ترجمة حضرة صاحب المعالي الشهم الجليل محمود فخري باشا

كلمة للمؤرخ

لا يوجد شخص من سكان العاصمة يجهل حضرة صاحب المعالي محمود فخري باشا بالذات، فقد كان محافظًا للقاهرة وكان كثير التجوال في أنحاء العاصمة، لا يفوته تفقد أحوالها وزيارة محالها وحضور حفلاتها، ولا نغالي إذا قلنا: إن جميع سكان مصر يعرفونه لما شملهم به من الخدمات الخالدة، والمساعي المشكورة في ذاك الحين لا سيما طبقات العمال ونقاباتهم، التي أيدها معاليه بعطفه وشملها برعايته، وسوى أمورها بحكمته، فحفظ الموازنة بين أصحاب المتاجر والأغنياء وعمالهم المتوسطي الحال الفقراء ومنع الحيف والظلم جهد المستطاع أن يقعا، فحفظ له هؤلاء العمال جميله وفضله، وتغنوا بمديحه وشكره، وجعلوا يشيرون إليه بأطراف البنان:
figure
حضرة صاحب المعالي الجليل محمود فخري باشا وزير مصر المفوض لدى عاصمة الفرنسيس.

مولده ونشأته

هو نجل المغفور له حسين فخري باشا وزير مصر المشهور بالاستقامة، وشرف النفس وعلو الهمة فرباه التربية المنزلية على أحسن تقويم، ومن ثم أدخله مدرسة الآباء اليسوعيين في مصر، وظل مكبًّا على تلقي علومها بشغف عظيم حتى حصل منها على شهادة البكالوريا عام ١٩٠٣، والتحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق الملكية وهناك تجلت مواهبه السامية بما كان يبديه من الذكاء الفطري حتى ظفر بشهادة ليسانس عام ١٩٠٧م بتفوق عظيم، ولم يلبث طويلًا بعد نواله لهذه الشهادة حتى عين وكيلًا بالنيابة العمومية، وأخذ يتدرج في الوظائف القضائية حتى عام ١٩١٠، إذ تعين سكرتيرًا خاصًّا لرئاسة الجمعية العمومية، ومجلس شورى القوانين فوكيلًا للنيابة في محكمة مصر المختلطة.

فمفتشًا في وزارة الداخلية فوكيلًا لمحافظة الإسكندرية عام ١٩١٤م، والإسكندريون يذكرون له همته الصادقة، وخدماته الجليلة النافعة في أوائل الحرب الأوربية العصيبة.

وفي سنة ١٩١٥ عينه ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل الأول أمينًا أولًا لعظمته، وفي سنة ١٩١٩ قلدته الحكومة المصرية وظيفة محافظ العاصمة، وإن المقام ليضيق هنا عن أن يستوعب طرفًا من تعداد مناقب هذا الشهم الجليل المقدام.

وقد عني معاليه عندما كان محافظًا للعاصمة بوضع مجموعة صور فوتوغرافية لأسلافه محافظي مصر، من عهد المغفور له محمد علي باشا إلى وقته، فكان عددهم ٩٥ محافظًا، ورأى أن يضع ترجمة حياة المغفور له قاسم رسمي باشا أحد محافظي مصر السابقين، وصاحب الوقف الخيري الشهير في وسط المجموعة ذكرى خالدة لمقامه الجليل، وقدم هذه المجموعة هدية إلى ديوان المحافظة لتحفظ دائمًا في مكتب المحافظ.

وقد حياه جلالة المليك المعظم بعطفه وشمله بعين عنايته، فعينه وزيرًا لوزارة الخارجية في ٩ ديسمبر سنة ١٩٢٢ في عهد وزارة عبد الخالق ثروت باشا، ثم وزيرًا للمالية ولا يمكن لمصري أن ينسى سعيه المتواصل لمصلحة البلاد، خصوصًا حل أزمة القطن، وتفريج الضائقة المالية التي استحكمت حلقاتها في ذاك الوقت بسبب تدهور أسعاره، وبفضل ما بذله من المساعي المشكورة تداخلت الحكومة تداخلًا فعليًّا لحفظ كيان أسعاره في الأسواق، فكانت النتيجة مرضية لا غبن فيها ولا حيف.
figure
الأثر التذكاري الذي وضعه سفير مصر على ضريح الجندي المجهول في باريس.

ولما كان معاليه ممن اشتهروا برجاحة الفكر وقوة العارضة وحسن الإدارة، وعلى علم تام بالشؤون السياسية، فقد اختاره جلالة مولانا المعظم حفظه الله وأبقاه لتمثيل مصر في حكومة الفرنسيس، فعينه وزيرًا مفوضًا بها فجاء هذا الاختيار في محله، حيث صادف أهله وقوبل لدى الشعب المصري بالسرور والبشر؛ لما لمعاليه من المكانة السامية، والحب الأكيد في قلوب الجميع منذ كان محافظًا للقاهرة.

وفي أول مارس سنة ١٩٢٤م احتشد جمهور غفير عند قوس النصر في باريس حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، ووصل معالي صاحب الترجمة، حيث مكان قبر الجندي المجهول يحف به الجنرال غورو والكردينال دبوا، وكان المدفن مزدانا بالأزهار تتخللها أوراق الغار، التي أوحت إلى النحات فالير الأثر التذكاري، الذي أتم صنعه وأحاطه بستار أخضر ونصبه تحت قوس النصر.

وعندئذ ألقى معالي فخري باشا خطبة نفيسة، رد عليها الجنرال غورو بكلمات مناسبة للمقام، ثم انصرف الحاضرون وهم يتحدثون بجلال ذلك الاحتفال وشمائل هذا الشهم الجليل.

ومعالي صاحب الترجمة حائز لشرف مصاهرة حضرة جلالة مولانا الملك فؤاد الأول، فهو متزوج صاحبة السمو الملكي الأميرة الجليلة فوقية هانم كريمة جلالته، وقد رزقه الله منها بمولود سعيد أقر الله به عين والديه الكريمين، وجعل له حظ والده من خدمة البلاد.

صفاته وأخلاقه

لا نكران في أن معالي صاحب الترجمة من أرقى طبقات الأمة علمًا وأدبًا وكمالًا وتهذيبًا، وأشرف العائلات حسبًا ونسبًا ومن أجلهم فضلًا وظرفًا، كريم الشيم عالي الهمم بهي الطلعة لين الجانب دمث الأخلاق أدامه الله، وحضرات أفراد عائلته الكريمة، متمتعين بدوام السعادة والهناء في ظل جلالة المليك المعظم.
figure
سفير مصر في باريس يلقي خطبته عند ضريح الجندي المجهول أمام الجنرال غورو في جمع من أفاضل المصريين والفرنسيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤