ترجمة حياة إسماعيل باشا

هو إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير، وكان لوالده ثلاثة أولاد ذكور أكبرهم البرنس أحمد «ولد عام ١٨٢٥»، ثم البرنس إسماعيل «ولد عام ١٨٣٠»، ثم البرنس مصطفى «ولد عام ١٨٣٢»، وكان البرنس أحمد نابغة من نوابغ الزمان ذكاءً وفطنةً كثير الشبه بوالده شكلًا وأخلاقًا، ولكنه توفي في أثمن سني حياته بين الشباب والكهولة، فأصبح صاحب الترجمة كبير أبناء إبراهيم.

ورُبي إسماعيل باشا في حجر والده وتعلم وتثقف بحياطة جده؛ لأن جده رحمه الله كان قد أنشأ لأولاده الصغار وأولاد أولاده الكبار مدرسة خصوصية في القصر العالي فيها نخبة من مهرة الأساتذة، فتلقى صاحب الترجمة فيها مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية، ونذرًا يسيرًا من الرياضيات والطبيعيات، فلما بلغ السادسة عشرة من عمره بعث به جده مع ولديه المرحومين البرنسين حليم باشا وحسين باشا، والمرحوم البرنس أحمد باشا مع إرسالية فيها نخبة من شبان مصر الأذكياء إلى مدرسة باريس، يتولى رئاستهم وجيه أرمني اسمه اسطفان بك، فقضوا في تلك المدرسة بضع سنوات تلقوا بها العلوم العالية، ثم عادوا إلى مصر إلا حسين بك، فإن المنية أدركته هناك. ومن العلوم التي تلقاها إسماعيل باشا اللغة الفرنساوية والطبيعيات والرياضيات وخصوصًا الهندسة، وعلى الأخص فني التخطيط والرسم، وهذا هو سبب شغفه بعد ذلك بتنظيم الشوارع وزخرفة البناء.

ولما عادت الإرسالية كان عباس باشا الأول واليًا على مصر، فمكث إسماعيل معه على صفاء ومودة حتى وقع بين عباس وسعيد باشا نفور مبني على اختلاف في اقتسام التركة، وانحاز سائر أفراد العائلة الخديوية إلى سعيد، وفي جملتهم إسماعيل فساروا كافة إلى الأستانة، ورفعوا شكواهم إلى جلالة السلطان فصدرت الإرادة السنية الشاهانية بإنفاذ المرحوم فؤاد باشا الصدر الأعظم، وكان يومئذ فؤاد أفندي، وجودت أفندي وهو جودت باشا الوزير والمؤلف الشهير إلى مصر، فأتيا وسويا الخلاف وتصالح أفراد هذه العائلة الكريمة، فعادوا إلى مصر إلا إسماعيل، فإنه بقي في الأستانة وتعين عضوًا في مجلس أحكام الدولة العلية.

وفي سنة ١٨٥٤ توفي عباس باشا الأول، وتولى عمه سعيد باشا فعاد صاحب الترجمة إلى مصر فولاه عمه المشار إليه رئاسة مجلس الأحكام، فاهتم بشأنه أعظم اهتمام ونظمه على مثال مجلس أحكام الدولة العلية.

وفي عام ١٨٦٣ توفي المغفور له سعيد باشا فأفضت ولاية مصر إلى إسماعيل باشا، وهو خامس ولاتها من السلالة المحمدية العلوية، فأخذ منذ تبوئه الأحكام في رفع شأن هذه الديار وإعادة رونقها الذي كان لها في عهد محمد علي باشا، فأطلق يده في النفقة لتنظيم الشوارع، وتشييد الأبنية وإنشاء المشروعات النافعة على أنواعها، مما سيأتي تفصيله غير مبال بما قد يجر إليه ذلك من الضيق.
figure
ساكن الجنات إسماعيل باشا بملابسه الرسمية (ولد سنة ١٨٣٠م، وتولى سنة ١٨٦٣م، وخلع سنة ١٨٧٩م، وتوفي سنة ١٨٨٥م).
figure
ساكن الجنات إسماعيل باشا بملابسه الملكية.

وكانت ولاية مصر تنتقل من العائلة الخديوية إلى من يختاره جلالته بقطع النظر عن علاقته بالوالي السابق، وكان ولاة مصر يلقبون بالعزيز أو الوالي أو الباشا، وإذا لقبوا أحيانًا بالخديوي فإنما يكون ذلك على سبيل التجمل والتفخيم. أما إسماعيل باشا فهو أول من نال رتبة الخديوية ولقب الخديوية، فأصبحت ولاية مصر إرثًا صريحًا في نسله ينتقل منه إلى أكبر أولاده، ومنه إلى أكبر أولاده وهكذا على التعاقب. وذلك بناء على نص الفرمان الصادر في ١٢ جمادى الأولى سنة ١٢٩٠ﻫ أو ٨ يوليو سنة ١٨٧٣م، وقد امتاز سمو إسماعيل باشا عن سائر ولاة مصر قبله. بأنه حبب سكنى الديار المصرية إلى الأجانب من جالية أوربا وأميركا وغيرهما بما مهده من وسائل الراحة والطمأنينة، مع الأخذ بناصرهم وتأييد مشروعاتهم وتنشيطهم وتوسيع نطاق التجارة، فتقاطروا إليها أفواجًا وأقاموا فيها على الرحب والسعة لما آنسوه من الكسب الحسن والعيش السهل.

وفي عام ١٨٦٩م احتفل إسماعيل باشا بافتتاح قناة السويس، وكان قد بوشر بحفرها على عهد سعيد باشا. فحضر ذلك الاحتفال جميع ملوك أوربا أو من يقوم مقامهم، وكان له رنة بلغ صداها أربعة أقطار المسكونة لما أعده إسماعيل باشا من وسائل الزينة، مما قد تقصر عنه همم الملوك العظام. وفي هذه الأثناء بنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة؛ لتكون مسرحًا يشاهد فيه ضيوفه صنوف التمثيل. وكانت المدة غير كافية لتشييد ذلك البناء، فبذل الدراهم والدنانير فلم يمض خمسة أشهر حتى تم البناء وسائر معدات التمثيل على ما نشاهد الآن. وهو من المراسح التي لا مثيل لها إلا في عواصم أوربا العظمى.

ومما اختص به سموه من الشرف العظيم دون سواه من الولاة، أن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز حلت ركابه في القطر المصري في السنة الأولى من ولاية إسماعيل فلاقى ترحابًا عظيمًا.

وفي سنة ١٨٧٢م تعدى الأحباش على حدود مصر مما يلي بلادهم وأسروا بعضا من رعايا مصر، فبعثت الحكومة المصرية بطلب ردهم فجرت المخابرات فآل ذلك إلى حرب جرد فيها إسماعيل باشا حملة نال على أثرها الصلح، وفي سنة ١٨٧٣م شخص رحمه الله إلى دار السعادة فاحتفل بقدومه فعاد وقد حاز رضى الحضرة الشاهانية ورجال المابين الهمايوني. وفي تلك السنة احتفل بزواج أنجاله الثلاثة وهم المرحوم توفيق باشا الخديوي والبرنس حسن باشا والمرحوم السلطان حسين الأول احتفالًا واحدًا تحدث به الناس زمنًا طويلًا، ومما زاد ذلك الاحتفال بهجة أنهم نالوا عندئذ رتبة الوزارة الرفيعة معًا.

ولنأت الآن إلى أمر هو أهم الأمور المتعلقة بالخديوي إسماعيل، وعليه مدار ما آل إليه أمره نريد به أمر الديون التي تعاظمت على مصر في أيامه. وإيضاحًا لذلك نذكر ملخص تاريخ الدين المصري. فأول من وضع جرثومته المرحوم سعيد باشا سنة ١٨٩٢م، وقدره الاسمي «٣٢٩٢٨٩٠» جنيه بفائدة ٧ في المائة. وفي السنة التالية تولى إسماعيل باشا الأريكة الخديوية، فأخذ في البذل والنفقات في التشييد والبناء وتوسيع الشوارع وإقامة الحدائق وغير ذلك، حتى زادت النفقات على دخل البلاد، فبلغت الديون نحو مائة مليون جنيه حتى آل الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون، فتخابرت الدول وتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الأموال واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سموها لجنة صندوق الدين العمومي صدر الأمر العالي بتشكيلها في ٢ مايو سنة ١٨٧٦م، وورد في ذلك الأمر أن هذا الصندوق قد أنشئ لتأمين أرباب الديون على ديونهم، واستلام ما يستحق لهم من الفوائد وغيرها. وأن الحكومة لا يجوز لها تجديد قرض إلا بالاتفاق مع صندوق الدين. وأن الدعاوى التي يتراءى لصندوق الدين رفعها على الحكومة تنظر في المجالس المختلطة.

وكانت الديون المصرية قسمين: دين الحكومة ودين الدائرة السنية، فضموها في ٧ مايو من تلك السنة إلى دين واحد فبلغ قدره ٩١ مليون جنيه، وسموه الدين الموحد بفائدة ٧ بالمائة ويتم استهلاكه في ٩٥ عامًا، ثم رأى إسماعيل باشا أن توحيده على هذه الصورة لا يتيسر له إتمامه، فأصدر في ١٨ نوفمبر منها أمرًا يقول فيه: أن تصدر الحكومة المصرية عليها سندات بمبلغ ١٧ مليون جنيه تكون ممتازة برهن خصوصي هو السكة الحديدة المصرية، وميناء الإسكندرية وفائدته ٥ بالمائة وسماه الدين الممتاز.

على أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لإقناع الدول؛ لأن الحكومة لم تكن تقوم باستهلاك الدين حسب الشروط، فعينت الدول عام ١٨٧٨ لجنة مالية مختلطة لمراقبة حسابات الحكومة المصرية، فرأت فيها عجزًا مقداره مليون ومائتا ألف جنيه، فتنازل إسماعيل باشا عن أملاكه الخاصة، وأملاك عائلته للحكومة، وهي التي تعرف بأملاك الدومين، وتقرر في تلك السنة استقراض ثمانية ملايين ونصف، وجعلوا أملاك الدومين رهنًا لها، وهذا الدين هو المعروف بدين روتشيلد.

وكانت أعمال الحكومة المصرية تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسًا، أما بعد تداخل الأجانب في أحوال المالية، فلم ير إسماعيل بدًّا من جعل حكومته شورية، فشكل مجلس النظار برئاسة نوبار باشا، وصادق على تعيين ناظرين أحدهما إنجليزي، وهو المستر ولسن للمالية والآخر فرنساوي وهو المسيو بلينير للأشغال العمومية، فرأى مجلس النظار أن يقتصد شيئًا من نفقات الجند فرفت جانبًا منهم، فثار المرفوتون وجاء جماعة منهم، وفيهم ٤٠٠ ضابط إلى نظارة المالية وأمسكوا بنوبار باشا والمستر ولسن وطلبوا إليهما دفع ما تأخر لهم من رواتبهم، وخاطبوهم بعنف وشدة حتى علت الضوضاء، وكادت تئول إلى ثورة لولا أن أقبل إسماعيل باشا وخاطب الجند ووعدهم وأمر بانصرافهم. أما هم فحالما رأوه ذعروا، وكأنه جاءهم برقية أو سحر فانكفئوا راجعين، والمظنون أن ذلك حصل بالتواطؤ من قبل.
figure
نوبار باشا.

ثم استقال الوزيران نوبار ورياض تخلصًا من عبء التبعة لما آنسوه في أعمال الخديوي من الخطر، فشكل مجلسًا آخر برئاسة ابنه توفيق باشا على أن ذلك لم يقلل من القلاقل؛ لأن الداء لم يكن في المجلس ولكنه كان في مقاصد إسماعيل؛ لأنه استعظم أغلال يديه بمجلس فيه ناظران فقلب هيئة ذلك المجلس في ٧ أبريل عام ١٨٧٩، وأخرج الناظرين الأجنبيين وعهد برئاسة المجلس إلى المرحوم شريف باشا، فعظم ذلك على دولتي إنكلترا وفرنسا؛ لأنهما اعتبرتا تلك المعاملة إهانة لهما، فعمدتا إلى الانتقام فسعتا في ذلك لدى الباب العالي سرًّا وجهرًا وفي ٢٥ يونيو سنة ١٨٧٩ صدر الأمر الشاهاني بإقالته، وتولية المغفور له توفيق باشا، وفي ٣٠ منه، وقيل: في ٢٩ سافر إسماعيل باشا من القاهرة إلى الإسكندرية، ومنها إلى أوربا وما زال بعد سفره مقيمًا في أوربا حتى أفضت به الحال إلى الإقامة في الأستانة العلية، فأقام فيها إلى أن توفاه الله في ٦ مارس عام ١٨٩٥م، وله من العمر ٦٥ عامًا فحملت جثته إلى مصر، ودفنت فيها باحتفال لم يسبق له مثيل.

أعماله وآثاره

قلنا: إن إسماعيل باشا كان شغفًا بتنظيم المدن حتى قيل: إنه يريد أن يجعل القاهرة تضاهي باريس في النظام والترتيب، فنظم طرقها ووسعها وأكثر من فتح الشوارع الجديدة، وبناء الأبنية الفاخرة كالأوبرا الخديوية والقصور الباذخة في القاهرة والإسكندرية، وأعظم تلك الأبنية سراي الجيزة وهي مما تقصر عنه همم الملوك حتى ضربت بها الأمثال، وأنشأ المتحف المصري في بولاق والمكتبة الخديوية بالقاهرة وهما من أجل الآثار وأنفعها، وأما المتحف فقد أنشأه بأمره ماريت باشا وقبره فيه وكان المتحف أولًا في بولاق، ثم نقل على عهد الخديوي توفيق إلى سراي الجيزة، وهو اليوم في بناية فخمة شيدت له خاصة بجوار قصر النيل. أما المكتبة فقد كانت أولًا في درب الجماميز، ثم أقيم لها بناء خاص في ميدان باب الخلق نقلوها إليه، والمكتبة نفيسة تفتخر بها مصر على سائر الأمصار الشرقية؛ لما حوته من الآثار العلمية وبينها جانب كبير من الكتب الخطية التي يعز وجودها.

ومن أعماله أنه جر الماء بالأنابيب إلى بيوت العاصمة، وكان الناس يستقون قبلًا بالقرب والصهاريج، وعمم زرع الأشجار في المدن وضواحيها، وأنار القاهرة بالغاز، وتدارك ما ينجم عن الحريق فاستجلب آلات الإطفاء.

وهو الذي نظم معظم فروع الإدارة على ما هي عليه الآن فقسم القطر المصري إلى ١٤ مديرية، وعين لها المراكز، وأسس مجلس النواب ونظمه ونظم مجلس القضاء الأهلي والقضاء الشرعي، وجعل لكل روابط وحدودًا، ووضع نظام المجالس الحسبية، وأنشأ مجلس حسبي القاهرة. وعلى عهده أنشئت المجالس المختلطة بمساعي نوبار باشا، وقد أراد بها تقليل نفوذ القناصل وحصر النفوذ الأجنبي، ولكنها كانت سببًا لزيادة النفوذ واتساع دائرة المداخلة. وكانت مصلحة البريد قبلًا شركات أجنبية، فأنشأ مصلحة البوسطة المصرية، وجعلها من المصالح الأميرية كما هي الآن وحسن مطبعة بولاق وزاد فيها، وأمر بترجمة الكتب المفيدة وطبعها ونشرها، وأسس معملًا للورق ونشط المطبوعات فلم يكن في القاهرة قبله إلا جريدة الوقائع المصرية، ولم تكن تصدر على نظام فجعل لها إدارة خاصة بها. وتكاثرت على عهده المطابع والجرائد العربية كجريدة التجارة ومصر والوطن والأهرام والكوكب الإسكندري وغيرها، وبالجملة فقد كان للعلم في أيامه نهضة مرجع الفضل فيها إليه؛ لأنه كان يقرب العلماء ويجيز المجيدين منهم، ويأخذ بناصرهم ماديًّا وأدبيًّا، وكان يشهد الاحتفال بامتحان التلامذة بنفسه، ويسلم الجوائز لمستحقيها بيده وقد يقف عند تقديمها تنشيطًا لهم.

ولم يكن في القطر المصري يوم توليه إلا خط حديدي ممتد بين القاهرة والإسكندرية، فأنشأ كثيرًا من الخطوط الأخرى الممتدة إلى سائر أنحاء القطر شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، ومد أسلاك التلغراف حتى وصلها إلى السودان، وقد بلغت نفقات الخطوط الحديدية والآلات التجارية والعربات والآلات التلغرافية، التي أحدثها بين عام ١٢٨١ﻫ و١٢٩٠ﻫ ٩٦٥٨٣٢٧ جنيهًا على تقدير المرحوم صالح مجدي بك.

ومن آثاره مدينة الإسماعيلية بناها على قنال السويس وسماها باسمه، وجعل فيها الحدائق والقصور. وأنشأ المنارات في البحرين الأبيض والأحمر وزين حديقة الأزبكية بغرس أشجارها، وتسويرها وغيرها من الأعمال الهامة.

ومما تم على يده من الأعمال العظيمة إبطال تجارة الرقيق، وإتمام فتح السودان وإخضاعها فافتتح مملكة دارفور عام ١٢٩١ﻫ، وما بعدها حتى بلغت جنوده الدرجة الرابعة من العرض الجنوبي وراء خط الاستواء. وعني بتحسين أحوال السودان فمهد شلال عبكة، وفتح سدًّا كبيرًا جنوبي مديرية فشودة طوله ستون ميلًا كان يعيق مسير السفن في النيل الأبيض، فتسهلت طرق التجارة كثيرًا. ومن مآثره تسهيل اكتشاف ما غمض من قارة أفريقيا بمد أصحاب الخبرة.

وخلاصة القول: إن مصر كانت في أيامه زاهية زاهرة والناس في رغد ورخاء، وخصوصًا بعد ارتفاع أثمان الأقطان أثناء حرب أميركا، فإن ثمن القنطار الواحد بلغ ١٦ جنيهًا، فكان سكان هذا القطر السعيد، وفيهم الكاتب والشاعر والتاجر والصانع يتحدثون بمآثره وأنعامه وتنشيطه.

صفاته

كان إسماعيل باشا ربعة ممتلئ الجسم قوي البنية عريض الجبهة كث اللحية مع ميل إلى الشقرة، أما عيناه فكانتا تتقدان حدة وذكاء مع ميل قليل نحو الحول أو أن إحداهما أكبر من الأخرى قليلًا.

وكان جريئًا مقدامًا ذا قوة غريبة على إقامة المشروعات، كثير العمل لا يعرف التعب ولا الملل ولا مستحيل عنده. وكان ساهرًا على مجريات حكومته لا تفوته فائتة، وأما أعمال الدائرة السنية فقد كان يطلع على جزئيات أعمالها وكلياتها، فلا يباع قنطار من القطن إلا بمصادقته.

وكان عظيم الهيبة جليل المقام لا يستطيع مخاطبه إلا الانقياد إلى رأيه، حتى قيل على سبيل المبالغة: إن الذين يخاطبونه يندفعون إلى طاعته بالاستهواء أو النوم المغنطيسي.

وكان حسن الفراسة قل أن ينظر في أمر إلا استطلع كنهه، فإذا نظر إلى رجل عرف نواياه أو تنبأ بمستقبل أمره. ومما يتناقلونه عنه أنه أدرك مستقبل أحمد عرابي وهو لا يزال ضابطًا صغيرًا، فأوصى المغفور له الخديوي توفيق باشا أن لا يرقيه؛ لئلا يتمكن من بث نواياه الثورية فتقود إلى ما لا تحمد عقباه.

وكان يتكلم الفرنسوية جيدًا وهي اللغة التي يخاطب بها الأجانب، ويحسن العربية والتركية والفارسية ويحب الفخر والبذخ.

أما وصيته فإنه كان قد أضاف ٤٧٠٠ أو ٤٨٠٠ من أطيانه في أيام ولايته إلى الأطيان الموقوفة على أهل قوالة وقدرها ١٠ آلاف فدان في كفر الشيخ، وجعل لنفسه الشروط العشرة في هذا الوقف بما فيها من حق التغيير والإبدال. ثم آلت نظارة هذا الوقف إليه ففصل ٤٧٠٠ فدان التي أضافها إليه عملًا بحقه، ووقفها على حاشيته كلها، ولم يستثن منها أحدًا حتى من كان فرنسيًّا كسكرتيره أو إنكليزيًّا كطبيبه، أو غيرهما من الأتباع والجواري اللواتي يبلغ عددهن ٤٥٠ جارية، عدا ٤٠٠ بيضاء كان قد زوجهن بأعيان مصر قبل مفارقته هذه البلاد.

وقد أقام صديقه الحميم راتب باشا وكيلًا لحرمه، وأوصى أن يعطى ١٥٠ جنيهًا شهريًّا، وأن تعطى حرمه ٥٠ جنيهًا شهريًّا، وأن يضاف راتبها إلى راتبه إذا توفيت في حياته. ويؤخذ راتبهما كليهما من تفتيش إيتاي البارود. وتئول نظارة وقف قواله بعده إلى حضرة صاحبة العصمة الأميرة زبيدة هانم بنت محمد علي باشا الصغير بن محمد علي باشا الكبير، وتئول نظارة وقف القصر العالي إلى الأمير عثمان باشا فاضل؛ ولهذا الوقف بيوت ونحو ١٢٠٠ فدان من الأطيان، ويبلغ دخله نحو ٥ آلاف جنيه سنويًّا.

وقد ترك سراي الزعفران لحرمه الثلاث، وكذلك كل منقولاته وقيمتها غير معلومة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤