بين التعليم والسياسة: مؤسسة فورد
يُدهَش المرء حين يكتشف أن عددًا من العناصر الوطنية الديمقراطية في مصر لم تدرك بعدُ خطورة التعامل مع مؤسسات أمريكية، مثل مؤسسة فورد، باعتبارها واجهةً في كثيرٍ من الأحيان لأنشطة المخابرات الأمريكية في الميدان الأكاديمي والثقافي والسياسي.
ومن حُسن الحظ أن هناك معلومات عديدة متوفرة وموثَّقة لمن يهمُّه أن يقرأ، قام بجمعها عديدٌ من الأمريكيين الشرفاء وتولَّوا نشرها، ومن حُسن الحظ أيضًا أن مصدر هذه المعلومات ليست موسكو أو أي عاصمة من عواصم الدول الاشتراكية، وإنما الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والعديد من الذين عملوا في جهاز المخابرات الأمريكية، وهناك العديد من الوثائق والمراجع في هذا المجال، منها على سبيل المثال تقرير اللجنة الفرعية لمجلس الشيوخ الأمريكي، والمعروف باسم «تقرير بايك»، وهناك كتاب «المخابرات الأمريكية في غرب أوروبا»، ثم هناك أيضًا كتاب «المخابرات الأمريكية في أفريقيا» الذي أصدره عدد من الكُتاب الأمريكيين والإنجليز، وكتب مقدمته السياسي الأيرلندي البارز «شين مكمبريد» وزير خارجية أيرلندا السابق، والمشرف على إقليم ناميبيا خلال وصاية الأمم المتحدة على هذا الإقليم، الحائز على جائزة نوبل للسلام وجائزة لينين للسلام.
ومن هذا الكتاب يتضح أن المشروع «الأكاديمي» الكبير الذي سعت المخابرات الأمريكية مع جامعة إم. آي. تي لدراسته وهو «حروب العصابات في أفريقيا» كان مموَّلًا من مؤسسة فورد، وكان الهدف أن يكون لهذا المشروع غطاء أفريقي هو جامعة زامبيا، لكن هذه الجامعة رفضت أن تتعاون مع الجامعة الأمريكية أو مؤسسة فورد في مثل هذا الموضوع، وقامت بتنبيه حركات التحرير في جنوب القارة إلى مخاطر تلك الدراسة «الأكاديمية»، وانتهى الأمر بركن العلوم السياسية الأمريكية المتعددة.
وربما ينسى البعض أن المخابرات الأمريكية أنشأت في الستينيات في غرب أوروبا منظمةً وهميةً عُرفَت باسم «مؤتمر حرية الثقافة» جمعت فيها عددًا من المثقفين الأوروبيين المعروفين باتجاهاتهم اليمينية الصارخة وعدائهم الشديد للاشتراكية، وكانت هذه المنظمة هي المسئولة عن إصدار المجلة الثقافية المُسماة «إينكونتر»، والمجلة العربية التي صدرت في بيروت آنذاك باسم «حوار»، وقد أثبتت تحقيقات لجان الكونجرس صلة المجلتَين بأجهزة المخابرات.
ولقد لعبت مؤسسة فورد دورًا مشهودًا في دعوة واختيار لجنة الأمريكيين الباحثين في الشئون الأفريقية عام ١٩٥٨م، تحت ستار «مسح الوضع الحالي للدراسات الأفريقية ومستقبلها» بينما قامت المخابرات الأمريكية بترتيب اجتماع مع هذه اللجنة لتوضيح مطالبها واحتياجاتها الأفريقية من الدراسات والكوادر، وكثير من مراكز الدراسات الأفريقية، التي قامت إثر ذلك في الجامعات الأمريكية، كانت في الحقيقة استجابةً لمطالب المخابرات ووزارة الخارجية، وبعض الباحثين الذين التحقوا بهذا المركز قد جُنِّدوا بالفعل في أجهزة المخابرات، ودُرِّبوا على أعمال التخريب الأكاديمي لمدة عام قبل إرسالهم إلى عواصم أفريقية تحت ستار أكاديمي!
ومن هؤلاء «جاي مولين» الذي أُرسِل إلى أوغندا كمحاضرٍ في جامعة ماكريري في كامبالا، وكان مكلَّفًا بالتخصص في شئون شرق أفريقيا، وكان صديقًا لديكتاتور أوغندا عيدي أمين، وعندما فُضحَت علاقاته بعد ذلك بالمخابرات، كتب مقالًا ساخرًا في إحدى المجلات الأمريكية، بعنوان «كنت صديق عيدي أمين في كرة السلة»، ولم تتورع المخابرات الأمريكية حتى عن محاولة تجنيد أستاذة سوداء في جامعة هاوارد معروفة بنشاطها الراديكالي في حركة السود الأمريكية، وبدفاعها عن قضايا تحرير السود في أفريقيا الجنوبية، وهي الدكتورة كيمبا ميش المتخصصة في علم النفس، وكان المطلوب منها عمل دراسات سيكولوجية عن شخصيات سياسية أفريقية ترتبط ببعضهم بصلاتٍ تاريخية ودية، وبراتبٍ شديد الإغراء، وعدد آخر من الامتيازات، ظنَّت المخابرات الأمريكية أنها قادرة على إغراء كيمبا ميش، وأنها سوف تستطيع إرسالها في منحة «أكاديمية» إلى أفريقيا لأداء المهمة المطلوبة، لكن هذه الأستاذة السوداء رفضت العرض، واحتجت عليه بشدة.
لكن ربما كانت أهم حالة نجحت فيها المخابرات الأمريكية هي حالة الأستاذ جيمس هوكر الأستاذ بمركز الدراسات الأفريقية بجامعة ميتشجان، والذي ذكرت أرملته بعد وفاته أنه اعترف لها بأنه كان يعمل بالمخابرات الأمريكية!
من هو جيمس هوكر إذن؟ وما أهميته؟ هذا ما نتناوله في التعليق القادم.