التعليم مرة أخرى … خلاف في المنهج
بيني وبين وزير التعليم الحالي «الأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين» احترام وتقدير ومودة، لكن هذا لا يمنعني من القول بأني أختلف معه جوهريًّا في منهجه لإصلاح التعليم، وأنا لم أقابل وزير التعليم في حياتي غير مرتَين عابرتَين حديثًا؛ إحداهما في مناسبة عزاء، والأخرى في ختام ندوة نظمها اليونيسيف مؤخرًا حول التعليم الابتدائي في مصر بمناسبة الدراسة التي موَّلتها تلك الهيئة، وأشرف عليها د. نادر فرجاني عن طريق المسح بالعينة للتعليم الابتدائي في ثلاث محافظات في مصر هي: كفر الشيخ، المنيا والقاهرة.
وبالطبع لم تُتَح لي في هاتَين المناسبتَين العابرتَين غير التحية والسلام، لكني قد كتبت في العام الماضي بعض المقالات في مجلة «الهلال» القاهرية، تحت عنوان «هل يمكن إصلاح التعليم وحده؟» عبَّرت فيها عن قناعتي بأن إصلاح التعليم في مصر إصلاحًا حقيقيًّا أمر شبه مستحيل ما لم يجرِ موازيًا له إصلاح قطاعات وطنية أخرى مثل الصحة، وقطاع الأجور، والبطالة … إلخ؛ فنظام التعليم ليس إلا نسقًا جزئيًّا ضمن النسق الاقتصادي الاجتماعي العام في مصر، يتأثر كلَّ يوم، وكل ساعة، بهذا الذي يجري في النسق الاجتماعي والاقتصادي العام ويؤثر فيه. هذا التفاعل الديناميكي المستمر بين نسق التعليم والنسق الكلي أمر يختلف عن درجة التفاعل بين أنساقٍ جزئية أخرى، كالمواصلات مثلًا وبين النسق العام؛ ولذلك فكل إصلاح جاد للتعليم ينبغي أن يكون ضمن خطة للإصلاح والنهوض الشامل، كما حدث في ثورة يوليو مثلًا، لكننا نعيش في عهد سياسات اقتصادية انكماشية معادية للفئات الشعبية، عُمالًا وفلاحين وبرجوازية صغيرة، بل وحتى طبقة وسطى، تسميها الهيئات المالية الدولية الجاثمة على صدورنا سياسة «التكيف الهيكلي»، وتسميها الحكومة كذبًا «سياسة الإصلاح الاقتصادي»، وقد أدت بنا هذه السياسات على يد د. عاطف صدقي وأعوانه إلى خفض ميزانيات الخدمات، ورفع الأسعار، والتوسُّع في البطالة، وبيع القطاع العام للأجانب والصهاينة … إلخ، أي إلى ما يمكن أن نسمِّيه «الخراب الثاني لمصر»؛ لأن الخراب الأول وقع في أواخر القرن التاسع عشر في مصر عندما سيطر الأجانب على اقتصادنا من أجل سداد ديون إسماعيل، وعن وقائع هذا الخراب كتب تيودور روزشتاين كتابه الشهير الذي ترجمه المرحوم بدران «خراب مصر».
مثلًا من أين يمكن أن يأتي الإنفاق المالي المطلوب على التعليم في ظل سياسة الانكماش، من أجل بناء مدارس جديدة، ومن أجل رفع حقيقي لمرتبات المدرسين حتى يمكن مطالبة المدرسين بالتركيز على التدريب بالمدارس بدلًا من الانشغال بالدروس الخصوصية، والتي يسميها البعض «السوق الموازية»!
سوف نجد أن الوزير قام باللجوء لرجال الأعمال للتبرع لبناء المدارس، مع بعض الزيادة في ميزانية الوزارة، ومع أنني لست ضد التبرع من ناحية المبدأ، إلا أن هذا لا يمكن أن يحل مشكلة عامة، ولا ينبغي، من ناحية المبدأ، أن يتسع هذا الباب لأن رجال الأعمال هؤلاء سوف يطلبون من الحكومة المقابل من الخدمات، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
أما موضوع المرتبات؛ فقد حاول الوزير حلها عن طريق زيادة متواضعة في المرتبات مع إعطاء المدرسين مكافآت من جيوب أهالي التلاميذ في مجموعات التقوية، ومعنى هذا أن الوزير اضطر إلى التوسُّع في الأخذ من جيوب الأهالي لتعويض المدرسين، أي أننا عدنا عمليًّا إلى سياسة المصروفات في التعليم، حتى ولو كان ذلك تدريجيًّا، وهو نفس ما يحدث في الجامعات اليوم؛ إذ أصبحت رسوم العمل من أجل الماجستير أو الدكتوراه مئات الجنيهات، وبدأ العام الماضي تحصيل نحو ۸۰ جنيهًا رسومًا من طلاب الجامعة في بعض الكليات، ثم حدث عدول عن ذلك بعد ما تبيَّن من سخطٍ شديدٍ في أوساط الطلاب على هذه السياسات، ولا شك أن ستكون هناك عودة إلى المحاولة من جديد في السنوات القادمة، ونحن في الحقيقة قد عدنا إلى عهود سياسة المصروفات في التعليم بعد أن نعِم الشعب بمجانية التعليم في عهد ثورة يوليو، وهي حقيقة تزداد وضوحًا في يد وزير التعليم الحالي الذي يبدو أنه استسلم لفكرة العودة إلى المصروفات في التعليم. تأمَّل مثلًا المعاهد الخاصة العديدة التي تُعلن عن نفسها كل يوم في مدينة ٦ أكتوبر؛ حيث المصروفات بألوف الجنيهات، وحيث مستوى التعليم فيها منحط بطبيعة الحال، بل تأمَّل الجامعات الخاصة الست التي صدر قانون جديد بها، والتي ستكون أيضًا المصروفات فيها بألوف الجنيهات، ولا يبدو فيها حتى الآن أيُّ استعداد حقيقي، لا من ناحية الأجهزة والمَعامِل أو هيئات التدريس.
ومعنى هذا بصريح العبارة أننا بالتدريج نعود إلى التعليم الطبقي في مصر، ومن أسفٍ أن يتم هذا على يد الدكتور حسين كامل بهاء الدين!
ولقد كان من الممكن أن أعطي عشرات الأمثلة على هذا الوضع المتناقض الذي يجد فيه وزير التعليم نفسه لولا ضيق المقام، وسوف أكتفي بإعطاء مثل آخر من واقع دراسة اليونيسيف عن التعليم الابتدائي في مصر التي نوقشت يومَي ۲۱، ۲۲ ديسمبر بالقاهرة؛ فقد اتضح من هذه الدراسة، التي قامت على أساس مسحٍ إحصائي بالعينة في ثلاث محافظات، ركود نسب الالتحاق سنويًّا في السنوات السبع الأخيرة، وتسرُّب ٢٥٪ من التلاميذ قبل إكمال المرحلة الابتدائية، والتدني المفزع لمهارات التلاميذ في القراءة والكتابة والحساب، خصوصًا في الريف والأحياء الشعبية، وقد انتهت هذه الدراسة إلى العديد من التوصيات، أهمها في رأيي تلك التي صِيغت في تقرير اليونيسيف كما يلي:
«إن أي محاولة جادة للتغلب على الآثار السلبية في ميدان التعليم لا يمكن أن تقتصر على ميدان التعليم وحده؛ وإنما ينبغي أن تتعداه إلى مجمل السياسات الاجتماعية والاقتصادية أيضًا، وبمعنًى آخر فإن ترك هدف تعميم التعليم الابتدائي، وإكساب أطفالنا مهارات حقيقية للسياسات الراهنة وقُوى السوق ينطوي على خطر أكيد على التنمية البشرية، وبالتالي على قضية مستقبل التنمية بأكملها.»
وكمثالٍ على هذه النتيجة: كيف يمكن أن نتغلب على ركود نسبة الالتحاق بالمدرسة الابتدائية التي اتضحت في السنوات الأخيرة أن العشرة في المائة، أو أكثر، من الذين لا يلتحقون بالمدرسة أصلًا مع أنهم في السادسة من العمر هم أفقر الفقراء بطبيعة الحال، والذين يدخلون التعليم ولا يكملون بحثًا عن العمل لمساعدة الأهل (٢٥٪ في هذا البحث، ٣٦٪ حسب تقديرات البنك الدولي) هم الفقراء، وهؤلاء الألوف المؤلفة في حاجة إلى دعم مالي من الدولة إذا أردنا أن نحشرهم في إطار التعليم الابتدائي … دعم مالي لدفع الرسوم، دعم مالي لشراء الملابس المدرسية ودفع نفقات المواصلات والكتب ومجموعات التقوية، وتعويض الأهل عن الدخل الذي يحصلون عليه من عمل هؤلاء الأطفال … إلخ؛ فهل الدولة مستعدة لذلك، وهل يسمح صندوق النقد؟
وأخيرًا هناك نقطة تتعلق بالجهاز التعليمي الذي يعتمد عليه الوزير في الإصلاح، وهو الجهاز البيروقراطي في ديوان الوزارة والمحافظات، وهو جهاز — ككل أجهزة الدولة — يضرب الفساد في أطنابه، والاعتماد على مثل هذا الجهاز في الإصلاح، كالبناء على الماء، وأريد أن أعبِّر هنا عن قناعتي بأن أحد شروط إصلاح التعليم هو توفر حركة جماهيرية من العاملين في حقل التعليم، مدرسين ونظار وإداريين، تكون مقتنعة بأهداف هذا الإصلاح، وتعمل في حماسٍ من أجله خصوصًا إذا كان من أهداف هذا الإصلاح محو عار الأمية، وهذا غير متوفر الآن؛ فالمدرسون مشغولون بالدروس الخصوصية، وقد وصل الأمر إلى أن بعضهم أخذ من الوزارة إجازة لمدة عام بدون مرتب ليتفرغ بالكامل للدروس الخصوصية، وفي السنوات الأخيرة شمل العمل في الدروس الخصوصية كبار المفتشين والإداريين العاملين في ديوان الوزارة، ولن أقول أكثر من ذلك عن هذا الموضوع!
أرجو أن أكون بهذا قد أوضحت جذور الخلاف في الرؤية بيني وبين وزير التعليم، ولستُ الوحيد من أساتذة الجامعات التقدميين الذين يختلفون مع منهج الوزير؛ فالأستاذ الدكتور كمال نجيب الأستاذ بتربية جامعة الإسكندرية — وهو من الرجال الذين أكنُّ لهم احترامًا — قد عبَّر عن خلافه مع الوزير في موضوع «الثانوية العامة» مؤخرًا في مقال بجريدة «الأهالي»، وهناك الكثيرون من أساتذة كليات التربية الذين يعبِّرون عن نفس التوجُّه.
لكن الوزير يبدو مقتنعًا بأنه قادر على إصلاح التعليم بالعمل الدءوب (ولا أحد ينكر أنه يبذل جهدًا كبيرًا) باعتماده على صِلته برئيس الجمهورية والسيدة حرمه اللذين يساندانه بطبيعة الحال.
وفي رأيي أن هذا لا يكفي لإصلاح التعليم، وبالطبع هذا لا يعني أنه لن تتحقق إنجازات مثل المباني الجديدة، ولا أحد ينكر الجهود الكبيرة التي ينجزها الوزير، لكن هذا شيء مختلف عن إصلاح التعليم إصلاحًا حقيقيًّا دائمًا كما نتمنى، وسوف تثبت الأيام على أي حال أين وجه الحقيقة في هذه المسألة الخلافية.