ترجمة جناب الأب الفاضل القمص مينا يعقوب

كلمة للمؤرخ

حيا الله الرجال العاملين المجدين وبياهم، وجعل الجنة في الآخرة مأواهم ومثواهم، أولئك الذين يعملون بهمة وجد ونشاط وإقدام في سبيل الإصلاح، وإنجاز المفيد من المشروعات فإن مثل هؤلاء وجب شكرهم وحق مدحهم، وقد يكون الشكر مضاعفًا والثناء عامًّا متى كان ذاك الإصلاح، وتلك المشروعات القيمة لمحض عمل الخير والمنفعة العامة المجردة من أية غاية أخرى.

ولقد رأينا وشاهدنا من اهتمام حضرة صاحب الترجمة بالمشروعات النافعة والخدم المتوالية للغاية نفسها ما حدا بنا إلى تدوين ترجمته الشريفة، ومجهوداته الفائقة في هذا الجزء اعترافًا منا بفضله الغزير سائلين الحق تعالى أن يسدد خطوات العاملين في سبيل الإصلاح، ويكثر من رجالنا المفكرين.

مولده ونشأته

figure
جناب الأب الفاضل القمص مينا يعقوب رئيس دير مارمينا بفم الخليج بمصر القديمة والعضو بالمجلس الملي العام.

ولد هذا الأب الفاضل بمصر المحروسة عام ١٨٨٠ ميلادية من أبوين تقيين، ويعد الثامن من سلالة العائلة التي اختارها الله تعالى لخدمة الكهنوت بدير مارمينا، فتكفل المرحوم خاله طيب الذكر خالد الأثر الأغومانس تادرس مينا، الذي كان وكيلًا لبطريكخانة الأقباط في ذاك العهد، والمتوفى في ٢٥ فبراير سنة ١٩٠٦ بأمر تربيته وتعليمه وأدخله مدرسة حارة السقايين القبطية، فتعلم بها العلوم الأولية ومن ثم أدخله مدرسة الأقباط الكبرى، فارتشف من بحر علومها إلى أن فاز منها بشهادة الدراسة الابتدائية عام ١٨٩٥م، وناهيك بما كانت عليه تلك الشهادة من الأهمية في ذاك الوقت، وبعدئذ التحق بالمدرسة الخديوية، وظل مكبًّا على تلقي العلوم حتى سنة ١٨٩٨ ميلادية، وفي شهر أغسطس سنة ١٨٩٨ تعين في إدارة الأموال الغير مقررة بوزارة المالية، فكان مضرب المثل في الجد والاستقامة والكفاءة، وظل في هذه الوظيفة مدة ثلاث سنوات حتى عام ١٩٠١ ميلادية، ومن ثم تاقت نفسه إلى الاشتغال بالأعمال الحرة فاختار أشغال المقاولات، وأوجد محلات خصيصة بجهة فم الخليج بمصر القديمة لحرق الجير، وتصريفه للمقاولين وأصحاب العمارات فانهالت عليه الطلبات، وأقبلت عليه الخيرات نظرًا لحسن معاملته وأمانته وطهارة ذمته، وظل مزاولًا لهذه الأشغال حتى شهر يونيو سنة ١٩٠٨.

دخوله في صف الكهنوت

ولقد سعى فقيد الأمة القبطية المؤرخ الكبير المرحوم ميخائيل بك شاروبيم من تلقاء نفسه، ونفر عديد من وجهاء الأمة القبطية بعمل تزكية لرسامته قسًّا على دير مارمينا بدلًا من المرحوم خال، وقدموا تلك التزكية إلى غبطة البطريرك المعظم، فلما علم صاحب الترجمة بأمر تلك التزكية أبى بتاتًا، وأرسل إلى غبطته يعتذر عن القبول، غير أن غبطته أرسل إليه خطابًا رسميًّا بتاريخ ١٧ يونيو سنة ١٩٠٦ موقعًا عليه بخاتمه الكريم بتعيينه ناظرًا على الدير والكنيسة، وحفظ أوانيها وموجوداتها بصفة مؤقتة لحين النظر، فقام بهذه المهمة خير قيام مع مباشرة أشغاله الحرة حتى سنة ١٩٠٨ ميلادية، حيث ألح عليه المرحوم ميخائيل بك وغيره من أبناء الطائفة بقبول هذا المركز، وأبانوا له الميزات الخاصة من خدمة الكهنوت، وعندئذ سمحت العناية الإلهية، ورضخ فرسم قسًّا لدير مارمينا في يونيو سنة ١٩٠٨ كما رقي قمصًا في يونيو سنة ١٩٠٩، واستبدل من تاريخ الرسامة اسم عازر أفندي يعقوب، وما كادت يده تمسك شؤون الدير ورياسته حتى شمر عن ساعد الجد والنشاط والإقدام، ووجه عنايته أولًا لترميم وتصليح الكنيسة التي كادت تئول إلى السقوط، وأصلح مدخلها وسعى سعيًا متواصلًا لدى مدير مصلحة الآثار والبطريركية إلى أن توصل بحسن مجهوداته في تنكيس الكنيسة من الداخل والخارج، وحافظ على آثارها النفيسة ورمم عقوداتها ترميمًا متينًا، ونزع بلاطها واستبدله بترابيع حجرية ثم نقل الحجاب الذي كان مشوهًا للكنيسة، فوضعه في الجهة الغربية منها بحالة منتظمة، وأحدث مقاعد خاصة لراحة المصليين كما خصص جزءًا منها للسيدات، ثم أزال ما كان مشوها من المباني بمدخل الكنيسة، حتى أصبحت بفضل عظيم مجهوداته آية في الرونق والبهاء.

ثم وجه عنايته إلى إصلاح وتنظيم طرقات المدافن، ونظم كثيرًا منها، وشاد مدفنين خاصين لفقراء الطائفة، ولما رأى أن حالة الدير تستدعي عناية كبرى ومساعدات مالية، سيما لما رأى أن تلك الأراضي قاحلة والأتربة تتصاعد لأقل حركة فكر بأن يشكل لجنة من أبناء الكنيسة المترددين لتعاونه على الأعمال، وجمع الإعانات والتبرعات اللازمة للتحسين، وعرض هذه الفكرة على غبطة البطريرك المعظم، فسر منها كثيرًا وكلفه بانتخاب الأعضاء الذين يرى فيهم الكفاءة والنزاهة، وفعلًا قام صاحب الترجمة بتشكيل لجنة من بعض الغيورين على مصلحة الطائفة، وشرعوا في نظام وتحسين مقابر الدير، وسن لذلك قانونًا بتاريخ ٣ سبتمبر سنة ١٩٢٢ وهو تاريخ البدء في العمل وجمع التبرعات.

أعماله الخالدة لخير الدير ورقيه

وقد شرع أولًا وبادر بمفاوضة شركة المياه لجلب الماء اللازم لرش الأراضي والمزروعات، فأجيب إلى طلبه وجاءت المياه بثمن مناسب، ووجه همته إلى تنسيق الحدائق والمنتزهات فيرى الداخل من باب الدير العمومي طرقة فسيحة غرس على جانبها أشجار باسقة ذات أظلال، ويتفرع من تلك الطرقة منتزهات متفرقة تحاكي المنتزهات العمومية في ميادين القاهرة من حيث جمال تنسيقها وحسن منظرها، بحيث إن الطرق التي توصل إلى ساحة القبور صارت تضارع شبيهاتها في المقابر الأجنبية.

وإننا نلخص هنا مجمل ما قامت به تلك اللجنة من الخدمات القيمة والمجهودات الفائقة، فقد قامت بتعميم غرس الأشجار في جميع المماشي والطرقات الرئيسية، وهذه الأشجار من النوع الذي إذا كبر ونمت أوراقه ألقى ظله الوارف على الطريق فيقي المارين فيه حرارة الشمس، ويعطي رونقًا جميلًا يخفف من وحشة تلك المنطقة، وسعت في إزالة المقابر البارزة التي تظهر في الشوارع الرئيسية من الساحة لتجعلها مستقيمة، وخابرت فعلًا أصحابها لاستبدال البارز منها بآخر في الأرض الفضاء التي تجاوره، وقامت أيضًا وفوق رأسها هذا المصلح العظيم إلى تنظيم شوارع الساحة الداخلية، ورصفها بالمكدام وعمل أفاريز منزرعة على جوانبها، وإقامة مراحيض صحية على الطراز الحديث مستكملة كل أساليب الراحة، وطرح مشروع بناء مقابر للفقراء والغرباء، وعمل خزان صحي، وهدم وبناء واجهة الدر على الطرز الحديث، وهي جادة في إدخال النور الكهربائي لمدخل الكنيسة والدير، وسيحقق هذا المسعى قريبًا بفضل ما يبذله حضرته من المساعي المشكورة وكذا حضرات أعضاء لجنته الكرام، وقد أنشئت سبيلًا خاصًّا للزائرين وأحواضًا كبيرة مجاورة للمقابر، ومن فوقها الحنفيات لأخذ ما هو لازم من الماء لري الأشجار والمنتزهات، وأراضي الدير وزائري المقابر أيام المطلع.

وقدرت تلك اللجنة اشتراكًا سنويًّا وشهريًّا على أصحاب المقابر يحصل منهم بموجب قسائم رسمية مطبوعة، وعينت محلًّا خصيصًا لذلك، وقد خصصت هذه الاشتراكات للإنفاق منها على مرتبات الجنينية واستهلاك المياه إلى غير ذلك من النفقات الضرورية، وما يتبقى منها يصرف لإتمام المشروعات الهامة، وكل ذلك مرصود بدفاتر منتظمة، وفي كل سنة تطبع تقريرًا عن مصروفاتها وإيراداتها وبيان المشروعات التي قامت بعملها، ويرفع إلى غبطة البطريرك المعظم، ويوزع على أفراد الطائفة.

ومما يذكر له بالشكر والثناء أنه لما رأى أن شارع الديورة الذي أمام الدير خاليًا من النور، سعى سعيًا متواصلًا لدى مصلحة التنظيم ومحافظة مصر بمد أنابيب الغاز به، وبعد جهد كبير استصدر أمرًا من مدير عام مصلحة التنظيم في شهر ديسمبر سنة ١٩٢٥ بإنارة هذا الشارع، وتركيب فوانيس الغاز اللازمة له وإتمام ذلك في شهر أبريل سنة ١٩٢٦ أي: أول السنة المالية الرسمية لميزانية الحكومة المصرية.

ونظرًا لوثوق غبطة الأب البطريرك المعظم في مقدرته ونزاهته وكفاءته الشخصية، وميله الكلي إلى الإصلاح عينه عضوًا بالمجلس الروحي سنة ١٩١١م، وكذا لما شكل المجلس الملي العام سنة ١٩١٢ عين عضوًا به ولا يزال عاملًا به حتى الآن، وعندما تجدد انتخاب المجلس الملي العام في مارس سنة ١٩٢٣، استمر عضوًا به كما انتخب أخيرًا سكرتيرًا للمجلس الأكليركي العام ولجنة الكنائس.

ولا شك أن في تعيينه لكل هذه المراكز السامية الدليل الساطع والبرهان القاطع على عظيم كفاءته، وغزارة فضله وجده وإقدامه، هذا فوق ما منحته إياه العزة الإلهية من نعمة الإيمان، والتحلي بالفضيلة والأدب الجم والغيرة على الإصلاح بأمانة وإخلاص وجد ونشاط.

صفاته وأخلاقه

حر الضمير، ثاقب الفكر، راجح العقل، يتقد غيرة على مصالح الدير والكنيسة، مشهور بأصالة الرأي، وتصريف الأمور بالحكمة على جانب عظيم من دماثة الأخلاق، والأدب، وكرم الطباع.

حفظه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله العاملين الغيورين المجاهدين في سيبل الإصلاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤