قصة كتاب «في الشعر الجاهلي»
صدر كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» في أبريل ١٩٢٦م، لكنَّ ظروف صدوره، وما أحدثه من أثر في المجتمع، لا تُفهَم إلا في إطار فهم طبيعة المناخ السياسي السائد في مصر آنذاك من ناحية، والتعرُّض لكتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، الذي صدر قبل كتاب طه حسين بعامٍ (أبريل ١٩٢٥م) من ناحية ثانية، ثم فهم معركة انتزاع سيطرة القصر على الأزهر من ناحية ثالثة. كانت أول وزارة دستورية بعد الثورة — وزارة سعد زغلول — قد استقالت في أواخر عام ١٩٢٤م إثر حادث اغتيال السردار سيرلي ستاك في القاهرة، وما تقدم به الإنجليز من مطالب إثر الحادث (وأبرزها سحب الجيش المصري من السودان)، وهي المطالب التي رفضها سعد زغلول، وآثر الاستقالة على قبولها.
بعد استقالة سعد جاءت وزارة جديدة، يرأسها رجل القصر زيور باشا؛ فأجرت انتخابات جديدة في مارس ١٩٢٥م، ثم اتضح أن ثمة أغلبية وفدية في مجلس النواب الجديد، وذلك من خلال التصويت على انتخاب رئيس مجلس النواب؛ إذ كان هناك متنافسان رئيسيان؛ سعد زغلول وعبد الخالق ثروت، وصوتت الأغلبية الساحقة من النواب لصالح سعد زغلول؛ فإذا بالملك يُصدِر قرارًا بحل المجلس يوم اجتماعه، وهو إجراء غير دستوري كما كان يعلم زيور والمندوب السامي البريطاني لورد اللينبي والملك نفسه.
وهكذا حكمت وزارة زيور البلاد بانقلابٍ غير دستوري، وكانت المأساة المحزنة أن حزب الأحرار الدستوريين، الذي كان يفخر بدوره في صناعة دستور ۱۹۲۳م، قبِل الاشتراك في وزارة زيور بثلاثة من وزرائه: عبد العزيز فهمي رئيس الحزب، ومحمد علي علوبة، وتوفيق درس، في ۱۳ مارس ١٩٢٥م بعد حل المجلس مباشرة، الأمر الذي أدى إلى توتر الموقف بينه وبين حزب الوفد، وفي هذه الظروف صدر كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وكان بمثابة قذيفة مدوية ضد مشروع الملك فؤاد في إحياء الخلافة، وتعيينه خليفةً للمسلمين بعد إلغائها في تركيا على يد أتاتورك عام ١٩٢٤م.
وكانت قيادات الجامع الأزهر ألعوبةً سهلةً في يد الملك فؤاد ورجال السراي للإعداد لمؤتمر الخلافة الذي سوف يتولى مبايعته، وقد استغل الملك النص الدستوري بأن ميزانية الأزهر لا تخضع لرقابة البرلمان من أجل وقف محاولات البرلمان فرْضَ رقابته المالية على الأوقاف والأزهر، ودار صراع شديد حول هذا الموضوع، ووقف الأزهر في معظمه (قيادات وطلابًا) ضد حكومة الوفد الدستورية، وانتهز الملك الانقلاب غير الدستوري؛ فألحق بالأزهر مدرستَي القضاء الشرعي ودار العلوم ومعاهد المعلمين الأولية، وكلها تتبع وزارة المعارف العمومية، الأمر الذي أسعد الأزهريين، وإن أغضب الوفد.
ماذا كان موقف الوفد من الضجة التي أثارها صدور كتاب «الإسلام وأصول الحكم»؟
لقد وجد سعد زغلول وبعض قادة الوفد فرصتهم الذهبية في التشفي من حزب الأحرار الدستوريين، وهو الحزب الذي كان علي عبد الرازق أحد مثقفيه البارزين، وكانت عائلة عبد الرازق إحدى دعامات هذا الحزب؛ فبدأت صحف الوفد في الهجوم على الكتاب، ولا سيما صحيفة «كوكب الشرق» التي يرأس تحريرها أحمد حافظ عوض، بينما دافعت بعض العناصر البارزة في الوفد، مثل عزيز مبرهم وعباس العقاد، عن الكتاب وصاحبه باعتبار أن القضية حرية رأي كفلها الدستور، ويحكي العقاد في كتابه «سعد زغلول» أنه راجع سعد باشا في موقف الحزب غير المبدئي من هذه القضية، وعندما قامت هيئة كبار العلماء بمحاكمة الشيخ علي عبد الرازق، وأصدرت حكمها بسحب شهادة العالمية منه، وعزله من منصبه في القضاء الشرعي، اجتمع عددٌ كبير من رجال الفكر والصحافة، وأعدوا عريضةً رُفعَت للملك تهيب به ألَّا يُستباح الدستور في أقدس ما صان وكفل من حرية الفكر، وندَّدت العريضة بمحاكمة هيئة دينية لعالِمٍ فاضل بسبب رأيه؛ الأمر الذي يذكِّر بمحاكم المجلس البابوي لجاليليو، وبمحاكم التفتيش في القرون الوسطى، وكان ممن وقَّع على العريضة أحمد حافظ عوض (كوكب الشرق) الذي كان قد هاجم الكتاب وعباس العقاد (البلاغ) ومحمد صبري أبو علم (من رجال الوفد) ومحمود عزمي (عن جريدة السياسة، وهي صحيفة الأحرار الدستوريين) ومنصور فهمي وآخرون كثيرون.
ولم يكن هذا هو رد الفعل الوحيد لمحاكمة علي عبد الرازق؛ لقد حاول عبد العزيز فهمي وزير الحقانية في وزارة زيور، ورئيس حزب الأحرار، حماية الشيخ علي عبد الرازق، فلمَّا فشل في ذلك قدَّم هو وزميلاه استقالتهم من حكومة زيور احتجاجًا على المحاكمة، وأخذ الوفد موقف الترقُّب من هذا التطور الجديد؛ فلمَّا أعلن عبد العزيز فهمي في خطابٍ حزبي في ٢٥ أكتوبر سنة ۱۹۲٥م خطأه في الاشتراك في حكومة زيور غير الدستورية، ونادى بوجوب التمسك بالدستور، ظهرت لأول مرة إمكانية تحقيق تحالف بين الوفد والأحرار الدستوريين والحزب الوطني ضد القصر وزيور وسائر مدبِّري الانقلابات على الدستور، ولم يكن الإنجليز معادين تمامًا لهذه الدعوة؛ لقد استقال المندوب السامي لورد اللينبي في مايو ١٩٢٥م، بعد فشل سياسته، ولم يحضر خلَفه لورد لويد إلا في أكتوبر سنة ۱۹۲٥م، ومع أن الإنجليز كانوا يؤيدون مشروع الخلافة، إلا أنهم كانوا منزعجين بعض الشيء من تزايد نفوذ الملك دون قيود، وكانوا يحاولون تسكين الأوضاع.
وهكذا ظهر اقتراح أمين الرافعي بعقد مجلس النواب المحلول في موعد انعقاده الدستوري في أواخر نوفمبر سنة ١٩٢٥م لبطلان حله دستوريًّا، وإذا لم يتيسَّر عقده تحت قبة البرلمان، فليكن انعقاده في أحد الفنادق، وبالفعل جرت التعبئة المشتركة من الوفد والأحرار والوطني لهذا الأمر، وانعقد مجلس النواب فعلًا في ۲۱ نوفمبر سنة ١٩٢٥م، وأعلن عدم ثقته بحكومة زيور، واضطرت الوزارة الزيورية إلى الاستقالة في نهاية الأمر، وتحدد موعد مايو سنة ۱۹۲٦م لإجراء انتخاباتٍ جديدة، وفي هذه الانتخابات انتصرت الأحزاب الثلاثة المؤتلفة بأغلبية وفدية واضحة، واتفق المؤتلفون، للمحافظة على وحدتهم، على تشكيل وزارة ائتلافية جديدة من وزراء من الأحزاب الثلاثة، يرأسها عدلي يكن في يونيو سنة ١٩٢٦م، بينما يرأس سعد زغلول مجلس النواب، وعُيِّن القطب الوفدي علي الشمسي وزيرًا للمعارف العمومية، بينما عُيِّن القطب الدستوري عبد الخالق ثروت وزيرًا للخارجية.
وصدر كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» قبل إجراء الانتخابات العامة بشهرٍ، وقبل تشكيل الوزارة الجديدة بشهرَين، وعلى أولى صفحاته إهداء إلى عبد الخالق ثروت باشا، قطب الأحرار الذي رأس الوزارة من قبل، والذي كان وزيرًا للخارجية في الوزارة الجديدة!
وقد قُوبِل صدور الكتاب بوابلٍ من الاتهامات الكاسحة ضد مؤلِّفه من جانب رجال الدين عمومًا، ومن قيادات الأزهر خصوصًا، لكن الأخطر من ذلك أن صدور الكتاب، وما جرى حوله من مناقشاتٍ في مجلس النواب قد كاد أن يعصف بالحكومة الائتلافية ذاتها، ولم يكن قد مضى على تشكيلها أكثر من ثلاثة أشهر.
ما هو الموضوع الأساسي لكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»؟
الموضوع الأساسي للكتاب هو محاولة طه حسين إثبات أن الكثرة المطلَقة مما نسمِّيه شِعرًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء؛ وإنما هي منتحَلة مختلَقة بعد ظهور الإسلام؛ فهي إسلامية تمثِّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثِّل حياة الجاهليين قبل الإسلام، فما نقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء، وإنما هو انتحال الرُّواة، أو اختلاق الأعراب، أو صنعة النُّحاة، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين، كما يقول طه حسين.
وأقوى حُجة يقدمها طه حسين في دعم وجهة نظره هذه هي حُجة تباين اللغة العربية بين الجنوب والشمال في الجزيرة العربية؛ فقد اتفق الرواة على أن العرب ينتمون إلى قسمَين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز، وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله، فُطِروا على العربية؛ فهم العرب العاربة، وعلى أن العدنانية اكتسبوا العربية اكتسابًا، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة، وفقدوا تدريجيًّا لغتهم الأصلية، واكتسبوا اللغة المستعارة، وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعرَبة إنما يتصل نسبُها بإسماعيل بن إبراهيم، ويروُون حديثًا يتخذونه أساسًا لكل هذه النظرية، مفاده أن أول من تكلَّم العربية، ونسي لغة أبيه، هو إسماعيل بن إبراهيم.
ولقد أثبت البحث العلمي الحديث — كما يقول طه حسين — بما اكتُشِف من نقوش ونصوص أن هناك خلافًا قويًّا في الألفاظ وقواعد النحو والصرف بين لغة حمير (وهي لغة العرب العاربة) وبين لغة عدنان (لغة العرب المستعربة) وهي لغة قريش؛ فكيف نظم شاعر جاهلي مثل امرئ القيس، وهو يمني قحطاني، شِعره بلغة أهل الحجاز، لا فرق بينه وبين لغة القرآن في لفظه وإعرابه؟
سيقولون: نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان، وكان أبوه ملكًا على بني أسد، وكانت أمه من تغلب، وكان المهلهل خاله؛ فليس غريبًا أن يصطنع لغة عدنان، ويعدل عن لغة اليمن، ولكننا لا نستطيع أن نثبت كل هذا التفسير إلا عن طريق هذا الشِّعر الذي يُنسَب إليه، ونحن نشك في هذا الشِّعر، ونرجح أنه منتحَل؛ وإذن فالبحث العلمي يدور في حلقة مفرغة كما يقول طه حسين.
وإلى هنا قد يبدو أن أفكار طه حسين في هذا الكتاب هي أمور تتعلق باللغة والشعر، وليس لها علاقة بالدين والشرع من قريب أو بعيد؛ فلماذا إذن ثارت ثائرة رجال الدين والأزهر وجماعات المحافظين عند صدور هذا الكتاب؟
لقد حدثت هذه الثورة لسببَين: السبب الأول يتعلق بالمنهج الذي اعتمد عليه طه حسين في بحثه وشرحه في مقدمة الكتاب؛ فلقد أعلن طه حسين أنه سوف يعتمد على منهج ديكارت أساسًا للبحث في الكتاب، والقاعدة الأساسية لهذا المنهج الفلسفي هي أن يتجرد الباحث من تحيزاته الدينية والقومية، قبل الدخول في البحث، وألَّا يبالي إذا جاءت نتائج البحث مناقِضة لعقائده الدينية أو القومية.
«لنجتهد في أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب، أو الغض منهم، ولا مكترثين بنصرة الإسلام، أو النعي عليه، ولا وجلين من أن ينتهي بنا إلى ما تأباه القومية، وتنفر منه الأهواء السياسية، أو تكرهه العاطفة الدينية.»
وطه حسين يُعلن هذا منذ أول صفحة في الكتاب لأنه يريد أن يريح الناس من أول الأمر حتى لا يتأولوا كلامه، ولا يذهبوا مذاهب شتى في الكشف عن الأغراض التي يرمي إليها؛ فإذا كان من المفروض أن يعتمد البحث العلمي على قواعد موضوعية، يمكن أن تتفق عليها عقول باحثين تتباين عقائدهم الدينية والقومية، فإن من الطبيعي عند طه حسين أن تُعزَل قضية البحث العلمي عن قضية الدين، وألَّا يكون لما يرِد في الكتب الدينية المقدسة حجية في مسائل البحث العلمي.
هذا هو السبب الأول لثورة رجال الدين على كتاب طه حسين، أما السبب الثاني، فيتعلق بالنتائج التي انتهى إليها البحث، وبعضها يناقض التفسيرات السائدة لبعض نصوص القرآن أو الحديث، خصوصًا قصة هجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة، وقيامهما ببناء الكعبة، وطه حسين يعلن هذا الخلاف في لباقة أو حذر، لما يقوله في صراحة دون مواربة.
«للتوراة أن تحدِّثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدِّثنا عنهما أيضًا، ولكنَّ ورود هذَين الاسمَين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات صحة القصة التي تحدِّثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن منتظرون إلى أن نرى في هذه القصة ما من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى، وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو العصر الذي أخذ فيه اليهود يستوطنون شمال البلاد العربية، ويبنون فيه المستعمرات؛ فنحن نعلم أن حروبًا عنيفة شبَّت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد، وانتهت بشيء من المسالمة والملايمة والمهادنة.
فليس ببعيدٍ أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة، التي تجعل العرب واليهود أبناء عم.»
ولقد كان من الطبيعي والمتوقع أن تعلن اللجنة التي شكَّلها شيخ الأزهر لبحث الكتاب أنه مملوء بروح الإلحاد والزندقة، وأنه دعامة من دعائم الكفر ومِعوَل لهدم الأديان، خصوصًا الدين الإسلامي، ولقد طالبت اللجنة شيخ الأزهر والحكومة بوضع حدٍّ لهذه الفوضى الإلحادية، خصوصًا التي تُبَث في التعليم العام (أي التعليم المدني) لهدم الدين بمِعول الزندقة. على أن الذين اختلفوا مع طه حسين في كتابه لم يكونوا جميعًا منطلقين من ناحية النص الديني والدفاع عنه، كما فعل مثلًا مصطفى صادق الرافعي، وإنما انطلق بعضهم من منطلقات منطقية للتشكيك في نتائج طه حسين أو بعضها، أو لبيان التناقض في حُجج طه حسين.
من هؤلاء محمد عرفة الذي أوضح أن القرآن لم يعرض لحديث تعلُّم إسماعيل العربية من قحطان، إنما عرض فقط لوجودهما وهجرتهما وبناء الكعبة، وإنما الذي تعرَّض لتعلم إسماعيل اللغة من القحطانية هم مؤرخو اللغة، ودليل طه حسين لا ينفي إلا أن إسماعيل تعلم اللغة من القحطانيين، أما وجود إسماعيل وإبراهيم وهجرتهما إلى مكة وبناؤهما الكعبة، وهي الأمور التي عرض لها القرآن، فلا ينفيها ولا يتعرض لها.
ومن هؤلاء أيضًا المازني، الذي كان متعاطفًا مع طه حسين في بعض نتائج الكتاب، إلا أن الكتاب في رأيه لم يخلُ من المآخذ، ولم يبرأ من السقطات، ومنها مثلًا تناقض طه حسين في رفض بعض شعر امرئ القيس، وقبول بعضه الآخر، مع أنه كله عدناني قرشي.
على أن الشيء الذي يلفت نظر الباحث لهذه القضية هو روح التحدي التي كتب بها طه حسين كتابه هذا، خصوصًا متى لاحظنا أنه صدر بعد عام واحد من كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، الذي أحدث ضجة واسعة في أوساط الأزهر ورجال الدين المشايعين لمشروع الخلافة الذي كانت تقف وراءه السراي، وأدى إلى محاكمة الشيخ أمام هيئة كبار العلماء، والتي أصدرت قرارها بعزله من القضاء الشرعي، وسحب شهادته الأزهرية.
هل نعزو هذا إلى طبيعة طه حسين الشخصية، وإلى أنه كان في سن الشباب بحماسه وفورانه؟ هل يمكن أن يكون هذا وحده هو التفسير؟
لقد كان طه حسين في السابعة والثلاثين من العمر عندما صدر الكتاب، ولا يمكن أن نقول إن طه حسين لم يكن يقدِّر حدوث كل هذه الضجة حول الكتاب؛ فهو القائل بنفسه في صدر الكتاب إنه يعلم أن فريقًا من الناس سيلقون هذا الكتاب ساخطين عليه، وإنه غير حافل بسخط الساخطين لأنه مطمئن إلى أن بحثه «وإن أسخط قومًا، وشق على آخرين؛ فسوف يرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عُدة المستقبل، وقوام النهضة الحديثة، وذخر الأدب الجديد.»
يبدو أنه لا مناص من محاولة وضع اعتبار آخر في تفسير موقف طه حسين هذا، فقد كان قريبًا من حزب الأحرار الدستوريين، وكان من كُتاب صحيفة الحزب «السياسة» فضلًا عن صِلته الوثيقة بمدير الجامعة لطفي السيد، الذي كان هو أيضًا من أقطاب هذا الحزب، ولا بد أنه كان في حسابات طه حسين أن الحزب لن يتخلَّى عنه، خصوصًا أن الكتاب صدر في ظروف ائتلاف وطني بين الأحرار والوفد والحزب الوطني، وكانت وزارة زيور قد سقطت، أو على وشك السقوط، وكانت الانتخابات العامة على الأبواب (مايو ١٩٢٦م)، وكان من المفهوم أن هذه الانتخابات التي دخلتها هذه الأحزاب الثلاثة بتنسيقٍ كامل سوف تكون نتيجتها صفعة للقصر وقادة الأزهر من المشايخ، وأن البرلمان الجديد سوف يحسم معاركه القديمة مع السراي حول الرقابة المالية على الأزهر، وضرورة انتزاع ميزانيته من المال.
أزمة الثقة بالوزارة
ثارت معركة الكتاب في البرلمان في يوم ١٣ سبتمبر سنة ١٩٢٦م، وذلك بمناسبة مناقشة المجلس لميزانية الجامعة، وتكلم عدد من النواب في اتجاه الهجوم على الكتاب ومؤلفه، ومنهم الشيخ الغاياتي وعبد الخالق عطية، الذي كان أول من أثار الموضوع؛ فقال إنه ليس من المفهوم ولا المعقول ولا من حُسن الذوق أن يقوم هذا الشخص (يقصد طه حسين) فيبصق في وجه الحكومة التي يتقاضى مرتبه من أموالها بالطعن على دين رعيتها من أقلية وأكثرية.
وردَّ وزير المعارف الوفدي علي الشمسي قائلًا: إننا جميعًا نطمح أن تكون الجامعة معهدًا مطبقًا للبحث العلمي الصحيح، لكن هذا لا يعني أننا نرضى أن تكون كراسي الأساتذة منابر تُلقى فيها المطاعن في أي دين، وإنما واجب الأساتذة أن يتحاشوا ذلك في كتاباتهم ومحاضراتهم. وقال علي الشمسي إن حادثة الكتاب قد حصلت في عهد الوزارة السابقة، فلما تولى الوزارة سأل مدير الجامعة عن الإجراءات التي اتُّبعت إزاء الحادثة، فأجابه بأن الجامعة قد منعت انتشار الكتاب بشراء جميع النسخ من المكتبات، وحصرتها في مخازنها، كما اتُّخذت الإجراءات اللازمة لمنع طبع نسخ أخرى منه، ولقد أكد مدير الجامعة أن ما يُؤاخذ عليه المؤلف لم يلقه على الطلاب في الجامعة كما ظن (لاحظ أن هذا يتناقض مع ما قاله طه حسين في مقدمة الكتاب من أنه ألقى مادة الكتاب على طلابه)، وأن المؤلف صرَّح على صفحات الكتاب بأنه مسلم، ولم يقصد الطعن في دين من الأديان.
أما فيما يختص بأي إجراءات أخرى (يقصد التحقيق مع المؤلف) فقد قال الوزير إن المؤلف قد سافر إلى أوروبا منذ شهر يونيو عقب تأليف الوزارة مباشرة، وإنه يستحيل اتخاذ إجراءات في غيابه، ووعد الوزير ببحث المسألة بعد عودته، وإفادة المجلس.
وكان من الواضح أن الوزير يحاول كسب الوقت بأمل أن تهدأ الأمور في أوساط النواب، لكن بعض النواب كانوا مصممين على عدم تأجيل الأمور، فتقدم نائب الجمالية الوفدي عبد الحميد البنان باقتراحٍ للعرض على المجلس، قرأه رئيس المجلس سعد زغلول، ويقوم على ثلاثة أجزاء: مصادرة الكتاب وإعدامه، وتكليف النيابة العمومية برفع الدعوى ضد المؤلف، ثم إلغاء وظيفة طه حسين من الجامعة.
وتكهرب الجو، كانت هذه هي الوزارة الائتلافية التي يرأسها عدلي يكن، ويرأس مجلسها النيابي سعد زغلول، وكانت الوزارة تضم ممثلين لأحزاب الوفد والأحرار والوطني، وكان من الواضح أن الأحرار الدستوريين لن يسمحوا باتخاذ مثل هذه الإجراءات العنيفة مع واحدٍ من مثقفيهم مثل طه حسين، فضلًا عن أن بعض نواب الوفد والحزب الوطني ووزرائهما لن يكونوا راضين عن مثل هذه الإجراءات التي اقترحها عبد الحميد البنان.
وتقدم رئيس الحكومة عدلي يكن، وألقى بيانًا في المجلس، قال فيه: إن الحكومة قد اتخذت كل الإجراءات اللازمة، وإنه يفهم أن يُظهِر المجلس استياءه من الكتاب، أما أن يتخذ المجلس قرارًا يخالف ما اتخذته الوزارة من إجراءات، أو يُلزِمها بالقيام بعملٍ معين، زيادة على ما فعلته، وما وعد به وزير المعارف، فيكون هذا انتقادًا لإجراءاتها في الموضوع يعرضها للمسئولية الوزارية.
واحتبست الأنفاس، وسأل رئيس المجلس (سعد زغلول) رئيس الحكومة (عدلي يكن) إن كان هذا يعني طرح الثقة بالوزارة، فأجاب بالإيجاب.
وبدأت معركة كلامية علنية بين رئيس المجلس ورئيس الحكومة، وكان ما يعني رئيس المجلس هو سلطات المجلس في محاسبة الحكومة، واتخاذ ما يراه من إجراءاتٍ، أكثر من عنايته بقضية الكتاب ذاته، بينما كان عدلي يكن يهدد في حقيقة الأمر بفض الائتلاف إذا وصلت الأمور إلى هذا الذي يطلبه النائب عبد الحميد البنان، وكان موقف وزير المعارف أقرب إلى موقف عدلي يكن، وإن لم يكن صريحًا.
وتدخَّل النائب فكري أباظة منبِّهًا إلى أن مصادرة الكتاب لا تتم إلا بحكمٍ قضائي، واقترح تأجيل النظر في اقتراح عبد الحميد البنان إلى أن يطَّلع المجلس تفصيلًا على إجراءات الحكومة، وقال سعد زغلول في انفعالٍ واضح، ووسط تصفيق حاد: «لا يمكنني أن أرأس هذا المجلس، إذا لم يكن هذا من اختصاصه.»
ولما بدا أنه لا يوجد حلٌّ وسط كل هذه الضجة الكلامية، تقدم أحمد ماهر باقتراح رفع الجلسة لمدة عشر دقائق للاستراحة، ووافق سعد الذي ذهب إلى مكتبه في المجلس، وتبعه عدلي يكن وحسين رشدي (رئيس مجلس الشيوخ)، وبقوا معًا في مكتب سعد، وانضم إليهم آخرون بحثًا عن حل، وكان من الواضح أنهم قد أقنعوا سعد زغلول بالذهاب إلى منزله باعتبار أنه مجهد، على أن يتولى مصطفى النحاس رئاسة المجلس في غيابه؛ حيث يتقرر التأجيل إلى اليوم التالي.
وهذا ما تم بالفعل، وإثر رفع الجلسة الساعة العاشرة والربع مساء ذهب إلى بيت الأمة أقطاب الحكومة والمجلس، وانضم إليهم فتح الله بركات (ابن شقيقة سعد زغلول، وواحد من أقرب المقربين له) ومحمد محمود، وظل الجميع في مداولات في بيت الأمة إلى ما بعد منتصف الليل، وقال الوزراء للصحفيين عند خروجهم من بيت الأمة إن الحادث سُوِّي وانتهى، وأصبح كأنه لم يكن.
ثم اتضح أن التسوية قامت على أن يقوم عبد الحميد البنان شخصيًّا بتقديم بلاغ إلى النائب العام، يطلب فيه التحقيق مع مؤلف الكتاب، أما عن المصادرة فهي مؤجَّلة إلى حين انتهاء التحقيق، أما إلغاء وظيفة طه حسين فقد اكتفى النائب بتصريح رئيس الوزراء ووزير المعارف بالنظر في هذه المسألة وبحثها بما تستحقه من عناية.
وفي صباح اليوم التالي وقف النائب الوفدي ليعلن تنازله عن اقتراحه القديم، ويشرح أسباب ذلك، وهكذا انتهت أزمة كادت أن تعصف بالحكومة الائتلافية الجديدة.
بقي أن نقول إن النيابة قامت بالتحقيق مع طه حسين عند عودته من أوروبا، وإنها حفظت التحقيق في نهاية الأمر، وقام قرار حفظ التحقيق على أساس أن عنصر القصد الجنائي غير متوفر؛ فلكي يعاقَب المؤلف لا بد أن يثبت أنه بما كتب قد أراد أن يتعدى على الدين، وهو ما لم يثبته التحقيق.
كتب الدكتور جابر عصفور في عدد الهلال الأخير مقالًا بعنوان «أوراق العمر للويس عوض» تعرَّض فيه لكتاب الشعر الجاهلي؛ فذكر أن التهمة ضد طه حسين قد حفظها وكيل نيابة مستنير، ودافع عنها وزير معارف مستنير (علي الشمسي).
وأعتقد أن هذا القول تنقصه الدقة، نعم لقد حفظ وكيل النيابة التحقيق في مارس سنة ۱۹۲۷م بحجة أن القصد الجنائي غير متوفر، لكنه حشد قرار الحفظ بالتهجم على طه حسين، واتهامه بالجهل والتناقض، إلى درجة أن طه حسين قدَّم استقالته من الجامعة عقب صدور قرار الحفظ لما فيه من إهانة له، وبادر مدير الجامعة (لطفي السيد) إلى تلاشي الأمر بحمل وزير المعارف على رفض الاستقالة ففعل، وقد طبع الكتاب ثانية بعد حذف ما أنكره البعض باسم «في الأدب الجاهلي».
ولا شك أن قرار النيابة بحفظ التحقيق لم يكن سببه الأساسي هو هذا الدفع الشكلي الذي ذكره عن عدم توفُّر القصد الجنائي، وإنما كان سببه الأساسي هو أنها كانت تدرك أن أي قرار آخر سوف يؤدي إلى أزمة وزارية لا تُحمد عقباها، وهي ما لا يمكن أن تتحمَّل النيابة عواقبه.
أما وزير المعارف، فإنه لم يدافع عن الكتاب، وإنما حاول كسب الوفد وتهدئة الأمور، لكنه بالقطع لم يكن مستعدًّا لاتخاذ إجراءات ضد طه حسين.
لا شك أنه كان مما يُؤسَف له كثيرًا أن ينتهي الدور البرلماني الحاضر بخلافٍ يقوم حول مسألة كمسألة أمس، بعد أن سار مجلس النواب والوزارة، في مختلف شئون الدولة الخطيرة، بتمام الاتفاق والوئام، وأن تثير الحكومة مسألة الثقة بسبب كتابٍ سلَّمت هي بضرر ما فيه، كتاب نعرف أن الغالبية العظمى من الأمة لا ترضى عنه، ولا عن مؤلِّفه.
لكن التاريخ كان له حُكم آخر على طه حسين غير هذا الذي قالته الأهرام.