قضية الاستثناءات في التعليم العام
أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها القاطع والحاسم بأن الاستثناءات في القبول في الجامعات والمعاهد العليا تخالف الدستور، كما سبق أن قضت المحكمة الإدارية العليا بإلغاء جميع الاستثناءات في القبول بالجامعات والمعاهد العليا، وأكدت المحكمتان في أحكامهما أن الاستثناءات ضد مبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في الدستور، وأنها تقررت لأسبابٍ لا صلة لها بالتعليم.
ومع أن مجلس الوزراء والمجلس الأعلى للجامعات لم يتجرأ على اتخاذ مثل هذا القرار الواضح دستوريًّا رغم صيحات الشكوى العديدة التي علت في الصحف ومجلس الشعب ضد الاستثناءات، ورغم مشروع القانون الذي تقدم به رئيس حزب العمل منذ نحو عام بإلغاء الاستثناءات، أقول رغم ذلك فإن وزير التعليم العالي أعلن منذ أيام انتهاء مرحلة الاستثناءات في التعليم الجامعي، ويبقى في هذا الميدان تصحيح أوضاع الذين ظُلموا في السنوات الأخيرة إما بمنعهم أصلًا من دخول الجامعة، أو بإلحاقهم بكليات غير التي كانوا يرغبون في الالتحاق بها نتيجة تطبيق سياسة الاستثناءات.
لكن مشكلة الاستثناءات ذاتها موجودة في القبول والتعليم الثانوي العام، وحتى الآن لم نسمع عن ولي أمر طالب رفع قضية أمام المحاكم ضد هذه السياسة، مع أن نفس المبدأ الدستوري الذي طُبِّق فيما يتعلق بالتعليم الجامعي ينطبق تمامًا في موضوع القبول بالتعليم الثانوي العام.
تلك مشكلة على وزير التربية والتعليم الحالي أن يواجهها في صراحة وجرأة، ولا ينتظر حتى يأتيه حكم جديد من المحكمة الدستورية العليا كما حدث في حالة الجامعات.
وحيث إنه من المعروف أن أماكن القبول بالجامعات في التعليم الثانوي العام محددة بطبيعة الحال، فإن الاستثناءات في القبول معناها في حقيقة الأمر حرمان طلاب من دخول الثانوي العام؛ لأن طلابًا آخرين لا يستحقون علميًّا دخول المدرسة الثانوية أخذوا أماكنهم، وفق قواعد الاستثناءات التي وضعها الوزير السابق، وينفذها الوزير الحالي، نحن إذن أمام عملية سرقة واضحة تزكيها الدولة تحت حُجة أو أخرى، وهذه السرقة تتعلق بطلاب فقراء أساسًا يأتون من الشرائح الاجتماعية الأدنى، التي ليس لها صوت مرتفع في حياتنا العامة؛ ولذلك تستخف الوزارة بهم، ولعل حقيقة هذا الأمر هي التي تفسر لماذا لم نسمع حتى الآن عن ولي أمر طالب من هؤلاء المحرومين قد رفع قضية أمام المحكمة الإدارية العليا مطالبًا بحق ابنه الذي سُلب ظلمًا وعدوانًا؛ فالقضايا أمام المحاكم باهظة التكاليف، وتستغرق وقتًا طويلًا حتى يُفصل فيها، وربما لم يتوافر الوعي أصلًا بهذه القضية لدى عديد من أولياء الأمور الذين سرقت الوزارة أماكن أبنائهم وهم لا يعلمون.
كيف نشأت أصلًا قضية الاستثناءات في القبول بالتعليم الثانوي العام؟ لقد نشأت هذه المشكلة في عهد الانفتاح السعيد، ومن المعروف أن الطالب عندما يحصل على شهادة الإعدادية يتجه إما إلى التعليم الثانوي العام أو إلى التعليم الفني، والطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة تتنافس تنافسًا حادًّا لتجنِّب إدخال أبنائهم التعليم الفني، ومن أجل الحصول لهم على مقعد في التعليم الثانوي الأكاديمي؛ ولهذا الوضع أسباب عديدة؛ منها أن هذا التعليم الأخير هو الذي يؤدي إلى الجامعة، ومنها ما هو معروف تاريخيًّا من أن التعليم الجامعي هو إحدى الوسائل الأساسية المتاحة للحراك الاجتماعي (أي للانتقال من شريحة اجتماعية أدنى إلى شريحة اجتماعية أعلى)، ومنها سيادة نزعة احتقار العمل اليدوي تاريخيًّا، ومنها أيضًا سوء أحوال التعليم الفني من ناحية الإمكانات وهيئات التدريس، وتحوُّل معظمه إلى تعليمٍ تجاري رخيص التكلفة، لا يؤدي في أفضل فروضه إلا إلى تعلُّم مسك الدفاتر والكتابة على آلة النَّسخ.
لكن سياسة الطبقات المختلفة في إعداد أبنائهم للحصول على مجموع كبير في امتحان الشهادة الإعدادية، عن طريق الدروس الخصوصية، والعون المنزلي والكتب الخارجية … إلخ، قد أدَّت دائمًا، ومنذ قبل الانفتاح، إلى أن غالبية مَن يدخلون التعليم الثانوي العام هم من أبناء الأثرياء والشرائح العليا من الطبقات الوسطى، وأن غالبية مَن يدخلون التعليم الثانوي الفني هم من أبناء الفقراء والشرائح الدنيا من الفئات الوسطى، كان هذا هو الوضع في عهد الثورة، كما كان في عهد الانفتاح، لكن الفارق بين العهدَين هو أن الأقلية من أبناء الفقراء الذين كانوا يدخلون التعليم الثانوي العام قد هبطت بشكل حاد في عهد الانفتاح، وكأن هذا لم يكن كافيًا؛ فجاءت الاستثناءات لتزيد هذه النسبة الصغيرة هبوطًا، ثم جاءت سياسة الوزارة برفع نسبة القبول في التعليم الفني إلى نحو الثلثَين لتزيد الأوضاع سوءًا فيما يتعلق بدخول الفقراء إلى التعليم الثانوي العام.
ووفق قواعد الاستثناء فإن المجموعات التالية من الطلاب يمكن أن يلتحقوا بأي مدرسة ثانوية عامة بصرف النظر عن المجموع في الشهادة الإعدادية؛ إذا كان الأب والأخ شهيدًا، التلاميذ المعوقون بسبب المرض، إذا كان للأب أو الأم وظيفة في القوات المسلحة أو الشرطة، أو في وزارة التربية والتعليم أو الجامعات.
ومن مآثر قانون الاستثناءات للعام الدراسي ۱۹۸۳-۱۹۸۲م ما جاء في صحيفة الأخبار بتاريخ ۱۰ يونيو ۱۹۸۲م، وفي ١٥ يونيو ۱۹۸۲م؛ إذ نشرت جريدة الأخبار تحت عنوان «قواعد القبول بالصف الأول الثانوي» تعليمات وزارة التربية والتعليم إلى المناطق التعليمية بقبول ٥٪ من أبناء المعلمين السابقين والحاليين، ٥٪ لأبناء العاملين في وزارة التربية والتعليم، ١٠٪ من أبنائهم في دور المعلمين، ٥٪ لأبناء القوات المسلحة. وحتى يدرك القارئ حجم السرقة التي تُجرى تحت هذه المسميات فإنني أشير إلى رسالة دكتوراه قدمها د. علي الشخيبي (المدرس بكلية التربية جامعة عين شمس) إلى جامعة بيتسبرج (أمريكا) بعنوان «المركز الاجتماعي الاقتصادي وتسكين الطلاب في المدرسة الثانوية العامة بمصر».
وفي هذه الرسالة يقول إنه في لقاء مع مديرة مدرسة ناصر الثانوية للبنات ذكرت مديرة المدرسة أنها قبلت في العام الدراسي ۱۹٨١-۱۹۸۲م بالسنة الأولى ٧٢٦ تلميذة، بينهن ۱۳۰ تلميذة استثناءات.
ويبقى أن أشير بعد هذا التوضيح إلى مسألتَين: الأولى أن هذا الاعتداء على أماكن أبناء الفقراء في التعليم الثانوي العام يتم بينما متاح لأبناء القادرين فرصة الدخول إلى المدارس الثانوية الخاصة بالمصروفات طبعًا، وهي عديدة ومنتشرة في أحياء الأثرياء والشرائح المهنية العليا، حتى لو كانوا غير حاصلين على مجموع كبير في الشهادة الإعدادية.
والمسألة الثانية هي أنني لا أرغب أن يفهم أحد أنني ضد التعليم الفني، ولكن ما أنا ضده في هذا التعليم أن يكون له الصفة الطبقية المغلقة؛ أي أن يكون هذا التعليم قدَرًا لأبناء الفقراء وحدهم، بصرف النظر عن إمكاناتهم وطموحهم.
أو أن يظن أحد أن التعليم الفني عندنا، وفي ظروفه الراهنة، هو تعليم صناعي وزراعي بالمعنى الحقيقي؛ فكل التقارير التي كُتبَت عن هذا التعليم في السنوات الأخيرة، سواء من الجانب الأمريكي أو المصري، تشير صراحةً إلى تدهور أحوال التعليم الفني من ناحية الإمكانات والمباني وهيئات التدريس، وأنه بوضعه الحالي ليس أداة التنمية الاقتصادية كما ينبغي، وأن من مؤشرات هذا؛ الزيادة الرهيبة في أعداد المدارس التجارية في هذا التعليم، وفي أعداد تلاميذ هذه المدارس بالذات.
وقد يكفي أن نعرف لفهم هذا الوضع أنه بينما كانت نسبة المدارس الصناعية في عام ۱۹٥٣-۱۹٥٤م تمثِّل ٥٠٪ من جملة المدارس الفنية، هبطت هذه النسبة إلى نحو ٢٨٪ في عام ۱۹٨١-۱۹۸۲م، بينما ارتفعت نسبة المدارس التجارية من ٣١٪ في عام ۱۹۸١-۱۹۸۲م، وبينما هبطت نسبة تلاميذ التعليم الصناعي (إلى جملة تلاميذ التعليم الفني) من ٦١٪ عام ١٩٥٣-١٩٥٤م، إلى ٢٦٪ في عام ۱۹٨١-۱۹۸۲م، ارتفعت نسبة تلاميذ التعليم التجاري من ٢٣٪ عام ١٩٥٣-١٩٥٤م إلى ٦٣٪ في عام ۱۹٨١-۱۹۸۲م.
وإذا أضفنا إلى هذا سوء المناهج، وعدم مرونتها، وعدم توافر المدرسين المؤهَّلين أو أجهزة التدريب الكافية، وانعدام الربط بين هذا التعليم وبين قطاعَي الصناعة والزراعة في الاقتصاد الوطني، فربما فسَّرنا، على الأقل جزئيًّا، لماذا لا يرغب أحد في الذهاب إلى التعليم الفني، بينما يتركز الاندفاع على التعليم الثانوي العام.