الجامعة الأهلية … عود على بدء

عادت من جديدٍ الأصوات العالية الداعية إلى إنشاء الجامعة الأهلية، وتصدَّى لقيادة هذه الدعوة الأستاذ مصطفى أمين ووزير الإسكان حسب الله الكفراوي، وكتب الأستاذ زكريا نبيل في صحيفة الأهرام يبارك هذه الدعوة، ويذكِّر القراء بأن تلك الدعوة بدأت أيام الرئيس السادات، لكنَّ «الماركسيين والناصريين» في رأيه تولَّوا القضاء على هذه الدعوة بحُجة أنها منافية لمبدأ تكافؤ الفرص.

والحق أنه لا الماركسيون ولا الناصريون كان لهم — إبان حكم السادات — هذا النفوذ الذي يمكِّنهم من القضاء على هذه الدعوة لو لم يجد موقفهم تأييدًا واسعًا من جانب الرأي العام المصري من ناحية، ولو لم تكن أجهزة السادات الإدارية أعجز من أن توفر لمثل هذه الجامعة الخاصة فرص النجاح من ناحية أخرى.

وإذا كانت هذه الدعوة قد ماتت بالسكتة القلبية في عهد السادات، فما الذي يعيدها إلى الحياة مرة أخرى هذه الأيام؟

السبب المباشر في رأيي يعود إلى الإجراءات التي اتخذتها الدولة مؤخرًا بعد ذيوع فضيحة تحويلات الطلبة من أبناء الموسرين من الجامعات الأجنبية إلى الجامعات المصرية — وخصوصًا كليات الطب والهندسة — في العام الماضي، تلك الفضيحة التي تواطأ على إخفائها عن الرأي العام بعض رؤساء الجامعات وعمداء الكليات، ولا بد أن وزير التعليم آنذاك كان على علمٍ بتلك المهزلة، حتى وإن لم يكن يدرك التفاصيل.

والقصة تتلخص في أن بعض أبناء القادرين والنافذين في أجهزة الدولة وأساتذة كليات الطب والهندسة لا يحصلون في امتحان الثانوية العامة على مجموعٍ يؤهلهم لدخول الكليات «الممتازة» في جامعاتنا، تلك الكليات التي تفتح للأبناء البابَ للصعود في أجهزة الدولة والإعلام وقطاعات الإنتاج، أو تؤهلهم لوراثة عيادات آبائهم أو مكاتبهم الهندسية التي تدر الملايين من الأرباح، وبدلًا من أن يقنع هؤلاء الآباء بإرسال أبنائهم إلى معاهد التدريب، كما يفعل أبناء الفقراء والمتوسطين، فإنهم يرسلونهم إلى جامعات رومانيا والمجر ويوغسلافيا … إلخ.

وفي هذه الجامعات كان من السهل على مَن يملك الدولار بوفرة الحصول على رخصة النجاح بعد عام يقضيه هناك دون جهد أكاديمي حقيقي، ثم يقوم والده بتحويله إلى الكلية «الممتازة» المناظرة في إحدى الجامعات المصرية، ولقد اتضح أن معظم هذه التحويلات — لا كلها — كانت تتعلق بكليات الطب.

وهكذا استطاع بعض أبناء أساتذة الطب مثلًا، من الحاصلين على ٥٠٪ في امتحان الثانوية العامة المصرية دخول كليات الطب بعد سنةٍ قضوها في الخارج؛ حيث كانت جيوبهم مملوءة بالدولارات، بل لقد اتضح أن بعضهم في السنوات الأخيرة لم يذهب أصلًا إلى تلك الجامعات في أوروبا الشرقية؛ مع ذلك فقد حصلوا على شهاداتٍ بأنهم قضوا سنة في تلك الجامعات، وأنهم نجحوا في امتحاناتها، بل لقد اتضح أيضًا أن بعض الطلبة الذين لم يحصلوا أصلًا على شهادة الثانوية العامة المصرية، أو حصلوا عليها «شعبة أدبي»، استطاعوا أن يدخلوا كليات الطب!

ولقد تواطأ في هذه الجريمة بعض عمداء الكليات ورؤساء الجامعات تحت ضغوط مختلفة، وبحُجة حاجة الكلية إلى الأموال التي أُخذَت من هؤلاء الطلاب مقابل قبولهم، ونجحوا بشكل أو بآخر في إخفاء رائحة هذه الجريمة بعض الوقت، لكن ما أذاع الفضيحة في نهاية الأمر هو أن هذا التحويل «السري» لم يُطبَّق على كل أبناء النافذين، أو الذين تصوَّروا أنهم كذلك؛ فبادروا إلى الشكوى في الصحف مطالبين بالمعاملة بالمثل.

وعندما انفجرت فضيحة التحويلات تلك — ومعظمها بالمناسبة تم في عهد فتحي سرور — أصيب الرأي العام بالصدمة والإحباط ضمن ما يصيبه من صدمات متوالية، لكن هذه الصدمة كانت واسعة النطاق لأنها تمس مصالح أقسام واسعة، لا من الطبقات الشعبية فقط، وإنما العديد من أبناء الطبقة الوسطى، وربما بعض الشرائح فوقها كذلك، وفي هذا المناخ صدر قرار جمهوري يمنع منعًا باتًّا هذه التحويلات من الجامعات الأجنبية إلى الجامعات المصرية، وهو إجراء غير عادي؛ فليس هذا قرارًا وزاريًّا صادرًا عن الوزير، ولا هو قرار من المجلس الأعلى للجامعات يمكن تعديله بقرارٍ آخر بعد أن تهدأ الضجة، وإنما هو قرار لا يلغيه إلا قرار جمهوري من رئيس الجمهورية نفسه، ليس هذا فقط بل لقد طبق القرار على الذين قبلوا في الكليات المناظرة في العام الماضي فحُرموا من الامتحانات أو أُخرجوا من الدروس مما أدى إلى لجوئهم إلى مجلس الدولة.

هذا هو السبب المباشر الحقيقي لعودة الدعوة إلى الجامعة الخاصة من جديد، لكن لا أحد يريد أن يقول هذا صراحةً، وإنما يغلِّفون دعوتهم تلك بالحديث العالي بأن جامعاتنا الحكومية قد ساءت أحوالها، وأننا في حاجة إلى الاهتمام بتخصصات جديدة مثل تخصصات الكمبيوتر والهندسة الوراثية … إلخ، وكأنهم لا يعلمون أن معظم هذه التخصصات موجودة في جامعاتنا، وأنه إذا كانت دراسات وبحوث تلك التخصصات في حاجة إلى تدعيم، أو حتى إنشاء جديد، فإن الشيء المعقول أن تُدفَع تبرعات الأثرياء والقادرين عندنا إلى تلك الأقسام الموجودة في جامعاتنا لدعمها، وإذا كان ثمة خوف من أن تذهب تلك الأموال لغير ما خُصصت له، فإن حل هذا بسيط، وهو إجراء تعاقد مع الجامعة أو القسم المختص يتم بمقتضاه الرقابة على صرف هذه الأموال.

والحقيقة أن جامعاتنا تعاني من نقصٍ حاد في تمويل البحوث، وفي وضع المكتبات على نطاق الجامعة أو الكلية، كما تعاني من نقص المدرجات للتدريس خصوصًا في كليات الأعداد الكبيرة مثل كلية التجارة أو الحقوق، ولقد وصل الأمر إلى أن عدد طلاب الدراسات العليا في جامعة القاهرة مثلًا يزيد على أربعين ألفًا!

فهل هذا معقول؟ إن ثمة حاجة إلى مواجهة هذا الوضع بسلسلة من الإجراءات، مثل تقسيم كل جامعة كبيرة إلى أعداد من الجامعات الأصغر الأكثر تخصصًا، ومثل إنشاء كلية للدراسات العامة في جامعة القاهرة أو عين شمس أو الإسكندرية، وتركيز قضية البحوث في تلك الكلية.

وليس من عقبة لتنفيذ كل هذا، وإصلاح أحوال جامعاتنا الحكومية إلا عقبة المال؛ فهل يتقدم هؤلاء الأثرياء بأموالهم لمساندة هذه المشاريع الأكاديمية الهامة؟

أغلب الظن أنهم لن يفعلوا لأنهم مشغولون بإيجاد سبيل لحل مشكلة أبنائهم العاجزين عن الحصول على مجموع مناسب في الثانوية العامة، ومن هنا حماسهم لدعوة الجامعة الخاصة، رغم تغليف هذه الدعوة بالحديث الحماسي عن الحاجة إلى تخصصات جديدة، وأهمية وجود تنافس بين جامعاتنا الحكومية والجامعة الأهلية … إلى آخره … هذا الكلام المُعاد.

والحقيقة أننا إذا ناقشنا قضية الجامعة الخاصة هذه بعيدًا حتى عن قضية تكافؤ الفرص والدستور وديمقراطية التعليم، فإننا لن نستطيع أن نجد في ظروف مصر الحالية لهذه الجامعة أيَّ فرصة في نجاحٍ حقيقي كجامعة جادة ذات تخصصات تشتد الحاجة إليها، ويكفي أن نلقي نظرة على مشروع خاص أكثر تواضعًا جرى إنشاؤه منذ سنوات، وأعني معهد التكنولوجيا في العاشر من رمضان؛ حيث يدفع الطالب ما بين ٣٠٠٠ إلى ٤٠٠٠ جنيه مصري سنويًّا كمصروفات، من الواضح طبعًا من هذه المصروفات أن هذا المعهد هو لأبناء الموسرين، وأن ما يقوله الأستاذ زكريا نبيل من أنه لا يريد أن تكون الجامعة الخاصة لأبناء الموسرين، هو مجرد دخان في الهواء، ومع ذلك فهذا المعهد يعتمد اعتمادًا شبه كامل على أساتذة كليات الهندسة والتكنولوجيا في جامعات القاهرة وعين شمس وإسكندرية، وقد ثارت منذ سنوات أمام مجلس كلية الهندسة في جامعة القاهرة قضية الأستاذ الذي أراد الكفراوي ندبه عميدًا لهذا المعهد، ولم يوافق مجلس الكلية آنذاك على ذلك الانتداب لاعتباراتٍ تتعلق بمستوى الدراسة في هذا المعهد، وإمكانية التحاق خريجيه بنقابة المهندسين.

إن هذه الحقائق تشير إلى أن هذه الجامعة الخاصة سوف تعتمد، على الأرجح، على أساتذة الجامعات الحكومية في التدريس والبحوث، خصوصًا أن الإغراء المالي كبير، وسوف نتوقع أن يحدث تنافس كبير بين أساتذة الجامعات الحكومية على الانتداب في تلك الجامعة الجديدة، وربما يوافق بعضهم على الاستقالة من جامعاتهم، والتفرغ للجامعة الخاصة تحت ضغط الإغراء المالي، ومعنى هذا أن الجامعة الجديدة سوف تؤدي إلى مزيدٍ من الإضعاف لجامعاتنا الحالية، وأنها في حقيقة الأمر سوف تتطفل على ما هو موجود في جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية خصوصًا.

أما الأمر الثاني المتوقع أيضًا فهو أن تتطفل تلك الجامعة الخاصة — خصوصًا في سنواتها الأولى — على مباني جامعاتنا الحالية، فإذا بدأ المشروع من العام القادم مثلًا، فأين هي المباني والمَعامل والمكتبات اللازمة؟! وهل يتصور عاقل أن المبالغ التي تُجمَع حاليًّا تكفي لإنشاء جامعة جادة حقًّا؟ إن التقديرات الأولية تشير إلى الحاجة كبدايةٍ في مثل هذا المشروع إلى ٥۰۰ مليون دولار للمباني والمَعامل، أي أكثر من ألف وخمسمائة مليون جنيه مصري، ونحن نشك كثيرًا في أن يتم جمع هذ المبلغ، والأرجح هو اللجوء إلى الدولة للمساعدة، أو ربما كان الخوف من هذا هو السبب فيما قاله رئيس الوزراء عاطف صدقي من أن الحكومة لا علاقة لها البتة بهذا المشروع، ولا تتحمَّل أيَّ مسئولية فيه.

وإذا حدث هذا، أعني لجوء أصحاب المشروع إلى الحكومة للدعم المالي فسوف يعني هذا الاقتطاع من الدعم الذي يمكن أن تعطيه الحكومة لجامعاتها لحساب هذه الجامعة الخاصة، خصوصًا على ضوء التزام الحكومة أمام صندوق النقد الدولي بتجميد ميزانية الخدمات أو تخفيضها، وإذا حدث هذا، فمعنى ذلك أن جامعاتنا الحكومية سوف تسوء أحوالها أكثر مما هي سيئة حاليًّا.

ويبقى أخيرًا مناقشة حُجة هؤلاء الذين يشيرون إلى «نجاح الجامعة الأمريكية في القاهرة» كجامعة خاصة لتبرير إمكانيات نجاح المشروع الجديد، هنا نود أولًا أن نشير إلى أن الجامعة الأمريكية في القاهرة هي جامعة أبناء الموسرين من المصريين، ويكفي أن تعرف قيمة المصروفات التي يدفعها الطالب حتى تدرك هذا، وهي ثانيًا في الغالب جامعة أبناء النافذين في جهاز الدولة في مصر، وتلك ظاهرة لها نتائجها الخطيرة.

ولكنها هي أيضًا تعتمد على دولة كبيرة جدًّا هي الولايات المتحدة، وما وراء ذلك من جامعات أمريكية في القاهرة، ومع ذلك فالجامعة الأمريكية تاريخيًّا كانت جامعة الدراسات النظرية، وهي دراسات لسنا في أشد الحاجة إليها، خصوصًا أن البطالة في خريجي هذه الدراسات متفاقمة كما يعلم الجميع، ورغم هذا فالجامعة الأمريكية قد عانت في السنوات الماضية من حاجتها إلى التمويل بدليل لجوئها إلى مطالبة خريجيها من الأثرياء العرب بالتبرع بمبالغ كبيرة لدعم أنشطتها.

إن الجامعة الأمريكية هي تاريخيًّا مشروع ثقافي وسياسي في نفس الوقت تمامًا، مثل مشروع جامعة بيروت العربية، وفرع جامعة القاهرة في الخرطوم، وهذا الجانب لا ينبغي أن يخفى علينا عند عقد المقارنات.

إننا ندعو هؤلاء المتحمسين لمشروع الجامعة الخاصة إلى مراجعة تفكيرهم على ضوء الحقائق التي ذكرناها، وإذا كان هناك حقًّا حماسٌ من جانب القادرين على دعم التعليم في مصر، فهناك مجال كبير أمامهم لدعم الجامعات الحكومية الحالية، بل هناك مجال واسع للتبرع لبناء مدرسة ابتدائية أو إعدادية أو ثانوية جديدة.

وما أكثر مدارسنا الآيلة للسقوط، أو التي ليس بها مقاعد، أو ليس بها مياه نقية للشرب، أو ليس بها دورات مياه …!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥