غين فتحة غا
«غين» هي الحرف الأول في كلمة (غزو)، و«غا» هي الحركة الأولى في نطق هذه الكلمة، والغزو الذي أعنيه هنا هو الغزو الثقافي الذي يجتاح أقطار العالم الثالث الرأسمالية، والذي ينكر وجوده — للأسف — أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود، تحت حُجة شكلية، قوامها أن هذا المصطلح لا يُستخدَم إلا عند توفُّر القوة العسكرية، مع أنه أول مَن يعرف أن كثيرًا من المصطلحات تُستخدَم بشكلٍ مجازي للدلالة على توفُّر المضمون، وإن اختلفت الأشكال.
والغزو الثقافي الذي نعنيه هو أيضًا الغزو الثقافي الأوروبي، الذي بدأ منذ نحو خمسة قرون لمَا عُرف ببلدان الشرق أو الشرق الأوسط بالتعبير الحديث، وبلدان أفريقيا وبلدان جنوب شرق آسيا والصين وأقطار أمريكا اللاتينية وسكان أمريكا الأصليين، والذي كان مصاحبًا للغزو العسكري.
لكنه اليوم يعني أساسًا الغزو الثقافي الأمريكي لدول العالم الثالث، بما يُسمَّى بثقافة القِيَم الاستهلاكية وحضارة الرجل الأبيض المتفوق وقوة الشركات الدولية والأفلام ومسلسلات التليفزيون، وتوجُّهات وكالات الأنباء الغربية المتحيزة ضد أقطار العالم الثالث، والتي تحتكر معظم ما يُنشَر دوليًّا من أنباءٍ وتعليقات، ونشاط وكالة المخابرات المركزية في المجالَين الثقافي والسياسي، بكل ما تموله من مجلات ثقافية مثل مجلة «شعر»، ومثل مجلة «إينكونتر» الأدبية التي كانت تصدرها منظمة الثقافة الحرة الدولية، وبكل ما تدسه من أنباء مزيفة في وكالات الأنباء الدولية، وما تؤسسه وتموِّله من منظمات صحفية.
كما يعني الغزو الأمريكي نشاط الأقمار الصناعية الأمريكية للاتصالات الدولية، وبنوك المعلومات، ونشاط البحوث المشتركة في جامعات العالم الثالث، والتفوق التكنولوجي في مجال الإعلاميات؛ مما دعا حتى الأوروبيين للشكوى من هذا الغزو الثقافي الأمريكي لبلدانهم.
وبمعنًى آخر فإننا عندما نتحدث عن الغزو الثقافي الأمريكي لبلدان العالم الثالث، فإنما نتحدث عن المحاولات الداعية والمعقدة التي تقوم بها القوة الحاكمة في الولايات المتحدة، في مرحلة رأسمالية الشركات الدولية، لفرض النموذج الأمريكي للحياة على بلدان العالم النامي، لفرض ثقافة الكاوبوي والكوكاكولا وشويبس والمارلبورو ومسلسل دالاس وأساليب التربية الأمريكية على السواء، وبالتالي تفريغ الشعب من ثقافته التاريخية، والعدوان على ذاكرته وأصالته؛ مما يعني الحكم عليه بالتبعية الأزلية وفقًا لمصالح الشركات الدولية.
وليس بالضرورة أن يتم هذا بالعدوان العسكري السافر؛ فلم تعُد الرأسمالية العالمية التي تقودها شركات الولايات المتحدة الدولية في حاجة — في كثير من الأحيان — إلى استخدام القوة العسكرية لتحقيق ذلك؛ لأن التفوق الاقتصادي والتكنولوجي، بالإضافة إلى توفُّر شرائح اجتماعية محلية راغبة — لمصالحها الخاصة — في التعاون مع القوى الاستعمارية الأمريكية على تحقيق الهيمنة؛ كافٍ في حد ذاته لتحقيق أهداف الغزو الثقافي دون استخدام القوة العسكرية الصريحة التي استلزمتها مراحل سابقة في نمو الرأسمالية الأوروبية، ومع ذلك فمن الخطأ أن نتصور أن استخدام القوة العسكرية الغاشمة مستبعد تمامًا، وفي كل الظروف من هذا المشروع، ولدينا حالات فيتنام وجرينادا ونيكاراجوا والسلفادور ولبنان، شاهد على أن مشروع الغزو العسكري ليس مستبعدًا تمامًا عند الضرورة من جدول الأعمال. إن خطورة الغزو الثقافي الأمريكي هو أنه غزو دولي — بطبيعة الإمكانات التكنولوجية المتوفرة اليوم — يحاول فرض ثقافة كونية شاملة، وإطار واحد للنظر إلى العالم ولقياسه والاستجابة له … إنه إطار مصالح قُوًى دولية معينة، وهو في نفس الوقت إطار ثقافة الرجل الأبيض ابن الطبقة الوسطى الأمريكية، وأحلامه في الثراء والترف والحب والجنس والاستهلاك، وكل هذا لا يتكافأ لا مع ظروف شعوب العالم الثالث، ولا مع مصالح الغالبية العظمى من سكانها؛ إنما يؤدي فقط إلى كبت الثقافات والفنون المحلية والأنساق المحلية للتربية والمعرفة، وإلى مسخ ثقافي لشعوبٍ أثبتت في تاريخها السالف قدرتها على العطاء الحضاري والمعرفي، ومساهماتها الجادة في إثراء تراث البشرية في العلم والحكمة والفن والتكنولوجيا، وهكذا بتنا نستشعر أن التنوع والابتكارية والفنون والأفكار المحلية والقيم التي ليست من أصل غربي مهدَّدة بالاختفاء، وأننا نعيش في عصر «تعليب» الثقافة، وتسويقها مثل أي سلعة أخرى.
إن من الخطأ، في تقديري، أن نتصور أن هذا الغزو الثقافي الأمريكي معزول عن الغزو العسكري والثقافي الصهيوني لأقطار الوطن العربي؛ فالحقيقة أن العلاقة بين الثقافة الصهيونية وثقافة الرأسمالية الدولية هي علاقة وثيقة.
فكلٌّ من الثقافتَين تقوم على مبدأ التوسُّع والهيمنة، وفرض «نموذج حضاري» آخر بقوة السلاح أو بقوة المال والتكنولوجيا، وكلتاهما تقوم على أساس التفوق البيولوجي والفكري للرجل الأبيض، والطبيعة الأدنى للرجل غير الأبيض.
وما ظلَّت أقطار العالم الثالث في إطار العلاقات الرأسمالية الدائرة في فلك الرأسمالية الدولية المهيمنة، وبمعنًى آخر ما ظلت أقطار العالم الثالث في إطار التبعية الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة بالقروض والمعونات … إلخ، فإن الغزو الثقافي الأمريكي أمر حتمي لا يمكن تجنُّبه؛ فالتبعية الاقتصادية والتبعية الثقافية وجهان لعملة واحدة، وعلى هؤلاء المنزعجين من مخاطر الغزو الثقافي ونتائجه المدمِّرة أن يستوعبوا هذه الحقيقة.
فليس بالصدفة أن يتدفق الغزو الثقافي الأمريكي على بلادنا بهذه الغزارة في عصر الانفتاح السعيد، الذي فقدنا فيه استقلالنا الاقتصادي ومشروعنا الوطني للتقدم، وبالتالي فإن النضال الحقيقي ضد الغزو الثقافي الأمريكي يرتبط، في نهاية الأمر، بنضالنا ضد التبعية الاقتصادية، ومن أجل رسم مسار للتنمية والنهضة مستقل عن الرأسمالية الدولية، وبمعنًى آخر المُضي في طريق ثقافتنا لبناء الاشتراكية، تزدهر فيه ثقافتنا القومية مستمدين من الجانب الإيجابي لتراثنا إلهامًا دافعًا لبناء حضاري حقيقي متميز.
هل يعني هذا الكلام أنني من ناحية المبدأ ضد الاحتكاك بالثقافة والاستفادة منها، والتفاعل الخصب معها؟
كلا، بطبيعة الحال فأنا لا أدعو إلى هذا الذي هو موقف السلفيين التقليديين وبعض السلفيين الجدد، إنني أدرك، بطبيعة الحال، أن الثقافة الغربية — خصوصًا في عصور النهضة — قد أعطت للبشرية إنجازاتٍ تاريخية إيجابية عظيمة، لا شك أننا في حاجة إلى فهمها، والاستفادة منها.
لكن ما أدعو إليه هو اتخاذ موقف الإدراك النافذ للثقافة الغربية في عصورها المختلفة، وخصوصًا في ظروفها الراهنة، وإدراك الإطار التاريخي والاجتماعي لنشأة هذه الثقافة، وما تركه هذا الإطار من بصماتٍ عليها، والانتباه إلى احتياجاتنا الثقافية في ظل نضالنا الوطني والقومي ضد سيطرة القُوى الصهيونية، وقُوى الرأسمالية الدولية، وبالتالي رفض قاعدة أن كل ما صلح للغرب يصلح لنا بالضرورة؛ إن هذا القبول الأعمى لكل ما أنتجته الحضارة الغربية، وتصوُّر أنه قابل للاستيراد في بلادنا هو الأمر الذي ينبغي أن نحذر منه.
وعلينا في حقيقة الأمر أن نقاتل في جبهتَين فكريتَين؛ ضد فكر السلفيين الرومانسي، الذي يدعو إلى العودة إلى الماضي، متوهمين أن هذه العودة ممكنة، بينما يفصل الحاضر عن الماضي هُوة سحيقة من واقعٍ اقتصادي اجتماعي آخر، وقوانين اقتصادية اجتماعية أخرى، وأيضًا ضد فكر «التغريب» الذي ينادي بقبول حضارة الغرب، بحلوها ومُرها، كما نادى طه حسين يومًا في كتابه القديم «مستقبل الثقافة في مصر»، وكما ينادي فيما يبدو توفيق الحكيم وحسين فوزي وآخرون.
وفي الوقت ذاته علينا أن نؤكد للدكتور زكي نجيب محمود أن قياسه اليوم على ما حدث من احتكاكٍ إيجابي بين الحضارة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري وبين الحضارة اليونانية، إنما هو قياس فاسد منطقيًّا؛ فعندما استفاد المسلمون من الحضارة الأوروبية كانت هذه الحضارة تراثًا، ولم يكن لليونان جيوشٌ عسكرية تهدد المسلمين في عقر دارهم، كما هو حالنا اليوم، ولم يكن لدى اليونان أفلام ومسلسلات تنهمر على العباسيين في بغداد، ولم تكن هناك أجهزة مخابرات يونانية تموِّل مؤسسات ومجلات ثقافية عربية، ولا تعرف حدودًا بين ما هو إعلامي وما هو ثقافي، كما هو الحال اليوم، ولم تكن هناك وكالات أنباء يونانية تغرق العرب ليل نهار بالنبأ، والتعليق المتحيز كما هو الحال اليوم.
إن ثمة دلائل قوية على أن الثقافة الغربية الراهنة تجتاز أزمة عميقة الجذور، هي في رأيي وثيقة الصلة بالأزمة التي يجتازها النظام الاقتصادي العالمي، فحتى هذه الثقة الغربية بالتقدم، التي سيطرت على فكر القرن التاسع عشر، قد بدأت تتحوَّل إلى شك عميق على لسان كثير من مفكريهم، وبدأت أفكار التشاؤم من مستقبل العالم تزحف إلى صفحات الكتب، وإلى هذه النماذج العالمية المنتجة في «نادي روما» في العَقد الأخير، إن الحتمية الثقافية والديناميكية الفكرية للحضارة الغربية تتعرض اليوم لتساؤل عميق، بل إن الأزمة الفكرية الراهنة في أوساط المفكرين الغربيين بدأت تمتد إلى مجالات للمعرفة والبحث كانت معفاة من هذه الشكوك.
ومن هنا يأتي التأكيد على أهمية الموقف النقدي من منجزات الحضارة الغربية وثقافتها.