هل يمكن إصلاح التعليم وحده …؟

أثارت تصريحات المسئولين في المدة الأخيرة حول ضرورة الاهتمام بقطاع التعليم موجة من التفاؤل المشروع بأن قطاعًا في حيوية قطاع التعليم وأثره الحاسم والحاكم على مستقبل مصر قد بدأ أخيرًا يلقَى اهتمام المسئولين في مصر بعدما طال إهمال حاجته الماسة إلى التجديد الكامل سواء على مستوى الدعم المادي أو الدعم المعنوي، وقد اعتُبِر تعيين الدكتور حسين كامل بهاء الدين — بخبرته الطويلة في العمل السياسي بين الشباب في الماضي — أحد المؤشرات على هذا التوجه الجديد، كما جاءت الاعتمادات المالية دليلًا آخر، خصوصًا بعد زلزال أكتوبر الماضي، والذي ألقى الأضواء الساطعة على الحالة المزرية التي وصلت إليها مباني المدارس، في الريف والأحياء الشعبية خصوصًا.

ولقد قال الرئيس مبارك في خطابه أمام الجلسة المشتركة لمجلسَي الشعب والشورى بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية في ١٤ نوفمبر ۱۹۹۱م عن التعليم ما يلي بالحرف: «لا بد من أن نصارح أنفسنا بأن الأزمة التي يمر بها التعليم في مصر أصبحت تنعكس على المدرسة والمعلم والطالب والمنهج … ورغم أنها تنهك موارد الدولة وإمكانات الأسرة، فإن المحصلة النهائية تأتي ضعيفة متواضعة.»

«لم يزل التعليم يعاني من غلبة الكم على الكيف، ومن عجزٍ فادح عن مواجهة متطلبات عصر جديد، أخص خصائصه ثورة المعلومات التي غيَّرت أساليب الإنتاج وأنماطه، فضلًا عن قصور في إعداد أجيال جديدة أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة العملية تُحسِن استيعاب علوم المستقبل، تعرف كيف تفرق باستخدام قدرات العقل البشري بين دعاوى الزيف والحقيقة.»

واضح إذن من هذا الخطاب للرئيس مبارك، ومن خطابات أخرى بعد ذلك، مدى الأهمية البارزة التي تعلِّقها القيادة السياسية العليا في مصر على موضوع إصلاح التعليم، وذلك بصرف النظر عن التباين في الرأي الذي يمكن أن ينجم عن الحوار مع بعض تفضيلات هذه التصريحات.

فموضوع «إنهاك موارد الدولة» الوارد في تصريح الرئيس لا تدعمه حقيقة أن نسبة الإنفاق على التعليم من إجمالي الناتج القومي تصل في مصر إلى ٥٫٢٪، بينما تصل في الأردن إلى ٧٫١٪، والمغرب ٧٫٩٪، والجزائر ١٠٫٨٪، وقيمة الإنفاق الجاري على الطالب في مرحلة التعليم الأساسي هي في مصر ۸۸ دولارًا، بينما تصل في تونس إلى ١٧٦ دولارًا، وفي الأردن إلى ٢٦٠ دولارًا، وفي إسرائيل ۸۷۷ دولارًا، ولن نتحدث عن هذا الإنفاق في فرنسا أو إنجلترا أو الولايات المتحدة (انظر كتاب «مبارك والتعليم» الذي أصدره الدكتور حسين كامل بهاء الدين).

أما موضوع «غلبة الكم على الكيف» فأمر أيضًا يحتاج إلى إعادة تقدير؛ فواقع الحال أن الاتساع في قاعدة التعليم الذي شهدته المرحلة الناصرية قد بدأ ينكمش مع سياسة الانفتاح، الذي بدأ في المرحلة الساداتية، وما أدى إليه من خروج العديد من أطفال الريف إلى ميدان العمل بشكل مبكر دون إكمال مرحلة التعليم الابتدائي، وهناك إحصائيات كثيرة محلية ودولية تدعم هذا الاستنتاج، ولولا أن المجال هنا لا يتسع للإسهاب في هذا الجانب الإحصائي لأوردت بعض هذه الإحصائيات كما وردت في مؤتمرات المركز القومي للبحوث الاجتماعية، وفي بيانات الهيئات الدولية، وإنما يكفي أن أشير إلى أن نسبة الاستيعاب في التعليم الابتدائي (وهي النسبة بين عدد الأطفال في مدارس المرحلة الابتدائية إلى عدد أطفال مصر الذين أعمارهم تتراوح بين ٦ و١٢ سنة) تصل إلى ما بين ٧٠٪، و٨٠٪، كما قال وزير التعليم في كتابه «مبارك والتعليم»، وأن هذه النسبة في الاستيعاب لم تتحسن في السنوات العشر الأخيرة في رأي بعض الباحثين في قضايا التعليم، وأستطيع أن أقول، بناء على دراسات سابقة للجنة مصرية أمريكية، إن هناك أكثر من ثلاثة ملايين طفل أعمارهم ما بين ٦ و١٥ سنة غير موجودين في مدارس التعليم الأساسي، بينما كان من المفروض أن يكونوا فيها لو أن نظامنا التعليمي كان على استعدادٍ لاستيعاب كل أطفالنا في مرحلة التعليم الأساسي كما هو معلَن، وتلك واقعة مفزعة في حد ذاتها.

وعلى هذا فإننا في حقيقة الأمر في حاجة إلى العناية بالكم في قطاع التعليم، كما نحن في حاجة إلى العناية بالكيف، كما أشار الرئيس في خطابه، وليست العناية بالكم، أي بتوسيع قاعدة التعليم، مجرد مسألة عدالة اجتماعية، وإنما هي كما أشارت تقارير عديدة للأمم المتحدة شرط ضروري لاتساع قاعدة الثورة التكنولوجية والتصنيع في أي بلد؛ ففي دراسة لجامعة الأمم المتحدة في طوكيو اشترك فيها ١١٤ باحثًا حول قضية «دور العمالة في نشر التكنولوجيا»، ونُشرت في مجلة الجامعة (عدد يونيو ١٩٨٤م) يبدو واضحًا كما جاء في نَصها أن «المشاركة النشيطة لكل الشرائح الاجتماعية ذات أهمية قصوى في تطوير تكنولوجيا الأمة» وبالطبع فإن هذه المشاركة النشيطة لكل الشرائح الاجتماعية يستحيل تحقيقها دون تعليم.

هناك إذن اهتمام واضح في السنتَين الأخيرتَين لدى المسئولين بموضوع التعليم، واستعداد واضح لمنحه الدعم المادي والمعنوي الذي يحتاجه، وهذا شيء جيد لا شك فيه، وإنما ما يطرحه موضوع وعنوان هذا المقال هو مدى الأثر السلبي الذي تعكسه القطاعات الأخرى المهمَلة على قطاع التعليم؛ وبالتالي الحاجة إلى أن يتم التقدم والإصلاح في قطاعات أخرى إلى جانب قطاع التعليم؛ حتى لا يؤدي هذا الأثر السلبي الذي تعكسه القطاعات الأخرى على التعليم إلى تدمير أو إضعاف الأثر الإيجابي لهذا الاهتمام الجديد بالتعليم.

ولكي يكون معنى هذا الكلام واضحًا سوف أعطي بعض الأسئلة التي تشرح ما أسعى إلى توضيحه، والمثل الأول يتعلق بقطاع الصحة في الريف وحقيقة الوضع، ولن أستشهد بأقوالٍ في صحف المعارضة، وإنما بما ورد في صحيفة الأهرام يوم ١٢/ ٥/ ١٩٩٣م بعنوان «مناقشات ساخنة في مجلس الشعب حول مشكلة تلوث مياه الشرب» ومنه يتضح أن مياه الشرب في بعض المحافظات ملوثة بالمجاري، وأن هذا هو السبب في انتشار الحمى التيفودية والالتهاب الكبدي الوبائي وسائر الحميات والأمراض الأخرى في ريف مصر، وبالتأكيد فإن أطفال المدارس في مقدمة المصابين بهذه الحميات، ومدارسنا في مقدمة المؤسسات المتأثرة بهذا الوضع السيئ، والحديث في مثل هذه الظروف عن حاجة مدارسنا إلى إدخال الكمبيوتر وعلوم المستقبل هو من قبيل ضياع الوقت؛ لأن أطفالنا في هذه الأماكن في حاجة إلى توفير أول مبادئ الصحة وهو «الوقاية قبل العلاج» قبل أي شيء آخر.

أما المثل الثاني فهو من قطاع الإعلام، إن من المعلوم أن هناك عشرات الألوف من الكاسيتات التي تتحدث في شئون دينية مطروحة في الأسواق، يروِّج لها البعض لأغراض سياسية، والبعض الآخر لأغراض الكسب المادي، وكثير من هذه الأشرطة مُجاز من بعض جهات الأزهر، والذي حدث في مدرسة بنات في محافظة القليوبية الشهر الماضي عندما قامت مدرسة بإذاعة شريط عن «عذاب القبر» في أحد الفصول، ومضاعفات هذا الحادث المعروفة مثالٌ آخر يبيِّن ماذا يمكن أن يحدث في قطاعات أخرى غير التعليم (قطاع الإعلام بالتحديد كان له أثره المدمر على قطاع التعليم)، فهذه الكاسيتات تُستخدَم لإرهاب بنات في عمر الزهور، وبدلًا من أن تنشغل بنات المدارس بتحديات المستقبل ومسئولياته؛ إذ بهذه الأشرطة تريد أن تشغلهن بعذاب القبر ونهاية الأجل! وعندما أراد الوزير أن يكون حازمًا في مواجهة هذه الظاهرة، وأن يأخذ البنات والمدرسة بالشدة خذله الحُكم المحلي في محافظة القليوبية بعد قيام المظاهرات هناك، وحرق الكنيسة الإنجيلية على نحو ما هو معروف، وضمن هذا المثال أيضًا يمكن أن نذكر بعض الأحاديث الدينية التي تُذاع في التليفزيون، والتي لها الأثر السلبي على قضية الوحدة الوطنية؛ الأمر الذي ينعكس على مدارسنا بطبيعة الحال.

أما المثال الثالث والأخير فيتعلق بقضية الدروس الخصوصية، وما أسمِّيه «القطاع غير الرسمي» للتعليم، أو ما يسميه بعض الظرفاء «السوق الموازية» لقد تحوَّل التعليم في رأي البعض إلى «قطاع خاص» كما تشير ظاهرة الدروس الخصوصية، ومع كثرة الأصوات التي بحَّت في الحديث عن ضرورة إنصاف المدرس ماديًّا إذا أردنا حقًّا محاصرة هذه الظاهرة المدمِّرة لنظامنا التعليمي، إلا أنه لم يجرِ الاعتراف بخطورة الظاهرة، وضرورة إنصاف المدرس إلا مؤخرًا، وعلى يد الوزير الجديد الذي قال في كتاب «مبارك والتعليم»: «لا بد من الاعتراف بأن المعلم قد تم إهماله طويلًا، وتعايش المجتمع طويلًا مع الأوضاع السيئة التي يعيش فيها المعلم؛ فهل يمكن للمعلم الذي يحصل على خمسين إلى سبعين جنيهًا، ومطالَب أن يفتح بيته ويعول أسرة، وأن يركب مواصلات ويعالج أولاده، ويلبس ملبسًا لائقًا حتى يكون قدوة لأبنائه … هل هذا ممكن في ظل هذا الدخل المحدود؟» المشكلة إذن تم الاعتراف بها، لكن لم يكفِ في مواجهتها اعتماد بضعة ملايين من الجنيهات لزيادة المرتبات؛ فمثل هذه الاعتمادات لن تؤدي إلا لإضافة بضعة جنيهات قليلة لمرتبات كل مدرس.

والمشكلة في الحقيقة في حاجة إلى مئات الملايين لإنصاف مئات الألوف من المدرسين في المدارس والمعاهد والجامعات، وبالطبع فإن توفير هذا يحتاج إلى تغيير أولويات الإنفاق الحكومي فيما يُسمَّى بسياسة «الإصلاح الاقتصادي» وحتى لو افترضنا إمكانية تدبير مثل هذه المبالغ؛ فلا بد أن نواجه طبيعة ما سوف تطالِب به قطاعات اجتماعية من ضرورة إنصافها هي الأخرى أمام موجة الغلاء الفاحش وهبوط الأجور الحقيقية منذ سنوات طويلة، وأستطيع أن أعطي أمثلة كثيرة غير هذه الأمثلة الثلاثة لتوضيح أن قطاع التعليم الذي هو نسق جزئي ضمن النسق الاجتماعي الاقتصادي العام يتأثر بشدة وبشكل متصل بأنساقٍ أخرى جزئية موجودة ضمن هذا النسق العام، ومنها قطاع الصحة، وقطاع الإعلام، وقطاع الأجور … إلخ، كما يتأثر بمناخ القيم السائدة في المجتمع سلبًا وإيجابًا، ومن أمثلة التأثيرات السلبية مثلًا، والمتعلقة بالقيم السائدة، العودة إلى تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية الخاصة والتجريبية، والأثر السلبي لهذه العودة على اللغة القومية للبلاد، أي اللغة العربية، ومع أنه ثابت في كل دراسات الدنيا التربوية أن تدريس لغة أجنبية — كاتجاه عام — في التعليم الابتدائي هو أمر ضار، إلا أن طموح بعضنا لأن نكون أمة من مرشدي السياحة وموظفي البنوك الدولية أدى بوزرائنا إلى إهمال نصائح بحوث التربية بحُجة أن «أولياء الأمور يريدون ذلك» والأغرب من هذا أن هناك دعوة ارتفعت في مؤتمر التعليم الابتدائي الأخير تنادي بتدريس العلوم في المدرسة التجريبية باللغة الإنجليزية، يحدث هذا بعد خروج دنلوب من مصر بأكثر من ثمانين عامًا!

وما أريد أن أصل إليه من هذا المقال هو الإشارة إلى حاجتنا إلى التفكير في إصلاح الأوضاع في عدد من القطاعات الوطنية الأخرى بجانب قطاع التعليم إذا أردنا أن يكون الإصلاح في التعليم مستمرًّا ومتصلًا، وغير قابل للانتكاس.

وإذا قبلنا هذا المنطق، فلا بد من تحديدٍ لهذه القطاعات ذات الأثر المباشر في قطاع التعليم وإعداد خطط موازية لإصلاح أوضاعها، والتقدم في كل هذه الجبهات معًا، لا في جبهة واحدة كما يبدو في حديث المسئولين حاليًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥