هؤلاء الرؤساء العِظام … ومواهبهم المدهشة!
أظهرت المناقشات التي دارت في مجلس الشعب حول واقعة الامتحان المتهم فيها جمال السادات بهندسة القاهرة، وواقعة إخراج رئيس القسم من الجامعة بقرارٍ من رئيس جامعة القاهرة آنذاك د. صوفي أبو طالب، عقابًا له على تصديه لواقعة الغش، وعلى إلغاء الامتحان … أقول أظهرت هذه المناقشة أشياء كثيرة قد لا يتسع المجال لتناولها كلها هنا، وإنما يعنيني اليوم التعقيب على موقف هذا النمط من رؤساء الجامعات الذين ابتُليَت بهم جامعاتنا في السنوات الأخيرة، خصوصًا أن اثنَين منهم أبديا، في مجلس الشعب وقت المناقشة، وجهات نظر لا تثير إلا الحزن على ما صارت إليه أمور الجامعات على أيديهم.
وفي السنوات الأخيرة بدأت أزمة الجامعات المصرية لأسبابٍ متعددة، ومنها تدهور مستويات التدريس والبحوث، وضحالة وسوقية معظم الكتب والمذكرات التي تؤلَّف للطلاب، وانتشار ظاهرة الدروس الخصوصية بين المعيدين والمدرسين المساعدين، وربما المدرسين أيضًا، في عدد من الكليات، في مقدمتها كليات الطب طبعًا، وشكلية نظام الترقيات الأكاديمية ببحوثٍ لا تُعتمَد للنشر في أي مجلة علمية محترمة. إن هذا الوضع لا يتناقض بالطبع مع وجود أقلية نشيطة في الجامعات تعمل بجِد، وتنتج بحوثًا لا تقل عن المستوى العالمي للبحوث في جامعات العالم، لكن هذه الأقلية صغيرة، ولا تعبِّر من قريبٍ أو بعيد عن الحالة العامة المتدهورة.
ومع أن أزمة الجامعات قديمة، ولا تعود فقط إلى عَقد السبعينيات، إلا أن معظم الجامعيين يقرون أنها تعمَّقت وازدادت حدة في السنوات الأخيرة، ولهذه الظاهرة أسباب كثيرة، نذكر اليوم من بينها سببًا واحدًا، وهو هذا النمط العجيب من رؤساء الجامعات الذين عرفتهم جامعاتنا في العهد الساداتي الأخير. والحقيقة أنه عند مناقشة تعديل قانون الجامعات في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات كانت الغالبية الساحقة من أساتذة الجامعات تطالب بأن يُنص في القانون الجديد على اشتراط أن يكون رئيس الجامعة أستاذًا بإحدى جامعات مصر، وكنا نعلق أهميةً خاصة على هذا التعديل، باعتبار أن أستاذ الجامعة هو خير من يقدِّر ضرورة وأهمية تقاليد الحريات الأكاديمية، وخير مَن يعرف ما عانته هيئات التدريس في الماضي، وأنه بالتالي سوف يكون أصدق تعبيرًا ودفاعًا عن استقلال الجامعة ومصالحها الأكاديمية من هؤلاء الذين يأتون من خارج الجامعة فيحسون بالولاء لسلطة الحاكم أولًا وأخيرًا.
ولقد تم هذا التعديل في القانون الجديد، لكن التطبيق أثبت أننا كنا واهمين، وبلغت المهانة حد أن أفتى السادات أن الجامعة تتبع المحافظ، وقبِل وزير التعليم العالي على نفسه هذا الوضع، وها نحن أمام باقة من رؤساء الجامعة العِظام، معظمهم — ولا أقول كلهم — ذوو مواهب خاصة في خدمة السلطان، مع أنهم جميعًا أساتذة سابقون من ذوي المواهب الخاصة، لم يُعرَف عن واحدٍ منهم لا الامتياز الأكاديمي، ولا التفرد في مستوى الاستقامة والنزاهة الشخصية، ولا القدرات التنظيمية والإدارية الفذة؛ فأحدهم كان معروفًا خلال الستينيات بأنه يعطي دروسًا خصوصية وبالعملة الصعبة! وثانيهم اشتهر بأنه مفتي السادات في أي فتوى يريدها، وهناك ثالث قيل إنه يدير مع أسرته محلًّا لبيع الفطائر في الإسكندرية، ثم هناك رئيس جامعة المنصورة الذي استقال مؤخرًا — أو لعله أُقيل — بعد اتهامه علنًا أنه تقاضى الرشوة من شركة خاصة، وآخر سبق اتهامه بأنه يعمل في أجهزة الأمن، كما وُجهت له أمام المحاكم اتهامات أكاديمية تتعلق بسرقة أحد مؤلفات زملائه العلمية ونشرها باسمه! وهذا قليل من كثير معروف في دوائر الجامعة عن هذا الأخير.
على أي أساس إذن اختارت السلطة الحاكمة هؤلاء في مراكزهم الجامعية؟
أعتقد على نفس الأساس الذي اختِير به د. صوفي أبو طالب رئيسًا لجامعة القاهرة، أعني قدرتهم الخارقة على أن يقولوا نعم مهما كان طلب السلطان سخيفًا أو استفزازيًّا أو مخالفًا لقوانين وتقاليد الجامعات، وما دام صوفي أبو طالب قد وصل بهذا الطريق، فلماذا لا يكون الباقون مثله، ففي أي شيء يختلف هو عنهم؟!
تلك هي الموهبة المدهشة الفذة لكل واحد من هؤلاء السادة، فإذا كان المطلوب إعطاء د. محمد علي صالح درسًا لا ينساه لأنه تجاسر ووقف ضد الغش في امتحان ابن رئيس الجمهورية، تولى أبو طالب القيام بهذه المهمة، حتى لو أدانت المحاكم تصرفه بعد ذلك، وإذا كان المطلوب إخراج ٦٤ أستاذًا من الجامعات، لا لأنهم خالفوا القوانين، وإنما لأنه يُشاع عنهم التعاطف مع المعارضة، فلا بد أن تكون هذه مأثرة ساداتية، لا يُشق لها غبار، وثورة من ثورات المرحوم قصد بها حماية الديار … وإذا عاد نفس هؤلاء الأساتذة إلى الجامعة بقرارٍ من رئيس الجمهورية الجديد حسني مبارك، سارع نفس هؤلاء الرؤساء إلى إقامة حفلات التكريم للأساتذة العائدين.
وهم في الحالتَين مُطيعون للسلطة، لم يسمعوا إلا عن كلمة نعم، ولم يعرفوا أن في اللغة كلمة لا؛ فهل بمثل هؤلاء تنهض الجامعات؟
لا أريد أن يفهم أحد أن كل أساتذة الجامعات هم من هذا الطراز؛ فالحقيقة أن هذا النمط من الأساتذة أقلية، وما دمنا قد ذكرناهم فلا بد أن نذكر أيضًا أن بالجامعة رجالًا شجعانًا قادرين على التصدي لكل خطأ، وعلى قول الحق مهما كانت النتائج، ألم يكن هذا هو موقف أستاذَين في مجلس كلية الهندسة رفضا الموافقة على إخراج د. محمد علي صالح من الجامعة؟ ألم يكن هذا هو موقف عميد كلية الحقوق في جامعة القاهرة، الذي تصدَّى لصوفي أبو طالب، وطالب بمحاكمة الأستاذ أمام مجلس تأديب إن كان مخطئًا؟ ألم يكن هذا هو موقف بعض مجالس الأقسام في الجامعة التي احتجت على إخراج الأساتذة الأربعة والستين؟ نعم إن هؤلاء الأساتذة الشجعان أيضًا أقلية، ولكن متى كان الرجال الشجعان أكثرية في يوم من الأيام؟
إن الرايات التي رفعها هؤلاء الأساتذة الشجعان هي نفس الرايات التي رفعها إسماعيل فهمي وزير الخارجية الأسبق عندما استقال لأن ضميره لم يستطِع قبول ما فعله السادات عام ۱۹۷۷م، وهي نفس الرايات التي رفعها محمد كامل إبراهيم وزير الخارجية الذي تلاه عندما قدَّم استقالته في كامب ديفيد؛ إذ أيقن في ضميره أن السادات قد فرط في التزامات مصر القومية وميراثها الوطني.
وكما أن مصر في أشد الحاجة إلى هذا النوع من الوزراء ذوي الشخصية الوطنية المستقلة؛ لأنهم أقدر على خدمة الوطن من هؤلاء المستورين المستعدين دائمًا للسمع والطاعة، أيًّا كانت أوامر الحاكم، فإن الجامعة أشد حاجة إلى رؤساء جامعات يتميزون بالشجاعة، والقدرة على اتخاذ الموقف المستقل النابع من الضمير الوطني، البعيدين كل البعد عن أي شائعات تتعلق بالنزاهة، وبالطموح الشخصي الذي يؤدي إلى الدمار؟
فمتى يبدأ الرئيس مبارك تنفيذ ما يرجوه الشعب منه من تغييرٍ شاملٍ، يشمل رؤساء الجامعات ضمن ما يشمل من تغيير؟