التعليم المتاح … في زمن الانفتاح

قبل أن نقترب من قطاع التعليم العام، ونطرق أبوابه … نسأل سؤالًا منطقيًّا وهو: إذا كانت السياسة الاقتصادية الاجتماعية وأولوياتها في مصر قد انحازت خلال السنوات العشر الماضية إلى مصالح الشرائح والفئات الطفيلية من تجار الاستيراد ووكلاء الفبارك الأجنبية ومتعهدي التوريد والشراء والبيع لدى وزارات الدولة والمتاجرين في قُوت الشعب، وضد مصالح الفقراء الذين يمثِّلون الأغلبية الساحقة في وطننا، وإذا كانت هذه السياسات قد ورَّطت مصر في سياسة التبعية الاقتصادية والعسكرية والثقافية لواشنطن، وأدَّت فيما أدَّت إلى تدهور قطاعات عديدة من الخدمات العامة، مثل النقل والمواصلات العامة، وخدمات المياه والمجاري وخدمات التموين، وخدمات المستشفيات في المدينة والريف … إلخ، فهل يُعقَل أن يُستثنى قطاع التعليم من هذا التدهور العام الذي أصاب القطاع الخدمي في السنوات العشر الماضية؟

الإجابة المنطقية: لا بالطبع؛ فمن غير المتصوَّر ألَّا ينعكس وضع التدهور العام على قطاع التعليم بالذات، لأنه أوثق ارتباطًا من أي قطاعٍ خدمي آخر بتطوُّر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد.

ومع ذلك فلنحاول الاقتراب من قطاع التعليم العام على الطبيعة في محاولة لقياس أوضاعه، هنا تبدأ مشكلة تحديد المعيار أو المعايير التي سوف نستخدمها في القياس، وهنا أيضًا قد تتباين وجهات النظر، ومع ذلك، ومن أجل الاستمرار في النقاش، سوف نستخدم معيارَين وحيدَين أقرَّ بهما وزير التعليم في أحاديثه الأخيرة في الصحف والتليفزيون؛ المعيار الأول هو ديمقراطية التعليم، والمعيار الثاني هو تحديثه.

ديمقراطية التعليم

فيما يتعلق بالمعيار الأول ينبغي أن نقول صراحةً إن كل ازدواجية في التعليم في مرحلة التعليم الأساسي الإلزامي تتناقض مع الديمقراطية، ومع ذلك فنحن نعلم أن بعض من هم في سن الإلزام يذهبون إلى التعليم المدني في مدارس الحكومة، بينما يدخل البعض الآخر مدارس الأزهر، مع أن من المنطقي أن يبدأ التعليم الديني في الأزهر بعد مرحلة الإلزام، أي ابتداء من التعليم الثانوي.

أيضًا سوف نلاحظ اتساع قاعدة التعليم الخاص بالمصروفات للمرحلة الابتدائية باسم مدارس اللغات، التي أسسها مجموعة من الانفتاحيين في السنين الأخيرة.

وحتى مرحلة رياض الأطفال، والتي التزمت الوزارة في تقرير يوليو سنة ۱۹۸۰م (تطوير وتحديث التعليم في مصر) بمساندتها، نجدها تتبع كلها القطاع الخاص، ويدفع الأهالي فيها مئات الجنيهات من أجل قبول أبنائهم (ويتم هذا تارةً باسم الجهود الذاتية، وتارة باسم المباني … إلخ) مهما كانت التعليمات الشكلية من المناطق التعليمية، ومعنى هذا، بصريح العبارة، أن أبناء الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى محكوم عليهم بالبقاء في الشارع إلى حين دخول المدرسة الابتدائية.

وتعترف الوزارة في التقرير السابق الذكر (الفصل الثاني، ص٢٥) أن عدد المقيَّدين في التعليم الابتدائي عام ١٩٧٩-١٩٨٠م وصل إلى أربعة ملايين وثلاثمائة ألف، بنسبة ٧٥٪ من شريحة العمر «٦–١٢ سنة»، أي أن نسبة استيعاب من هم في سن التعليم الابتدائي هي ٧٥٪، ومع ذلك فهي تأتي في مكانٍ آخر من نفس التقرير (صفحة ٤١)؛ فتقول إن نسبة الاستيعاب في عام ۱۹٧٩-۱۹۸۰م هي ٨٣٪؛ فأي الرقمين نصدق؟

لن ندخل هنا في تاريخٍ طويل لوزارة التربية والتعليم في إساءة استخدام الأرقام والإحصائيات في رسم صورة وردية زائفة؛ لأن هذا كلام يطول شرحه، وحسبنا أن نقول إن قضية الاستيعاب على أهميتها لا ينبغي أن تُخفي قضية أهم، وهي ظاهرة التسرُّب في المرحلة الابتدائية، والعودة إلى الأمية، وهي ظاهرة تتعلَّق بالفقراء أساسًا، وثمة قرائن عديدة تشير إلى أن معدلات التسرُّب في التعليم الابتدائي قد عادت إلى التزايد في السبعينيات، ويدعم هذه القرائن البحث الذي أجراه المركز القومي للبحوث التربوية بالاشتراك مع البنك الدولي، والصادر في مارس سنة ۱۹۸۰م، بعنوان «التسرُّب من التعليم الابتدائي»، وهذا البحث يعترف صراحةً أن سياسة الانفتاح كانت وراء تزايد نسب التسرب في التعليم الابتدائي؛ إذ إن هذه السياسة خلقت لأبناء الفلاحين فرصَ عملٍ كما يقول التقرير.

كذلك أدَّت سياسة الانفتاح إلى اختلالٍ فاضحٍ في سُلم الأجور والمرتبات، وارتفاعٍ رهيبٍ في تكاليف المعيشة، ومن هنا اتجه كثير من المدرسين إلى الدروس الخصوصية لاستكمال دخولهم، وهكذا تحوَّل عمليًّا جزءٌ هام من التعليم العام إلى القطاع الخاص المنزلي، أي أننا عُدنا إلى نظام التعليم بالمصروفات من الباب الخلفي، أيًّا كانت المسميات، أي وبسبب هذا أضير أبناء الفقراء العاجزين عن الدفع ضررًا بليغًا.

إن من الخطأ الاستخفاف بالوضع الأجري السيئ لمدرسي التعليم العام، وانعكاس هذا الوضع على كفاءتهم في التدريس بالمدرسة، بسبب سهرهم الليالي في الدروس الخصوصية، ولعل من المفزِع أن نقرأ في صحيفة الأهرام بتاريخ ۸/ ۱۰/ ١٩۸۳م عن مدرسٍ في التعليم الابتدائي يحترف النشل في المواصلات العامة، ويستخدم السلاح عند محاولة ضبطه، مما اضطر المباحث الجنائية إلى عمل كمين له في مديرية الجيزة التعليمية للقبض عليه! نعم إنها حادثة فردية، ولكنها ذات دلالة مفزعة.

ثم هناك مدارس اللغات التي أنشأتها الوزارة في التعليم الابتدائي لتعليم اللغات الأجنبية، وبمصروفاتٍ باهظة لا يقدر عليها إلا أبناء الأثرياء والانفتاحيين، أليس هذا التوجُّه المعادي لكل مبادئ التربية، ثمرةً من ثمرات سياسة الانفتاح؟ فإذا أضفنا إلى هذا ما يحدث حاليًّا من قفزٍ من فوق امتحان الثانوية العامة المصرية عن طريق امتحان المجلس البريطاني بأعدادٍ وصلت إلى ثمانية آلاف هذا العام (ومن يدري كم يصل العدد بعد خمس سنوات) لأصبح واضحًا أمام كل منصفٍ أن ديمقراطية التعليم العام في حالة تراجعٍ مستمر خلال سنوات الانفتاح، وليس من المهم أن نسمع ونقرأ قصائد مديحٍ لديمقراطية التعليم في تقارير الوزارة، أو تصريحات الوزير، وإنما المهم هو الوقائع التي تتحدث بأقوى من التصريحات، ولقد ذكرنا بعضًا من هذه الوقائع، وكلها ذات دلالة، وكلها يصعب على أي إنسان قريب من قطاع التعليم إنكارها.

التحديث

والآن ننتقل إلى المعيار الثاني، وهو التحديث، من أي زاوية يمكن أن نتناول قضية التحديث؟

الحقيقة أنه يمكن تناول هذه القضية من زوايا متعددة، منها المناهج والمباني المدرسية، والمزج بين التعليم النظري والعمل اليدوي كما في المدرسة الشاملة … إلخ، وكل هذه الأمور في حاجة إلى تكلفة مالية ليس في متناول الوزارة، وهي التي تصرف الغالبية الساحقة من ميزانيتها في الأجور والمرتبات، هذا حتى إذا سلَّمنا بأن هناك رغبةً جادة لدى أجهزة الوزارة في الإصلاح!

وابتداءً ينبغي أن نلفت النظر إلى أن التجربة الأساسية في تحديث المناهج بالمرحلة الثانوية (مشروع اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم في عامَي ١٩٦٨م و١٩٧٥م) كانت تختص بمشروعات الرياضيات المعاصرة، وهو المشروع الذي انتكس في مصر منذ أواخر السبعينيات مع أن نفس المشروع تم تعميمه في معظم الأقطار العربية الأخرى، وقد يُقال إن لذلك أسبابًا، مثل ضعف تدريب بعض المدرسين، ومغالاة بعض المدرسين فيما يتقاضونه من التلاميذ في الدروس الخصوصية … إلخ.

ولستُ معنيًّا بمناقشة الأسباب هنا، وكلها كان يمكن معالجتها لو كان لدى المسئولين في الوزارة رغبةٌ في الاستمرار؛ فالمهم عندي هو أن المشروع الجاد الرئيسي الذي اقتحم ديوان الوزارة لتحديث المناهج قد أجهز عليه وكلاء الوزارة، بحجة أن أوروبا وأمريكا تراجعتا عن المشروع، وهو أمر غير صحيح، وإنما الصحيح أنه قد حدث بعض التعديل للمناهج الحديثة على ضوء التجربة والممارسة، خصوصًا في مرحلة التعليم الابتدائي التي كانت هناك مبالغاتٌ في مناهجها في المراحل الأولى.

فإذا تحوَّلنا إلى المباني المدرسية، وكلنا يعلم حالتها البائسة على ضوء نظام الفترات الثلاث في عديدٍ من المدارس، خصوصًا في الأحياء الفقيرة، فسوف نجد أن الوزارة قد حددت في تقرير يوليو سنة ١٩٨٠م حاجتها إلى ٧٥٠ مليون جنيه للأبنية التعليمية لمدة خمس سنوات، واقترحت إعادة إنشاء «مؤسسة الأبنية التعليمية» التي كانت موجودة في المرحلة الناصرية.

وردَ هذا في تقريرٍ صدر منذ أكثر من ثلاث سنوات، وحتى اليوم لم يتم عمل شيء؛ فلا مؤسسة الأبنية التعليمية ظهرت إلى الوجود، ولا أخذت الوزارة في ميزانيتها في الباب الثالث ما يسمح لها بتجديد المدارس، أو بناء مدارس جديدة، وربما تحاول الوزارة الاختباء وراء المحليَّات والمحافظين باعتبار أنها مسئولة عن التخطيط، وغيرها مسئولة عن التنفيذ!

حتى مشروع المدرسة الشاملة الذي بدأ في مدينة نصر منذ سنين عديدة، والذي أنفقت ألمانيا الديمقراطية الكثيرَ على وِرشه ومَعامِله، قد احتضر هو الآخر لأسبابٍ عديدة؛ من أهمها جو الانفتاح العام الذي لم يكن مشغولًا بقضية التعليم والإنتاج، بقدر ما كان مشغولًا بتحويل متعلمي مصر إلى ترجمانات للسياح الإسرائيليين والأمريكيين، وتوفير موظفين يجيدون الحديث والنَّسخ على الآلة الكاتبة باللغة الإنجليزية للعمل في البنوك الأجنبية الجديدة!

والخُلاصة أنه حتى إذا اقتصرنا على معيارَي الديمقراطية والتحديث في التعليم، ولم نتعرَّض لمعايير أخرى، فإننا نجد أن أحوال التعليم العام في مصر قد تدهورت خلال سنوات الانفتاح، صحيح أن ثمة مشروعاتٍ هنا وهناك يموِّلها البنك الدولي أو هيئة المعونة الأمريكية، وصحيح أن الوزارة تُكثِر من الحديث بالأرقام عن زيادات أعداد الطلاب … إلخ، لكنَّ معظم هذا فارغ الدلالة؛ فالوزارة تعاني في رأيي من فقدان الاتجاه بسبب المناخ العام لسياسة الانفتاح، وبالرغم من كل هذا الكلام الطنان عن استراتيجيات التعليم.

أكتب هذا وأنا أعلم أن هذا الكلام ربما لا يُرضي الصديق نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم د. مصطفى كمال حلمي، ولكن ما حيلتي إذا كان عليَّ أن أختار بين إرضاء صديقٍ وبين مواجهة الحقائق في مثل هذه القضايا القومية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥