ما فعله الانفتاح بتعليمنا

في يومَي ۲۱ و۲۲ ديسمبر الماضي أقامت هيئة اليونيسيف بالقاهرة ندوة هامة لمناقشة الدراسة التي أعدتها مجموعة من الباحثين المصريين بقيادة د. نادر فرجاني، وتتضمن نتائج مسح ميداني بالعينة أجراه الباحثون في ثلاث من محافظات مصر: كفر الشيخ، القاهرة، والمنيا، عن أحوال التعليم الابتدائي.

وقد استهدف البحث الميداني، الذي استغرق نحو عام، الوصولَ إلى تقدير صحيح لأنماط الالتحاق بالتعليم الابتدائي وإكماله ومستوى الناتج الحقيقي لهذا التعليم بدلالة اكتساب المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والرياضيات (الحساب ومبادئ الهندسة)، واستكشاف المحددات الاجتماعية الاقتصادية لتلك المهارات وتطورها عبر الزمن.

وربما ترجع الميزة الأولى لهذا المسح إلى أنه لم يقتصر على استبيانات تُملَأ بمعرفة المدرسة كما جرت العادة في الماضي؛ وإنما شمل البحث هذه المرة عينة من ٤٨٠٠ أسرة معيشية، وستة عشر موقعًا ريفيًّا وحضريًّا في المحافظات الثلاث، وصُمِّمت العينة بحيث تقارب التوزيع المعروف لكل مصر، حسب الريف والحضر من ناحية، وبحيث تمثِّل التفاوت في التحصيل التعليمي بين الذكور والإناث على مستوى مصر وداخل المحافظات من ناحية أخرى.

فمِن أدوات هذا البحث الأساسية استبيان موجَّه إلى الأسرة المعيشية يستهدف معرفة أشياء عديدة من أسر التلاميذ، في مقدمتها الدخل الشهري، والإنفاق على التعليم، وصلة الأب أو الأم بالتعليم والسلع المعمرة الموجودة بالمنزل … إلخ، ثم هناك استبيان فردي يُستوفى من عضو الأسرة الواقع في فئة العمر «٦–١٧ سنة»، ويستهدف هذا الاستبيان معرفة تاريخ العضو التعليمي بكل تفاصيله، والعمل إن كان يعمل، ومشاعره إزاء المدرسة التي كان بها أو ما زال بها … إلخ، وهناك استبيان المدرسة ويُملأ بمعرفة المدرسة الابتدائية التي التحقت بها نسبة معقولة من أعضاء أسرة العينة في موقع البحث، ويستهدف هذا الاستبيان معرفة توزيع التلاميذ حسب النوع (ذكور، إناث)، وعدد الفصول وتوزيع المدرسين … إلخ. وأخيرًا هناك اختبارات المهارات (القراءة، الكتابة، الحساب)، وتُستوفى لكافة أعضاء الأسرة الذين يقعون في فئة العمر «١٠–١٧ سنة» من الذين سبق لهم الالتحاق بالتعليم.

هنا يخطر على البال سؤالان … الأول: لماذا هذه المحافظات بالذات، وليس عموم مصر؟ والإجابة البسيطة هي أن التكلفة المالية الباهظة، والزمن الممتد الذي يستغرقه العمل في حالة عموم مصر هما السبب في الاقتصار على ثلاث محافظات فحسب. أما لماذا هذه المحافظات بالذات فلأن إحداها تمثِّل الصعيد، والأخرى الدلتا والثالثة هي العاصمة؛ حيث أكبر عدد من المدارس والتلاميذ، هذا فضلًا عن أن هناك دراسات أولية سابقة تشير إلى سلبيات خاصة بالتعليم الابتدائي في كلٍّ من المنيا وكفر الشيخ، وبطبيعة الحال فلا أحد يدَّعى أن المسح في المحافظات الثلاث يمثِّل في نتائجه أوضاع المدارس الابتدائية في كافة عموم القطر، وإن كانت العينات من الاتساع، والبيانات من الدقة؛ بحيث يميل الواحد إلى تقبُّل فكرة أن النتائج المستخلَصة موجودة في العديد من مدارس القطر، وخصوصًا في الريف.

والسؤال الثاني: الذي يخطر على البال هو كيف لا يكون لدى وزارة التعليم بيانات إحصائية كافية تعطينا إجابة عما يستهدفه البحث عن الوصول إلى تقدير صحيح لأنماط الالتحاق بالتعليم الابتدائي وإكماله والناتج الحقيقي لهذا التعليم بدلالة المهارات الأساسية؟

والإجابة على هذا السؤال هي أنه على الرغم من أن الوزارة نجحت في تطوير قاعدة بيانات شاملة عن التعليم مستمَدة من سجلات المدارس، فإن الوزارة لا تتوفر لديها نسبة استيعاب يؤشر بها حسب النوع (بنين، بنات) أو حسب التقسيمات الإدارية، هذا فضلًا عن أنها ليس لديها بيانات عن الأسر المعيشية للتلاميذ، والمحددات الاجتماعية الاقتصادية الخاصة بالالتحاق بالتعليم، وفي الماضي جرت بحوث هامة استهدفت الإجابة على بعض الأسئلة الموجودة في الدراسة الحالية، لكن هذه البحوث جرت منذ زمن طويل؛ بحيث أصبحت نتائجها ذات قيمة تاريخية فحسب، ولا تعبِّر عن الوضع اليوم.

ومع ذلك فقبل إجراء بحث اليونيسيف كان هناك شعور عام لدى المهتمين بقضايا التعليم أن أحوال التعليم الابتدائي تدعو إلى القلق والانزعاج، خصوصًا في مباني الريف، وكان سبب هذا الشعور الشكوى من الارتفاع المستمر في معدلات التسرُّب من التعليم الابتدائي، وعلاقة ذلك بفقر الأسرة، وحاجتها إلى عمل الطفل، حتى وصلت في تقدير البنك الدولي إلى معدل ٣٦٪ من إجمالي التلاميذ عن عام ١٩٩٣م، وقد ساعد على هذا القلق ضعف مهارات الأطفال في الكتابة والقراءة والحساب بعد حذف سنة من التعليم الابتدائي عام ۱۹۸۸م؛ فأصبح خمس سنوات لا ستًّا، هذا فضلًا عن ركود نسبة الالتحاق بالتعليم الابتدائي في السنوات السبع الأخيرة عند مستوًى أقل قليلًا من ٩٠٪ دون سبب واضح، ومن ناحية المقارنات الدولية كانت هناك حقيقة معروفة تدعو فعلًا إلى الانزعاج الشديد، وهي توضح أن الاستيعاب الإجمالي في المرحلة الابتدائية يتدنَّى بالمقارنة بباقي بلدان العالم الثالث؛ ففي عام ١٩٦٠م كانت نسبة الاستيعاب الإجمالية في التعليم الابتدائي أعلى من نظيرتها في البلدان متوسطة الدخل حسب تصنيف البنك الدولي، وبعد ربع قرن من الزمان أصبحت نسبة الاستيعاب الإجمالي في المرحلة الابتدائية في مصر أقل من نظيرتها في البلدان منخفضة الدخل!

ومما يدعو إلى الثقة في نتائج الدراسة الحالية هو اشتراك كثير من المؤسسات المتخصصة فيها، وفي مقدمتها المركز القومي للبحوث التربوية بوزارة التعليم، والجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (فرعا المنيا وطنطا) وكليتا التربية في المنيا وطنطا، وإن كانت مسئولية التصميم والتدريب والتنسيق والتحليل وإعداد مشروع التقرير النهائي وقعت على الباحث الرئيسي د. نادر فرجاني.

ماذا إذن عن النتائج التي استخلصتها هذه الدراسة؟

الحقيقة أن هناك نتائج عديدة قد يصعب التعرُّض لها جميعًا، لكن النتائج في إجمالها تبرر القلق والانزعاج على أحوال التعليم الابتدائي في مصر؛ لقد ثبت مثلًا من هذه الدراسة أن نسبة من أكملوا التعليم الابتدائي من فئة العمر «۱۰–۱۷ سنة» في مواقع المسح هي في المتوسط ٧٥٪، أي أن ٢٥٪ قد تسرَّبوا قبل الإكمال، لكنَّ النتيجة التي تصدم الباحث حقًّا هي أن نسب الإكمال في تناقصٍ مستمر مع صغر العمر، الأمر الذي يشير إلى أن الكفاءة الداخلية للتعليم الابتدائي (ونعني بهذا نسبة مَن يكملون المرحلة) في تدهور مستمر في السنوات السبع الأخيرة.

أيضًا توضِّح النتائج أن نحو ٦٠٪ من التلاميذ قد حصلوا على تدريس إضافي أثناء المرحلة الابتدائية، إما على هيئة دروس خصوصية (حوالي ٥٠٪) أو مجموعات تقوية (حوالي ٢٠٪)، بينما تعاطت أقلية كلا النوعين (حوالي ٧٪).

كذلك وضح من تصحيح الاختبارات التي قُدمت للتلاميذ هبوط مستوى المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، واستمر هذا الهبوط منذ أواخر الثمانينيات؛ مما يشير بطبيعة الحال إلى عوامل تتضافر لإضعاف نوعية ناتج التعليم الابتدائي.

ولقد أشرنا إلى ركود نسب الالتحاق بالتعليم الابتدائي في السنوات الأخيرة، ويهمنا هنا أن نوضح أمرَين: أولهما ثبوت ما هو متوقع من انخفاض نِسب التحاق البنات عن البنين، خصوصًا في المواقع الريفية؛ مما يؤكد على أن الفارق حسب النوع في الالتحاق بالتعليم الابتدائي هو في الأساس ظاهرة ريفية، أما الأمر الآخر الذي قد يبدو غريبًا أن نسب الإكمال للبنات كانت أفضل من البنين في تسعة مواقع من المواقع الستة عشر؛ وبهذا يمكن القول إن الاستثمار في تعليم البنات أكثر كفاءة.

ونستطيع أن نقول إجمالًا إن أهم نتائج هذه الدراسة توضح أن التعليم الابتدائي في مصر يعاني من أزمة؛ فقد أظهرت النتائج ركود مستوى الالتحاق به في السنوات الأخيرة، وتراجع كفاءته الداخلية، وتدهور نوعية الناتج الحقيقي لهذا التعليم بدلالة اكتساب المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، وعلى وجه الخصوص فقد تبيَّن أنه ترتَّب على تخفيض عدد صفوف الدراسة من ستة إلى خمسة عام ۱۹۸۸م تدهورٌ معنوي في اكتساب المهارات الأساسية.

ولقد ربطت دراسة اليونيسيف، عن حقٍّ، هذه النتائج المحبِطة بحقيقة أن فترة الثمانينيات كانت هي أيضًا حقبة الركود الاقتصادي والتضخم الجامح (وهي أيضًا حقبة التكيف الهيكلي) الأمر الذي أدَّى إلى تدهور بالغ في مستوى معيشة الشعب، وتفاقُم مشكلة الفقر في مصر، ولقد انعكس هذا كله على كم ونوع التعليم الابتدائي، وإن ظهرت آثار هذه الانعكاسات متأخرة بضع سنوات.

وفي رأيي أن النتيجة الأساسية التي وصلت إليها تلك الدراسة الميدانية في توصياتها هي أن أي محاولة جادة للتغلب على الآثار السلبية في ميدان التعليم لا يمكن أن تقتصر على ميدان التعليم وحده؛ وإنما ينبغي أن تتعداه إلى مجمل السياسات الاجتماعية والاقتصادية أيضًا، وبمعنًى آخر فإن ترك هدف تعميم التعليم الابتدائي، وإكساب أطفالنا مهارات حقيقية للسياسات الراهنة وقُوى السوق، ينطوي على خطرٍ أكيد على التنمية البشرية في مصر، وبالتالي على قضية مستقبل التنمية بأكملها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥