تحفظات حول مشروع امتحان الثانوية العامة

أدهشني ما قرأته في صحف الأربعاء الماضي حول حضور الرئيس مبارك اجتماع لجنة التعليم في الحزب الوطني، وما صاحب ذلك من إعلام واسع عن هذا الاجتماع، ووجه الدهشة أن رئيس الجمهورية مثقل بالعديد من الأعباء والمسئوليات في الشئون الداخلية والخارجية، فكيف اهتم إلى هذا الحد، ووجد الوقت للذهاب إلى اجتماع لجنة التعليم والمشاركة في مناقشتها؟

وخطر في بالي أمران … أولهما أن هذا الحضور — والإعلام المصاحب له — مقصود به إبراز اهتمام الدولة بقضية التعليم، وثانيهما أن مشروع القانون هذا قد أثار من الخلافات داخل اللجنة ما اقتضى حضور الرئيس بنفسه حتى يعلن بهذا الحضور أنه يقف وراء وزير التعليم، ومع أن الأمرَين لا يتناقضان، إلا أنني رجَّحت الخاطر الثاني، وذلك لما أعلمه من أن للعديد من المشتغلين بقضايا التعليم ومن أساتذة الجامعات تحفظاتٍ على مشروع القانون الذي أعده الوزير، والذي يبدو أنه سيمر على عجلٍ في مجلس الشعب، كما مَر من قبله العديد من القوانين.

ووجه الخطورة في هذا الموضوع أن قضايا التعليم عامة في حاجة إلى مناقشاتٍ واسعة في الصحف وداخل الأحزاب وفي المجالس النيابية، حتى يتم الاطمئنان إلى أن الجوانب المختلفة والسلبيات المحتملة قد وضحت تمامًا، وبما يسمح بتعديل هذه القوانين في صياغتها الأخيرة على ضوء نتائج هذه المناقشات، أو بما يسمح بالعدول عن بعض موادها إذا اتضح ضررها، وهناك خشية من أن يكون ما حدث في لجنة التعليم بالحزب الوطني قد قفل الباب — أو على الأقل واربه — على هذه المناقشات الخصبة المَرجوة.

ولعلنا ما زلنا نتذكر ما حدث أيام أن كان د. فتحي سرور وزيرًا للتعليم، عندما تقدم بمشروع قانون إلغاء السنة السادسة من التعليم الابتدائي، وما ترتب على هذا من ازدحام المناهج على التلاميذ الصغار، فضلًا عما خلقه هذا الإجراء من ارتباكٍ واسعٍ في بعض سنوات التعليم الإعدادي ثم الثانوي، وقد مَر مشروع هذا القانون على عجل؛ فلم تُتَح فرصة كافية لمناقشته على نطاقٍ واسعٍ، وفي رأيي الشخصي أن ما حدث خطأ فاحش في حق التعليم الأساسي، رغم ما ادَّعته الوزارة من أن مكتب هيئة اليونسكو الإقليمي في عمان وافقت على القانون، مع أن موافقتها كانت مشروطة بشروطٍ عديدة لم تكن متحققة على الإطلاق، هذا فضلًا عن أن هذا الإلغاء قد أساء لسمعة التعليم المصري في البلاد العربية، وجميعها تلتزم بالسنوات الست للتعليم الابتدائي.

وربما يذكر القراء أنه حين جرى تعيين الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزيرًا للتعليم، كانت له عدة تصريحات جريئة؛ من بينها اعتراضه على إلغاء سنة من سنوات التعليم الابتدائي، الأمر الذي جعلنا نتوقع أن يعود بالتعليم الابتدائي إلى سنواته الست، لكن هذا لم يحدث، ونام الموضوع كله؛ مما جعل الكثيرين يعتقدون أن الوزير الجديد ربما فهم بعد ذلك أن هذا الإلغاء هو «سياسة عليا» لا يجوز التراجع عنها.

فهل من المطلوب اليوم أن نفهم أن مشروع القانون الجديد هو «سياسة عليا»؟ وماذا تكون جدوى النقاش في الصحف والأحزاب إذا طُبخَت مشروعات القوانين على عجل، ودُفع بها إلى مجلس الشعب لإقرارها بسرعة؟ يحدث هذا لمشروع القانون هذا، كما يحدث لمشروع الضريبة الموحدة الذي فشلت الأحزاب حتى اليوم في الحصول على صيغته الرسمية، والذي اعترضت عليه هيئات عديدة — حكومية وشعبية — كما نُشر في الصحف مؤخرًا.

والآن ماذا عن قانون امتحان الثانوية العامة الجديد؟

لقد نشرت الصحف نص المشروع، وهو يتناول تعديل بعض أحكام قانون التعليم الصادر عام ۱۹۸۱م، ويمكن تلخيص هذه التعديلات على النحو التالي:

  • (أ)

    تتكوَّن الدراسة في السنتَين الأخيرتَين من التعليم الثانوي من مواد إجبارية ومواد اختيارية يحددها الوزير بقرار منه.

  • (ب)

    الامتحان للحصول على شهادة الثانوية العامة يتم على مرحلتَين: الأولى في نهاية السنة الثانية، والثانية في نهاية السنة الثالثة، ولا يُحتسَب للطالب في نتيجة الثانوية العامة إلا الدرجات التي حصل عليها في دورتَين متتاليتَين تم اجتيازهما بنجاح.

  • (جـ)

    يجوز للطالب أن يتقدم لإعادة الامتحان في المواد التي يرسب فيها، أو التي يرغب في تحسين درجاته فيها لأي عدد من الدورات مقابل رسم لا يزيد على ٥٠٠ جنيه لكل دورة.

هذه هي أحكام القانون بإيجاز، الحُجة الأساسية في وضع هذا القانون هي أن امتحان الثانوية العامة الحالي يشكِّل على الأسر المصرية كل عام عبئًا نفسيًّا ضخمًا، وأن الامتحان على مرحلتَين سوف يخفف من هذا العبء.

وأنا لا أتفق أبدًا مع هذا الرأي؛ فالواقع أن العبء النفسي على الأسر سوف يتضاعف لأنه سيمتد لعامين لا عامٍ واحدٍ، والعبء المالي المتمثل في الدروس الخصوصية — ذات التكلفة العالية — سيتضاعف هو كذلك على كاهل الأسر المصرية في ظروف الضيق المالي المعروف، ولست أدري من أين وصل وزير التعليم إلى هذا التقدير.

على أن الأهم في رأيي في الاعتراض على مشروع القانون هو أن امتحان الثانوية العامة جزءٌ أخير من مشكلة أكبر وأوسع؛ وهي مشكلة التعليم الثانوي كله في مصر، وهي مشكلة البحث عن مناهج ملائمة متطورة تناسب العصر، وتثير متعة الطلاب، وهي مشكلة وجود كتب مدرسية جديدة بهذا الاسم، وهي مشكلة وجود مدرس متفرغ لعمله بالمدرسة، لا للدروس الخصوصية، التي هي مصدر رزقه الأساسي، وهي مشكلة توفُّر أماكن وفصول وقاعات كافية للدراسة والمَعامِل والنشاط المدرسي والترويح … إلخ، ثم تأتي بعد ذلك مشكلة الامتحانات وأهمية أن تقيس القدرات العقلية للطلاب، لا أن تكون أداة لاستظهار الحفظ الأعمى والتلقين.

فالمنطقي في رأيي أن نبدأ بمشاكل التعليم الثانوي الذي لم تُحَل إلى الآن لننتهي إلى مسألة الامتحان، وسأعطي مثالًا للتوضيح … لقد نص المشروع على مواد اختيارية يصدر بها قرار من الوزير، والوضع الحالي لا يترك للطالب فرصة الاختيار إلا بين مجموعتَين من المواد (أدبي، علمي)، وهذا الوضع لا يسمح للطالب بالجمع بين مواد يقتضي التطوير الحق السماح بالجمع بينهما كما يحدث في كل البلاد المستنيرة، مثل الفلسفة والرياضيات، أو الجغرافيا والرياضيات … إلخ، لكن تحقيق هذا يرتبط بفسحة في الفصول وفي جداول الدراسة وفي إعداد المدرسين … إلخ، وكل هذا غير متوفر اليوم في المدرسة المصرية التي نعرفها.

أيضًا من المآخذ على مشروع القانون الجديد غموضه في عدد من القضايا الإجرائية … فمثلًا هل يُنقَل الطالب إلى السنة الثالثة إذا رسب في بعض مواد السنة الثانية؟ وإذا أعاد الطالب في السنة الثانية بعض مواد السنة الثانية التي رسب فيها أو نجح بدرجاتٍ متواضعة، فهل سيُحتسَب له ما حصل عليه في السنة الثانية؟ وكيف يكون ذلك مع أن المشروع لا يعترف إلا بالدرجات التي حصل عليها الطالب في دورتَين متتاليتَين؟

ومن عيوب هذا القانون الجديد توزيع المواد على السنتَين؛ بحيث تُدرس المادة كلها إما في السنة الثانية أو السنة الثالثة، إن العديد من التربويين يرَون أن امتحان الطالب في مادة بعد دراستها لمدة عام — بدلًا من عامَين كما هو الحال اليوم — سوف يؤدي إلى إضعافٍ لمستوى بِنية المادة؛ فهي محاولة لضم منهجَين في منهج واحد، ويُخشى أن يؤدي ذلك إلى مجرد تلقينٍ للحفظ والاستظهار، وإذا أردنا منع هذا، فلا بد من تخفيف المادة ذاتها مما قد يؤدي إلى التشكيك في قيمة الثانوية العامة المصرية أمام الجامعات العربية والأجنبية.

وأخيرًا هناك ملاحظتان أساسيَّتان … تتعلق إحداهما بمسألة امتحان الثانوية العامة، والأخرى تتعلق بقضية التجريب في مشاريع إصلاح التعليم … ولنبدأ بالملاحظة الأولى:

إن أحد الجوانب الأساسية في رهبة امتحان الثانوية العامة هو مركزيَّته؛ فهو نفس الامتحان لجميع الطلاب، من أسوان إلى الإسكندرية، وهو يتطلب إجراءات صارمة لعموم القطر، وحتى عهد قريب كان تصحيح هذا الامتحان مركزيًّا في القاهرة، وإن كان الوضع قد اختلف الآن، ولو استطعنا أن نخفف هذه المركزية بالتدريج لقلَّلنا من حالة الرهبة والهيلمان الذي يحيط بهذا الامتحان؛ مثلًا لو استطعنا كخطوة أولى وضع امتحان لكل مجموعة من المحافظات المتجاورة، مع تركيز قبول الناجحين في هذا الامتحان على جامعات ومعاهد تلك المحافظات؛ بحيث يكون الهدف في النهاية وجود امتحان لكل محافظة، مع تركيز قبول الناجحين في تلك المحافظة على جامعتها … لانتهينا إلى شيء مشابه لوضع الشهادة الإعدادية حاليًّا، ولخفَّت حالة الرهبة المحيطة بامتحان الثانوية العامة.

والملاحظة الثانية تتعلق بقضية التجريب في مشاريع إصلاح التعليم التي يتحمس لها كل وزير جديد؛ فالحاصل حاليًّا هو أن كل وزير يلجأ إلى فرض مشروعاته على كل مدارس القطر مرة واحدة، بينما يكون من الأفضل كثيرًا البدء بالتجريب في عدد محدود من المدارس أولًا؛ لأن التجريب سوف يوضح السلبيات والمشاكل الجانبية التي قد لا يمكن تقديرها مسبقًا، وعندئذٍ يمكن مواجهتها بسهولة لأن التطبيق محصور في عدد محدود من المدارس، بل قد يتضح من هذا التطبيق المحدود أن السلبيات المترتبة على مشروع التطوير أكبر بكثير من الإيجابيات، وعندئذٍ يسهل التراجع عن المشروع نهائيًّا.

وبشكلٍ محدد أقترح، إذا كان الوزير متمسكًا بمشروع قانونه شديد الاقتناع به، تطبيقه في عددٍ محدود من المدارس أولًا، ثم بحث النتائج على أرض الواقع؛ بحيث نستعد للتعميم بعد ذلك على ضوء التجربة، أو للعدول نهائيًّا عن المشروع إذا اتضحت ضخامة سلبياته، وسوف يقتضي هذا تعديل قانون التعليم بما يسمح بهذا التجريب، ويحدد مصير الطلاب الذين جرى التجريب في مدارسهم.

ولقد جرى شيء مشابه لهذا في مشروع اليونسكو للرياضيات المعاصرة بالمرحلة الثانوية عام ١٩٦٨م؛ إذ بدأ المشروع بأربع مدارس في القاهرة واثنتين بالإسكندرية، واتضح من هذا التجريب مشاكل عديدة لم تكن في الحسبان، وقد انتهى هذا المشروع بالاستقرار على مناهج في الرياضيات هي مزيج من الحديث والقديم.

إننا بالطبع نقدِّر للدكتور حسين كامل بهاء الدين جهوده في ميدان التعليم؛ لكننا نتمنى عليه أن يتمهَّل في هذا المشروع؛ لأننا نخشى أن تتحوَّل المرحلة الثانوية، في ظل مشروعه هذا، من مرحلة تعليمية ذات أهداف تربوية إلى مجرد الحصول على شهادة.

وأخيرًا كيف يمكن التوفيق بين هذا القانون وبين توصيات المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي في دورته العشرين (۱۹۹۳-۱۹۹۲م) في تقريره «نحو استراتيجية مستقبلية للتعليم في مصر» وهي توصيات تتناقض تمامًا مع توجهات هذا القانون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥