التعليم والفقر
«وفي الولايات المتحدة لدينا جامعات ممتازة خاصة جيدة للطبقة المستريحة، ولكن الطبقة الدنيا في مدننا محكومة بتعليمٍ يؤيد وضعها الاقتصادي أي يؤيد فقرها، وفي عصرنا الحديث لا توجد جماعة جيدة التعليم وفقيرة، كما لا توجد جماعة أمية وليست فقيرة.»
وواضح من كلام جالبريث أمران: الأول أنه لا يعتقد أن المجتمع الأمريكي جيد بالمعنى الذي ساقه؛ لأن أوضاع التعليم لا تحقق فرصًا حقيقية ذات مغزًى للحراك الاجتماعي؛ إذ إن الأوضاع في الأوساط الشعبية تؤيد الوضع الاجتماعي الاقتصادي لهذه الطبقات؛ مما يدعم المقولة التي ردَّدها بعض المفكرين الماركسيين من أن التعليم في الأقطار الرأسمالية ينزع إلى إعادة إنتاج الفوارق الطبقية ويدعمها، وفي مصر بالذات في أوضاعها الجديدة، وفي ظل ما انتهى إليه التعليم في مناخ الانفتاح، وتزايُد السيطرة الأجنبية والصهيونية على مقدرات الأمور في بلادنا؛ تجد أن لدينا مدارس مجهَّزة بكافة التجهيزات الحديثة والملاعب والمركبات الخاصة والتغذية الجيدة (مقابل مصروفات باهظة طبعًا) لأبناء الأغنياء والشرائح العليا من الطبقة الوسطى، كما أن لدينا مدارس منعدمة التجهيزات، تغمرها مياه المجاري في كثير من الأحيان، بلا ماء صالح للشرب، وأحيانًا بلا دورات مياه وبلا مقاعد … إلخ، مما يدعم هذه المقولة ويزكِّيها.
أما الأمر الثاني الذي تنبِّه إليه محاضرة جالبريث، بشكلٍ عام، فهو العلاقة بين التعليم والفقر، وإذا كان هذا المفكر الكبير مهتمًّا بهذا البُعد لمجتمعٍ مثل المجتمع الأمريكي اليوم، فإن هذا الموضوع لا بد أن يكون أكثر أهمية في مجتمعات العالم الثالث؛ حيث يعشِّش فيها الفقر، ويتعمق يومًا بعد يوم بفعل الوصفات المدمرة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وما أدت إليه عمليًّا هذه الوصفات من قضاء على المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي حققتها مجتمعات الجنوب في الخمسينيات والستينيات حتى بعد السبعينيات، والتي تميزت بازدهار الاستقلال بعد معارك التحرر الوطني المنتصرة، وبمعدلات عالية للنمو الاقتصادي في أجزاء عديدة من العالم الثالث.
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أُشيد بالتعليم كمفتاح رئيسي للتنمية والصحة، وكمؤشر أساسي للتحديث. وخلال العقد الأخير تم التأكيد على التعليم كمفتاحٍ لضبط النسل وتنظيم الأسرة، ولا اعتراض على هذا من ناحية المبدأ، لكن ما يتم تجاهله هو الأثر العكسي للعوامل الأخرى على التعليم، ولا سيما الفقر بالذات.
في يناير الماضي انعقد في نيودلهي مؤتمر «التعليم للجميع» بمشاركة تسع دول ذات الكثافة السكانية الأعلى (الهند، الصين، بنجلاديش، البرازيل، نيجيريا، مصر، المكسيك، باكستان، إندونيسيا)، ومن المعلوم والمنشور دوليًّا أنه من بين ٨٧٤ مليون أمي في أقطار العالم الثالث هناك ٧٠٪ منهم في الأقطار التسعة المذكورة (أي أكثر من ٦٠٠ مليون)، ومنهم نحو ٤٠ مليونًا في مصر، ووفقًا لتقديرات اليونسكو؛ فإن هناك في تلك الأقطار التسعة ۷۰ مليون طفل محرومون من التعليم الابتدائي أصلًا، أما الذين يلتحقون بهذا التعليم، فإن نحو ٣٠٪ منهم يتسربون قبل الوصول إلى الصف الرابع.
ولقد خطب المدير المشارك لليونيسيف صندوق رعاية الطفولة في هذا المؤتمر؛ فقال: «إن الفقر هو أكبر مشكلة تواجه التعليم؛ إذ على الأطفال أن يعملوا لإعالة أنفسهم، وعائلاتهم» لكنه قال أيضًا «إننا لا يمكن أن ننتظر حتى يُقضى على مشكلة الفقر» وقد يكون هذا صحيحًا من ناحية أن القضاء الجذري على الفقر قد يستغرق آمادًا طويلة وبعيدة، لكن الأحوال في العديد من أقطار العالم الثالث قد وصلت إلى الحد الذي لم يعُد يكفي فيه زيادة تمويل التعليم أو زيادة الكتب أو المباني لحصد نتائج إيجابية في التعليم، وأنه لا بد من جهودٍ جدية لإنعاش الاقتصاد الوطني، وتحسين ظروف الفقراء حتى يؤتي التعليم بعض آثاره الإيجابية.
وبدون هذا فإن زيادة التمويل وحدها في مجال التعليم قد فشلت في إقناع العائلات الفقيرة وأبنائها بأن التعليم هو الطريق الذهبي نحو المستقبل؛ ففي البرازيل مثلًا، وعلى مدى أربعة عقود، ضاعفت الحكومة من جهودها في مشروعات التعليم، وأصدرت قانونًا يُلزم كل ولاية أن تخصص ۲٥٪ من ميزانيتها للتعليم، والنتيجة أن ٩٥٪ من الأطفال الذين في سن السادسة يلتحقون سنويًّا بالتعليم مقارنةً بنسبة ٨٠٪ منذ عشر سنوات، ومع ذلك فتلك النتيجة ليس لها مغزًى كبير لأن نصف هؤلاء الأطفال يتسربون من التعليم الابتدائي قبل الصف الرابع بحثًا عن عملٍ للمساهمة في إعالة الأسرة. ودولة باكستان تخصص نسبة من دخلها القومي — تعتبر عالية نسبيًّا — للتعليم (حوالي ٣٫٤٪)، ومع ذلك ففيها ۱۳ مليون طفل خارج نطاق التعليم أصلًا، بينما نجد أنه في دولة مثل إندونيسيا عندما دبَّت الحياه في شرايين الاقتصاد الوطني من جديدٍ تحسَّنت أحوال التعليم، وانخفضت نِسب التسرب، وفي بلدان العالم الثالث التي تتميز بارتفاعٍ كبير في معدلات البطالة، ويتنافس مئات الألوف سنويًّا من خريجي المدارس الثانوية والعالية على وظائف قليلة؛ ليس من الغريب أن يفضِّل الطلاب ترك المدارس، والحقيقة أنه ما دام الركود الاقتصادي قائمًا، والظروف الاقتصادية معاكسة؛ فليس من المنتظَر أن تؤدي زيادة الإنفاق على التعليم وحدها إلى تحسين أوضاع التعليم أو هبوط نِسب التسرب.
وفي مصر ما هي الأوضاع الحقيقية اليوم؟
قد يكفي أن نورِد هنا معلومتَين أساسيتَين: الأولى هي أن تقرير برنامج التنمية للأمم المتحدة لعام ۱۹۹۲م يقدِّر نسبة التسرُّب في التعليم الابتدائي في مصر بنحو ٣٦٪، وهي نسبة إجمالية تشمل الريف والمدينة والوجه البحري والصعيد، وهي بالطبع أعلى كثيرًا من نظيرتها في السبعينيات التي لم تزِد على ٢٠٪، ومن الطبيعي أن تكون هذه النسبة الحالية (٣٦٪) أعلى من ذلك بكثير إذا بحثنا أمر الريف وحده، أو إذا قصرنا البحث على الإناث، خصوصًا في الصعيد، وفي قناعتي أن نسبة التسرب في الريف المصري لا تقل عن ٥٠٪، أي أن نصف الأطفال الملتحقين بالتعليم الابتدائي يتسربون من المدرسة قبل أو عند الوصول إلى الصف الرابع (١٠-١١ سنة) للبحث عن عمل يساهم في إعالتهم وإعالة أسرهم، وأنبِّه القارئ المهتم بهذا الموضوع إلى البحوث والندوات التي أجراها المركز القومي للبحوث التربوية في العام الماضي عن موضوع عمالة الأطفال، والتي تزكي هذه القناعة.
أما المعلومة الثانية؛ فتتعلق بمعدلات البطالة بين الشباب، إن من المعلوم والمعترَف به أن معدلات البطالة في مصر قد جاوزت نسبة ٢٠٪ مع بداية برنامج «التحرير» الاقتصادي بما يوازي ۳ ملايين عاطل، وأن أكثر من ٦٠٪ من خريجي المدارس الفنية عاطلون، وإذا كان سوق العمل يستقبل سنويًّا ما يزيد على نصف مليون خريج (فني وعالٍ)، وتعجز فيه الحكومة والصندوق الاجتماعي عن تدبير مائة ألف فرصة عمل سنويًّا، فإنه من المتوقع أن تصل البطالة في مصر عام ١٩٩٥م إلى نحو أربعة ملايين عاطل.
وملخص القول إذن إنه مع استمرار حالة الركود الاقتصادي في مصر، ومع تدهور معدلات النمو الاقتصادي في مصر (حسب تقارير البنك الدولي لم تزِد هذه المعدلات على ٢٪ في السنوات الأخيرة، وأحيانًا وصلت إلى نصف في المائة بالأسعار الحقيقية)، ومع تعمُّق واتساع مشكلة الفقر في مصر بفضل خضوع النظام الحاكم لأوامر ونواهي صندوق النقد الدولي، ومع بيع القطاع العام وما هو متوقع من طرد العمالة «الزائدة» يزداد الشك في التعليم كوصفة لتحقيق التنمية؛ فالفقر في مصر أكبر عقبة تواجه التعليم، وبدلًا من أن يساهم التعليم في حل مشكلة الفقر؛ إذا بالفقر يقف عقبة أمام تحسُّن التعليم.
وإذا أردنا أن نضمن تحسنًا ذا مغزًى في أحوال التعليم، خصوصًا في الريف، فلن يكون كافيًا زيادة تمويله، وإنما لا بد من جهودٍ جادة في نفس الوقت لإنعاش الاقتصاد الوطني، وتحسين أوضاع الفقراء، وهو أمر لا يتحقق في ظل سياسات «التكيف الهيكلي».