ترجمة فقيد الطب والعلم المغفور له الدكتور محمد طلعت باشا

ماذا أبا الطب قد قررت من مرض
قد كنت من قبل تبريه وتقصيه
هل جاء مختفيًا يدنو إليك وقد
تعمد الفتك قصدًا في تخفيه
أم هل سرى مطمئنًا غير مكترث
«بطلعة» منك توديه وترديه
أو هل دعيت إلى مثوى النعيم وقد
وفيت لله حقًّا في توخيه

•••

قل «لابن سينا» و«داود»: لقد هدم
الركن المكين الذي كنا نرجيه
وانعم بدار التقى في ظل مغفرة
والتك من فضل ما قد كنت توليه
أحمد حسني — بالحقانية
حقًّا لقد خسرت مصر خسارة لا تعوض، وفقد العلم رجلًا من كبار رجاله العاملين في مصر بوفاة المغفور له الدكتور محمد طلعت باشا وكيل وزارة الداخلية للشؤون الصحية، وكانت وفاته رحمه الله إثر مرض لم يمهله أكثر من ثلاثة أيام، فعظم الحزن والأسى عند نعيه، وبكى المصريون نابغة من نوابغهم العاملين، وعصاميًّا كبيرًا من علمائهم العاملين.
figure
فقيد الطب والعلم المغفور له الدكتور محمد طلعت باشا وكيل وزارة الداخلية في مصلحة الصحة.

توفي الفقيد عن ٦١ سنة قضاها في خدمة وطنه وحكومة بلاده، وقد تخرج في الطب من جامعة مونبليه بفرنسا وظل متصلًا بمدرسة الطب المصرية ربع قرن معلمًا ومؤلفًا ومطببًا، فتخرج على يديه مئات الأطباء، كما وقد أنقذ ألوف المرضى من الأخطار، وتعين رئيسًا لأطباء وزارة المعارف سنة ١٩١٢م، وفي سنة ١٩٢٣م تعين وكيلًا لوزارة الداخلية في الشؤون الصحية، وكان رحمه الله مثال الجد والاجتهاد عالمًا بارعًا بفنون الطب نابغة في الأمراض الباطنية، وحياة الفقيد الأخيرة في وزارة الداخلية تشهد بخدماته الجليلة، ويقظته لخدمة الأمة وحرصه على حياتها. فما من مرض ينتشر أو وباء يذاع عنه إلا وتظهر منشورات مصلحة الصحة بالإرشادات لعموم الأطباء، مع بيان نوع المرض وطرق الوقاية منه وكل ذلك ينشر على صفحات الجرائد السيارة؛ ليطلع الناس ويكونوا في مأمن من عدوهم المهاجم للصحة، وهي سنة حديثة لم تظهر إلا في عهد المغفور له طلعت باشا الذي يعد موته خسارة فادحة للطب في مصر.

ولقد أقامت جمعية الأطباء المصرية حفلة تأبين لهذا الفقيد العظيم في الساعة الخامسة ونصف من مساء الجمعة ٣ أغسطس سنة ١٩٢٣، فأم نادي مدرسة الطب الملكية عدد عظيم من الأطباء يتقدمهم سعادة الرئيس المرحوم الدكتور السيد عيسى حمدي باشا، وافتتحت الجلسة تحت رئاسته بقراءة آي الذكر الحكيم، ثم قام حضرة الدكتور نجيب إسكندر وألقى رثاءً مؤثرًا أسال العبرات، ومما ذكره عن الفقيد بالنيابة عن سعادة رئيس الحفلة قوله:

عرفت فقيدنا العزيز المرحوم الأستاذ طلعت باشا في باريس في صيف عام كنت أقضيه في رحلة في فرنسا مع أنجال سمو الخديوي المغفور له توفيق باشا سنة ١٨٩١، وقد أخبرني بأنه اشتغل في معمل باستور، فسألت عنه صديقي الأستاذ الشهير الدكتور رو وكيل معمل باستور وقتئذ ومديره حالًا فمدح ذكاءه وجده؛ ففرحت لأن مدرستنا الطبية كانت محتاجة إلى أستاذ يدخل فيها العلوم الميكروسكوبية، وفعلًا تقدم فقيدنا لامتحان المسابقة لوظيفة أستاذ ثانٍ وفاز بنجاح باهر، وتعين لتدريس التشريح الدقيق والعلوم الميكروسكوبية الأخرى، وأنشأنا له المعامل الخاصة بها وقد كان رحمه الله في الوقت نفسه مساعدًا لي بقسم الأمراض الباطنية وبعد سنوات قليلة تعين أستاذًا أول للتشريح الدقيق والبكتريولوجيا، وقد كان طول هذه المدة نشطًا في أشغاله مجتهدًا مجدًّا معطيًا للطلبة أقصى عناية، وبعد تركي للمدرسة نقل الفقيد إلى وزارة المعارف العمومية بوظيفة حكيمباشي، ومنها إلى وكالة الصحة العمومية منذ سبعة عشر شهرًا، وقد كان من نوابغ الأطباء الذين تفتخر بهم البلاد والعلم، وإننا لنأسف أشد الأسف إذ عاجلته المنية قبل أن يتم ما بدأه من الإصلاحات الكثيرة لتحسين الحالة الصحية بقطرنا العزيز.

وهكذا أخذ حضرات زملائه الأطباء يسردون علم الفقيد وفضله، وما امتاز به من المهارة في فنه والحذق خصوصًا في الأمراض الباطنية، وفوق ذلك فقد امتاز الفقيد بالاستقلال في الرأي لدرجة التشدد فيه والاستقامة الكاملة، ولا يمكن للإنسان أن يكون مستقلًّا في رأيه مرفوع الرأس بين كل الناس إلا إذا كان مستقيمًا وشريفًا مرتاح الخاطر والضمير منزهًا عن كل نقيصة؛ لذلك عاش محترمًا وكان دقيقا ولذلك نجح في عمله وفي فنه إذ جمع بين المهارة الفنية والأخلاق المنزهة عن النقايص، وهذا سبب نجاحه وسبب حب الجميع له.

وألقى حضرة الدكتور أحمد بك حلمي في مرثاة مؤثرة، نقتطف منها الأبيات الآتية:

اليوم يا عين سحي الدمع هتانًا
وأمطري وأملأي ما استطعت غدرانا
وإن أبى الدمع سحًّا فاسمحي بدم
وابكي فقيدًا سما بدر السما شانا
وأنت يا قلب فاخلع حلة جعلت
للأنس فالأنس ولى بعدما بانا
قد كنت أدعوك صبرًا كلما عرضت
لي النوائب في صعب وما هانا
ألا على طلعت فاجزع وذب كمدًا
واشرب عن الراح أكدارًا وأحزانا
فالصبر يحمد إلا إن قضى رجل
كان الأنام له في العلم غلمانا
يا راحلًا والحشا من هول فرقته
يسقي من الهم أشكالًا وألوانا

ومنها قوله:

قد كنت في العلم نبراسًا تضيء به
دجى الشكوك إذا صادفت حيرانا
بل كنت في الطب من آيات من سعدت
له البرية إخلاصًا وإيمانًا
إن عظم الناس بقراطًا لحكمته
وألبسوا رأس جالينوس تيجانا
فأنت أرفع من هذين منزلة
وأنت أكثر إبداعًا وإتقانًا
أجدت كل فنون الطب معرفة
حتى غدوت لأهل الطب عنوانًا
ما جس كفك من داء وأنكره
كأن طبك من إيحاء مولانا
ولا لمست مريضًا أهله يئسوا
من الشفاء وسحوا الدمع طوفانا
إلا وهب نسيم البرء فانكشفت
عنه السقام وبات الكل جذلانا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤