الجامعة المصرية … إلى أين؟ (٢)

البحث الأكاديمي وحرية الفكر

ويعنيني اليوم التركيز على موضوع واحد هو موضع البحث العلمي أو الأكاديمي في الجامعة المصرية. إن الهدف الأساسي للجامعة — وبدونه لا تستحق الجامعة هذا الاسم — هو تنمية المعرفة البشرية وتطويرها في المجالات المختلفة، سواء في العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية أو العلوم التكنولوجية أو الآداب … إلخ. وقديمًا قيل إن الجامعة هي أستاذ باحث وكتاب، بمعنى أنه يمكن تصوُّر جامعة بدون طلاب، لكن لا يمكن تصوُّر جامعة دون أستاذ باحث، ودون مكتبة تخدم الباحثين.

وإذ نفتح موضوع البحث العلمي في الجامعة فإننا ندرك أن لهذه المسألة جوانب متعددة قد لا نستطيع في مقال واحد أن نلمَّ بها كلها، وقد أشير في هذا المقال إلى بعض هذه الجوانب ومنها مثلًا ما سبق أن أشرت إليه في مقالي السابق من حاجة جامعاتنا إلى العناية بالمكتبة الجامعية، وخصوصًا الدوريات الأجنبية في التخصصات المختلفة من علوم وفنون وآداب، ولقد طال الحديث عن هذه المسألة، ومع ذلك طال إهمالها.

غير أنني سوف أركز على جانبَين من مسألة البحث العلمي في الجامعة … الأول هو الغزو الأجنبي والتمويل الخارجي الذي غزا بعض جامعاتنا لأغراضٍ وأهدافٍ سياسية لا تنتمي إلى مصالحنا الوطنية، والثاني هو حاجتنا الماسة إلى تأكيد مبدأ حرية الفكر في البحث العلمي فعلًا لا قولًا فحسب، ولقد عانت الجامعة المصرية من هذا التضييق في قضية البحث العلمي من ناحيتَين؛ من ناحية البطش السياسي وناحية التزمت الديني، وكان لهذَين الاعتبارَين تأثير سلبي على البحث العلمي في الجامعة دون شك.

وفيما يتعلق بالتمويل الأجنبي لبعض البحوث في الجامعة زمن الانفتاح فلا يخفى أن هذه الهيئات الأجنبية ذات أهداف سياسية وثقافية واضحة، وعندما تتعاقد مع بعض الكليات والأساتذة على إجراء بحث من البحوث؛ فنحن لا ندَّعى أنها تفرض نتيجةً معينة فيه، غير أن هذا التمويل ذو تأثير مدمر على الكثير من الأساتذة ومساعديهم؛ فإنهم يدركون أن هذا التمويل مصدر عظيم لزيادة الدخل الفردي، والكثيرون يعلمون ماذا تتوقع تلك الهيئات الأجنبية من تلك البحوث؛ ولذا ليس من الصعب أن تأتي هذه البحوث بالنتائج التي تخدم تلك المصالح الأجنبية، التي هي مصدر التمويل، وفضلًا عن ذلك حتى لو تغاضينا عن هذا الاعتبار فإن معنى انتشار البحوث المموَّلة أجنبيًّا على جامعاتنا هو فرض جدول أعمال للبحث العلمي في مصر قد لا يمثِّل أولويات البحث كما تراها المصالح الوطنية، ولقد نشأت خارج الجامعة «مراكز بحوث» قطاع خاص تدَّعي البحث العلمي مع أنها ليست مؤهلة لذلك على الإطلاق، وقد لا يكون بها غير شخص واحد هو القائد والمقود والباحث والمبحوث!

وقد انتشرت هذه المراكز المموَّلة من هيئات أجنبية، ومن الواضح أنها تعمل لأهداف مشبوهة على أقل تقدير … وإذا كنا قد شكونا في المرحلة الناصرية من التزمت المبالغ فيه في أي تعاون بحثي مع طرف أجنبي، فإن هذا لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى ما نحن فيه اليوم من انفتاح «سداح مداح» تدخل فيه كل سفارة أجنبية إلى جامعاتنا، وفي يدها عُملتها الوطنية، لتبرم عقودًا لبحوث في جامعاتنا قد لا تفيدنا في شيء، وربما أساءت إلينا.

والمسألة الثانية هي قضية حرية الفكر وضرورتها في البحث العلمي، وأبدأ بالقول إنني واحد من كثيرين من المثقفين في مصر والعالم العربي والعالم كله، الذين يؤمنون بأن هذه المسألة حيوية تمامًا في البحث الأكاديمي، ولقد أثبتت تجارب عديدة في بلدان العالم، وآخرها بلدان العالم الاشتراكي (سابقًا) أن عدم توافر هذا المناخ كفيل بتدمير حتى الجوانب الإيجابية في تلك المجتمعات.

إن التقدم مشروط بحرية الفكر في عالم اليوم، وما دمنا قد سلَّمنا بأن التقدم مرتبط بالتعددية السياسية فلا بد أن يكون أيضًا مرتبطًا بالتعددية الفكرية، والعقبة الرئيسية أمام حرية الفكر في البحث الأكاديمي ذات جناحَين … السلطة السياسية الباطشة، والسلطة الدينية المحافظة أو المتزمتة.

ولقد عانت جامعاتنا من السلطتَين … من السلطة السياسية عندما فصل مجلس قيادة الثورة في سبتمبر ۱۹٥٤م اثنين وأربعين من الأساتذة بدعوى أنهم جميعًا معادون لأهداف الثورة، بينما الحقيقة كانت هي خلاف معظمهم آنذاك مع مجلس قيادة الثورة حول قضية الديمقراطية، وكنت أنا واحدًا من هؤلاء المفصولين من جامعة القاهرة، وبقيتُ خارج الجامعة إلى أن عدت إليها في أول عام ١٩٦٦م، ثم بطشت السلطة السياسية بأساتذة الجامعة مرة أخرى في سبتمبر ۱۹۸۱م في جو الاعتقالات المشهورة، عندما نقلت إلى خارج الجامعة ستين أستاذًا جامعيًّا بدعوى أنهم غير موالين للنظام السياسي، وغني عن البيان أن هذين الإجراءين من السلطة السياسية في عامَي ۱۹٥٤م و۱۹۸۱م قد أشاعا جوًّا من الإرهاب والخوف داخل الجامعة، كان لهما أثر سلبي على البحث الأكاديمي، بل على محاضرات الأساتذة؛ إذ بدأ كل أستاذ ينظر خلف ظهره خوفًا من أن يكون الدور عليه هو أيضًا.

لكن القضية التي لا تقل خطورة عن ذلك هي قضية حرية البحث الأكاديمي في مواجهة مؤسسات دينية محافِظة أو متزمتة، ولسنا هنا نتحدث في فراغ، فهناك مواجهات عديدة حدثت في جامعاتنا بين بحوث خرجت عن الشائع من الفكر الديني التقليدي، وبين مؤسسات دينية لا ترى مجالًا للاجتهاد الديني، ولا تؤمن بحاجة مجتمعاتنا إلى إصلاح ديني حقيقي ينهض على أساس إعادة تأويل لبعض النصوص الدينية بما يتلاءم مع احتياجات وتحديات مجتمعاتنا، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، وقد أصبحنا جزءًا من قرية كونية كبيرة متصلة بعضها ببعض عن طريق الأقمار الصناعية آناء الليل وأطراف النهار.

وبالطبع سوف يتذكر الواحد منا بعض الحالات المعروفة تاريخيًّا على طول تاريخ جامعاتنا … قضية كتاب «الشعر الجاهلي» لطه حسين الذي صدر عام ۱۹۲٦م، وأدى إلى أزمة وزارية حادة بين رئيس الوزراء (عدلي يكن) ورئيس مجلس النواب (سعد زغلول) كادت أن تعصف بالوزارة كلها، وانتهى الأمر بحبس الكتاب في داخل الجامعة، والتحقيق مع طه حسين عندما عاد من فرنسا حيث كان يقضي إجازة الصيف، ومع أن النيابة قد حفظت التحقيق، إلا أن طه حسين قد اضطر إلى أن يُعيد طبع الكتاب تحت اسم «الأدب الجاهلي»، وبعد رفع بعض صفحات الكتاب الأصلي التي كانت موضع اعتراض من الأزهر، وهناك رسالة د. خلف الله عن «قصص القرآن» تحت إشراف الأستاذ أمين الخولي، وقد أثارت أيضًا ضجة في الأوساط الدينية لأنها أتت بنتائج تخالِف الفكر التقليدي في المسائل المبحوثة، وأظن أن الدكتور خلف الله قد اضطر إلى أن يعدِّل في بعض رسالته للدكتوراه، وأخيرًا هناك بحوث الدكتور نصر حامد أبو زيد عن «الإمام الشافعي»، والتي رفضت اللجنة ترقيته إلى وظيفة أستاذ لأن نتائج بحوثه عن الإمام الشافعي تخالف القناعات التقليدية للمؤسسات الدينية وشبه الدينية عن هذا الإمام.

وكما وصل الأمر إلى تكفير طه حسين إثر صدور كتاب «الشعر الجاهلي» كذلك تم تكفير الدكتور نصر حامد أبو زيد — لا من جانب المؤسسات الدينية فحسب، وإنما من جانب أساتذة جامعات مع الأسف الشديد — بل وصل الأمر إلى أن بعض أساتذة دار العلوم ومستشارين سابقين في مجلس الدولة أقاموا — ويا للعار — دعوى أمام القضاء تطالب بتطليق زوجته منه باعتبار أنه مرتد لأنه عبَّر عن آراء معينة في مسألة الإمام الشافعي وفي غيرها!

ومع أن القاضي المصري قد رفض الدعوى باعتبار أنها ليست مُقامَة من صاحب المصلحة، إلا أن مَن أقاموا الدعوى قد استأنفوا الحكم! ولقد حدث هذا كله أمام العالم بأجمعه، وقامت وكالات الأنباء بمتابعة تلك القضية في المحاكم، وإذاعة أنبائها، ونشرت الصحف الأجنبية هذه الأنباء، وكانت فضيحة لنا ولجامعاتنا وأية فضيحة!

ولقد تعرضت لثلاثة أمثلة فقط من العدوان على حرية البحث العلمي في الجامعات؛ طه حسين وكتاب «الشعر الجاهلي» وخلف الله ورسالته «قصص القرآن» تحت إشراف أمين الخولي، ثم بحث نصر حامد أبو زيد عن الإمام الشافعي، والذي كان مُقدمًا للجنة الترقيات في المجلس الأعلى للجامعات، والحقيقة أن هناك حالات أخرى عُدِّلت فيها رسائل تحت ضغط مؤسسات دينية، وإن كان المجال لن يتسع للدخول في تفاصيل هذه الحالات.

المهم أن تلك الأمثلة الثلاثة تطرح قضية أساسية في البحث العلمي؛ حق الباحث في أن يصل إلى قناعاتٍ في بحثه قد لا تتسق مع ما هو شائع من فكر ديني تقليدي، وتفسير لنصوص دينية جرى وضعه منذ قرون طويلة، وفي ظروف اجتماعية وثقافية وسياسية شديدة الاختلاف عن أوضاعنا الحالية، والذي نعاني منه نحن اليوم قد واجهته أوروبا في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، آنذاك كانت المؤسسة الدينية في روما ذات اجتهادات خاصة للنصوص الدينية، ولم تكن لتسمح لأحد أن يبحث عن تفسير آخر لهذه النصوص، وكانت هذه الاجتهادات تلائم ظروف المجتمع الاجتماعية، لكنها لم تكن تلائم ما كان المجتمع الأوروبي يتجه إليه من علاقات رأسمالية، واصطدمت احتياجات العلاقات الجديدة مع الفكر والاجتهادات الدينية القديمة، وفي نهاية الأمر حدثت ثورة الإصلاح الديني على يد لوثر وكلفن، وأدى هذا إلى نشأة مذهب مسيحي جديد هو المذهب البروتستانتي، وكنيسة جديدة هي الكنيسة البروتستانتية.

ونحن في حاجة إلى «ثورة» إصلاح ديني حقيقي يعيد تأويل العديد من النصوص في قضايا المعاملات والمجتمع والسياسة، بما يقضي على هذا الانقسام الحاد في داخل المجتمع العربي الواحد بين العلمانيين وغير العلمانيين، وربما يسمح للبحث العلمي أن يتقدم دون أن يُشهَر في وجهه سلاح الكفر والارتداد، إن هذا أحد شروط التقدم في مجتمعاتنا، ولا يعني هذا لا إضعاف الدين في قلوب الناس، ولا القضاء على هُويتنا العربية الإسلامية؛ وإنما يعني فقط فتح الطريق أمام البحث العلمي، دون خوف، ودون تطلُّع خلف ظهورنا، وازدهار مدارس الفكر المختلفة طلبًا للوصول إلى الحقيقة، ومن أسفٍ أن المستنيرين سياسيًّا من الإسلاميين ما زالوا محافظين في الفكر.

إن الجامعة في حاجة ماسة، لكي يزدهر فيها البحث العلمي، إلى أمرَين أساسيَّين: أولهما قيمة أساسية في الحياة الجامعية في كافة الدول المتقدمة، وهي ما يسمونها بالإنجليزية Tolerance والبعض يترجمها التسامح، وإن كنت لا أرتاح إلى هذه التسمية، وأفضِّل عليها «القدرة على التحمُّل»؛ القدرة على تحمُّل آراء الغير وأفكاره والحوار معه، ودحضها بالفكر والرأي الآخر، لا بالإرهاب الفكري أو السلطة، إن هذه القدرة على تحمُّل رأي الغير هي قيمة أساسية في ميدان البحث العلمي، بدونها يستحيل أن يزدهر، وهي في صورة أخرى تعبير عن تواضع الإنسان مهما علا قدره، تواضع أساسه القناعة بأنه مهما كان الإنسان مقتنعًا بصحة وجهة نظره؛ فإنه لا يستبعد (مهما كان ذلك ضئيلًا) أنه ربما كان مخطئًا.

والأمر الثاني هو حاجة الجامعة إلى نوع من الاستقلال النسبي عن السلطة السياسية القائمة، وتحقُّق هذا هو أحد الضمانات ضد بطش هذه السلطة بالجامعة عندما يكون لبعص أساتذتها رأي آخر فيما يجري في البلاد، ولا يتحقق هذا الاستقلال النسبي إلا عندما تكون القيادات الجامعية منتخَبة من أساتذتها، وليست معيَّنة من قِبَل السلطان لكي تكون على هواه وتخضع لأوامره ونواهيه.

وأخيرًا أود أن أختم مقالي هذا بالإشارة إلى مدى التدهور الذي وصلت إليه بعض جامعاتنا وأساتذتنا الذين يحاولون أن يتخذوا من النصوص الدينية أداة لدعم رأي علمي أو دحضه؛ فالذين يتحدثون عن فيزياء إسلامية وطب إسلامي وإحصاء إسلامي … إلخ، إنما يسيئون إلى الدين والعلم معًا؛ فأساس حقائق العلم هو نسبيتها، بينما أساس الإيمان الديني هو إطلاقيته، والنظرية العلمية قد يثبت عدم صحتها أو حاجتها إلى التعديل، والإيمان ليس كذلك.

إن هؤلاء الأساتذة الجامعيين الذين يحاولون أن «يبرهنوا» أن سرعة الضوء قد وردت في القرآن الكريم، أو أن هناك فعلًا شيئًا اسمه الوسط الحسابي الإسلامي، والانحراف المعياري الإسلامي لا يضحكون إلا على أنفسهم وعلى جهلاء دول النفط … وهم يحسنون صُنعًا أن يتذكروا أن أوروبا مرَّت بمرحلة من هذا النوع منذ ثلاثة أو أربعة قرون، ثم جرى التخلي عن كل هذا السخف عندما ازدهر البحث العلمي، وتقدمت المجتمعات صناعيًّا، وانتهى الأمر بالإقناع بأن الإيمان شيء، والبحث العلمي شيء آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥