ترجمة حضرة الوطني الصميم النطاسي البارع الدكتور نجيب بك إسكندر

مقدمة للمؤرخ

هو آية من آيات الولاء والإخلاص لوطنه ومثال لكل تضحية، بل هو ابن بار من أبناء مصر البررة العاملين على رفع شأنها ومجدها، وهو أحد أصحاب دولة الرئيس الجليل والزعيم المحبوب سعد باشا زغلول، والذي تحمل في سبيل استقلال بلاده العزيزة كل تنكيل وعذاب وامتهان بصبر وجلد وشمم وإباء، فناضل وجاهد واعتقل وأهين، ولكن لم تكن كل هذه المحن لتزحزحه قيد خطوة عن سامي مبدئه، وشريف معتقده، بل بالعكس زادته تمسكًا بأهداب الحق، فإذا نحن قمنا بتدوين ترجمة هذا الشهم الجليل المفضال، فإنما ندونها إقرارًا بفضله، واعترافًا بمجهوداته ومواقفه المشهورة، وتضحياته الثمينة، التي دلت جميعها على تربية عالية ووطنية صادقة ومدارك سامية، وصفات قل وجودها في كثيرين من شباب هذا العصر مع نزاهة وعزة نفس اتصف بهما في أحرج المواقف، بل وفي أشد أوقات الشدة، فبقلم الفخر والإعجاب نثبت نقطة صغيرة من بحر أفضال هذا النطاسي البارع والوطني المحبوب.
figure
حضرة الوطني الصميم النطاسي البارع الدكتور نجيب بك إسكندر أحد زعماء الحركة الوطنية القومية والطبيب المشهور بمصر والعضو بمجلس النواب المنحل عن دائرة شبرا.

مولده ونشأته

حضرة صاحب الترجمة هو النجل الأكبر لحضرة رجل الجد والعمل والإصلاح إسكندر بك مسيحه رئيس إدارة الخزينة العمومية بالمالية سابقًا، ومدير إدارة البطريكخانة القبطية الأرثوذكسية حالًا وجده لوالده هو مسيحه أفندي حنا من رؤساء الأقلام بالمالية، الذي اتصف بالعطف على الفقراء والبؤساء، وله أياد مشكورة وأعمال مبرورة لمحض عمل الخير، والذي انتقل إلى جوار ربه عام ١٨٨٨م.

ولد حضرة صاحب الترجمة بالقاهرة في ٢ يونيو سنة ١٨٨٧ فغذاه والده بلبان الفضيلة والاستقامة، وأدخله مدرسة الأقباط الكبرى فتلقى علومه الابتدائية، فكان مثال الجد والذكاء والنشاط حتى أعجب به عموم أساتذته فضلًا عن ميل الطلبة إليه؛ ونظرًا لتفوقه على باقي زملائه سواء في العلوم أو الإقدام والشجاعة كان يكلف بإلقاء كلمة ترحيب أمام كبار الوافدين لزيارة المدرسة من عظماء القوم، وكثيرًا ما منح جوائز مدرسية بصفة خاصة، ورغم حداثة سنه في ذاك الوقت تعلم اللغتين القبطية والحبشية عدا علومه المدرسية الأولية، حيث كان لم يتجاوز سنه الحادية عشرة سنة، وفي ذاك البرهان القوي على فائق ذكائه وسمو مواهبه.

وعند إلغاء الأقسام الفرنساوية من المدارس انتقل إلى مدرسة عابدين الأميرية، وفيها حصل على الشهادة الابتدائية عام ١٩٠١، وكان من أوائل الناجحين، ومن ثم دخل المدرسة التوفيقية ومكث بها سنتين، وانتقل منها لمدرسة الأقباط الكبرى فأخذ يتغذى من لبان علومها مشمرًا عن ساعد الجد حتى نال الشهادة الثانوية «البكالوريا» عام ١٩٠٤م بتفوق عظيم أيضًا، ثم دخل مدرسة الطب الملكية ومكث بها المدة المقررة للدراسة، وحصل منها على شهادة دبلوم في يناير سنة ١٩٠٩م، وقد زادت سني الدراسة في ذاك الوقت نظرًا لاعتماد امتحانات هذه المدرسة أمام جامعة لوندرة، وكانت علاقاته مع زملائه الطلبة حسنه للغاية فكان محبوبًا من الجميع وكذا من عموم حضرات الأساتذة؛ لما آنسوا فيه من سمو الأخلاق والنبل والذكاء المتوقد، وقد حاز على هذه الشهادات المدرسية بمصر وهو حائز للنهاية الصغرى للسن المقرر أمام وزارة المعارف.

وفي أثناء وجوده طالبًا بمدرسة الطب حصل اعتصاب المدارس العليا، الذي تداخل فيه اللورد كرومر عام ١٩٠٦ وكان حضرة صاحب الترجمة ضمن الطلبة الأربعة الذين انتدبوا عن المدرسة في لجنة المدارس العامة للنظر في أمر هذا الاعتصاب، وكان أهم طلباته رفع ظلم وقع على بعض الطلبة في مدرسة الحقوق، وهذه تعتبر أول مرة ظهر فيها بين الجمهور المصري جماعة متضامنة تطالب بحقوقها معتزة بكرامتها، وقد قام صاحب الترجمة مع بعض زملائه أثناء وجوده في هذه المدرسة بتأليف جمعية قبطية للحض على التمسك بأهداب الفضيلة، وصرف شباب مصر عن ورود القهاوي وإشغال بالهم فيما لا يفيد، وكانت هذه الجمعية مكونة من طائفة من ذوي العائلات العريقة في الشرف، فقامت بإلقاء محاضرات قيمة من كبار رجال العلم والفضل في مختلف الأندية والمجتمعات، نذكر منها خطبة شيقة لحضرة العالم المدقق صاحب السعادة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس الوزراء سابقًا موضوعها: «مصريون قبل كل شيء» وهي حركة كان المقصود منها إيجاد روح الوفاق والوئام بين العنصرين المسلم والقبطي، وقد كان حضرة المترجم له رئيسًا لهذه الجمعية لحين سفره إلى أوربا للتخصص في علم الأمراض الباطنية، ولم تدم حياة هذه الجمعية المباركة طويلًا؛ نظرًا لتفرق أكثر أعضائها في جهات مختلفة.

وقبل سفره إلى أوربا عين بوظيفة طبيب باسبتالية الأمراض العقلية حبًّا منه في درس علم البيكولوجيا، وقد تعلق بهذا العلم بعد أن انتظم في عضوية الجمعيات القبطية المهتمة بالشؤون الطائفية، ولكنه لم يلبث في هذه الوظيفة زمنًا طويلًا عندما تحقق له من أن مستقبل المصريين في سلك الوظائف الحكومية مقفول خصوصًا للموظفين الذين يحافظون على كرامتهم متمسكين بشخصيتهم، معلنين أفكارهم بكل صراحة، وهو مبدأ حضرة صاحب الترجمة الذي نشأ عليه ونكل به من أجله، وله مع مدير مدرسة الطب الكرومري الدكتور كيتنج جملة وقائع أبى فيها النزول عن كرامته قيد شعرة، وقد كان أثناء وجوده باسبتالية الأمراض العقلية مثال الكفاءة الإدارية المتناهية، وقد اعترف له بذلك الموظفون الإنجليز أنفسهم، وقد كتب له الدكتور شاندويث من مديري الصحة سابقا يخبره بأن الدكتور وارتوك أخبره في رسالة بأنه يعترف بما عليه الدكتور نجيب إسكندر من الصفات العالية والكفاءة الصحيحة، وفوق ذلك كان محبوبًا جدًّا من عموم الموظفين المصريين، وكذا من خدمة المستشفى وقد ظل محافظًا على كرامته الشخصية ضاربًا بوشايات الواشين عرض الحائط، وقد كان يترفع من أن ينقل أية وشاية في حق الغير رغمًا من حض بعض الإنجليز له على ذلك من طريق غير مباشر، فترك هذه الوظيفة ورحل إلى الأقطار الأوربية طالبًا الاختصاص في علم الأمراض الباطنية، فقضى في تلك الربوع الحافلة بينابيع العلوم والمعارف ثلاث سنوات أي: عام ١٩١٠ و١٩١١ و١٩١٢م وكان يشتغل في تحصيل علومه آناء الليل وأطراف النهار، وحصل في أثنائها على شهادة صحة وأمراض بالبلاد الحارة من جامعة باريس، وانتخب عضوًا في الجمعية الملوكية البريطانية لصحة وأمراض البلاد الحارة، وتخصص في العلوم البكتريولوجية من كلية باستور بباريس وعلوم الأمراض الجلدية من جامعة فينا، ثم قفل راجعًا بعد ذلك إلى مصر في أواخر سنة ١٩١٢ ميلادية، فآنس فيه الدكتور الأستاذ بيذ مدير المعاهد الفنية بمصلحة الصحة في ذاك الوقت حسن إلمامه بالمباحث العلمية الطبية، فعرض عليه تعيينه بوظيفة بكتريولوجي، وفعلًا أقر مجلس الوزراء هذا التعيين في وظيفة مربوطها من ٢٥–٣٥ جنيهًافي الشهر، وقد أنشئت هذه الوظيفة خصيصًا له، وافتتح في الوقت ذاته عيادة خصوصية نالت شهرة فائقة؛ ولأن خبرته القصيرة الماضية في الوظائف الحكومية، جعلته أن لا يعلق مستقبله على وجوده في تلك الوظائف الحكومية بالنسبة لتسيطر الإدارة الإنجليزية فيها.

مجهوداته الصادقة نحو بلاده

وعلى أثر هدنة سنة ١٩١٨م جمع زملاءه وبعض الإخوان المصريين وتشاوروا في حالة البلاد السياسية، فقر قرارهم على وجوب انتداب وفد لمؤتمر فرساي، وعلى أثر ذلك، علموا فكرة تأليف الوفد برئاسة حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل المحبوب سعد باشا زغلول، فذهب حضرة صاحب الترجمة مع إخوانه لبيت الأمة «وهو منزل دولة الرئيس الذي خصصه لعقد اجتماعات الوفد المصري فيه»، موكلين الوفد المصري في العمل على استقلال البلاد، ومن ذلك الوقت بصفة خاصة وهو يشتغل في المسألة المصرية مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا مع الخطة المثلى التي سار عليها الوفد المصري، وقد ناله في سبيل ذلك كل تنكيل وعذاب واضطهاد من السلطة الإنجليزية، ومن الهيئات الرجعية في مصر خصوصًا في عهد وزارتي عدلي يكن باشا وعبد الخالق ثروت باشا، حيث منع من الترقية وأحيل على مجلس تأديب؛ لأنه كان من أعضاء لجنة الموظفين التي قامت بتكريم الزعيم الجليل رغم إرادة الوزارة العدلية، وهو أيضًا أحد الذين رفضوا بشمم وإباء كل الطرق التي قام بها عدلي باشا أو ثروت باشا بإزائه؛ لكي يمتنع عن مناوأة وزارتيهما علنًا، وقد كان نائبًا عن مصلحة الصحة العمومية والأطباء في تمثيلها في لجنة الموظفين العليا، وكان فيها مثال الجرأة والإقدام والشجاعة فيما كان يبديه من الآراء. وقد بلغ صدق شعوره السياسي إلى درجة أن أوفده مدير عام مصلحة الصحة؛ لتهدئة خواطر عمال الكنس والرش الذين كان يخشى من استمرار إضرابهم خوفًا على حالة البلاد الصحية، وقد ذهب إليهم فعلًا وخطب فأعلنهم طبقًا لقرار لجنة الموظفين العليا بأن الإضراب العام لا يتناول أمثالهم محافظة على صحة الأهالي، هذا وقد ألقت السلطة العسكرية القبض عليه بعد أن فتش منزله، واعتقلته في القلعة وقصر النيل وذلك في صيف عام ١٩٢٢م، حيث مكث مدة ثلاثة شهور تقريبًا واحتمل هذا الاعتقال من أوله إلى آخره بكل شجاعة وثبات، وكان محافظًا على كرامته الشخصية بإزاء الضباط والعساكر الإنجليز فكان موضع احترامهم الصحيح، وقد كان حضرة صاحب الترجمة ضمن الأعضاء الثمانية، الذين أشار دولة الرئيس الجليل سعد زغلول باشا بأن يكونوا هيئة الوفد المصري بعد نفيه وزملائه في أوائل عام ١٩٢١م إلى سيشل، وقد ظل مدة الحركة الوطنية وهو مثال الشجاعة محافظًا على شرف مبدئه مهما قاسى في هذا السبيل من الآلام.

خدماته الصادقة نحو مهنته الطبية

ولحضرة صاحب الترجمة فضل جميل وأثر لا يمحى في تأسيس جمعية الأطباء المصرية، ونقابة الأطباء المصرية وكان ينتخب دائمًا في عضوية مجالسها الإدارية بإجماع الآراء، وله كذلك في الجمعية مباحث علمية كثيرة الفائدة وكتابات ومقالات طبية في مجلتها، وكذلك في النقابة التي كان أخص مظاهرها إبداء الرأي السياسي في الأحوال الحاضرة، وقد كان يؤيده في آرائه جميع حضرات الأطباء، وطالما أصدروا من القرارات الجريئة في أشد الأوقات شدة ما حفظ نفسية الجمهور أمام حكم الإرهاب الذي كان سائدًا في مصر بمعرفة لورد اللنبي، وقد كان لهذه الآراء أيضًا تأثير كبير جدًّا عند نشرها في جرائد إنجلترا؛ لأن الأطباء كهيئة وطنية لها رأيها المحترم بالنسبة لما هو معروف عند رجالها من صدق النظر ودقة البحث ووزن الأمور.

وقد بعثت إليه نقابة الأطباء الخطاب التالي وقت اعتقاله؛ تقديرًا لصادق مواقفه الشريفة ومجهوداته الفائقة نحو خدمة بلاده، ندونه وهذا نصه:

إلى الزميل الأعز في معتقله

إن التضحية التي قدتها من جديد لوطنك ليست الأولى من نوعها، بل هي حلقة في سلسلة تتبع الواحدة الأخرى وقد عرفنا عن روحك العالية أنها مشبعة بحب الوطن المفدى إلى حد التقديس والعبادة، إذ خلقت بطبيعتك مثالًا للشهامة والمروءة والنجدة، ونكران الذات بحكم مولدك وماضيك وبحكم مهنتك، فرجل هذا شأنه لا شك يستصغر كل كبير في سبيل بلاده وأمته، ويهون عنده كل صعب في سبيل إعزاز بلاده ونصرتها، وإن قلوب زملائك الأطباء لتحن إليك حنين الطيور لأوكارها والأسود لعرينها، وإن أرواحهم لترفرف عليك فتظلك من لحف الشمس وزمهرير البرد مهما أقاموا دونك من المعاقل والأسوار، ومهما حجبوك عن الأنظار فكن على بركة الله هادئ البال، فقد نلت مكانك من الشمس عن كفاءة وجدارة، ومثل مكانك لا ينال.

هذا وقد انتخبته الجمعية الطبية الملكية في اجتماع جمعيتها العمومية لسنة ١٩٢٤م لأن يكون عضوًا لمجلس إدارتها.

أعماله الاجتماعية

لا يفوتك أيها القارئ الكريم أن حضرة صاحب الترجمة رغمًا من كثرة أعماله الطبية في عيادته الخصوصية، التي ربما أخذت كل أوقاته، فقد قبل أن يكون طبيبًا للأمراض الباطنية والجلدية بالمستشفي القبطي، وهو من أشد المخلصين لإعلاء شأنه، والذي تطوع لخدمته بدون أجر ابتغاء مرضاة الله واختيارًا منه لخدمة الإنسانية.

انتخابه عضوًا لمجلس النواب

ونظرًا لصدق إخلاصه وكبير وطنيته وثبات مبدئه وسمو مركزه الأدبي، انتخب عضوًا في مجلس النواب عن دائرة شبرا في كل من أدوار انعقاده، وكان شديد الغيرة على مصلحة هذه الدائرة، كما كانت له الآراء الصائبة والاقتراحات السديدة، ولا بدع في ذلك، فكفاءته الشخصية ومقدرته الأدبية وشهامته التي لا حد لها معلومة لدى الخاص والعام، وقد جاء هذا الانتخاب في محله حيث صادف أهله.

صفاته وأخلاقه

عالي الهمة، كبير النفس، ذكي الفؤاد، قوي الحافظة، شديد العارضة، دمث الأخلاق، ضاحك السن وله أياد بيضاء ومآثر غراء في مواساة المرضى وتخفيف آلام البؤساء، وإنه والحق يقال مثال النجابة والأدب والذكاء والدأب على العمل، فضلًا عن أنه مملوء بالعواطف السامية الشريفة والخصال النبيلة.

أدامه الله وأبقاه لمصر العزيزة التي نكل به من أجلها، وتحمل عذاب الاعتقال في سبيلها، وأكثر من أمثاله العاملين على رفع لواء مجدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤