ترجمة حضرة صاحب الدولة الوزير الجليل محمد سعيد باشا

كلمة للمؤرخ

يعد حضرة صاحب الدولة محمد سعيد باشا من رجال مصر المعدودين، الذين امتازوا بأصالة الرأي وبعد النظر وحسن الإدارة والمقدرة التامة في الشؤون السياسية، وفوق ذلك فهو موصوف بكبير وطنيته، والدفاع عن مصلحة البلاد وخيرها ورفع شأنها، ولا ينسى المصريون ما كان له من مواقف مشهورة، وجهاد عظيم إبان الحركة الوطنية المعلومة.

وإننا نفخر كل الفخر بتدوين تاريخ هذا الوزير الجليل، والعامل المجد، سائلين الحق أن يكثر من أمثال دولته بين رجال مصر؛ كي تنال الكنانة حظها الأوفر بين الدول المتمدينة بفضل غزير علمهم وكبير فضلهم.

مولده ونشأته

ولد دولته في ثغر الإسكندرية في ١٨ يناير سنة ١٨٦٣م من والدين فاضلين، غذياه بلبان الفضيلة والعلم، وحلياه بالأخلاق الكريمة.
figure
حضرة صاحب الدولة الجليل محمد سعيد باشا رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقًا.

ودرس علم الحقوق فنبغ فيه ونال شهادته بتفوق عظيم، وكان أول الوظائف التي تقلدها منصب وكيل نيابة في محكمة الاستئناف المختلطة سنة ١٨٨٢م، وبعد أن أقام في هذا المنصب سبع سنوات نقل إلى نيابة المحاكم الأهلية، فما لبث طويلًا حتى أسندت إليه رئاسة نيابة محكمة الإسكندرية الكلية، ومن ذلك الوقت أخذت تظهر مواهبه العالية، ولم تكن خدمة الحكومة بمتاعبها الجمة تنسيه واجباته نحو بلاده، فأنشأ في الإسكندرية جمعية العروة الوثقى، وتعهدها برعايته وصانها بذكائه، وأعلى شأنها بهمته وعزمه، وما غادرها إلا ولها مدارس شتى بين ابتدائية وثانوية وصناعية، وملاجئ للأيتام، ومجلة ترشد الناس إلى الطريق القويم، فأكبرت الأمة شأنه وأجلت الحكومة قدره.

انتقل في سنة ١٨٩٥م مفتشًا في لجنة المراقبة القضائية، ثم جعل مستشارًا في محكمة الاستئناف الأهلية سنة ١٩٠٥، فكان عادلًا في أحكامه منصفًا بعيدًا عن كل ما يشين القضاء ورجاله.

ولما كان أكثر وزراء مصر من رجال القانون مثل أكثر الوزراء في البلدان الأخرى، وكان صاحب الترجمة حائزًا على رضاء الأمة، ومحبة حاكم البلاد اختبر ليكون وزيرًا للداخلية، فأسندت إليه في ١٢ نوفمبر سنة ١٩٠٨م، وهي أوسع الوزارات نطاقًا وأعمالًا، وأكثرها متاعب وتعقدًا فأظهر اقتدارًا عجيبًا حتى ذلل حزونها، وسار بها إلى الغاية المرومة، وهي استتباب الأمن والسكينة في البلاد، والأعمال النافعة التي عادت على العباد بالخير والإسعاد.

وبذكائه وحسن دهائه أسند الوظائف الرئيسية والمناصب العالية إلى أبناء البلاد الأكفاء، فلقبته الأمة عن حق وعدل بابن مصر البكر، ورجلها الأوحد. ولما اغتيل المرحوم بطرس غالي باشا رئيس الوزراء السابق، وانتقل إلى رحمة ربه جعل صاحب الترجمة رئيسًا للوزراء في ٢٣ فبراير سنة ١٩١٠، وبقي وزيرًا للداخلية فقام بأعباء الرئاسة خير قيام، وتمكن بسعة حيلته العقلية وحكمته واقتداره من إنقاذ البلاد من المخاطر الكثيرة، التي كانت تتهددها وخرج بها من المآزق الحرجة بسلام، وكان الزمن الذي جعل فيه رئيسًا للوزراء زمن مشاكل كمشكلة شركة قنال السويس.

ثم أخذ يعالج أسقام الأمة فشرع في إصلاح المحاكم الشرعية، والمجالس الحسبية والجامع الأزهر الشريف، واستمر تحسن الحال على هذا المنوال إلى آخر مدة وزارته.

فأبدلت الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين بالجمعية التشريعية، التي انتخب أكثر أعضائها من نوابغ الوطنيين، واتسع نطاق مجالس المديريات فتولت صغار الملاك من رهن أطيانهم، ومنعت وزارة الأشغال الضرر الكبير من انخفاض الفيضان، وجعل ديوان الأوقاف ومصلحة الزراعة وزارتين.

وقد أبطلت الوزارة السعيدية القلق والاضطراب من البلاد، وجرت في عهدها أعمال كثيرة من أنفع الأعمال، فاطرد سير الإصلاح، ولولا الأزمة المالية التي سبقتها لكان النجاح تامًّا من كل الوجوه، وقد تعرض بعض الموظفين في عهدها للانتقاد بحق أو بغير حق، وحدثت أمور أخرى لم ترض أمير البلاد، فغيرت الوزارة، وتغيير الوزارات أمر عادي في كل الممالك.

ولما ولي المغفور له السلطان حسين كامل الأول عرش مصر، اختص صاحب الترجمة برعايته وشمله بعنايته، فما كان يمضي يوم إلا ويتشرف بالمثول بين يديه.

تعيينه وزيرًا للمعارف في عهد الوزارة السعدية

ولما كان لدولة صاحب الترجمة الجليل أن يتقاعد يومًا ما عن خدمة بلاده بوافر علمه، وعظيم كفاءته العلمية والسياسية وأن يلازم داره بعيدًا عن متاعب السياسة وكبير مسئوليتها، بل فضل التضحية من ثمين صحته، ووضع يده بيد الرئيس الجليل سعد باشا زغلول الذي اختاره وقت أن تولى رئاسة مجلس الوزراء في ٢٨ يناير سنة ١٩٢٤ أن يكون وزيرًا للمعارف العمومية، وإلى هنا لا يسعنا إلا أن نذكر مآثره العديدة على العلم وأهله، مما لا ينسى على ممر الأيام وكرور الأعوام، ولقد كان الساعد الأيمن والعضد الأكبر لدولة سعد باشا زغلول لما يعرفه فيه جيدًا من الكفاءة والمقدرة في حل العقد السياسية، وقد انتخب وهو في منصبه هذا للإشراف على وزارة الحقانية، فكان في كلتا الوزارتين المثل الأعلى والقدوة الكاملة لمن يريد اكتساب المجد والفخر.

وقد استقال باستقالة الوزارة السعدية ولزم الحياد في كافة الشؤون السياسية.

صفاته وأخلاقه

كامل الصفات كريم الأخلاق كفء في إدارة كافة الشؤون العلمية والسياسية والإدارية، أبيّ النفس عالي الهمة محترم الجانب محبوب من جميع عارفي فضله بشوش الطلعة، أكثر الله من أمثاله العاملين لخير مصر ورفع لواء مجدها وإسعادها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤