ترجمة العصامي السري المرحوم سليم صيدناوي بك

أحد أصحاب أعظم محل تجاري بالقطر المصري
figure
لقد أفردنا بابًا خاصًّا في هذا الجزء وفي الأجزاء المقبلة لتدوين تاريخ ورسوم مشاهير تجار القطر المصري، ونبتدئ بسرد تاريخ ذاك العصامي الكبير ألا وهو المرحوم سليم صيدناوي بك، الذي يعد من أكبر تجار القطر قاطبة، وحسبك ما تراه مشاهدًا ملموسًا في عموم المديريات من حركة البيع والشراء والأخذ والعطاء الجارية على قدم وساق في محلات سليم وسمعان صيدناوي بك وشركاهم، التي حازت شهرة عظيمة في عواصم أوربا عامة، والشرق خاصة، لم تبلغها غيرها من البيوتات التجارية الأخرى، وقد يرجع الفضل في هذا النجاح الباهر لأمور عديدة، منها شهرة أصحابها بطهارة الذمة، وحسن المعاملة ولين الجانب، والكفاءة الشخصية في كافة الشؤون التجارية والاقتصادية. وإنك لا ترى زائرًا يقصد محلات صيدناوي لقضاء حاجة إلا وخرج منها مرتاح الضمير؛ نظرًا لدماثة أخلاق أصحابه، ولا سيما حضرة صاحب العزة سمعان بك صيدناوي شقيق هذا الفقيد وحضرات أنجالهما الذين نشير إليهم بالإيماء؛ لأنهم معروفون لدى جميع المصريين برقة الطباع والكياسة مع ما اشتهروا به من العطف على الفقراء ومساعدة البؤساء.

مولده ونشأته

ولد هذا العصامي الكبير في دمشق الشام سنة ١٨٥٦م، وتربى برعاية والديه اللذين سهرا على تهذيبه وتربيته التربية المنزلية السامية، وقد علمه والده القراءة والكتابة بقدر ما كانت تسمح به أحوال تلك الأيام، وكان والده كثير التفكير في مستقبل بنيه، ويرى أن الشاب لا يأمن الفقر ما لم يتعلم صنعة من الصنائع الضرورية، فمال إلى تعلمه التجارة وفي عام ١٨٧٩ جاء مصر حيث كان شقيقه سمعان بك فاشتغل أولًا بالخياطة من طريق التجارة، فاشترك مع الخواجه متري صالحاني في محل للخياطة والتجارة، وحصة سليم من رأس المال دفعها أخوه سمعان بك، وبعد قليل احترق المحل وذهب رأس المال كله، وكان بين الأخوين الشقيقين تآلف وتحاب فوق تآلف الإخوة كأنهما شخص واحد، وكان للمرحوم سليم انعطاف عظيم على أخيه منذ الصغر؛ لأن سمعان بك أصغر من الفقيد بسنتين، فضرب صفحًا عن تلك الخسارة، وشارك أخاه وفتحا حانوتًا بالموسكي عند مدخل شارع منصور باشا لا تزيد مساحته على أربعة أمتار مربعة، أقام فيه سليم وسمعان صيدناوي في سنة ١٨٧٩م، وأخذا يعملان بنشاط وأمانة، وهما على شظف عظيم من العيش، وكانت حياتهما غاية من البساطة، وقد كانا يتحدثان بذلك، وهما في بسطة من الجاه وسعة من الثروة.

ومما يروى عن سبب اتساع تجارتهما أن حضرت خادمة من قصر سمو البرنس مصطفى فاضل باشا، واشترت من هذا الفقيد ثوبي دنتلة بمبلغ ستة عشر قرشًا تعريفة، فأخطأت ودفعت إليه ستة عشر قرشًا صاغًا، ونظرًا لاشتغاله بالمشترين الآخرين فلم ينتبه إلى ما دفعت تلك الخادمة إلا بعد انصرافها، التي لم يعلم لها مكانًا، فاتفق أن حضرت إليه في اليوم التالي لتبتاع ثوبين آخرين، وعند دفعها الثمن أخبرها بأن ثمنها ثمانية قروش صاغ فقط، وأن الثمن قبضه منها بالأمس — مشيرًا إلى الخطأ الذي وقع في تقدير الثمن في اليوم الذي قبله — وأعطاها بعد ذلك الثوبين، فتحدثت تلك الخادمة بذلك في القصر، وشاعت أمانة ذلك التاجر النزيه في الطبقة العليا، فأقبلوا على معاملته وازدادت أرباحه، وانتقل في سنة ١٨٨١م إلى حانوت أكبر منه في الموسكي مطل على الخليج، ثم جرى توسيعه بعد ذلك كما أنه أخذ محلًّا آخر أمامه جعله مقرًّا لإدارة حساباته ومكتبًا للكتبة، واتسعت الشركة وامتدت فروعها إلى الأقاليم وفي الخارج، ولما أخذا ذلك المحل اجتمعا الأخوان للتعاون على العمل وظل محل الحمزاوي لهما، وما زالت أشغالهما تتسع ورأس مالهما يكبر، وكلما ضاق المحل وسعاه حتى لم يبق سبيل إلى توسيعه فأخذا محلًّا تجاهه جعلاه المحل المركزي، وهو الذي نوهنا عنه، الخاص لإدارة الحسابات.

وقد بنوا لمحل تجارتهم عمارة كبيرة أتت من أجمل العمارات في ميدان الخازندار بالقاهرة، وانضم لإدارة المحل الخواجات يوسف وجورج أولاد سمعان بك وجناب الخواجة الياس بن الفقيد، بعد أن تخرجوا من الكليات العلمية العالية متعلمين وعالمين كيف تدار الأشغال.

أما العبرة بما تقدم، فهي أن نجاح هذين الإخوين حجة واقعة على أن الاستقامة والصدق ضروريان للنجاح، ولا يكون مأمونًا إن لم يتعهده أصحابه بالإحسان زكاة أو صدقة تكون حائلًا لغوائل الحسد؛ ليس لأن الحسد يضر المحسودين، ولكن الإنسان إذا ارتقى بابًا من أبواب النجاح كثر حساده، ومن الناس من لا يهمه ما يقال عنه، وإنما يهمه أن تزيد ثروته أحبه الناس أو أبغضوه، أما الصيدناويان فإنهما أفضل مثال لما ينبغي أن يكون عليه رجال الثروة وأهل الجاه، وهما مع ثروتهما وجاههما يتوخيان البساطة في أساليب معاشهما، ويبذلان الألوف في إعانة الفقراء، وهما مثال في الجد والنشاط، يشتغلان من الصباح إلى ما بعد العشاء شغلًا شاقًّا يعرفه كل من زار محلهما ورأى حكمة العمل فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤