ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل عدلي باشا يكن

كلمة تاريخية للمؤرخ

لقد تقلبت القضية المصرية إلى أدوار مختلفة، وكان من جملة هذه التقلبات تعيين جلالة المليك المعظم فؤاد الأول وفدًا رسميًّا برياسة حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا؛ ليتولى مفاوضة الحكومة الإنكليزية بنية الوصول إلى الاتفاق المنشود بين الحكومتين، وعدلي باشا — كما هو معلوم — من أركان الوزارة الرشدية، التي استقالت في سبيل تأييد الوفد المصري الذي يرأسه حضرة صاحب المعالي «صاحب الدولة الآن» سعد زغلول باشا، ولما دعي هذا الوفد إلى لندن قام عدلي باشا بمهمة الوسيط بينه وبين لجنة ملنر.

ومما سيذكره التاريخ لعدلي باشا بمداد الفخر والإعجاب، على أثر تعيينه رئيسًا لمجلس الوزراء أنه نشر برنامجًا سياسيًّا بين فيه للأمة المصرية الخطة التي ينوي اتباعها، ولم تعهد مصر من قبل مثل ذلك البرنامج الذي يعد فوزًا للروح الديمقراطي، وقد جاء فيه ما يأتي:

إن الوزارة ستجعل نصب عينيها في المهمة السياسية التي ستقوم بها لتحديد العلاقات الجديدة بين بريطانيا العظمى وبين مصر؛ الوصول إلى اتفاق لا يجعل محلًّا للشك في استقلال مصر، وستجري في هذه المهمة متشبعة بما تتوق إليه البلاد ومسترشدة بما رسمته إرادة الأمة، وستدعو الوفد المصري الذي يرأسه سعد باشا زغلول إلى الاشتراك في العمل لتحقيق هذا الغرض.

figure
حضرة صاحب الدولة الجليل عدلي باشا يكن رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقًا والعضو المعين بمجلس الشيوخ.

غير أنه بعد الأخذ والرد وبالرغم من المساعي الكثيرة، التي بذلت للتوفيق بين عدلي باشا يكن وسعد باشا زغلول لم يحصل الاتفاق المرغوب، فعين الوفد الرسمي برئاسة عدلي باشا يكن مؤلفًا من: حسين رشدي باشا، إسماعيل صدقي باشا، محمد شفيق باشا، أحمد طلعت باشا، يوسف سليمان باشا، ومهما تكن نتيجة المفاوضات، فقد أصبح لعدلي باشا منذ الآن شخصية تاريخية خطيرة الشأن، ولنقدم إذًا إلى ذكر شيء عن سيرته وأخلاقه ومناقبه.

•••

إن كلمة يكن التركية تعني «ابن الأخت»، وقد أطلقت في مصر على الأسرة المتفرعة من أخت محمد علي باشا الكبير مؤسس العائلة المالكة، فعدلي باشا يكن بن خليل باشا يكن بن إبراهيم باشا يكن ابن أخت محمد علي الكبير.

مولده ونشأته

ولد صاحب الترجمة الجليل سنة ١٨٦٦م، ونشأ كريمًا بين أعضاء أسرته الكريمة، حتى إذا بلغ الثامنة من عمره توجه مع المرحوم والده إلى الأستانة العلية، وأقام فيها نحو ثلاث سنوات قضاها في درس مبادئ العلوم وإتقان اللغات بذكاء نادر وفطنة وقادة تلوح منهما علائم النجابة، ثم عاد إلى مصر ودخل مدرسة «الفرير»، ثم مدرسة اليسوعيين، فحصل على مجموعة علمية تشهد له بالتفوق والنبوغ، وامتاز بالآداب السامية وتقوت لديه ملكة الإنشاء فسمت به آدابه ومواهبه إلى الانتظام في سلك الخدمة سنة ١٨٨٠م بمصالح الحكومة، فألحق بقلم الترجمة بوزارة الداخلية، ونقل منها إلى قلم المطبوعات، ثم انتخب سكرتيرًا خاصًّا لنوبار باشا، وكان وزيرًا للخارجية، وبعد ذلك صار يتنقل في الأقاليم لرقيه في الوظائف الإدارية.

ففي سنة ١٨٩١م عين وكيلًا لمديرية المنوفية، ووكيلًا لمديرية المنيا، ثم وكيلًا لمحافظة القنال، وفي سنة ١٨٩٥م عين مديرًا للفيوم فالمنيا فالشرقية فالدقهلية فالغربية ثم محافظًا لمصر، ثم مديرًا لعموم الأوقاف، ثم ارتقى إلى منصب الوزارة فكان وزيرًا للخارجية، ثم وزيرًا للمعارف ثم عين أخيرًا رئيسًا لمجلس الوزراء ورئيسًا للمفوضين الرسميين لعقد الاتفاق بين مصر وإنكلترا، وهي المهمة السامية التي تليق بقدره ومزاياه، وتشهد كفاءته بأنه خير من يتولاها من المصريين كافة؛ ولذا حسن اختيار جلالة الملك لدولته فتولاها بمهارة سياسية فائقة، وعاد عاطر الذكر عزيز الجانب حافظًا لحقوق وطنه، محافظًا على علاقات حسن التفاهم مع قطع المفاوضة.

فيرى القارئ مما تقدم مقدار تعدد الوظائف التي نقل إليها عدلي باشا يكن، وتدرجه في الوظائف من أبسطها إلى أرقاها، ثم إلى أسماها مقامًا فكان ذلك من أهم الأسباب — مع استعداده الفطري — لتوسيع دائرة أفكاره، وتقوية المشاهدات الدالة على متانة اختباره، وأنضج في شخصيته البارزة سلامة الذوق وقوة العارضة بمتانة في الرأي لا تبارى، وأعده لإتمام المهمة الخطيرة التي كلف القيام بها، فتخلص بما يشهد له بالبراعة الأمة بأسرها بإعلان اعتداله، والعرفان لفضله، وتخليد ذكرى ماضيه الشريف بجميل يدوم مدى الدهر.

•••

ولعدلي باشا يكن سجايا وميزات يندر أن تجتمع لشخص سواه، فمن المشهور عنه أنه عزيز النفس شديد الإباء، مترفع عن السفاسف، رقيق الطبع، لطيف الشمائل، شديد المحافظة على كرامته، واسع الحلم، قليل الكلام، نزيه النفس واللسان، وقد كان في جميع أدوار حياته مثلًا أعلى في الاحتفاظ بكرامته، فلم يعرف عنه ملق ولا محاباة ولا تصاغر أمام مستشار أو مفتش، كما كانت سنة زملائه المديرين في ذلك العهد وكان بينهم قدوة حسنة لا تسامى.

وقد صرح أحد أصدقائه الذين يوثق بإنصافهم وصدق نظرهم يصف شيئًا عن أخلاقه وصفاته فقال:

ومن أخص صفاته مواظبته على المطالعة والدرس فتعلم الإنكليزية، ودرس السياسة والاقتصاد السياسي على معلم خاص، وتعلم ميوله من زيارة دقيقة لمكتبته فإنك ترى فيها المؤلفات الممتعة لرجال السياسة والقوانين الدولية والاقتصاد ما لا يوجد عند غيره، وترى آثار الدرس والإمعان ظاهرة على صفحات تلك المصنفات، وترى سلامة الذوق في أحاديثه وجدله حتى تظن أنه ممن تعمقوا في درس المنطق، وكثيرًا ما لاحظ عليه أصدقاؤه ومعارفه أنه شديد الإصغاء لمحدثه قليل الإشارات، فلا يلبث أن يهدم محدثه بكلمة نقد أو سؤال يكبر الرجل في أعين سامعيه، ويدلهم على فضله ومكانته من التعقل وزنة الأمور.

وهو لا يعرف الأنانية، فقد ظهر تواضعه في مسألة الوكيلين التي أثارها سعد باشا زغلول في عهد الجمعية التشريعية، وقد كان صاحب الترجمة الوكيل الحكومي وسعد باشا زغلول الوكيل المنتخب، ومع هذا فقد أوعز إلى الأعضاء بترجيح وكيل الأمة على وكيل الحكومة بالجمعية، وكذا سعيه الحميد بين سعد باشا واللورد كتشنر في أيام الجفاء بينهما مما لا يزال عالقًا بالأذهان.

عود إلى بدء

قلنا في بدء هذه الترجمة: إن جلالة الملك فؤاد الأول عين وفدًا رسميًّا برياسة حضرة صاحب الدولة عدلي باشا، والذين انتخبوا لأن يكونوا معه؛ ليتولى مفاوضة الحكومة الإنكليزية بغية الوصول إلى الاتفاق المنشود.

ونقول الآن: إنه قضى الوزيران عدلي باشا ورشدي باشا ومن معهما من أعضاء الوفد المصري الرسمي أشهر الصيف في مفاوضات متقطعة مع رجال الوزارة الإنكليزية، وكانت نتيجة ذلك أن عرض اللورد كرزون على عدلي باشا مشروع الاتفاق بما تراه الحكومة الإنكليزية لحل المسألة.

وعرض عدلي باشا هذا المشروع على أعضاء وفده، فاتفقوا على رفضه، وقدموا إلى اللورد كرزون مذكرة بقطع المفاوضات يوم ١٦ نوفمبر سنة ١٩٢١م، وتقابل اللورد المذكور ورئيس الوفد المصري للمرة الأخيرة في ١٩ نوفمبر سنة ١٩٢١م، وفي اليوم التالي برح أعضاء الوفد مدينة لندن فوصلوا إلى مصر يوم ٦ ديسمبر سنة ١٩٢١.

ولما بلغ عدلي باشا مصر رفع استقالة وزارته إلى جلالة الملك المعظم، فلم يعلن جلالته قبولها إلا يوم ٢٤ ديسمبر بعد إلحاح كثير من دولته في قبولها، حتى لا تتحمل وزارته تبعة ما تفعله السلطة العسكرية.

وعرض تأليف وزارة جديدة، فقبلها صاحب الدولة عبد الخالق باشا ثروت، ومن ذاك الحين لزم حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا داره، واعتزل الأعمال العامة اعتكافًا على حب الخير لوطنه، وقدره خاصة الرجال تقديرًا يكافئ مزاياه، فانتخبه نخبة أعضاء مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية بالإجماع رئيسًا لها، وأقرتهم الجمعية العمومية السنوية، فتوافق العدل والإنصاف في أمياله الخيرية مع مزاياه الإنسانية، وخصها بوقته الثمين ولا تزال نهضتها تسمو فيها في زمنه، كما كانت في عهد الأمراء والرؤساء السابقين، ثم عين رئيسًا للمؤتمر الجغرافي الدولي الذي عقد لأول مرة بالقاهرة في أبريل سنة ١٩٢٥م، وهو اختيار صادف أهله وخير كفء للقيام بأعباء هذا العمل العلمي، وهو لا يألوا جهدًا في بذل أقصى مجهوده لخير البلاد أضعاف ما لو كان في دست الحكم، ولما رأت الحكومة أن في انضمامه لمجلس شيوخها فوائد عظيمة لا يستهان بها، فقد عينه جلالة مولانا المليك المعظم عضوًا فيه بمرسوم ملكي، صدر بتاريخ ٤ مارس سنة ١٩٢٥م، وقد أحسنت الحكومة صنعًا في تعيين هذا العامل الكفء والوطني الصميم؛ لتنتفع البلاد بمواهبه السامية وكفاءته العالية، وفوق ذلك فقد صدر مرسوم ملكي لدولة صاحب الترجمة بتعيينه رئيسًا للمؤتمر الجغرافي العام، الذي أقيم بالقاهرة في أوائل أبريل سنة ١٩٢٥، ووفد إليه ٤٥٠ عضوًا من عموم أنحاء البلاد المتمدينة والممالك ذوات الشأن، وقد افتتحه رسميًّا جلالة مولانا المليك المعظم باحتفال مهيب.

أدامه المولى وأبقاه رافلًا في بحبوحة السعادة والهناء لمصر وبنيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤