مقدمة

يضم هذا الكتاب المقالات التي كتبتُها عن التعليم خلال السنوات الأربع عشرة الأخيرة في الصحف والمجلات المصرية المختلفة. وكما سوف يلاحِظ القارئ فإن معظم هذه المقالات كُتبَت عندما كان د. مصطفى كمال حلمي، ومن بعده الدكتور أحمد فتحي سرور، وزيرَين للتعليم، وأقلُّها كُتِب عن هذا بعد تعيين الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزيرًا للتعليم.

ومع أن هذه المقالات كُتبَت في فتراتٍ زمنية مختلفة، إلا أن خيطًا فكريًّا واحدًا يجمعها، مما أقنعني بأهمية نشرها في كتابٍ في نهاية الأمر. ويتمثَّل هذا الخيط في أن أحوال التعليم في مصر في تدهورٍ مستمر منذ الانفتاح، وصحيح أن الدكتور حسين كامل بهاء الدين يبذل كلَّ جهده لتحسين أوضاع التعليم، ونحن، لا شك، نقدِّر جهوده هذه، لكنَّ المشكلة أن العوامل والاعتبارات الأخرى التي تشد التعليم إلى الخلف لا سيطرة لوزارة التعليم عليها، ومن هذه العوامل والاعتبارات حالة البطالة، والغلاء الفاحش، وتدهور مستوى الأجور في القطاعات الوطنية المختلفة، وعديدٌ من العوامل الأخرى التي أدَّت إلى الزيادة المستمرة في التسرُّب في التعليم الابتدائي، وتحوُّل المدرسين إلى ظاهرة الدروس الخصوصية، التي أصبحت تمثِّل قطاعًا غير رسمي للتعليم؛ مما جعل الحديث عن مجانية التعليم في مرحلة التعليم الأساسي مجردَ وهمٍ.

وعندما نحكم على التعليم بأنه تدهورَ بشكلٍ خطير في زمن الانفتاح، فإننا نلجأ إلى معيارَين في إصدار هذا الحكم؛ أولهما معيار ديمقراطية التعليم، والثاني معيار تحديثه. وسوف نكتفي بهذَين المعيارَين حاليًّا للتدليل على صحة حُكمنا وحُكم الكثيرين، مصريين وأجانب، بما جاء في التقرير الذي أصدرته اللجنة المصرية الأمريكية عام ١٩٧٩م.

فمن المعروف أن ديمقراطية التعليم قد ازدهرت في المرحلة الناصرية، بمعنى أن أعدادًا متزايدة من الفقراء كانت قادرةً على دخول المدارس، والاستمرار في الدراسة حتى الجامعة أو المعاهد العُليا. لكن هذا الوضع انتكس في زمن الانفتاح؛ إذ إنه أقام أمام الفقراء عقباتٍ متزايدة في دخول المدرسة أصلًا، أو في الاستمرار فيها.

وقضية ديمقراطية التعليم، بمعنى توسيع قاعدته الاجتماعية لتشمل الفقراء في مصر (وهم غالبية السكان) ليست قضية عدالة اجتماعية فقط؛ وإنما هي أصل من أصول التنمية الاقتصادية الحقيقية، ولم يعرف التاريخ تجربةً واحدةً للتنمية الاقتصادية الحقيقية دون توسُّع حقيقي في قاعدة التعليم الإلزامي لمدة تسع أو عشر سنوات.

ومن ناحية أخرى؛ فإذا ما أردنا توازنًا حقيقيًّا من الناحية الاجتماعية في تركيبة متخذي القرار في أجهزة السلطة المختلفة، وهو شرط ضروري للاستقرار الاجتماعي والسياسي، فلا بد من إفساح المجال للنُّبهاء من أبناء الفقراء للالتحاق بالجامعات والدراسات العُليا، وثمة دلائل إحصائية عديدة في السنين الأخيرة تشير إلى أن الأمور تسير في الاتجاه المعاكس؛ فأبناء الفقراء يجدون أمامهم عقباتٍ متزايدة في الدخول إلى الجامعات، أولها طبعًا الدروس الخصوصية والكتب الخارجية في الثانوية العامة، وخصوصًا في كليات «القمة»، كالطب والهندسة والاقتصاد والعلوم السياسية، وهي كليات تكاد تكون مقصورة على أبناء الأثرياء والشرائح العُليا من الطبقة الوسطى، باستثناءاتٍ قليلة.

أما تحديث التعليم فأمره صعب أيضًا؛ فليست المشكلة هي مجرد تحديث المناهج، ولا أنكر جهود الدكتور حسين كامل بهاء الدين في هذا الاتجاه، وإنما المشكلة هي أساسًا في المدرس القادر على هذا التحديث والمتحمِّس له. وما دامت مسألة أجور المدرسين والدروس الخصوصية قائمةً، فسوف تكون عقبةً أمام اتجاه المدرس نحو موضوع التحديث. ووزير التعليم يرسل بعضَ هؤلاء المدرسين إلى الخارج للاستفادة من جهود التحديث، ومعرفة ماذا يجري في الخارج في موضوع التعليم. وكل هذا جيدٌ لكنَّ الأعداد المُرسَلة نسبتها ضئيلة جدًّا بالنسبة لمجموع أعداد المدرسين في مصر، مما يجعلني أجزم بأن هذه القضية يصعب حلُّها في مناخ الانفتاح الذي نعيش فيه، وهو مناخ يتميز بالركود الاقتصادي، وضعف نمو الناتج المحلي الإجمالي، والاعتماد المتزايد على صناعة الخارج مع بيع القطاع العام، وكل هذا ليس بالمناخ المساعد على تحديث التعليم.

ولقد قسَّمتُ مقالات هذا الكتاب إلى قسمَين: القسم الأول يتعلَّق بالتعليم العام، ووصف لأحواله، مع اهتمام خاص بمشكلة العلاقة بين التعليم والفقر. وفي كثيرٍ من الأحيان يتحدث بعض المفكرين كيف أن التعليم وسيلةٌ للتحوُّل الاجتماعي، أي لانتقال بعض أبناء الفقراء إلى شرائح اجتماعية أعلى في التراتب الاجتماعي للمجتمع. وهذا صحيح إلى حدٍّ ما في بعض المجتمعات، وإن كان يصعب المغالاة في تأثيره. لكن من ناحية أخرى؛ فإن الفقر — في لحظات تفاقُمه — يصبح عقبةً أمام التعليم، بمعنى أن الفقراء الذين يلتحقون بالتعليم سرعان ما يتركونه بحثًا عن عملٍ مبكرٍ، مثلًا لأن الأسرة في حالة فقر مدقع؛ لذلك — وكما تُثبِت تجربة باكستان مثلًا — فلا يكفي زيادة نسبة الإنفاق على التعليم من الدخل القومي لتحسين أحواله، بل لا بد من تحسين أحوال الفقراء الاجتماعية والاقتصادية لكي يمكنهم الاستمرار في التعليم.

أما القسم الثاني من الكتاب فهو يتعلق بأحوال التعليم الجامعي في مصر، مع تركيزٍ خاص على ظاهرة الفساد في الجامعات — وهو أمر امتلأت بأخباره الصحف القومية في فتراتٍ مختلفة — وقضية حرية البحث العلمي التي بدونها لا يُرجى للجامعة أيُّ تقدُّم وازدهار.

وسوف يلاحِظ القارئ أنني أضفت في نهاية الكتاب مقالَين؛ أحدهما من كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين، وهو في رأيي كتاب عن التعليم أكثر منه عن الثقافة، كما أضفت مقالًا عن كتاب «الشعر الجاهلي» لطه حسين؛ لأن الأمر يتعلق بقضية حرية الفكر في الجامعة.

وأملي أن يجد القارئ في هذا الكتاب بعضَ ما يراه ويحسُّه عن قطاع التعليم، كما أني حاولتُ أحيانًا أن أتقدَّم ببعض الحلول لمشاكل التعليم في مصر.

المؤلف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥