ترجمة حضرة صاحب الدولة الجليل السير يحيي باشا إبراهيم

نشأته الأولى

شب حضرة صاحب الترجمة محبًّا للدرس، منكبًّا على التعليم تتجلى على محياه سمات الذكاء والنباهة والنجابة، وترتسم على وجهه آيات الفطنة، فالتحق بالمدارس الابتدائية فكان خير مثال للجد والاجتهاد، وبعد أن أتم الدراسة الابتدائية التحق بالمدارس الثانوية، فظهرت مواهبه العلمية وما أتيح له من ذكاء فطري ونبوغ طبعي، حتى أتم الدراسة الثانوية، وتخرج من مدرسة الإدارة «الحقوق الآن»، ونال شهادتها النهائية في أكتوبر سنة ١٨٨٠م؛ ولما عرف به من حسن الاستقامة والهمة العالية وقوة الذكاء قررت الوزارة إرساله بالبعثة المصرية في فرنسا، ولكن بعد قليل رأى ناظر المدرسة «فيدال باشا» أن يبقيه للتدريس للاستفادة من علمه الفياض، ومعلوماته الواسعة ومعارفه الجمة.
figure
حضرة صاحب الدولة الجليل السير يحيي باشا إبراهيم رئيس وزراء الحكومة المصرية ووزير الداخلية سابقًا والعضو المعين بمجلس الشيوخ.

حياته العملية

فتعين في ١٤ ديسمبر سنة ١٨٨٠ معيدًا بمدرسة الألسن، وكان سنه وقتئذ تسع عشرة سنة فقام بتدريس ما عهد إليه خير قيام، وأبدى من الكفاءة النادرة وحسن الإفادة ما دل على علم وافر وتبحر عميق، حتى لهجت بذكره الألسن. وقد عين معيدًا بمدرسة الإدارة «الحقوق» علاوة على وظيفته في ١٦ أكتوبر سنة ١٨٨١م، وأحيل عليه تدريس القوانين والترجمة.

وفي أول سبتمبر سنة ١٨٨٤ أضيفت إليه وكالة مدرسة الحقوق، وكانت الفروع التي يدرسها هي القوانين الرومانية وقانون التجارة فضلًا عن تدريس القوانين الأخرى، فأظهر همة عالية ونبوغًا فائقًا دل على مقدرته الكبيرة، وبراعته العظيمة، واستمر بالمدرسة إلى أن صدر أمر عال بتعيينه في المحاكم الأهلية.

فتعين بوظيفة نائب قاض بمحكمة الإسكندرية في ٢ أغسطس سنة ١٨٨٨، وتدرج في وظائف القضاء فكان مثالًا عاليا للنزاهة والاستقامة، وعنوانًا كاملًا للعدل والإنصاف، واستمر كذلك في دائرة القضاء إلى أن تعين نائب مستشار بمحكمة الاستئناف سنة ١٨٩٢، ثم مستشارًا بها فقام بما عرف عنه من الكفاءة والخبرة، ونال احترام زملائه المستشارين في هذه المحكمة.

ولما وجدت محاكم الجنايات رأس دائرة محكمة جنايات طنطا، وذلك في سنة ١٩٠٥، وكان يرأس بعض الدوائر المدنية إلى أن خلت وظيفة رئاسة محكمة الاستئناف، فتعين رئيسًا لها في ١٠ فبراير سنة ١٩٠٧، ومكث بها مدة ١٣ سنة أظهر فيها من حسن الكياسة، وأصالة الرأي ما أحله محلًّا ساميًا، وانتظم في سلك الوزارة الوهبية.

تعيينه وزيرًا للمعارف

وفي ٢٠ نوفمبر سنة ١٩١٩ صدر أمر عال بتعيينه وزيرًا للمعارف في وقت عصيب، فلم يثن ذلك من همته ولا أنقص في عزيمته، وظل يواصل العمل بالرزانة والوقار المألوفين فيه، حتى سقطت الوزارة الوهبية في ٢٠ مايو سنة ١٩٢٠م، فاستقال عن كرسي الوزارة بعد أن ظل فيه ١٨١ يومًا كان بارًّا فيها بطلاب العلم يعطف عليهم كأبنائه عاملًا على ما فيه مصلحتهم ومصلحة البلاد.

تعيينه رئيسًا لمجلس الوزراء ووزيرًا للداخلية

ثم عاد حضرة صاحب الترجمة إلى الوزارة التي كان صاحب الدولة نسيم باشا رئيسها، وبعد زمن يسير استقالت هذه الوزارة، وكلف دولة يحيى باشا بتأليف غيرها، ولم يكن الجمهور يتوقع له النجاح لما كان يظن من قلة خبرته بالشؤون السياسية والأمور الإدارية، ولكنه لبى رغبة جلالة مولاه، وألف الوزارة ومضى في العمل بهمة لا تعرف الكلل، ونشاط لا يعتريه ملل فحل كثيرًا من العقد السياسية، التي حار في حلها رجال السياسة، وفي أيام وزارته صدر الدستور وقانون الانتخاب وغير ذلك من القوانين، وألغيت الأحكام العرفية، وقد وقف بوزارته إزاء الانتخابات البرلمانية وقفة الحياد، وشدد على عمال الحكومة في وجوب التزام هذه الخطة بالدقة التامة حتى إنه اعتذر إلى الذين رشحوه عن دائرة الصنافين لمجلس النواب، تنفيذًا لمبدئه الجاد الذي جاهر به وأوصى باتباعه، أما الأمر الملكي الكريم الذي صدر بسراي عابدين بتعيين دولته رئيسًا لمجلس الوزراء، ووزيرًا للداخلية فكان يوم ١٥ مارس سنة ١٩٢٣م، وإننا لا ننسى مطلقًا مجهوداته في تحقيق الرغبات الوطنية، وإزالة بواعث الانتقام والشحناء.

هذا والذين يعرفون ماضي دولة رئيس الوزراء ونشأته القانونية وابتعاده عن التحيز والمحاباة وثقوا بأنه يفوز برعاية جلالة الملك المعظم، وقد تم له هذا الفوز فعلًا، ومما يجدر بالذكر أنه في مدة رئاسته فك اعتقال معالي سعد باشا زغلول وصحبه، الذين كانوا مبعدين عن أوطانهم وأفرج عن كثيرين ممن حوكموا أمام المحاكم العسكرية وغيرهم، فانطلقت الألسن بالشكر والثناء لحسن مسعاه.

ونظرًا لأهمية الاستقالة التي قدمها حضرة صاحب الدولة من الوجهة التاريخية، فقد آثرنا نشرها هنا ليدرك القارئ مقدار الخدمات الجليلة التي قام بها في أثناء تربعه في كرسي الرئاسة، كما ننشر أيضًا رد جلالة الملك عليها وها هي الاستقالة بالحرف الواحد:

مولاي صاحب الجلالة

أوليتموني جلالتكم ثقتكم العالية بإسناد رياسة مجلس وزرائكم، في وقت كانت فيه البلاد تجتاز أزمة لا تزال ذكراها حاضرة في الأذهان، فصدعت بالأمر قيامًا بواجبي نحو الوطن مستعينًا بالله عز وجل ومعتمدًا على تعضيد جلالتكم، وقمت بتأليف الوزارة على الوجه الذي حاز القبول، وقد أتمت الوزارة في عهدها مهمة الدستور وقانون الانتخاب الذي كانت تتشوق إليهما الأمة في عصركم السعيد، ومهدت السبيل في تنفيذها برفع الأحكام العرفية عقب إصدار قانون التضمينات، الذي روعيت فيه مصلحة البلاد، وتلا ذلك تحقيق جملة أماني أعادت إلى البلاد حريتها الشخصية، فسادت بذلك الطمأنينة والسكينة، واتخذت لدوام هذه الحالة الوسائل المشروعة التي تلجأ إليها الحكومات المتمدينة، وتوصلًا إلى تحقيق مبدأ إحلال المصري محل الأجنبي عالجت الوزارة مشكلة خروج الموظفين الأجانب من وظائف الحكومة بكيفية تضمن عدم الإخلال بسير العمل، وبالحالة الاقتصادية والمالية في البلاد، وذلك بإصدار قانون التعويضات، الذي خفف كثيرًا من وطأة الطريقة التي رسمت بتعويض الموظفين، الذين يعزلون خدمة الحكومة، ودفع مضار خروجهم دفعة واحدة بما كان يترتب عليه وقوف حركة الأعمال في مختلف الإدارات، ولما تمهد السبيل لإنقاذ الدستور جرت الحكومة في إجراء الانتخابات على مبدأ الحياد التام، فأحاطت الانتخابات في جميع أدوارها بالضمانات الكافلة بتحقيق حرية الآراء إلى أن تمت عملية الانتخاب لمجلس النواب، ويسعد الوزارة أن تكون عملية الانتخاب قد انتهت مقرونة بمظاهر الارتياح والرضا العام، وقد كان في عزم الوزارة أن تتم عملها في انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ بوسائل الحياد، والضمانات التي اتبعت في انتخاب أعضاء مجلس النواب، غير أن فريقًا من الأعضاء المنتخبين لهذا المجلس أظهروا نزوعًا إلى الرغبة في تغيير الوزارة قبل إتمام عملية الانتخاب لمجلس الشيوخ، ولو أن هذه الرغبة ليس من شأنها أن تؤدي إلى تغيير الوزارة إلا أني رأيت أنا وزملائي عملًا بمبدأ الحياد، الذي لزمناه إلى الآن أن نرفع إلى جلالتكم هذه الاستقالة.

الأمر الملكي بقبول الاستقالة

أمر ملكي رقم ١٣ لسنة ١٩٢٤ بقبول استقالة حضرة صاحب الدولة يحيي باشا إبراهيم.

عزيزي يحيي إبراهيم باشا

إن ما أعربتم عنه في كتاب دولتكم المرفوع إلينا بتاريخ ١٧ يناير سنة ١٩٢٤، من التماس إقالتكم من مهمتكم كان له عظيم الأسف لدينا، وإنا لمقدرون صدق إخلاصكم، وشاكرون لكم ولحضرات الوزراء زملائكم تلك الأعمال الجليلة التي أديتموها أثناء قيامكم بمهمتكم، وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم بذلك.

صدر بسراي عابدين في ٢١ جمادى الثانية سنة ١٣٤٢ﻫ و٢٧ يناير سنة ١٩٢٤.

فؤاد

أوسمة المجد والفخر

أما أوسمة المجد ونياشين الفخر التي أنعم عليه بها فكانت كلها تدريجية كما يأتي:

نال الرتبة الرابعة في ٣ محرم سنة ١٣٠٣، والثالثة ٢٩ محرم سنة ١٣٠٥، والرتبة الثانية في ١٤ محرم سنة ١٣١٣، والمتمايز في سنة ١٣١٦، ورتبة الميرميران سنة ١٣٢٥، ورتبة رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية سنة ١٩٢٣م.

والنشانات التي أنعم عليه بها هي المجيد الثالث في شوال سنة ١٣٢١، والعثماني الثالث في ذي القعدة سنة ١٣٢٣، والمجيدي الثالث في ١٥ ذي الحجة سنة ١٣٢٦، والعثماني الثاني في ٤ جمادى الآخرة سنة ١٣٢٩ والمجيدي الأول في ٨ يناير سنة ١٩١٣.

ثم رتبة الباشوية في ٢٩ ذي الحجة سنة ١٣٣٣، والنيل الثاني أيضًا في ذي الحجة سنة ١٣٣٣، ثم نيشان النيل الأول في محرم سنة ١٣٣٨، وهو رئيس لمحكمة الاستئناف، ثم الوشاح الأكبر المصري عند تقليده الرياسة، فالوشاح الأكبر من نشان القديس ميخائيل وجورج، ويلقب حامله عند الإنجليز بلقب «سير».

ولما رأت الحكومة المصرية أن في انضمامه لمجلس شيوخها فوائد عظيمة لا يستهان بها، فقد عينه جلالة مولانا الملك المعظم عضوًا فيه بمرسوم ملكي، صدر بتاريخ ٤ مارس سنة ١٩٢٥، وقد أحسنت الحكومة صنعًا في تعيينه؛ لأنه كفء ووطني صميم لتنتفع البلاد بمواهبه السامية وكفاءته العالية، وعند تعديل الوزارة المصرية في عهد رئاسة صاحب الدولة أحمد زيور باشا عرض على دولته منصب وزير المالية، فقبله وغرضه الوحيد من هذا القبول خدمة جلالة مليكه وبلاده.

أخلاقه

دولة الرئيس الجليل متصف بالرزانة والاستقامة والنزاهة والعدل طلق المحيا، لين العريكة وديع الأخلاق حسن المحضر لطيف المعشر، وعدا ذلك فهو في غاية التواضع بعيد عن الكبرياء والزهو، وما ذلك إلا نتيجة صلاحه وتقواه، أمد الله في حياته السعيدة، ونفع به هذه البلاد في ظل جلالة مليكها المحبوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤