بين التعليم والسياسة: التخريب الأكاديمي
بين كل الحقائق والقصص التي يحتويها كتاب (المخابرات الأمريكية في أفريقيا) تتميز قصة الأستاذ روبرت مولتينو، أستاذ العلوم السياسية بجامعة زامبيا، بمذاقٍ خاص؛ إن مولتينو مواطن أبيض من جنوب أفريقيا، ومن القلائل من البيض المعادين للنظام العنصري هناك، والمؤيدين بجسارة كفاح السود لإسقاط النظام الفاشي الأبيض.
والحقيقة أن ما يرويه هذا الأستاذ الجليل عن محاولات التخريب الأكاديمي للمخابرات الأمريكية هو بحث أكاديمي جاد تقدَّم به إلى ندوة علمية جرت في دار السلام عام ١٩٧٥م، وموضوعها «الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسات الخاصة بجنوب أفريقيا»، وقد نظَّمها المعهد الأفريقي للتنمية الاجتماعية والتخطيط الذي تُشرف عليه الأمم المتحدة، وكان عنوان بحثه «مصادر خفية للتخريب».
ويبدأ مولتينو بحثه قائلًا: إنه بحث فريد في مادته وصراحته؛ ولذلك لا بد أن يوضح لماذا كتبه، وهو يعدد ثلاثة أسباب:
أولًا: أن دراسة سلوك الأكاديميين ليس أقل مشروعية من دراسة أي مجموعة بشرية أخرى، وثانيًا: أنه عندما يحاول الأكاديميون صد نضال شعوب أفريقيا من أجل الحرية — وهو نضال تعاديه حكومات هؤلاء الأكاديميين — فلا بد من فضح نشاطات هؤلاء الأكاديميين، ثم ثالثًا: قناعته آنذاك بأن تصاعد النضال المسلح لشعوب زيمبابوي وناميبيا وجنوب أفريقيا (الأمر الذي حدث فعلًا) سيلازمه تصاعد النشاط المعادي من جانب الأكاديميين المعادين للثورة الأفريقية.
وعلى هذا فإن البحث يستهدف وضع المثقفين الأفريقيين (أكاديميين وقادة سياسيين) في موضع الانتباه والحذر من المحاولات المتجددة للتسلُّل.
كما يوضح مولتينو في بحثه هذا أنه ليس معاديًا للشعب الأمريكي، ولا للأكاديميين الشرفاء في الجامعات الأمريكية، وأن تحذيره يتعلق فقط بهؤلاء الأكاديميين الأمريكيين (غالبًا من البِيض ومن الطبقة الوسطى) الذين يشتركون مع حكام أمريكا في أيديولوجية واحدة، والذين هم مستعدون لأن يكونوا الاحتياطي الفكري للوكالات الأمريكية المتخصصة في التجسس والتخريب ضد الثورات.
ولقد قسَّم مولتينو اهتمام الجامعات الأمريكية بالبحث الأفريقي إلى مراحل كما يلي:
-
المرحلة الأولى: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما نشأت «عصبة الشباب» في المؤتمر
الوطني الأفريقي، ودخلت حركة التحرير السوداء مرحلة جديدة اتسمت بالنضالية الواسعة واللجوء
لأول مرة إلى تكتيكات المقاومة الشعبية العريضة، ولقد تميزت هذه المرحلة بانزعاج الولايات
المتحدة من حركات التحرر الأفريقية، خصوصًا إذا كانت ذات نبرة اشتراكية، أو على صِلة
بالمعسكر
الاشتراكي.
وفي هذه المرحلة تشكَّلت في أمريكا المجموعة البحثية التي قادتها الأستاذة كارتر مع سبعة من الأكاديميين المساعدين، وموَّلتها جزئيًّا مؤسسة روكفلر التي تمتلك مصالح عديدة في جنوب أفريقيا، ومع أن هذه اللجنة لم تعبِّر عن أي تأييد لحركة النضال الأسود ضد السلطة البيضاء إلا أن كثيرين من أعضاء اللجنة لم يكونوا يرتاحون لسياسة العنف التي كانت سلطات البيض تتبعها، ولقد قامت هذه اللجنة برصد محاكمة السلطة البيضاء لزعماء المؤتمر الوطني الأفريقي على طول خمس سنوات (١٩٥٦–١٩٦١م)، ونشرت دراسة عن المحاكمة تولَّى معهد هوفر الإنفاق على نشرها.
-
أما المرحلة الثانية: فهي التي بدأت عندما تطور الصراع الأفريقي في أواخر الستينيات إلى
حرب العصابات المسلحة في أنجولا وروديسيا وناميبيا وموزمبيق، وترافق هذا كله مع تطور
السياسات الداخلية في أمريكا ناحية اليمين، خصوصًا بعد انتخاب نيكسون عام ١٩٦٨م.
وفي هذه المرحلة الثانية لم تعُد لجنة الأستاذة كارتر الاستشارية في الخارجية الأمريكية هي المجموعة الملائمة للمتطلبات الجديدة، وهكذا وُضعَت هذه اللجنة على الرف، ابتداءً من سنة ۱۹۷۰م، وأُخرجت الأستاذة كارتر ذات النزعات الليبرالية من اللجنة، وبدأ ظهور مجموعة جديدة من الأكاديميين أكثر عداءً لحركات التحرر الأفريقي، وأشد إلحاحًا على ضرورة التسلل إلى حركات النضال الوطني.
ويرصد روبرت مولتينو في بحثه خمس حالات تعبِّر عن المناخ الجديد، أولاها حالة الأستاذ وليم جريفث بجامعة إم. آي. تي الذي قام بزيارة لزامبيا عام ۱۹٦٩م، وزار جامعة زامبيا، وكانت هذه الزيارة مقدمة لدراسة تقوم بها جامعته عن حركات التحرر في أفريقيا، وثانيتها حالة الأستاذ روبرت روتبرج الأستاذ بجامعة إم. آي. تي أيضًا، والذي كتب إلى جامعة زامبيا في أكتوبر سنة ۱۹۷۰م يقترح عليها القيام بدراسة مشتركة عن «سياسات وسيكولوجيات وتكنيكات حركات التحرر الأفريقية»، وقال، في معرض الرد على أسئلة جامعة زامبيا، إن معظم الباحثين سيكونون أمريكيين، والهدف هو الحصول على الدكتوراه، وفترة الدراسة خمس سنوات، وإن التمويل سوف يأتي من مؤسسة فورد، وإن موضوع البحث هو معلومات عن الحروب الصغيرة، وكيف يمكن تطويرها أو محاصرتها أو منعها، وقد رفضت جامعة زامبيا الاقتراح البحثي هذا.
أما الحالة الثالثة فهي حالة دكتور بارويل الذي كان يعمل في «معهد دراسات الحرب والسلام» في جامعة كولومبيا، والذي كتب إلى أحد معارفه في جامعة زامبيا، يسأله عن إمكانية التعاون في عملٍ بحثي أكاديمي عن حركات التحرر الأفريقية، ويذكر في رسالته أن زميلًا له (دكتور جونز) سيحضر إلى زامبيا ليعمل محاضرًا بها لفترة، وأنه سوف يعطي جونز كل التفاصيل لمناقشتها مع المختصين.
ومن سوء حظ هذا الأستاذ أن مراسله الأفريقي لم يكن متعاطفًا مع المشروع كما توهم، وأنه قام بتسليم رسالة بارويل إلى إحدى حركات التحرير، التي وزعتها على الصحف وحركات التحرير الأخرى؛ بحيث وجد جونز عند حضوره استحالة الاتصال بمكاتب حركات التحرير في زامبيا.
أما الحالة الرابعة فهي أكثر ذكاءً ومهارة، وبدأت باختيار مواطن أفريقي هو الأستاذ علي معزوري — أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماكدويري بأوغندا، والأستاذ الزائر في معهد هوفر للحرب والسلام والثورة — للدعوة إلى هذا البحث، وفي هذه الحالة لم يقُم معزوري بالكتابة إلى جامعة زامبيا، إنما للاتحاد الأفريقي للعلوم السياسية، غير أن الاتحاد الأفريقي أدرك اللعبة، ورفض المشروع بأكمله.
أما الحالة الخامسة فكانت أكثر ذكاءً وتخفيًا؛ إذ جاءت على شكل اقتراح دراسة مشاكل اللاجئين الأفريقيين نتيجة حروب التحرير، وكان الاقتراح مُوجَّهًا إلى وزير داخلية زامبيا، وقد رفض الوزير هذا الاقتراح.
عند هذا ينتهي بحث روبرت مولتينو الذي قدَّمه في ندوة الأمم المتحدة، إلا أن من المعقول أن نفترض أن أكاديميين آخرين يعملون خلف ستارٍ أشد كثافة قد نجحوا فيما فشل فيه الأولون.
والآن ألَا يذكِّرنا كل هذا بما جرى ويجري في بلادنا من بحوث «أكاديمية» مشتركة بين جامعاتنا المصرية والجامعات الأمريكية؟ ألَا يذكِّرنا كل هذا بمحاولات «وصف مصر بالأمريكاني» كما قالت الأهرام الاقتصادي يومًا من الأيام؟ ألَا يذكِّرنا كل هذا بالدور البغيض لجامعة إم. آي. تي. بالذات في هذا الميدان، وهي نفس الجامعة المتعاقدة مع جامعة القاهرة في تلك البحوث المشتركة؟
متى إذن يفيق بعض الأكاديميين المصريين من جو الأساطير والأوهام؟