الجامعة المصرية … إلى أين؟ (٣)

كلية للدراسات العليا

كانت قناعتي — وما زالت — أنه من الصعب جدًّا إصلاح أحوال التعليم وحده، دون أن يتزامن هذا مع إصلاح قطاعات خدمية وإنتاجية أخرى، مثل قطاع الخدمات الصحية وقطاع العمالة الوطنية والأجور. وقد عبَّرت عن هذه القناعة في مقال سابق لي في مجلة «الهلال» الغراء تحت عنوان «هل يمكن إصلاح قطاع التعليم وحده؟»، وأشرت فيه، من واقع تحقيقات في الصحف غير الحزبية، إلى واقع الأحوال الصحية المتدهورة في الريف المصري، وأثرها على تلاميذ المدارس، كما أشرت فيه إلى واقع أجور المدرسين في التعليم العام، وأثر ذلك على تفرُّغ معظم المدرسين للعمل طوال النهار في «القطاع غير الرسمي» للتعليم (أي الدروس الخصوصية)، وإلى ظاهرة تسرب تلاميذ مدارس التعليم الأساسي، في الريف خصوصًا، دون إكمال المرحلة؛ بحثًا عن عملٍ يساعد الأسرة في ظروف الغلاء الفاحش في مناخ الانفتاح.

وتشاء الظروف أن أكتب هذا المقال في نفس اليوم الذي نشرت فيه الأهرام ۲۱ يوليو ۱۹۹٤م تحقيقًا عن أمية الأطفال في مصر، تحت عنوان: صدِّق أو لا تصدِّق ۱۲ مليون طفل أمي في مصر، ويوجه المختصون في وزارة التعليم، في هذا التحقيق، الأنظار إلى حقيقة أن ما بين ۲٥–٪۳۰ من أطفال مصر في السن ٦–٨ سنوات لا يلتحقون أصلًا بالتعليم الابتدائي، وأن نحو ١٠–١٥٪ من الذين يكملون المرحلة الابتدائية لا يذهبون إلى التعليم الإعدادي. أما هؤلاء الذين يتسربون من المرحلة الإعدادية فمعظمهم يرتد إلى الأمية مرة أخرى، وتُقدَّر نسبتهم بحوالي ١٥٪.

وبالطبع فإن هذا الواقع المحزن وثيق الصلة بالأحوال في قطاعات أخرى غير قطاع التعليم، الأمر الذي يؤكد القناعات التي أبديتها في أول هذا المقال. إن قطاع التعليم — في علاقته الوثيقة بالقطاعات الوطنية الأخرى — يختلف عن بعض قطاعات الخدمات الأخرى التي ليست وثيقة الصلة بنسيج المجتمع كله مثل التعليم، فمثلًا من الممكن تصور تحسُّن كبير في قطاعات خدمية مثل التليفونات أو النقل؛ لأن هذه القطاعات الخدمية، رغم تأثرها بالوضع العام؛ فإن هذا التأثر ليس بهذه القوة التي عليها قطاع التعليم.

وإذا انتقلنا من هذا الكلام العام إلى موضوع ميزانية التعليم، اصطدمنا بعقبة أن هيئات دولية ضاغطة علينا — مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي — تشترط، كجزءٍ مما يُسمَّى بالإصلاح الاقتصادي، خفضَ العجز في الميزانية، وبالذات خفض الإنفاق على الخدمات، بالأسعار الحقيقية مثل التعليم والصحة … إلخ. وبالتالي لا يبقى أمام الحكومة، إذا أرادت العناية بالتعليم إلا اللجوء إلى الأثرياء من رجال الأعمال وكبار ملاك الأراضي للتبرع لبناء المدارس وأشياء أخرى من هذا النوع، ولستُ ضد تبرع الأثرياء من ناحية المبدأ، لكن الإشكال يبدأ عندما تتضح أن أولويات الوزارة في البقاء، واختيار المواقع، ونوعية المدارس، ليست أولويات هؤلاء الأثرياء الذين يدفعون، أي أن باب التبرع يجب أن يبقى مفتوحًا، وإنما كبابٍ ثانوي في ميزانية التعليم، وليس بابًا أساسيًّا.

والآن ننتقل من هذا كله إلى الجامعات لنقول إن إصلاح الجامعات بشكلٍ عام — مثله مثل إصلاح التعليم العام — وثيق الصلة بالإصلاح في القطاعات الأخرى، لكن هذا لا يعني ألَّا نهتم بمشروعات محددة ذات مزايا عديدة، وألَّا نحاول أن نحصر الآثار السلبية لمناخ الانفتاح على هذه المشروعات في أضيق نطاق ممكن، وفي اعتقادي أن هذا ممكن إذا توافرت لهذه المشروعات القيادات الجادة والنشِطة والمستقلة في التفكير، والتي لا ترتبط بأجهزة السلطة في توجيهها، ومن هذه المشروعات التي يجب بحثها بعناية مشروع كلية للدراسات العليا في الجامعات الأم على الأقل.

ولقد أوضحت في مقالَين سابقَين — وأوضح غيري في مقالات وتحقيقات أخرى — الأحوال التعيسة التي وصلت إليها البحوث في جامعاتنا (في معظم الحالات، ولا أقول كلها)، وكيف أن رسائل الماجستير والدكتوراه في العلوم الاجتماعية والآداب والعلوم الهندسية والطبيعية قد صارت مثل «الهم على القلب» ليس بها جديد، ولا إبداع يُعتَد به، والبعض منها منقول جزئيًّا من مصادر أخرى دون إشارة إلى ذلك، وكيف أن البحوث التي قُدمت في العديد من المجالات للترقي من وظيفة مدرس إلى أستاذ مساعد أو من وظيفة أستاذ مساعد إلى وظيفة أستاذ لا تساوي من ناحية القيمة الحبر الذي كُتبت به، وأوضحت كيف أن الجامعات الإقليمية كانت دافعًا خصبًا لإنجاز هذه البحوث، أو لسرقة بحوث الآخرين، أجانب أو مصريين، وبالتالي امتلاء الجامعات الإقليمية بالعديد من الأساتذة الذين لا يصلحون أن يكونوا مدرسين في المدارس الثانوية، ومع أن هذه الظاهرة تتعلق أصلًا بالجامعات الإقليمية؛ فإن الجامعات الأم لم تخلُ من هذه الظاهرة هي الأخرى.

كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ وما هي الأسباب؟

هناك أسباب عدة، لكن يعنيني هنا أن أشير إلى أحد الأسباب التي ساهمت في خلق هذا الوضع، وأعني قرار إلغاء كراسي الأستاذية في الجامعات المصرية.

قبل عام ١٩٧٢م كانت هناك كراسي للأستاذية المرتبطة بالتخصصات المختلفة مثل كرسي الرياضة البحتة في علوم القاهرة، أو كرسي التاريخ الحديث في آداب القاهرة … إلخ، وكان إذا أصبح الكرسي شاغرًا نتيجة وفاة شاغله أو انتقاله إلى وظيفة أخرى يُعلَن عن هذا الكرسي في الصحف، ويتقدم المتقدمون لشغله من جميع الجامعات، وتُشكَّل لجان عليا لدراسة بحوث المتقدمين واختيار أفضلهم، وبشكلٍ عام كان شاغلو كراسي الأستاذية رجالًا لهم أقدارهم العلمية، وبحوثهم المنشورة في مصر والخارج، ولمَّا كان عدد الكراسي محدودًا في ميزانية الدولة؛ فقد واجهت الجامعات مسألة تزايد أعداد الأساتذة المساعدين، الذين ليس لهم كراسي للترقية، وكحلٍّ مؤقت خُلقت وظيفة أستاذ بدون كرسي، وظل هذا هو الوضع في الجامعات المصرية حتى أوائل السبعينيات، أي أن الأستاذية كانت نوعَين؛ أستاذية الكراسي وأستاذية بدون كراسي، وكان هناك فارق في المرتبات بين هذَين النوعَين من الأساتذة، بالإضافة إلى فارق في التقدير الأدبي، حتى جاء الدكتور رياض شمس الوكيل وزيرًا للتعليم العالي، وعدَّل قانون الجامعات؛ بحيث ألغى الكراسي، وأصبح الكل سواء!

وكان هذا خطأً فاحشًا في رأيي؛ أساء إلى الجامعات بدلًا من إفادتها، ولقد كان من الممكن بدلًا من هذا زيادة عدد الكراسي في الميزانية للسماح من المتفوقين علميًّا من الأساتذة المساعدين بشغل هذه الكراسي الجديدة، أما أن نترك الحبل على الغارب لكي يكون الكل أساتذة مهما كان مستواهم العلمي، فأمر لا يقبله منطق، وليس معروفًا في الجامعات الأوروبية أو الأمريكية، وحتى اليوم لا يزال نظام الكراسي قائمًا في الجامعات المحترمة في بريطانيا؛ فيقولون مثلًا أن أستاذ الرياضيات التطبيقية «المُقعَد هوكنج» يشغل كرسي إسحاق نيوتن في جامعة كمبردج.

كيف نخرج من هذا الوضع البالغ السوء؟

إن فكرة إنشاء كلية للدراسات العليا في بعض الجامعات الأم مثل جامعة القاهرة أو عين شمس أو الإسكندرية قد تكون الرد على هذا السؤال. والفكرة ليست جديدة تمامًا؛ فمن المؤكد أنها طُرحَت في السبعينيات، وكسبت بعض الحماس في أوساط المسئولين، لكنها نامت بعد ذلك لأسباب أجهلها، وتخميني أن تنفيذ الفكرة سوف يحتاج إلى تمويل غير قليل إذا أريد لمثل هذا المشروع النجاح.

ومثل هذا المشروع قد يكون حلًّا لظاهرةٍ اتسعت، وتنذر بمخاطر مستقبلية في أوضاع الجامعات، بل إنها الآن قد تسبَّبت في خلق جو من التوتر في عدد من الكليات والمعاهد العليا، وأعني بها ظاهرة «الأساتذة المتفرغين».

لقد كان الوضع قبل صدور قانون الأساتذة المتفرغين هو أن أستاذ الجامعة يُحال إلى المعاش عند سن الستين، وتنقطع صِلته بالجامعة إلا إذا عُيِّن أستاذًا غير متفرغ مقابل مكافأة شهرية ضئيلة (كانت آنذاك خمسين جنيهًا شهريًّا)، أو إذا انتُدب لتدريس عدد من المحاضرات مقابل مكافأة حسب عدد ساعات التدريس، ثم عندما صدر قانون الأساتذة المتفرغين أصبح من حق كل أستاذ يعمل بالجامعة أن يستمر — بعد المعاش — في العمل إلى سن الخامسة والستين (مقابل مكافأة تمثِّل الفرق بين آخر مرتب له وبين معاشه)، وحتى بعد سن الخامسة والستين يُجدَّد له التصريح بالعمل بالقسم كل عامين بقرارٍ من رئيس الجامعة بناء على اقتراح مجلس القسم ومجلس الكلية … وهؤلاء الأساتذة المتفرغون لهم كل حقوق الأستاذ العادي وواجباته باستثناء المناصب الإدارية؛ فكان من حقهم الاشتراك في اجتماعات مجلس القسم والتصويت فيه، والاشتراك في اجتماع مجلس الكلية وانتخاب العميد (قبل صدور التعديل الأخير)، وهذا الوضع قد أدى إلى نشأة حالة من التوتر، في بعض الكليات والجامعات، بين هذا الجيل القديم من الأساتذة المتفرغين وبين الشباب من الأساتذة والأساتذة المساعدين، ومن المؤكد أن بعض الأساتذة المتفرغين يمثِّلون كفاءة علمية يجدر بالجامعات الاستفادة منها، لكن البعض الآخر منهم لا يمثِّلون أي كفاءة علمية، ويحسن أن تتخلص منهم الجامعات عند بلوغهم سن الخامسة والستين، وإلى حدٍّ ما فإن التوتر المكتوم أحيانًا، والمعلَن أحيانًا أخرى، هو رد فعل طبيعي لصراع الأجيال، ولقد جاء التعديل الأخير في قانون الجامعات فزاد الطين بلة؛ إذ جعل من حق الأساتذة المتفرغين البقاء في عملهم حتى الوفاة، أو إلى أن يقرروا باختيارهم أن أحوالهم الصحية لم تعُد تسمح لهم بالعمل، إن هذا التعديل مقصود به كسب الأساتذة المتفرغين إلى جانب التعديلات الأخرى التي مرَّت — مثل تعيين العميد — لكنه في رأيي ذو تأثير سلبي على الأوضاع الجامعية.

ولو بدأنا في جامعة واحدة مثل جامعة القاهرة وأنشأنا كلية للدراسات العليا تضم الأساتذة المعروفين من الناحية العلمية بأبحاثهم المنشورة في الخارج والداخل، وضممنا إلى هؤلاء الأساتذة المتفرغين المشهود لهم علميًّا (مقابل مكافأة مجزية)، وحرَّمنا على هؤلاء وهؤلاء الاشتغال بأي عمل خارج الكلية، وتركنا مهمة التدريس لما قبل الليسانس والبكالوريوس للأساتذة الآخرين في الجامعة، فربما نكون قد بدأنا خطوة صحيحة في الاتجاه السليم وطنيًّا.

ومن المؤكد أن مثل هذه الكلية الجديدة في حاجة إلى تمويل ضخم، من مبانٍ ومعامل ومكتبات حديثة بها كل الدوريات العلمية المنشورة دوليًّا، والأجهزة البحثية المساعدة مثل الحاسب الآلي … إلخ. إن حالة المكتبات في جامعاتنا تبعث على الحزن، ولو سألت في إحدى مكتباتنا في جامعة القاهرة أو عين شمس عن أي دورية علمية بريطانية أو أمريكية فربما لا تجدها، وإذا وجدت بها أعدادًا حديثة، فلن تجد أعدادًا قديمة، أو العكس، ربما تجد بعض الأعداد القديمة، ولا تجد أعداد السنوات الحديثة لانقطاع وصولها بسبب عدم تسديد الاشتراك!

وعلى مثل هذه الكلية للدراسات العليا أن تعمِّق اتصالها بالصناعة الوطنية لتساهم في حل مشاكلها، وأن تعمِّق اتصالها بالقطاعات الخدمية الأخرى؛ فتكون مكانًا لبحوثٍ عن التعليم، عن المشاكل الاجتماعية، كالبطالة والمرأة والأسرة … إلخ، وبمعنًى آخر يمكن أن تتحوَّل هذه الكلية، إذا توافرت لها الإمكانيات والقيادات الجادة المخلصة، بالتدريج لتكون بمثابة Think-Tank للعمل الوطني ومستقبله في مصر.

لكن إنجاح مثل هذا المشروع مرتبط في رأيي بتوافر شروط عدة، منها عدم التقتير في الإنفاق على مثل هذا المشروع، والتدقيق في اختيار القيادات والأساتذة الباحثين.

لماذا إذن لا نبدأ في جامعة واحدة، ومن خبرة هذا المشروع يمكن أن نستفيد في المستقبل من نقل هذه الفكرة إلى جامعات أخرى؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥