التعليم الفني وقضية التكنولوجيا
لا ينبغي أن يُفهَم من مقالي عن القبول في الجامعات أنني ضد التعليم الفني، أو ضد التوسُّع فيه في إطار البناء الحالي للهيكل التعليمي، وإن كان لي رأي خاص بالمستقبل في ضرورة السعي للجمع بين تعلُّم الحِرف والتعليم النظري في مدرسة ثانوية واحدة، هي المعروفة عالميًّا اليوم باسم المدرسة الشاملة، ولدينا منها في مصر مدرستان فيما يقال، إن هذا هو التوجُّه الديمقراطي للتعليم الثانوي.
ولكن ما أنا ضده بشكلٍ محددٍ هو الأشياء الثلاثة التالية:
-
أن يكون للتعليم الفني صِيغته الطبقية المغلَقة، بمعنى أن يكون التعليم الفني هو قدَر أبناء الطبقات الشعبية وحدها من العُمال وفقراء الفلاحين، وأن يكون التعليم النظري الموصِّل إلى الجامعة هو نصيب أبناء الطبقة الوسطى وطبقات الأثرياء، ليس فقط لأن معنى هذا أن مبدأ تكافؤ الفرص يتحوَّل إلى خرافة، وإنما أيضًا لأن اتساع قاعدة التعليم الفني اجتماعيًّا، وتحوُّله إلى تعليمٍ عابر للطبقات، هو أحد الشروط الضرورية لاستزراع تكنولوجيا متقدمة في المجتمع، والإبداع الذاتي فيها، وذلك كما تثبت الدراسات الجادة التي أُجريَت في جامعة الأمم المتحدة من تجربة اليابان التاريخية في هذا الميدان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
-
أن يكون هناك وهمٌ لدى المسئولين أو الشعب حول الوضع الحالي لما يُسمَّى بالتعليم الفني في مصر؛ فواقع الحال — كما سوف أشرح فيما بعد — أن أحوال التعليم الفني في مصر سيئة، وأن التوسُّع العددي في ظل الأوضاع الحالية لن يؤدي لا إلى ازدهار التعليم الفني، ولا إلى تقدُّمٍ في حل قضية التكنولوجيا المتقدمة في مصر، ولن يؤدي إلا إلى تخرُّج شباب صلتهم بالصناعة هي صلة الأمي بالكتاب، ومن المهم هنا أن نزيل الوهم لدى البعض من الذين يتصورون أن التعليم الفني — حتى في ظروفه السيئة الحالية — أقل تكلفة من التعليم العام.
فوَفق دراسات الوزارة، وتقرير اللجنة المصرية الأمريكية في سنة ۱۹۷۹م؛ فإن طالب التعليم الثانوي العام يكلِّف الوزارة سنويًّا في المتوسط ١٠١ جنيه، بينما يكلِّف طالب التعليم الزراعي الوزارة ١٥٦ جنيهًا، وطالب التعليم الصناعي ۱۲۲ جنيهًا، ولقد قدَّرت الوزارة عام ۱۹۷۹م أنها في حاجة إلى ۲۰۰ مليون جنيه (تقرير تطوير وتحديث التعليم) لتطوير التعليم الفني بالأسعار القائمة، وهو ما يصل إلى نحو ٣٥٠ مليون جنيه بأسعار اليوم.
-
أن يكون هناك وَهمٌ لدى المسئولين والرأي العام أن التوسُّع في التعليم الفني وحده سوف يحل قضية استزراع التكنولوجيا في جسد المجتمع المصري؛ بحيث تصبح جزءًا لا يتجزَّأ من الجسد الحي لهذا المجتمع، وبحيث تتحوَّل إلى إبداعٍ وطني؛ فالحقيقة أن هناك شروطًا عديدة، اجتماعية وسياسية واقتصادية، لحدوث هذا، وعلى وجه الخصوص علينا أن نؤكد هنا أن الانفتاح وسياسة الإبداع التكنولوجي هما نقيضان لا يجتمعان.
فنبدأ إذن بقضية الصفة الطبقية المغلَقة للتعليم الفني في مصر. لقد ورثنا في حقيقة الأمر هذا الازدواج في التعليم الثانوي بين التعليم العام والتعليم الفني من أنظمة التعليم الأوروبية، وخصوصًا من التعليم الإنجليزي، حيث مدرسة «الأجرومية» التي تؤهل للجامعة، والمدرسة الثانوية الفنية التي لا تؤهل لذلك، هذا طبعًا مع استبعاد قضية المدارس العامة، وهي المدارس الأرستقراطية وأبناء الطبقة الحاكمة، وقد أدَّى هذا إلى ازدواجٍ اجتماعي وطبقي سريع، ولكن مع تقدُّم الوعي بأهمية مقرطة التعليم اتجه حزب العمال البريطاني إبان فترات حكمه الأخيرة إلى توحيد التعليم الثانوي تدريجيًّا، فيما سُمِّي بالمدرسة الشاملة، وهي مدرسة تجمع بين التعليم النظري وتعليم الحِرف، وهي مدارس يُفترَض أنها تجمع بين أبناء الشعب كله من جميع طبقاته، ومن لم يستطع أن يؤهِّل نفسه لتحقيق شروط الجامعة يكون مستعدًّا للانضمام إلى قوة العمال البريطانية، ولقد أدَّى هذا الإصلاح في نظام التعليم إلى صراعٍ اجتماعي واضح المعالِم بين حزب العمال وبين حزب المحافظين المتمسِّك بالإبقاء على مدرسة الأجرومية. وليس بالصدفة أن يحدث هذا؛ فالحقيقة أن ميدان التعليم وسياساته هو موضوع صراع اجتماعي واضح المعالم متى توفَّر الوعي بحقيقة الأوضاع، وفي مصر عندما تنتهي المرحلة الإعدادية تواجِه الوزارة مشكلة توزيع الطلبة والطالبات بين التعليم الثانوي العام، وبين التعليم الثانوي الفني، وتلجأ إلى إلحاق التلاميذ من المجاميع الدنيا في امتحان الإعدادية (وهم قطعًا أبناء الفقراء) بالتعليم الثانوي الفني، مع أن احتياجات التعليم الفني الحقيقية، وشروط ازدهاره، تقتضي نوعية من التلاميذ يكون لهم تفوق في العلوم والرياضيات على وجه الخصوص.
وغني عن البيان — كما يعترف تقرير اللجنة المصرية الأمريكية (ص١٢٥) — أن التوزيع الحالي بين نوعَي التعليم لا يعكس لا رغبات التلاميذ وأولياء أمورهم من ناحية، ولا الاحتياجات المستقبلية للتخصصات المختلفة في المجتمع المصري من ناحية أخرى، فالرغبات الأولى تتجه بشكلٍ دائم إلى التعليم الثانوي العام، وتشكو الوزارة في تقرير التحديث من سيادة تيار احتقار العمل اليدوي كقيمة اجتماعية بين التلاميذ وأولياء أمورهم، ونتساءل: كيف يمكن حل هذه المسألة؟ وإجابتنا على ذلك:
ألَا يمكن أن تكون المدرسة الشاملة هي أحد الحلول، بالإضافة إلى إجراءاتٍ أخرى مثل تعديل هيكل الأجور لصالح التعليم الفني.
ومن المهم على وجه الخصوص أن ننتبه إلى خطورة التقسيم الطبقي الحالي للتعليم الثانوي على قضية السيطرة على التكنولوجيا والإبداع فيها، وهي ضرورة أساسية لانفتاح آفاق التقدُّم أمام المجتمع المصري، لقد أجرت جامعة الأمم المتحدة دراسة حول هذا الموضوع من خلال دراسة تجربة اليابان، واشترك في هذه الدراسة ١١٤ باحثًا، ونُشِر في مجلة الجامعة (عدد يونيو سنة ١٩٨٤م) ملخص للتقرير النهائي تحت عنوان «دور العمالة في نشر التكنولوجيا».
وهذا التقرير يؤكد أن المشاركة النشيطة لكل الشرائح الاجتماعية ذات أهمية قصوى في تطوير تكنولوجيا الأمة، كما يؤكد التقرير أن المصادر المحلية في المهارات والمعرفة المتراكمة لدى الشعب يمكن أن تُستغَل لخدمة عملية التطوير اسغلالًا كاملًا فقط عن طريق مهندسين وفنيين وطنيين لا أجانب، وأن جذور التكنولوجيا في المجتمع تصبح أقوى بكثيرٍ إذا استخدمت اللغة الوطنية كوسيطٍ للتعليم الفني في المرحلة العادية ومرحلة التعليم المتقدم، ويضرب التقرير مثالًا على ذلك من اليابان حيث تطوع العلماء اليابانيون بأعدادٍ كبيرة بتدريب الأسطوات — قبل المهندسين — على التكنولوجيا الجديدة. إن أول مدرسة ذات برامج متكاملة لتدريب الأسطوات كانت مدرسة تدريب عمال طوكيو، التي أُنشئَت عام ۱۸۸۱م، وتحوَّلت بعد خمسين سنة إلى معهد طوكيو للتكنولوجيا، ولقد لعبت هذه المدرسة دورًا أساسيًّا في إيجاد تطبيقاتٍ أوسع للتكنولوجيا، وفي تحسينها، ومن المهم أن نتذكر أن أفضل خريجي هذه المدرسة قد أصبحوا مدرسين في مدارس أنشئت على نفس الطراز بطول اليابان وعرضها.
إن البيانات التي لدينا مُستقاة كلها من تقرير ورقة عملٍ لتحديث التعلم، ومن تقرير اللجنة المصرية الأمريكية، وواضح من التقرير أن ما يُسمَّى بالتعليم الفني هو بالدرجة الأولى تعليم تجاري؛ فالأرقام تقول إن نسبة المقيَّدين في عام ۱۹۷۹م بالتعليم التجاري تمثِّل ٦٣٪ من إجمالي طلبة التعليم الفني، ونسبة المقيَّدين بالتعليم الزراعي هي ١٠٪، والتعليم الصناعي ٢٧٪ من مجموع المقيدين. وإذا كان ما يشغلنا هو قضية زيادة الإنتاج السلعي وتطوير التكنولوجيا الخاصة به، فمن الواضح أن ما يقرب من ثلثَي تلاميذ التعليم الفني يتدربون على مسك الدفاتر والنسخ على الآلة الكاتبة … إلخ، وهم بالتالي خارج نطاق التعليم الفني الحقيقي في نطاق الصناعة والزراعة.
إن التركيز على التعليم التجاري مفهوم باعتباره التعليم الأرخص؛ لأن التلميذ في التعليم التجاري يكلف الوزارة ٣٧ جنيهًا في المتوسط سنويًّا، بينما التعليم الزراعي ١٥٦ جنيهًا، والصناعي ۱۲۲ جنيهًا، كما أسلفنا. من الملحوظ أيضًا أن غالبية تلاميذ التعليم التجاري هم فتيات، وبالطبع يعكس توجُّه الوزارة في هذا الميدان التحيُّز المعادي للمرأة، والذي يقوم على قاعدة توجيه الفتيات نحو تخصصات أقرب إلى طبيعتهن.
إذا انتقلنا إلى التعليم الثانوي الصناعي والزراعي، فسوف نجد أن عددًا من التخصصات الحديثة غير موجودة على الإطلاق، أو موجودة في مدارس قليلة، مثل البتروكيمياويات وصناعة السفن والجرارات والآلات الزراعية والهندسية الصحية … إلخ، ليس هذا فحسب بل إن مستوى المدرسين في هذه المدارس ضعيف، ومعظمهم من خريجي الجامعات بلا خبرة عملية، كما يعترف تقرير اللجنة المصرية الأمريكية.
ومعنى هذا أن النهوض بالتعليم الصناعي والزراعي في حاجة إلى معالجة جديدة لمشكلة هيئات التدريس، وإلى ربطٍ وثيقٍ بين هذا النوع من التعليم وبين المصنع أو الحقل، وإلى توجُّه معاكس في اتجاه توسيع التعليم الصناعي والزراعي على حساب التعليم التجاري، وزيادة نسبة الفتيات في التعليم الصناعي والزراعي على وجه الخصوص، كما أننا في حاجة إلى معرفة جادة — حتى ولو كانت تقريبية — باحتياجاتنا من التخصصات المختلفة.
والحقيقة أنه لا توجد توقعاتٌ يُعوَّل عليها لاحتياجاتنا من التخصصات المختلفة في السنوات العشر القادمة، وما تم من دراساتٍ في الماضي، سواء من جانب الوزارة أو هيئة المعونة الأمريكية أو وزارة العمل، ليس إلا عملًا جزئيًّا لا يُوثَق به، بينما المطلوب بشكلٍ جاد إعداد التخصصات المتوقع طلبها حسب قطاعات الاقتصاد الوطني. ويدرك الإنسان بطبيعة الحال صعوبة هذا العمل الفني؛ لأننا من ناحية لا نملك سلسلة من مؤشرات الماضي لعددٍ كافٍ من السنوات تسمح بعمل إسقاطات للمستقبل يُوثَق بها، ومن ناحية أخرى لا نملك خطة اقتصادية اجتماعية واضحة المَعالم بحيث تسمح بعمل تقدير لاحتياجاتنا المختلفة في السنوات المقبلة.
وما أريد أن أستخلصه إذن من هذا العرض هو توضيح أن حالة التعليم الفني سيئة، وأنه في الغالب الأعم تعليمٌ تجاري، وأن التعليم الصناعي والزراعي الذي ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل يعاني من نقص الاعتمادات وسوء المباني ونقص التخصصات الحديثة والتجهيزات وقلة المدرسين ذوي الخبرة العملية الحقيقية وسوء توزيعٍ لمصلحة الذكور ضد الإناث، وإن أخشى ما أخشاه أن يعني توسُّع التعليم الفني قبول مزيدٍ من التلاميذ في المدارس التجارية التي لم يعُد المجتمع في حاجة إلى كثيرٍ من خريجيها.
تبقى القضية الأخيرة، أعني أن بعض المسئولين يتوهَّمون أن التعليم الفني وحده كافٍ لحل مشكلة السيطرة على التكنولوجيا والإبداع الوطني فيها، غير مدركين أن الانفتاح والإبداع الوطني في التكنولوجيا نقيضان لا يجتمعان.
لقد أوضحت تجربة اليابان في هذا الميدان أن الإبداع الوطني الياباني في التكنولوجيا نشأ بالذات من خلال المشروع الوطني الذي قادته حكومة الميجي لمواجهة التهديد الغربي لليابان بالغزو، وأمكن تعبئة كل الطاقات الوطنية في هذا الميدان بفضل أشياء عديدة، في مقدمتها التقاليد اليابانية، والعقيدة التي كانت موجودة آنذاك في قدسية العرش الإمبراطوري سليل الشمس، كما تم هذا بفضل وجود طبقة جديدة استولت على السلطة من الإقطاعيين عام ١٨٦٨م.
وليس بالصدفة أن أول ما اهتمت به جهود التكنولوجيا الجديدة آنذاك هو معرفة كيفية صب ماسورة مدفع صلب، على طراز المدافع الهولندية، استعدادًا لتحصين السواحل، وبناء قوة بحرية ضاربة حديثة في مواجهة تهديدات الغزو من جانب الغرب.
وتثبِت تجربة أوروبا في القرن الثامن عشر، وتجربة اليابان في القرن التاسع عشر، أن من أهم شروط الإبداع التكنولوجي وجود طبقة اجتماعية قائدة ذات مصلحة في معرفة التكنولوجيا وتطويعها والإبداع فيها، أما في مجتمعات الانفتاح؛ حيث يسود تجار الاستيراد ووكلاء الشركات الأجنبية وتجار العملة ومقاولو الباطن، فأين هي مصلحة هؤلاء في الإبداع التكنولوجي؟ أليس استيراد التكنولوجيا الغربية كما هي هو المصلحة الحقيقية لهم، ثم ماذا يهم هؤلاء إذا كنا ندور في الدائرة الجهنمية المفرغة؛ دائرة الاقتراض الخارجي الذي ترتفع أرقامه أبدًا، وأرقام خدمته أيضًا، وماذا يهمهم إذا قلنا لهم إن تقرير البنك الدولي الصادر في ٥ أكتوبر سنة ۱۹۸۳م عن موقف مصر الاقتصادي يقول إن جملة ديوننا الخارجية قد بلغت ۳۰٫۸ بليون دولار؟
فليذهب استقلال الوطن إلى الجحيم، وليذهب الإبداع التكنولوجي الذاتي أيضًا إلى الجحيم، ما دامت أرباح هؤلاء السادة على القمة مضمونة ومودعة في معظمها بالخارج.