التعليم … والديمقراطية

ديمقراطية التعليم ضرورية لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية والانطلاق

عند تأمُّل أي مشروع قانونٍ جديد في التعليم يكون أحد المعايير الهامة في الحُكم عليه هو موقف هذا القانون من قضية ديمقراطية التعليم، أو ربما بشيء من الدقة نقول: النتائج الموضوعية التي يؤدي إليها تنفيذ هذا القانون من زاوية ديمقراطية التعليم. والذي نعنيه بديمقراطية التعليم هو قدرة هذا النظام على استيعاب شرائح متزايدة من الفئات الشعبية — عمالًا وفلاحين — داخله بما يساعد على الحراك الاجتماعي داخل المجتمع.

وهذه القضية — ديمقراطية التعليم — ليست ضرورية وهامة من زاوية العدالة الاجتماعية فحسب؛ وإنما هي ضرورية وهامة من زاوية تحقُّق التنمية والانطلاق، وفي خبرات كل الدول الجديدة — بما في ذلك تجربة النمور الخمسة في آسيا — يتبيَّن أن تعميم التعليم الأساسي لمدة تسع سنوات كان شرطًا من شروط هذه التنمية التي تحققت، فضلًا عن التوسُّع في التعليم الثانوي والعالي، وتزايد نسبة تعليم الإناث إلى الذكور حتى وصلت إلى نحو ٩٠٪ في الثمانينيات.

فإذا تحوَّلنا من هذا الكلام العام إلى مشروع قانون امتحان الثانوية العامة الذي تقدم به وزير التعليم مؤخرًا، وناقشتُه في مقال بصحيفة «الأهالي» يوم أول ديسمبر بعنوان «تحفظات حول مشروع قانون امتحان الثانوية العامة»، كما رد وزير التعليم على مقالي هذا بمقال آخر في صحيفة «الأهالي» يوم ١٥ ديسمبر … أقول إذا تحوَّلنا إلى مشروع القانون من جديدٍ لنبحث هذا الجانب — علاقته بديمقراطية التعليم — فإنني لا أملك إلا أن أعبِّر عن مخاوفي من أن يؤدي تطبيق هذا القانون إلى مزيدٍ من التضييق على الفئات الشعبية التي تحاول أن تطرق أبواب التعليم العالي كل عام.

وليس سرًّا أن المناخ الانفتاحي منذ بدئه حتى اليوم قد أوصد بالفعل أبوابًا عديدة للتعليم أمام فئات شعبية كانت قد عرفت طريقها إليه خلال المرحلة الناصرية، وتلك نتيجة مؤكَّدة نظرًا للتكلفة المالية الباهظة التي يقتضيها الحصول على مجموعٍ مناسب في امتحان الثانوية بسبب الدروس الخصوصية — وهي ذات تأثير حاسم في هذا السياق — فضلًا عن الكتب الخارجية؛ ولذا فإن كان تطبيق القانون الجديد سوف يؤدي — كما أعتقد — إلى مزيدٍ من الانحياز لأبناء الطبقة المتوسطة وما فوقها في امتحان الثانوية العامة، وبالتالي في القبول بالتعليم العالي؛ فإن هذا سوف يعني المزيد من التضييق على أبناء الفئات الشعبية.

دعني أذكِّر بما حدث في الماضي من تجربة استمرت سنوات، وكانت بمثابة القفز على حواجز المجموع للثانوية المصرية، أعني تجربة G.C.E. والتي انتهت، في تلك السنوات كان أبناء المتقدمين لهذه الشهادة يقضون في المرحلة الثانوية سنتَين فقط، ويحصلون على هذه الشهادة التي يدخلون بها الجامعة وهم في السادسة عشرة من العمر، وبالطبع كان هؤلاء المتقدمون لشهادة G.C.E. يدفعون رسومًا باهظة، كما ينفقون أموالًا باهظة على الدروس الخصوصية؛ وبالتالي كانوا جميعًا من أبناء الشرائح العليا للطبقة المتوسطة وأثرياء مصر، وغالبًا ما انقطع هؤلاء التلاميذ عن الذهاب إلى مدارسهم، وانقطعوا للدراسة والدروس الخصوصية بالمنزل، وتحوَّلت المرحلة الثانوية في ظل اﻟ G.C.E. بالنسبة لهؤلاء التلاميذ من مرحلة تعليمية ذات أهداف تربوية، إلى مرحلة تختزل أهدافها إلى مجرد الحصول على شهادة، وبالطبع كان هذا العمل تحايلًا على مبدأ تكافؤ الفرص في التعليم؛ لأن مناهج اﻟ G.C.E. أسهل بكثير من مناهج الثانوية العامة المصرية، خصوصًا في العلوم والرياضيات، وليس سرًّا أن هذه الجريمة — جريمة القفز فوق مبدأ تكافؤ الفرص عن طريق شهادة G.C.E. — قد بدأت عام ١٩٧٤م لكي يتسنَّى لجمال السادات دخول الجامعة، بعد أن أصبح واضحًا أنه عاجز عن اجتياز امتحان الثانوية العامة المصرية بنجاحٍ يسمح له دخول جامعة القاهرة، وكلية الهندسة بالذات.

والآن إذا طُبِّق نظام الثانوية العامة، كما جاء في مشروع القانون الجديد؛ حيث تعتبر امتحانات السنتَين الأخيرتَين من المرحلة الثانوية بمثابة امتحان واحد للثانوية العامة؛ وحيث إن هناك مواد اختيارية عديدة، فإن من المتوقع أن تنتهي جهود عائلات الطبقة المتوسطة وما فوقها إلى التركيز على الدروس الخصوصية في المنازل خلال هاتَين السنتَين، وأن يمتد قلق التلاميذ وعائلاتهم على سنتَين بدلًا من سنة واحدة، وأن تزداد مشكلة الدروس الخصوصية تعقيدًا نظرًا لوجود مواد اختيارية لم يتعوَّد مدرسو التعليم العام عليها، وأن يتسع تأليف الكتب الخارجية من جانب المختصين وغير المختصين في تلك المواد الاختيارية باسم مساعدة التلاميذ على التحصيل؛ أي أن يتحوَّل ثلثا سنوات المرحلة الثانوية (سنتان من ثلاث سنوات) إلى حلبة سباقٍ تُهمَل فيها كل الاعتبارات التربوية المستهدَفة من التعليم والأنشطة الضرورية المساعدة باسم الحصول على مجموعٍ كافٍ في امتحانات الثانوية العامة، وهذا ما نعنيه عندما نعبِّر عن خشيتنا من أن تتحوَّل المرحلة الثانوية من مرحلة تعليمية ذات أهداف تربوية إلى مرحلة تختزل أهدافها إلى مجرد الحصول على شهادة تسمح بدخول إحدى كليات الجامعة.

الأمر الثاني الذي يحتاج إلى تأمُّل هنا هو مدى ملاءمة المدرسة الثانوية المصرية، في أوضاعها الحاضرة، لمسألة الاختبارات المتعددة للمواد في السنتَين الثانية والثالثة من المرحلة الثانوية، ولقد عبَّرت في مقال «الأهالي»، عن رؤيتي للمرحلة الثانوية عندما قلت: «إن امتحان الثانوية العامة هو جزء أخير من مشكلة أكبر وأوسع، وهي مشكلة التعليم الثانوي كله في مصر، وهي مشكلة البحث عن مناهج ملائمة متطورة تناسب العصر وتثير متعة الطلاب، وهي مشكلة وجود كتب مدرسية جديرة بهذا الاسم، وهي مشكلة وجود مدرس متفرغ لعمله بالمدرسة، لا للدروس الخصوصية التي هي مصدر رزقه الأساسي، وهي مشكلة توفُّر أماكن وفصول وقاعات كافية للدراسة والمَعامِل والنشاط المدرسي … إلخ، ثم تأتي بعد ذلك مشكلة الامتحانات.»

وقد أعلن وزير التعليم في رده على مقالي أنه يوافق على هذه الرؤية، لكنه فيما يبدو يعتبر أن ما تم من إصلاحٍ في السنوات الأخيرة كافٍ للتحوُّل إلى مشكلة امتحان الثانوية العامة، وهذا هو موطن الخلاف بين رؤيتي ورؤيته، فحتى لو سلمنا أنه قد بدأ الإصلاح في المناهج، وأنه قد تم بناء ١٥٠٠ مدرسة جديدة هذا العام، فإنه في اعتقادي قد تنقضي سنوات طويلة قبل أن تحل مسألة التعليم، فضلًا عن استقرار المناهج، لكن الأهم من كل ذلك أن مسألة المدرس — وهي أعمق المسائل — ما زالت دون حل، أعني المرتبات التي لا تكفي بالمرة ضروريات أسرته، واضطراره بالتالي إلى تركيز وقته في الدروس الخصوصية، وهي مشكلة لا شك يعرفها وزير التعليم وهو يحاول إعادة نظام اليوم الكامل في المدارس، وهذا الموضوع الأخير مثال آخر على العجلة في اتخاذ القرارات قبل أن تتوفر كل الشروط اللازمة؛ فاليوم الكامل في التعليم يتطلب وجود وجبة غذائية للتلاميذ، وهذا غير متوفر، واليوم الكامل في التعليم يقتضي وجود دورة واحدة في كل مدرسة، وهذا غير متوفر … واليوم الكامل في التعليم يقتضي أن يتفرغ المدرسون للمدرسة، وهذا غير ممكن الآن، ولن يكون ممكنًا قبل أن تُحَل مشكلة مرتبات المدرسين حلًّا جذريًّا.

ولعل هذا يفضي بنا إلى السؤال الأساسي: لماذا هذه العجلة في تعديل نظام امتحان الثانوية العامة؟ وهل لهذه العجلة صلة بمسائل أخرى، مثل ضرورات الإصلاح الاقتصادي المُعبَّر عنه في خطابات النوايا المتبادَلة بين حكومة عاطف صدقي وصندوق النقد الدولي؟!

ليس هناك إجابة حاسمة مؤكدة على هذا السؤال اليوم، لكنَّ هناك افتراضًا واحدًا يقوم العديد من الشواهد على صحته، ولقد عوَّدنا النظام الحالي على اتخاذ قرارات وإجراءات قد تبدو مفاجأة للكثيرين، لكن تكون قد سبقتها إجراءات أخرى أقل أهمية ولفتًا للأنظار كتمهيدٍ لهذا الإجراءات الأهم؛ ولذا فإننا بصراحة نخشى أن يكون مشروع قانون امتحان الثانوية العامة هو مقدمة للتضييق على القبول في التعليم العالي، وذلك بحُجج «قانونية».

دعني أشرح ما أعنيه هنا … تستطيع الحكومة عندما يستقر النظام الجديد أن ترفع مجاميع القبول في الجامعات، التعليم العالي عمومًا والجامعات خصوصًا، فإذا حدث هذا، فإنه لا شك سيؤدي من الناحية الموضوعية إلى حرمان أبناء الفقراء أساسًا من التعليم العالي؛ لأن انخفاض أو ارتفاع المجاميع ذو علاقة وثيقة بالوضع الاجتماعي للتلميذ، وإذا احتجَّ أحد على هذا التضييق، فسيكون الرد أن باستطاعته الإعادة أي عدد من المرات.

ومن المؤكد أن هناك اتفاقاتٍ في خطابات النوايا على ضغط الإنفاق وزيادة موارد الدولة، وتقليل العجز في الميزانية بهدف إلغائه خلال عدد محدود من السنوات، والتركيز على التعليم الابتدائي والفني كما جاء في نفس خطاب النوايا الذي نشرته «الأهالي» يوم الأربعاء ١٥ ديسمبر سنة ۱۹۹٣م. أما زيادة الموارد فمن الواضح أن الحكومة تأمل في تحقيقها عن طريق قانون الضريبة الموحدة الجديد، أما ضغط الإنفاق فلن يكون في ميزانية وزارتَي الداخلية أو الدفاع قطعًا، وإنما في وزارات الخدمات، وفي مقدمتها التعليم والصحة، وإذا كانت استثمارات المباني لمدارس جديدة تبدو حتمية بعد انهيار العديد من المدارس، خصوصًا بعد زلزال أكتوبر ۱۹۹۲م، فإن الخفض في ميزانيتَي الباب الأول (الأجور) والباب الثاني (المصروفات الجارية) وارد وأساسي بالنسبة لميزانية التعليم العالي، ومن هنا تبدو فكرة تضييق القبول في التعليم العالي واردة ومنطقية.

ولكن ما هي الشواهد التي تدعم هذا الافتراض؟

إن السماح بدخول امتحان الثانوية العامة عدد لا نهائي من المرات مقصود به الرد على من سيحتجُّون على التضييق بأنه في وسع أيِّ إنسان أن يعيد دخوله للامتحان لتحسين مجموعه أي عدد من المرات، وبالتالي فإن الباب ليس مقفولًا أمام دخول التعليم العالي في المستقبل، وهنا تبدو مسألة الرسوم المفروضة على الإعادة، والتي تبلغ ٥٠٠ جنيه عن كل دورة (حد أقصى)، فمثل هذه الرسوم تفضي من الناحية الموضوعية إلى إبعاد كثير من أبناء الفقراء من الإعادة؛ إذ مَن فيهم يكون قادرًا على دفع رسوم إعادة قد تصل في حدها الأقصى إلى ٥٠٠ جنيه في كل دورة؟

إن من الواضح أن وزير التعليم قد اهتدى إلى هذا الحل (الرسوم العالية) كطريق يؤدي موضوعيًّا إلى الفرز بين أبناء الفقراء — وبالتالي إبعادهم — وبين أبناء القادرين، والدليل على هذا ليس رسوم امتحان الثانوية العامة فحسب، وإنما ما ورد في كتاب «مبارك التعليم» بقلم الوزير، والذي أعلن فيه أنه ينوي مطالبة كل تلميذ راسب في التعليم العام بدفع رسوم التعليم عند الإعادة.

وهو قرار ظاهره حق وجوهره باطل؛ فالذين يرسبون في التعليم العام هم، في الأغلب، أبناء الفقراء، وهم يرسبون لا لأسباب تتعلق بطبيعتهم، وإنما لأسباب تتعلق بظروفهم الاجتماعية التي تحرمهم من الرعاية المنزلية التي تتوفر في عائلات الطبقة الوسطى وما فوقها، والتي تحرمهم أيضًا، لاعتبارات مالية واضحة، من الدروس الخصوصية ومن الكتب الخارجية، وبالتالي بدلًا من مساعدتهم، ومحاولة البحث عن حلول للمشاكل التي تواجههم؛ إذ بالوزير ينادي بالأسلوب الذي يحقق موضوعيًّا إبعادهم عن سُلم التعليم نهائيًّا، وهو أسلوب دفع رسوم التعليم.

لقد آملنا خيرًا كثيرًا عندما جرى تعيين الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزيرًا للتعليم، لكنَّ كثيرًا من قراراته وتوجهاته الأخيرة تبعث على الدهشة، وتدعو إلى التساؤل، بل كدت أقول الإحباط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥