محنة التعليم والنمور الخمسة
الآن وقد سقطت دعوى وزير التعليم السابق د. فتحي سرور بأن تقريره عن استراتيجية التعليم الذي قدَّمه عام ١٩٨٧م، والسياسات التي نفَّذها بعد ذلك هي سياسة قومية تحظى بموافقة القيادة السياسية العليا في مصر، يحقُّ لنا أن نتساءل: ماذا بعد؟
وكيف تنوي الدولة أن تمضي في إصلاح أوضاع التعليم، إذا كانت قد اعترفت، على لسان الوزير الجديد، بأن «التعليم يمر بأزمة خطيرة، تحتاج إلى تضافر كل الجهود والقوى الوطنية» و«بحاجتنا إلى تغييرٍ شامل لنظام التعليم يعتمد على الفكر والعقل وتشجيع الطلاب على التفكير بدلًا من الاعتماد على الحشو والتلقين»؟
هذا هو السؤال الجوهري اليوم
إن سقوط دعاوى د. فتحي سرور لا يتمثَّل في تصريحات الوزير الجديد د. حسين كامل بهاء الدين فحسب؛ بل يتمثَّل حتى فيما يقوله الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام في سلسلة مقالاته الأخيرة بعنوان «المواجهة الصعبة» وبالذات في مقال ٦ سبتمبر؛ حيث قال عند حديثه عن حاجتنا إلى تكوين قوة عمل مصرية تكون قادرةً على تحقيق الإنتاج والتصدير المنشود، ما يلي نصًّا: «إن هذا لن يتم إلا من خلال نظامٍ للتعليم يختلف في جوهره ومحتواه عما هو موجود الآن على أرض الوطن، ذلك أن المدرسة الموجودة حاليًّا بجميع مدخلاتها ومخرجاتها لا تقدم لمصر ما تحتاجه لتحقيق التقدم المنشود.»
فهل يكون من المبكر أن نتساءل: ماذا بعدُ؟ وإلى أين تتجه الدولة في سياسة إصلاح التعليم؟
يعتقد البعض ذلك، وهم يقولون إن علينا أن نُعطي الوزير الجديد الوقت الكافي لمواجهة المشاكل العاجلة ولدراسة الموقف واستشارة القُوى الوطنية المختلفة قبل أن نسأله: وماذا بعدُ؟
غير أن ما دفعنا إلى طرح الموضوع هنا هو ما ورد من إشاراتٍ في سلسلة مقالات رئيس تحرير الأهرام الأخيرة توحي باتجاهات النظام المصري في المرحلة القادمة.
وهذا القلق الذي نعبِّر عنه هنا من هذا التوجُّه يفترض أن الرأي الوارد في مقالات رئيس تحرير أكبر مؤسسة صحفية حكومية في مصر ليس بعيدًا عن الفكر السائد في أوساط القيادة السياسية العليا في هذا الموضوع، ومثل هذا الافتراض هو لا شك افتراضٌ معقولٌ تبرره أحداث ووقائع وسوابق الماضي.
إنني أشير بشكلٍ مباشرٍ إلى ما وردَ في سلسلة مقالات الأستاذ إبراهيم نافع الأخيرة من إعجابٍ بنظام التعليم في البلدان الآسيوية الخمسة، التي تسميها الصحافة الغربية «النمور الخمسة»، وهي تايوان وكوريا الجنوبية وهونج كونج وسنغافورة وتايلاند، وما يشبِه الدعوة إلى تقليد نُظم تعليم هذه البلدان عند التفكير في إصلاح نظام التعليم المصري؛ لقد قال الأستاذ إبراهيم نافع في مقالٍ له نُشر في ١٦ أغسطس ما يلي نصه: «استطاعت هذه الدول (النمور الخمسة) أن تحقق زيادة في الإنتاج، والقدرة على المنافسة في الأسواق العالمية من خلال الالتزام بما يلي» ثم يعدِّد أسباب ذلك إلى أن يصل إلى البند الثالث، وهو:
«تنفيذ برنامج شامل لإعداد الإنسان لكي يكون منتِجًا، من خلال نظامٍ للتعليم لا يختلف عن النظم الموجودة في الدول المتقدمة. لقد وضعوا لأنفسهم هدفًا واضحًا ومحددًا، وهو أن يكتسب كلُّ فردٍ، غنيًّا كان أو فقيرًا — قبل أن يصل إلى سن الثامنة عشرة — إلى جانب المعرفة والعلوم الأساسية، مهارةً وحرفةً تجعله قادرًا على الإنتاج.»
أما الأمر الثاني فهو أنه لا ينبغي لأحدٍ أن ينسى الظروف الخاصة والاستثنائية التي تتعلق بكوريا وتايوان على وجه الخصوص؛ فالأولى تأسست كدولةٍ بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة في بكين عام ١٩٤٩م، والثانية شهدت عامَي ١٩٥٠–١٩٥١م، معارك الحرب الساخنة التي كادت أن تتحوَّل إلى حربٍ عالمية، وكلا الحدثَين اعتبر بمثابة هزيمة للولايات المتحدة؛ ولذا فإن المعونات الأمريكية الضخمة التي انهالت على هذَين البلدَين لا يُنتظَر أن تتكرر على الإطلاق في بلدٍ آخر في ظل الوضع الدولي الحالي.
كما أن قدرات أمريكا الاقتصادية التي خرجت بها بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد هي قدراتها اليوم، وفضلًا عن ذلك فإن حكومة تايوان نفَّذت منذ الخمسينيات إصلاحًا في قطاع الزراعة أدَّى إلى توزيعٍ للدخول أكثر عدلًا في ذلك القطاع، وهو أمر تعمل حكومتنا عكسه على طول الخط منذ بداية الانفتاح.
أضِف إلى ذلك أن «معجزة» بعض تلك البلدان نشأت في أحضان وصاية مالية أمريكية، أو يابانية ومع ذلك فقد كثر الحديث في صحف الغرب خلال الشهور الأخيرة عن انكسارٍ اقتصادي في كوريا الجنوبية؛ نتيجة أوضاع الكساد العالمي، هذا فضلًا عن الاضطرابات السياسية المستمرة فيها، والتي يقودها طلاب الجامعات والمدارس بسبب أزمة الديمقراطية هناك، وهي اضطرابات لم تتوقف قَط.
لقد تحدثنا ببعض الإسهاب عن حالة بعض هذه «النمور» حتى نوضح اختلاف ظروف تلك البلدان عن ظروفنا، وبالتالي فإن فكرة تقليد أنظمة التعليم فيها هي فكرة ضارة، ولن تؤدي إلى الإصلاح المنشود.
وربما يتذكر بعض القراء أنه عندما عُيِّن المرحوم د. محمود فوزي رئيسًا للوزراء في مصر في أوائل عهد السادات، خرج علينا بحديثٍ صحفي طويل عن ضرورة نقل الخبرة اليابانية في التعليم إلى مصر، وكان من المفارقات الساخرة أن صحف ومجلات اليابان كانت آنذاك مليئة بالشكوى من نظام التعليم الياباني، لأنه يعتمد على التلقين والحفظ، وليس على تنمية مَلَكة التفكير؛ ولأنه طبقي أكثر من اللازم، وقد وضع اتحاد رجال الأعمال في اليابان أكثر من تقرير حول هذا الموضوع، وكلها تشكو من ضعف ملَكة الإبداع عند الياباني بالمقارنة مع زميله الغربي، وأحد هذه التقارير يشير إلى أن الياباني الوحيد الذي مُنِح جائزة نوبل كان يعيش ويعمل في الولايات المتحدة.
لقد أسهبنا في هذا الحديث لتوضيح خطورة الانسياق وراء الانبهار بوضع «النمور الخمسة»، والاتجاه إلى تقليد نظم التعليم هناك؛ فواقع الأمر أن نظام التعليم الصحيح في مصر لن يضعه إلا مصريون، بما يلائم ظروف مصر، ومصر بها كفاءات كثيرة لا يُستفاد بها في وضع سياسات التعليم، والمشكلة الأساسية في عدم الاستفادة من هذه الكفاءات هي أن توجهات النظام الحالي في التبعية، وفي السياسات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وفي الموقف من المؤسسات المالية الدولية — خصوصًا صندوق النقد — كلها تتعارض مع أي مشروع جاد لإصلاح التعليم.
وبالطبع فنحن نكرر أننا لسنا ضد دراسة خبرة البلدان الأخرى في التعليم والاستفادة منها وفق ظروفنا واحتياجاتنا؛ فنحن مع الانفتاح على العالم الخارجي في ميادين الثقافة والتعليم، ولكننا ضد أن تهون مصر إلى درجة أن تُوضَع سياسات التعليم في أروقة «المعونة الأمريكية»، في القاهرة أو واشنطن، وضد أن ننخدع بالانبهار الزائف بأوضاع كوريا أو تايوان، كما نُبدي اندهاشنا مما قاله الأستاذ إبراهيم نافع، في مقال ٦ سبتمبر في سياق حديثه عن التعليم، بأن التقدم يحتاج إلى معرفة، ولن ندَّعي أن لدينا هذه المعرفة!