الفساد في الجامعات المصرية
رغم حُسن نية أعضاء مجلس الشعب الذين أثاروا قضية دخول مئات الطلاب كليتَي الطب بالقاهرة والمنصورة دون وجه حقٍّ، وبشهاداتٍ مزورة من جامعات أجنبية بالدول الاشتراكية (سابقًا)، فإنني غير مقتنع بجدية المسئولين عن التعليم في معالجة هذه القضية بالحسم المطلوب؛ فليس من السهل على عاقل أن يتصور أن وزير التعليم العالي (السابق على الأقل) لم يكن على علمٍ بحدوث مثل هذه التحويلات مقابل التبرعات المالية، ولا من السهل على عاقل أن يتصور أن عمداء الطب يتصرفون في مثل هذه الأمور دون علم رئيس الجامعة وموافقته، ولعلهم جميعًا كانوا يأملون — لا أدري كيف — أن يمر الموضوع في هدوء وتكتُّم، دون أن يصل إلى أسماع الناس والصحافة.
وبالطبع فإن هذا القفز فوق أسوار كليات الطب على طريقة اللصوص، سواء في مرحلة البكالوريوس أو مرحلة الدراسات العليا، قد افتضح أمره، ووصل إلى حد الفضيحة القومية؛ فحاول وزير التعليم أن يبرئ ساحته بالقول بأنه لم يكن يعلم، وأنه على أية حال حديث في منصبه؛ مما يعني ضمنًا أن المسئول هو سلفه رئيس مجلس الشعب الحالي الدكتور فتحي سرور، وحاول أمين المجلس الأعلى للجامعات التنصُّل أيضًا من المسئولية بالقول بأن هذا ليس من اختصاصه، واليوم تفيدنا الصحف أن ثمة معركة في دوائر التعليم العالي والجامعات بين معسكرَين؛ أحدهما يريد استبعاد قيد هؤلاء الطلاب، والآخر يرى أن لهم حقوقًا مكتسَبة ما داموا قد جلسوا في مقاعد الدراسة ودفعوا المعلوم، حتى ولو كان هذا تم على طريقة عصابات شيكاغو.
والمعركة لم تُحسَم بعد، وعلى مجلس الدولة أن يدلي بدلوه، وأمين المجلس الأعلى للجامعات يعلن أنه من الصعب أن يعرف عددَ من تسللوا إلى الجامعات دون وجه حق، ومجلس الدراسات العليا والبحوث بجامعة القاهرة يجتمع ويرفض «استمرار قيد الطلاب الذين قُبلوا بدرجة الماجستير في كلية طب قصر العيني، بينما هم حاصلون على البكالوريوس بتقدير مقبول» وهو الأمر المخالف للوائح والقوانين الجامعية، وليلاحظ القارئ تعبير «يرفض استمرار قيد الطلاب» الذي ورد في قرار المجلس لأن معناه أن هؤلاء الطلاب كانوا قد سُجلوا بمعرفة المجالس المختصة، فلما افتضح الموضوع سارع مجلس الدراسات العليا إلى سحب موافقته!
ومما يزيد الطين بلة أن الموضوع بأكمله قد أُحيل إلى لجنة التعليم في مجلس الشعب، وهي اللجنة التي يرأسها النائب د. طلبة عويضة رئيس جامعة الزقازيق السابق، وهو الذي كان معروفًا طول رئاسته للجامعة بأنه ملك الاستثناءات غير القانونية، حتى إن صحيفة الشعب كتبت في عددها الصادر بتاريخ ٧ مايو الماضي، تحت عنوان «باب النجار مخلع» تعليقًا على هذه المسألة، قالت فيه إن طلبة عويضة هو أحد أبطال هذه المهزلة؛ ففي عهده تم تحويل اثنين من أبناء كبار الصحفيين من جامعة الخرطوم إلى جامعة الزقازيق أيام رئاسته لها، ومنها انتقلا إلى طب قصر العيني، وفي عهده أيضًا تم تحويل أوراق ابن أحد أمناء الحزب الوطني في أسيوط ورئيس جامعة إقليمية ليدخل طب أسنان الزقازيق، قادمًا من رومانيا!
والحقيقة التي لا مفرَّ من ذِكرها هي أن الفساد الذي تفشَّى في جامعات مصر في مسألة القبول هو أولًا ثمرة سياسة الانفتاح التي اتَّبعتها الدولة منذ عهد السادات، وكثير من رؤساء الجامعات الذين تقلَّدوا هذه المناصب في مناخ الانفتاح قد أثبتوا أنهم لم يكونوا جديرين أصلًا أن يكونوا أساتذة في الجامعة، ومن الطبيعي أن يشك المرء في أنهم قد اختيروا من جانب السلطات الأعلى، وفي الذهن أنهم أصحاب «صفات خاصة» تسهل التفاهم معهم!
هناك مثلًا قصة رئيس جامعة المنصورة السابق وأمين الحزب الوطني، الذي حُوِّل مع أمين عام الجامعة، وثلاثة من أساتذة الهندسة إلى القضاء بتهمة الرشوة، وهناك قصة رئيس جامعة الإسكندرية السابق المتهم صراحةً بالتلاعب في نتائج الامتحانات، وفي تعيين المعيدين، ولقد قامت لجنة من المجلس الأعلى للجامعات بالتحقيق في هذه الاتهامات فوجدت بعضها صحيحًا، ولم تجد السجلات المتعلقة ببعضها الآخر! وهناك قصة رئيس جامعة القاهرة السابق الذي كان معروفًا منذ الستينيات أنه يعطي الدروس الخصوصية للطلاب مقابل السيارات والعملة الصعبة، وهناك قصة رئيس جامعة إقليمية سابق كان يعمل لحساب أجهزة الأمن، واتُّهم أمام المحاكم من بعض الأساتذة بسرقة مادة كتبهم في مؤلفاته!
وهكذا يمكن أن أعطي عشرات الأمثلة والتفاصيل التي تثبت صِلتهم الوثيقة بقضايا الفساد المالي والإداري والأكاديمي، وبالتالي بواعث اختيارهم في ذلك المنصب منذ عهد السادات، ولا يعني هذا أننا نسقط هذه الاتهامات على رؤساء الجامعات الحاليين؛ وإنما مغزى ما نقول هو أن مناخًا قد تحقق في الجامعات وفي أوساطها الإدارية، بفضل سياسة الانفتاح، وأن هذا المناخ هو المسئول الأول عن هذا الذي يحدث في الجامعات، نقول هذا لتوضيح أنه حتى لو تم استبعاد كل هؤلاء الذين قفزوا — بالزور والبهتان — فوق أسوار كليات الطب — وأنا شخصيًّا أشك في حدوث هذا بالنسبة للجميع — فإن من المرجح أننا سوف نسمع بعد قليل عن قضايا فساد أخرى في جامعات مصر في مجالات أخرى غير القبول، بل وفي قضية القبول قد نسمع عن مخالفات جديدة بعد شهور أو سنوات قليلة.
ولا شك أنه مما يساعد على وضع حدٍّ لتلك المهزلة وأمثالها في جامعات مصر تنفيذ اقتراح بسيط سبق أن تقدَّم به الكثيرون، ألَا وهو أن يكون رئيس الجامعة منتخَبًا — بصورة من الصور — من الأساتذة، وليس معيَّنًا بقرارٍ جمهوري كما هو الحال اليوم. إن اللجوء إلى هذا الحل الديمقراطي سوف يدفع — على الأرجح — بأفضل الأساتذة، وأكثرهم استقامة واستقلالية إلى المناصب الإدارية العليا بالجامعة، وسوف يمنح رؤساء الجامعات شعورًا بالالتزام إزاء هؤلاء الذين انتخبوهم، ويحمي ظهورهم عندما يقولون لا لمن هم فوقهم. والحقيقة أنه ليس من المنطقي أن يتم تعيين العمداء بالانتخاب، ولا يكون هذا هو حال رئيس الجامعة؛ فالمطلوب بصراحة أن يكون رئيس الجامعة ممثِّلًا لمصالح الطلاب والأساتذة، وليس ممثِّلًا لمصالح أجهزة الأمن في الدولة!
هذه النقطة الأولى إذن؛ مسألة مناخ الانفتاح وإفرازاته السلبية — فسادًا واستهتارًا — على الجامعة المصرية.
وكانت البداية عام ١٩٧٤م عندما كان جمال السادات طالبًا في الثانوية العامة، وكان المطلوب إدخاله كلية الهندسة بأي ثمن، وكان نجلا عبد القادر حاتم (رئيس الوزراء آنذاك) والمرحوم د. حافظ غانم مع جمال السادات في نفس الفصل والسنة بمدرسة بورسعيد بالزمالك.
وقد بدأت أولى المحاولات في يناير أو فبراير سنة ١٩٧٤م لتخفيض مناهج الثانوية العامة — خصوصًا مناهج الرياضيات والعلوم — إكراما لعيون ابن السادات، وأتذكر أنني دُعيت إلى اجتماع عاجل آنذاك في مكتب وزير التأمينات، المرحوم د. حسن الشريف، بشارع الألفي، وكان غريبًا عندي أن يكون وزير التأمينات هو الداعي إلى اجتماع خاص بمناهج الثانوية العامة، وعندما ذهبت وجدتُ عددًا آخر من أساتذة الجامعات والمتخصصين في المواد المختلفة بوزارة التربية والتعليم، ثم ثلاثة وزراء؛ هم وزراء الإسكان والتعليم العالي والتأمينات، وكان هناك من الجامعات د. صبحي عبد الحكيم ممثلًا لمادة الجغرافيا، وشقيقي المرحوم د. محمد أنيس ممثلًا لمادة التاريخ، وآخرون كثيرون لا أذكرهم الآن، ومع أن الاجتماع اتخذ صورة تقليص مناهج الثانوية العامة بشكل عام، إلا أن الهدف الحقيقي كان هو منهج الرياضيات. وحول هذا الموضوع دار معظم النقاش في الاجتماع، ولقد طُلب مني صراحةً الموافقة على حذف مقرر التفاضل والتكامل، ومقرر الاحتمال من المنهج، وهو ما رفضته بشدة، كما رفضه مستشار الوزارة في الرياضيات، وذلك على أسس موضوعية، وفي مقارنة لمناهجنا بمناهج الأقطار العربية الأخرى.
فلما فشلت تلك المحاولة بدأت في مارس سنة ١٩٧٤م محاولةً أخرى لدعوتي إلى منزل السادات — وكنت واحدًا من واضعي امتحان الثانوية العامة في الرياضيات — لمساعدة ابنه جمال، وقد رفضت أيضًا، وأشرت إلى تفاصيل هذه المحاولة في مقال قديم لي بصحيفة «الأهالي».
صحيح أن جامعاتنا كانت تقبل من قبل حاصلين على تلك الشهادة، لكن هذا كان مقصورًا فقط على أبناء العاملين في سفاراتنا بالخارج، أو من هم في حكمهم، وكان القبول مشروطًا بدخول امتحانات تكميلية لضمان أن يكونوا قدر الإمكان في مستوى الطلاب المصريين، وكان عدد هؤلاء محدودًا جدًّا في كل عام.
لكن هذا الباب — منذ أن تسلل منه جمال السادات — قد اتسع ليسمح لمئاتٍ ثم الآلاف بعد ذلك من الطلاب الذين لم يحصلوا إلا على شهادة الإعدادية بدخول الجامعة؛ فما دمت تملك المال، وتستطيع أن تشتري الكتب الإنجليزية، وتستأجر المدرسين لإعداد ابنك أو بنتك لهذا الامتحان خلال سنة واحدة بعد الإعدادية، فقد ضربت عصفورَين بحجر؛ أولهما الحصول على مجموع عالٍ دون المرور على مناهج الرياضيات والفيزياء المصرية، وبالتالي دخول الجامعة من الباب الأسهل، الثاني هو توفير سنة أو أكثر في العمر الدراسي لأولادك، بالقفز من الإعدادية إلى الجامعة في سنة أو أكثر، دون المرور على المرحلة الثانوية!
لقد استطردت في ذِكر الكثير من التفاصيل هنا لهدف توضيح حقيقتَين: الأولى هي أن التحايل لدخول الجامعات عن طريق التحويل الوهمي من جامعات رومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا … إلخ ليس أول تحايل، وأن باب التحايل مفتوح منذ عام ١٩٧٤م لدخول الجامعة (الطب والهندسة والحقوق) عن طريق الشهادة إياها، والحقيقة الثانية هي أن باب التحايل فُتِح عام ١٩٧٤م للسماح لجمال السادات بدخول كلية الهندسة دون وجه حق على الإطلاق، وقد يدهش القارئ عندما يعلم أنه قد قُبِل — في تنسيق المجلس الأعلى للجامعات — بكلية الطب؛ لأن امتحان الرياضيات لا يسمح له بدخول الهندسة إلا بامتحان تكميلي، وبعد أسابيع من بدء الدراسة جرى تحويله من كلية الطب إلى كلية الهندسة.
والأمر الأخير الذي يلفت النظر حول هذه الضجة المثارة عن فساد سياسات القبول بالجامعات هو اقترانها بحملة أخرى — في صحيفة الأهرام بالذات — على أساتذة الجامعات باعتبارهم لصوص أبحاث وكتب ومعلمي دروس خصوصية مقابل العملة الصعبة … إلخ.
ومن المؤكد أن هناك فئة من أساتذة الجامعات طالها الفساد منذ زمن طويل، وهي تستحق البتر من الجامعة، لكن هذه الفئة من الأساتذة كانت، في الغالب الأرجح، هي الفئة المحظوظة بالمناصب والعلاقات الممتازة مع رجالات الدولة، ولقد أشرنا من قبل إلى رئيس جامعة القاهرة السابق الذي كان معروفًا أنه يعطي الدروس الخصوصية بالدولار والإسترليني، كما كان معروفًا بأنه محل رضاء سيدة مصر الأولى؛ ولهذا أصبح رئيسًا للجامعة، والأستاذ الذي اتهمته دار نشر أمريكية بأن كتابه في علم الإحصاء مسروق من كتاب أمريكي لم يتخذ ضده أي إجراء، ولو من باب التأكد إن كان الاتهام صحيحًا أم لا، وذلك لسببٍ بسيط هو أن هذا الأستاذ كان وزيرًا للتعليم العالي عند نشر خطاب الاتهام في إحدى صحف المعارضة.
كما نشرت صحيفة الأهرام صورة مما كتبته مجلة أمريكية تتهم فيه أستاذ رياضيات مصريًّا — بجامعة حلوان — بسرقة أبحاث غيره حرفيًّا، ونشرها باسمه في مجلات أخرى، وهذا الاتهام معروف في أوساط الجامعات المصرية منذ سنوات، ومع ذلك لم يُتخَذ أي إجراء ضد هذا الأستاذ، ومن قبل امتلأت الصحف المعارضة منذ سنواتٍ بقصة عميد كلية الآداب بجامعة عين شمس، الذي سرق ترجمة الشيخ النجار لكتاب أجنبي، ونشره باسمه مع تعديلات بسيطة، وحصل على جائزة من «آل بصير» في السعودية كمكافأة له على ترجمة الكتاب؛ مما أدى بورثة الشيخ النجار لرفع قضية ضد هذا العميد، وصدر حكم المحكمة لصالحهم، ولم يثر كل هذا إلا استقالته من العمادة مع بقائه في منصبه كرئيس للقسم!
خُلاصة الأمر أن هناك أقلية غير صغيرة من هيئات التدريس المصريين بالجامعات قد طالها هذا الفساد الذي طال شرائح المجتمع كله، وامتد هذا الفساد إلى عمل لجان الترقيات، وإلى رسائل الماجستير والدكتوراه التي صارت تُمنَح لمن هب ودب، لكن هذا كله موجود منذ سنوات طويلة — وبالتحديد منتصف السبعينيات — وقد بحَّت أصواتنا وأصوات الآخرين من كثرة الحديث عن هذه الكوارث التي ألمَّت بالجامعة والفساد الذي طالها، ولكن لم يحدث شيء، ولم يُتخذ أي إجراء ضد هذه الأقلية، بل على العكس؛ فإن هذه الأقلية الفاسدة كانت — في الغالب الأرجح — هي المحظوظة بالمناصب الإدارية العليا في الجامعات؛ فلماذا حملة الهجوم على أساتذة الجامعة في صحف الحكومة الآن؟ هذا هو السؤال.
في عدد مجلة الهلال، الذي صدر في أول مايو الماضي، كتب د. رشدي سعيد — عالِم الجيولوجيا المصري الذي يعيش في أمريكا اليوم — مقالًا بعنوان «نصف قرن في محراب العلم» تحدث فيه بمرارة عن هزيمة جلية أمام الصعاب التي وُضعَت له ولأمثاله داخل الجامعة وفي وزارة الصناعة، وعن الفساد الذي واجهه في الموقعَين، وانتهى بانسحابه أمامه. والدكتور رشدي سعيد عالِم جليل تعرف الهيئات العلمية الدولية مكانته، وتقدِّر عِلمه، ولعل كتابه «جيولوجيا مصر» الذي نُشر باللغات المختلفة شاهدٌ واضح على ذلك، لكن الموقع الذي انتهى إليه خارج البلاد — والمرارة التي يتحدث بها — يوضح كيف أن هذا هو مصير العديدين من الأكاديميين المصريين الممتازين، الذين فاقت العقبات المُقامة في وجوههم قدراتهم على النضال والثبات في المواقع.
وقد يكون من الصعب أن نتحدث عن هزيمة جيل، لكن من المؤكد أن أحوال جامعاتنا الطاردة لكل ما هو عظيم ونبيل في حياتنا الأكاديمية سوف تؤدي إلى توجيه الضربة تلو الأخرى إلى هذه الجامعات، وأن الحل الحقيقي يبدأ أولًا بإصلاح النظام السياسي في مصر، لكن تلك قصة أخرى.