من يرفع صوت الفقراء؟
في الأسابيع الأخيرة فُتحَت النيران فجأة وبغزارة على سياسات وقرارات وزير التعليم (د. أحمد فتحي سرور) وجاءت النيران في الغالب هذه المرة من داخل الصحف الحكومية؛ بحيث تصوَّر بعض البسطاء أن هذه الحملة هي مقدِّمة لعزله، كما حدث مع «اللواء زكي بدر»، وخلال هذه الحملة الشرسة، الصادرة عن صحف الحكومة، وُصفَت سياسات فتحي سرور بأنها «معادية للإصلاح تارة، وبالشعارات المضحكة والسياسات اللقيطة تارة أخرى.»
وحوكمَت سياسات «فتحي سرور» في التليفزيون أمام مجموعة من المحلفين في برنامج يُعرَف باسم «واجِه الحقيقة» ومع أن يد المونتاج قد امتدت إلى هذا البرنامج التليفزيوني، وحذفت بعض أجزائه كما قال لي أحد المساهمين فيه؛ فإن ما قيل فيه يكفي لتوضيح أن ثمة محاكمة لسياسات «فتحي سرور» وقراراته.
ثم تزامن كلُّ هذا مع مؤتمرٍ هام تم عقده في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكان موضوعه الأصلي «الأبعاد السياسية والاقتصادية لسياسة التعليم الجامعي»، إلا أنه تحوَّل — كما تقول صحيفة الأهرام — إلى محاكمة لسياسات التعليم المصري الحالية في التعليمَين العام والجامعي، واستغرقت المحاكمة ثلاث ساعاتٍ كاملة مثَّل الادِّعاء فيها أساتذة الجامعات بتوجهاتهم الفكرية المختلفة، وقام «المتهم» أحمد فتحي سرور بالرد على تُهم الادعاء بمرافعة بليغة لغويًّا، وإن كانت لا تعني كثيرًا.
لكنه اضطر أمام عنف الهجوم على سياساته في المؤتمر إلى الإدلاء ببعض الاعترافات … وفي مقدمة هذه الاعترافات، عندما سُئل عن قضية ربط التعليم بالعمل، اعترافه بأنه «لا توجد لدى الحكومة حتى هذه اللحظة نظرة مستقبلية للتنبؤ باحتياجات سوق العمل، وأنه عندما يجتمع المجلس الأعلى للجامعات لرسم سياسة القبول؛ فإنه يحددها بناء على توقعاتٍ أو بالتخمين؛ لأنه ببساطة ليس لدينا تحديدٌ لاحتياجات سوق العمل من التخصصات العملية.» والغريب أن ما قاله الوزير في هذا الصدد هو نفس ما قلتُه منذ سنواتٍ في سلسلة من المقالات عن التعليم نُشرَت بصحيفة «الأهالي»، وفيها قلتُ بالنص: «الحقيقة أنه لا توجد دراسة علمية يُوثَق بها تتعلق بقضية توقعات احتياجاتنا من التخصصات المختلفة؛ إما لأننا لا نثق ببيانات الماضي لاتخاذها أساسًا لإسقاطاتٍ عن المستقبل، وأيضًا لأننا لا نملك خطة وطنية حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن تصلح مرشدًا لنا في هذا المجال.»
كما اعترف الوزير بأنه يتلقَّى من بعض النقابات المهنية (نقابة الأطباء في المقدمة) عشرات المذكرات، تطالب بتخفيض أعداد المقبولين في الكليات التي تُخرج أعضاء هذه النقابات، وأن الحكومة لا تستجيب لها؛ وتقرر زيادة الأعداد.
وأنا لا أستطيع أن أقول بالدقة إن كانت أعداد المقبولين في كليات الطب قد نقصت في عهد «فتحي سرور»، لكن ما أخفاه الوزير هو أن الحكومة قد استجابت لمثل هذه الطلبات ذات التوجُّهات المهنية الضيقة من قبل؛ فانخفضت أعداد المقبولين في كليات الطب من ۷۰۰۰ عام ۱۹۸۳م إلى ٣٠٥٠ عام ۱۹۸٤م إلى ۲۸۰۰ عام ١٩٨٥م. وكانت الحُجة السخيفة الفاضحة هي أننا لم نعُد في حاجة إلى أعدادٍ كبيرة من الأطباء، وأن أطباء الامتياز يجلسون بالعشرات في مستشفيات الحكومة دون عملٍ؛ بحيث ترك بعضهم الطب، واشتغلوا بأعمال المضيفين في الفنادق!
يحدث هذا في بلدٍ كمصر، تجتاح فيه الأمراض أبناءَ هذا الشعب في الريف والأحياء الشعبية، وحيث هناك طبيب واحد لكل ١٤٠٠ من السكان، وما لم يقُله أحدٌ، وخصوصًا السادة أعضاء مجالس إدارة نقابات الأطباء هو أن حاجتنا لا تزال شديدة إلى أطباء كثيرين، ولكن بشرطٍ أن تُبنَى مستشفيات ووحدات صحية جديدة تتكافأ مع زيادة السكان، ومع التطورات الطبية العامة، ولا ينكر غير مكابِر أن الحالة الصحية للجمهرة الغالبية من هذا الشعب قد تدهورت في السنين العشر الأخيرة؛ فكيف يُقال إذن إن حاجتنا إلى الأطباء قد قلَّت!
كل هذا صحيح؛ لكن ما ينبغي أن يقال في هذا الشأن من جانب المشغولين بمشكلة التعليم في مصر، إن هذا الذي نُشِر في الصحف يتعلق أغلبه بشريحة اجتماعية معينة وتداخلاتها بقضية التعليم، بل وبمصالحها المباشرة، لكن هناك الأغلبية الساحقة من أبناء هذا الشعب من الفقراء الذين يُجرى تجاهل مصالحهم في سياسات التعليم الحالية، ويتم الانحياز للآخرين ومشروعاتهم على حسابهم، ولا يجدون غالبًا الأصوات التي تعبِّر عن شكواهم من هذا الذي يجري في ميدان التعليم، خصوصًا في مدارس الريف والأحياء الشعبية.
لقد تحوَّل التعليم الأساسي في حقيقة الأمر في عهد د. فتحي سرور ومَن قبله مِن الوزراء إلى نمطَين واضحَين … نمط أرستقراطي «غربي» بالمصروفات، تُدرس فيه، على غير أساس، اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ويُرسَل إليه الأبناء في السيارات الخاصة أو السيارات المدرسية، وتلك مدارس الطبقة الوسطى وما فوقها. ونمط آخر من التعليم لأبناء الفقراء يتحوَّل تدريجيًّا إلى المدارس الإلزامية القديمة التي كانت قائمة إبان النظام المَلَكي، وهذه السياسات هي استمرار للسياسات العامة للدولة التي يُجرى تنفيذها حاليًّا، ونجحت في تحقيق نمطَين من الاستهلاك، ونمطَين من الخبز، ونمطَين من المواصلات، ونمطَين من العلاج والمستشفيات … إلخ.
وفي مدارس الفقراء ليست هناك أماكن لكل المؤهَّلين للدخول، وكثافة الفصول تصل إلى الستين فأكثر، وكلها تعمل لفترتَين أو ثلاث في اليوم، وكثير منها آيل للسقوط، وليس به مَرافق صحية، أو ليس به مياه صحية للشرب، أو أن مَرافقها الصحية ليست صالحة للاستعمال، فضلًا عن أن مشروع تغذية التلاميذ بالمدارس قد انتهى بعدما تخلَّت عنه هيئة المعونة الأمريكية.
هل نحن نبالغ؟
كلا على الإطلاق؛ إذ يكفي أن نستشهد بتقرير الاستراتيجية الذي وضعه الوزير الحالي في يونيو سنة ۱۹۸۷م، والذي يعترف أنه في كثير من المدارس الحكومية الابتدائية ترتفع كثافة الفصول إلى أكثر من ٦٠ تلميذًا في الفصل الواحد، وأن عدد المدارس الابتدائية التي تعمل بنظام الفترتَين أو الثلاث يصل إلى ۸۷۷۲ مدرسة، بنسبة ٦٨٪ من مدارس الحكومة، كما يعترف التقرير أن هناك ۳۷۸۹ مدرسة ابتدائية تحتاج إلى إصلاح، ٩٥٩ مدرسة آيلة للسقوط، وفي التعليم الإعدادي هناك ٦٤٤ مدرسة تحتاج إلى إصلاح، ۷۲ مدرسة آيلة للسقوط، كما يذكر التقرير أن هناك ۷۳۱ مدرسة لا تصلها مياه الشرب من مصادر صحية، ٦٩٢ مدرسة ليس بها مَرافق صحية أصلًا، أو أن مَرافقها الصحية غير صالحة، وفي المرحلة الإعدادية هناك ۲۳۳ مدرسة ليس بها مَرافق صحية، أو أن مَرافقها الصحية ليست صالحة أصلًا.
هذا هو الوضع المحزن الذي نحن فيه اليوم، والذي يتعلق أساسًا بفقراء مصر، فإذا قيل إن نسبة الإلزام هي ٩٦٪ قلنا بوضوح وصراحة إن هذا كلام فارغ؛ لأن مناورات حسابية مختلفة لا يدركها إلا الإحصائيون قد دخلت على هذه النسب لزيادتها من أجل إعطاء صورة زائفة، وإنما الصورة الحقيقية تتضح إذا بحثنا نسبة أعداد المسجَّلين سنويًّا في المدرسة الابتدائية إلى من هم في شريحة العمر «٦–١٢»، أو نسبة المسجَّلين في التعليم الإعدادي إلى من هم في شريحة العمر «۱۲–١٥»، ولن نجد هذه النسبة تزيد على ٧٠٪ في الحالة الأولى، ٦٠٪ في الحالة الثانية، وهاتان النسبتان تعنيان أن ملايين من أطفالنا إما أنهم لم يدخلوا المدارس أصلًا، أو أنهم تسرَّبوا خلال المراحل الأولى وارتدُّوا إلى الأمية. ولقد كان تقدير اللجنة المصرية الأمريكية عام ۱۹۸۰م أن هناك ۳ ملايين طفل ليسوا أصلًا في المدارس، وثمة شواهد أخرى لا محل لتفصيلها هنا تدل على أن هذا العدد قد زاد خلال السنوات العشر الأخيرة، وغني عن البيان أن كل هؤلاء الذين لم يدخلوا المدارس أو تسربوا هم من أبناء الفقراء.
ثم هناك أيضًا قضية التعليم الفني، وبدايةً نحن نرحب بالاهتمام بتطوير التعليم الفني ورفع مستواه وربطه بمؤسسات الصناعة والزراعة الإنتاجية، لكن المؤسف أنه حتى في الخطة الخمسية الثانية فإن نسبة المسجَّلين في التعليم التجاري عام ۱۹۹۲-۹۱م تظل تمثِّل نحو نصف تلاميذ التعليم الفني، وكل هؤلاء لا تحتاج البلاد إليهم في أي مشروعات جديدة لزيادة الإنتاج، على أننا ننبِّه إلى خطورة أن يكون التعليم الفني هو قدَر أبناء الفقراء وحدهم، وهو ما توحي به كل التوجهات التعليمية الحالية، وهو ما يؤدي إلى فشل التعليم الفني نفسه، فضلًا عن أن البلاد سوف تكون مهددة دائمًا بخلق أرستقراطية اجتماعية من الطبقة الوسطى والانفتاحيين الأثرياء هي التي تملأ كل وظائف الحكم والمؤسسات العامة، وتنحدر عن طريق التعليم الثانوي غير المهني ثم الجامعة.
وأخيرًا ما يعني استمرار الانفصام الحالي في المراحل الأولى للتعليم (المرحلة الابتدائية والإعدادية) ما بين مدارس أزهرية، وتعليم مدني رسمي، وتعليم أجنبي خاص، وأي أثر لهذا الانفصام على الوحدة الوطنية وقضية الالتزام التي يكثر الحديث عنها؟ ألم يئن الأوان لتوحيد التعليم في مصر في مراحله الأولى قبل التفريع؟ ولماذا يصمت وزير التعليم عن هذه القضية المحورية؟