه المحادثات إلى مفاوضات، ولكننا لا نزال واثقين تمام الوثوق من الوصول إلى غايتنا المنشودة بفضل وضاحة حقنا، واتحاد شعبنا وتعلقه بالعرش، وتضامن الكل في المحافظة على حقوقنا المقدسة في وادي النيل بقسميه من غير أن نتخلى عن شيء منها، أو أن نقبل أو أن نعترف بأي عمل أو أمر من شأنه المساس بها. (تصفيق حاد)

وستستمرون في مساعدة الحكومة بكل جهد على حسن إدارة البلاد، وتوجيه الأمة في طريق الرقي؛ لتستزيد من احترام الأمم المتمدينة لها ومن عطفها عليها.

التوسع في الأعمال البرلمانية

ويسرني أن أرى البلاد اليوم على حالة تسمح بالتوسع في الأعمال البرلمانية توسعًا طبيعيًّا فعالًا، فالطمأنينة العامة تملأ جميع أنحاء القطر، نعم وقعت في الأشهر الأخيرة حوادث إضراب، ولكنها لم تكن سوى حوادث عادية ناشئة عن منازعات اقتصادية ومادية، لم يترتب عليها تكدير للراحة العمومية ومرت بسلام وانتهت على صورة مرضية بوجه عام.

حادثة الاعتداء والمؤامرة

أما حادثة الاعتداء التي وقعت على رئيس حكومتي، ونجاه الله من شرها واستاءت الأمة لوقوعها فلم تكن جناية اجتماعية ولا عملًا ثوريًّا، إذ كشف التحقيق أنها جناية فردية ناشئة عن جنون شخصي.

الأحوال الاقتصادية والداخلية

والأحوال الاقتصادية جارية على منوال حسن، ولكنها قابلة للتحسين والإصلاح والحالة المالية على ما يرام، إذ الحساب العمومي الذي سيعرض عليكم يدل على تعادل تام في الميزانية وعلى وفرة المال الاحتياطي.

وقد اتخذت الحكومة التدابير لتخفيض النفقات إلى المقدار، الذي تقضي به الحاجة فعلًا وعلى الأخص لمراقبة النفقات مراقبة شديدة وهذا يكفل بقاء الميزانية على ما هي عليه من الثبات؛ ولهذا الغرض تشتغل الحكومة بدرس مشروع لائحة لإنشاء نظام مستقل، يختص بمراجعة الإيرادات والمصروفات.

انتظام المصالح العامة

وجميع المصالح العامة سائرة بانتظام، وفي هذا السير المنتظم أكبر دليل على عدم صحة ما تنبأ به بعض ذوي الأغراض من أن النظام الجديد، وخروج الموظفين الأجانب من خدمة الحكومة سيفضيان حتمًا إلى اختلال عام في النظام، على أن التغيرات التي حدثت في خلال السنة في موظفي الحكومة، لم يكن الغرض منها إلا تقوية تلك المصالح العامة بمعاونة عناصر من الشبان الأكفاء المخلصين لخير البلاد.

لائحة للموظفين

ولما كان تطبيق نظام الدرجات الجديدة وهو عبء ثقيل خلفه الماضي، قد تم الآن بعد أن حمل الحكومة تكاليف طائلة وعناء شديدًا، فقد شرعت في وضع لائحة للموظفين، والمأمول أن تساعد هذه اللائحة بما تخوله لهم من الحقوق وتفرضه عليهم من الواجبات بطريقة عادلة، على زيادة ضمان سير العمل وانتظامه.

المواصلات البرية والبحرية

ومن المصالح العامة مصلحة تستدعي من جانب الحكومة عناية تامة، وهي مصلحة السكك الحديدية التي تركت للإدارة الجديدة في حالة صعبة، خصوصًا بسبب عدم تجديد مهماتها بطريقة مستقلة؛ ولهذا سيقترح عليكم اتخاذ تدابير مهمة لتحسين حالتها وتوسيع نطاقها، وضمان سيرها في التحسين والارتقاء.

وستعرض عليكم أيضًا مشروعات مهمة تتعلق بالتجارة البحرية والملاحة النيلية.

الإصلاح الزراعي

إن ما أشرنا إليه في خطابنا يوم افتتاح البرلمان من حاجات البلاد يستلزم على الدوام عناية شديدة، فالزراعة عمومًا وزراعة القطن خصوصًا الذي هو أساس ثروتنا، يجب أن نبذل لها وسائل المساعدة والتشجيع والحماية؛ ولهذا تنوي وزارة الأشغال العمومية القيام بأعمال مهمة من شأنها تحسين طرق الصرف والري في الوجه البحري، وتوفير وسائل الري في الوجه القبلي، كما وأن وزارة الزراعة تدرس الآن وتنفذ تدريجيًّا ما يلزم من الوسائل لمنع انحطاط نوع القطن المصري، ومقاومة الأمراض التي تفتك به وتعميم نظام التعاون، وإنشاء مراكز للتجارب الزراعية وتشجيع زراعة أصناف جديدة، وحماية المواشي والتوسع في تربيتها وتحسين نتائجها، وكذلك مساعدة صغار الزراع خصوصًا فيما يتعلق بشراء البذور والأسمدة.

وزارة الأوقاف

وتشترك وزارة الأوقاف في هذه الجهود بالنسبة للأراضي التي تديرها، كما أنها تعنى بتحسين نظامها الداخلي، رغبة منها أيضًا في تحسين حال المستحقين والإكثار من المنشآت الخيرية.

الحالة الصحية

والحالة الصحية العامة عادية بوجه الإجمال، بل هي سائرة في طريق التحسن سيرًا بطيئًا، غير أنها ما زالت بعيدة عن الدرجة التي نود أن تكون عليها، ومما لا مندوحة عنه زيادة عدد مستشفياتنا ومستوصفاتنا، وإننا لنعلق أملًا كبيرًا على ما يبذله الأفراد من الجود، فقد شاركوا الحكومة قبل الآن في سبيل القيام بهذا الواجب المفروض على الجميع لوجه الله تعالى وللوطن العزيز.

وتبذل مصلحة الصحة كل جهدها في أداء مهمتها بالقدر الذي يسمح به ما لديها من الوسائل، وسيجد البرلمان البرهان على ذلك، عندما ينظر في مشاريع القوانين المهمة التي ستعرض عليه في هذا الشأن.

القضاء

وإن الحالة التي عليها إدارة القضاء قد لفتت نظر البرلمان من قبل، ولا يسع أحد أن ينكر الحاجة إلى تحسين حالة هذه الإدارة التي هي من أهم شؤون الدولة، وتقضي تلك الحاجة بزيادة عدد رجال القضاء زيادة معتدلة، وبإدخال إصلاحات توفق بين سرعة إنجاز القضايا، وتوافر جميع الضمانات اللازمة لسير القضاء سيرًا سديدًا عادلًا.

التعليم

وإن مساعي شعبنا في تعليم الناشئة تعليمًا أوليًّا أو راقيًا تزداد يومًا فيومًا، ويجب على الحكومة أن تقابل هذه النهضة التي تملأ جوانحي الأبوية سرورًا بما تستحقه، كما أنه ينبغي عليها أن تعتني بتنظيم هذه الحركة المباركة وتوجيهها في أقوم طريق، وإن تطبيق مبدأ التعليم الإجباري الذي فرضه علينا الدستور يجب أن يقترن بإصلاح التعليم الراقي والعالي إصلاحًا يصل ما انقطع من عهد النهضة العلمية العظيمة في مصر، وستعرض عليكم مشاريع مهمة تتعلق بهذا الموضوع.

الدفاع

ومن أهم واجبات الدولة توفير وسائل الدفاع عنها على أن مسألة الدفاع المسلح هي من أعظم المسائل خطورة وأكثرها تعقيدًا، فالحكومة تبذل جهدها في درسها وحلها تدريجًا بحذر وتؤدة واحتياط، فستزيد وحدات الجيش، وتشتغل بإنشاء ما لا وجود له الآن من الأسلحة.

مسألة السودان

إني أتأسف لأن مدة العطلة البرلمانية الماضية كانت ظرفًا لحدوث صعوبات خارجية وداخلية خصوصًا بالنسبة للسودان، تلك الصعوبات التي أقلقت خاطر شعبي وشغلت بال الحكومة، ولكني أحمد الله على أن خطة الحكمة والروية، التي عالجت بها حكومتي هذه الصعاب ساعدت مساعدة قيمة على حفظ حقوق مصر سالمة، وعلى استبقاء العلاقات الودية مع الدول الأجنبية.

مصر والأجانب

ولقد ظلت الجاليات الأجنبية آمنة مطمئنة في ضيافة البلاد، وهنالك بعض مسائل تجري فيها المخابرات الآن وهي مسألة الرعايا الألمان وحدود مصر الغربية والجنسيات، وأملي وطيد بأن تحل حلًّا مرضيًا بفضل ما يسود هذه المخابرات من الود والصفاء.

وجوه الإصلاح

حضرات الشيوخ والنواب.

إن وجوه الإصلاح في بلادنا متعددة ومتنوعة ولا تنحصر فيما ذكرناه، وكلها لحياة البلاد ورفاهيتها وحسن تقدمها. والقيام بها في دور الانتقال من نظام إلى نظام حديث — وهو الدور الذي نجتازه الآن — من أشق الأمور وأصعبها، ولكن حكومتي مملوءة من الرغبة في مباشرتها، ومن العزم الصادق على تذليل ما في طريقها من العقبات، وعلى توفير ما يلزمها من الوسائل مقدمة الأهم منها على المهم معتمدة بعد الله على حكمتكم وحسن معونتكم؛ ولهذا افتتح الدور الثاني للبرلمان وأدعوكم وأنا عظيم الثقة في حسن المآل للبدء في أعمالكم، حقق الله رجائي ووفقني وإياكم لما فيه الخير العام.

وبعدئذ وقف حضرة صاحب الجلالة الملك فوقف المجتمعون جميعًا فحيوا جلالته، وخرج مشيعًا بالهتاف والتصفيق.

وعاد الموكب باليمن والإقبال من حيث أتى، وقد قوبل في عودته بمثل ما استقبل به أولًا من مظاهر التكريم والحب والإجلال، وأطلق عند مبارحة جلالته لدار البرلمان واحد وعشرون مدفعًا.

وبعد وصول جلالته إلى القصر ركب حضرات أصحاب الدولة والمعالي الوزراء، ومعالي رئيس المؤتمر وأعضاء اللجنة المنتخبة؛ لتقديم الشكر لجلالته وسارت المركبات إلى القصر الملكي، وهناك رفعوا فروض الشكر إلى جلالته على تفضله بافتتاح البرلمان.

وعادت الجنود بهيئتها وموسيقاتها وأعلامها إلى ثكناتها، وتفرقت الجموع بعد ذلك، وكان النظام تامًّا بهمة سكرتيري المؤتمر وموظفي مجلسيه ورجال البوليس.

جعل الله هذا الدور فاتحة خير وإسعاد للأمة والبلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤