محنة التعليم في مصر
دعانا إلى تخصيص افتتاحية «اليسار» في هذا العدد (سبتمبر) عن التعليم أمران … أولهما أن العام الدراسي لكافة مراحل ومدارس التعليم العام سوف يبدأ في ١٤ سبتمبر، بما يترتب على هذا الافتتاح من مشاكل عديدة، بدأت حتى الصحف الحكومية الإشارة إليها، واستطلاع الرأي بشأنها في أشهر الصيف.
أما الأمر الثاني فهو تصريحات وزير التربية والتعليم الجديد الدكتور «حسين كامل بهاء الدين» في لقاء طلاب المعسكر الصيفي بالإسكندرية، والتي نُشرَت في الصحف يوم ۱۷/ ۸/ ۱۹۹۱م، واعترف فيها، بصراحة تُحمَد له، أن التعليم في مصر يمر بأزمة خطيرة تحتاج إلى تضافر كل الجهود والقُوى الوطنية. ونحن نحمد له هذه الصراحة، وهذا الاعتراف من وزير مسئول بما ظل اليسار ينادي به منذ سنوات في مقالات نُشرت في صحيفة «الأهالي» خلال السنوات الماضية بأن التعليم في مصر في أزمة حقيقية، بل وصدرت كتب عن هذه القضايا من عددٍ من مثقفي اليسار، ولم يكن نصيبها غير التجاهل من وزراء التربية السابقين.
كما نحمد للوزير الجديد إدراكه للحاجة إلى تضافر كل القُوى الوطنية في مواجهة هذه الأزمة، ونتمنى أن يكون معنى هذا التصريح أنه لا ينوي تجاهل وجهات نظر قُوى اليسار ومثقفيه من التربويين عند تخطيط توجهاته في محاولة حل الأزمة.
والمشكلة المباشرة في أزمة التعليم التي تواجه وزارة التربية والتعليم ووزيرها الجديد هي المشكلة التي ترتَّبت على قرار الوزير السابق (د. فتحي سرور) — رئيس مجلس الشعب الحالي – باختصار المرحلة الابتدائية إلى خمس سنوات بدلًا من ست، كما هو الحال في كل أقطار الوطن العربي، ولقد اعترضنا بشدة آنذاك على هذا القرار، وأوضحنا أنه بضم تلاميذ السنتَين الخامسة والسادسة لعام ١٩۸۸-١٩۸۹م في امتحان واحد يؤدي إلى المرحلة الإعدادية، فإن القبول في المرحلة الإعدادية سوف يتضاعف فجأةً، ويصبح تلاميذ السنة الأولى الإعدادية لعام ١٩٩٠-١٩٨٩م ضعف العدد المعتاد كل عام، وتساءلنا كيف تستطيع وزارة التربية والتعليم تدبير ضعف عدد المدرسين، وضعف عدد الفصول والكتب لمواجهة هذه الزيادة الهائلة في عدد التلاميذ؟ بل كيف يتسق هذا الإجراء مع مصالح التلاميذ المصريين الذين تعمل أسرهم في أقطار عربية مختلفة، والذين كان يسهل انتقالهم من مدارس هذه الأقطار إلى المدارس المصرية أو العكس، حقيقة أن سنوات المرحلة الابتدائية في الأقطار العربية واحدة والمناهج متشابهة؟
آنذاك أيضًا تحدَّينا «د. فتحي سرور» أن ينشر خطاب المكتب الإقليمي لليونسكو في عمان، والذي ادَّعى الوزير أنه يؤيد قراره باختصار المرحلة الابتدائية إلى خمس سنوات؛ لأننا كنا نعلم أنه خطاب انتُزع من عمان بعد إلحاح طويل من الوزير — ولأنه كان موافقة مشروطة — بتحقيق أشياء واستعدادات معينة، وهي أمور يعلم المكتب الإقليمي لليونسكو في عمان أنها ليست متوفرة بالمرة في مصر.
لقد أردنا أن نفتح هذه الصفحات المطوية لسببَين: الأول هو أنه جرى تجاهل وجهات نظرنا من جانب الوزير السابق، رغم أنها وجهات نظر بسيطة وعاقلة، ولا تحتاج إلى عبقرية خاصة لفهمها، وأملنا كبير ألَّا يفعل الوزير الجديد ما فعله الوزير السابق لا لسبب إلا خوفه من وجهات نظر اليسار!
والسبب الثاني لفتح هذه الصفحات المطوية هو أن صحف الحكومة قد بدأت تدرك فجأة حجم الكارثة التي أدت إليها سياسات د. فتحي سرور في التعليم الابتدائي، وهكذا بدأت «أخبار اليوم» في عدد ۱۷ أغسطس الماضي بنشر تحقيق كبير بعنوان: «الورطة التي تواجهها وزارة التربية والتعليم»؛ إذ هناك مليون ونصف مليون تلميذ في شهادة الإعدادية هذا العام، وهو ضعف العدد في السنوات السابقة، ولا تعرف الوزارة ماذا تفعل بهم، وكيف تدبِّر لهم في التعليم الثانوي النظري أو الفني الإعداد المطلوب من الفصول والكتب والمدرسين! بل وماذا تفعل الجامعات والمعاهد العليا عندما تصل تلك الدفعة إلى مرحلة شهادة الثانوية العامة؟
في مواجهة هذه الورطة المسئول عنها مباشرة «د. فتحي سرور» تتعدد الاقتراحات؛ ومنها العودة إلى نظام السنوات الست في التعليم الابتدائي، وقيل إن الوزير الجديد يدرس فكرة جعل التعليم الثانوي العام أربع سنوات بدلًا من ثلاث، وإن لم يكن متحمسًا لها، وهو اقتراح يدعو إلى السخرية حقًّا؛ إذ إننا باختصار المرحلة الابتدائية سنةً نكون قد وفَّرنا ۱۱ مليون جنيه سنويًّا (كما يقال)، بينما سندفع أضعاف هذا المبلغ عند زيادة سنوات التعليم الثانوي سنة جديدة، أليس من المضحك أن نوفر سنة في تعليم الفقراء بالمرحلة الابتدائية لتزيد سنة في التعليم الثانوي العام، وهو في الغالب الأعم تعليم أبناء الطبقة الوسطى وما فوقها؟
أغلب الظن هو أن الوزير الجديد سوف ينتهي إلى إقرار العودة إلى نظام السنوات الست في التعليم الابتدائي، ومعنى هذا أن الادعاء بوجود سياسة قومية في التعليم لا تتغير بتغيُّر الوزراء هي دعوى لا أساس لها في الحقيقة، ومهما كانت قسوة بعض النتائج المترتبة على هذه العودة إلى نظام السنوات الست، فلا شك أنه القرار الصحيح في المدى الطويل، ولعلنا نكون قد تعلمنا درسًا من هذه السياسات المتعجلة التي أثقلت أكتاف وزارة التعليم أكثر بما هي مُثقَلة بالتبعات والمسئوليات الحائرة من إدارة لإدارة، ومن وزير لوزير.
على أننا رغم ترحيبنا بتصريحات الوزير الجديد، وتقديرنا لصراحته، لا نُخفي قلقنا من تصريحات أخرى نُسبَت للوزير حول مجانية التعليم؛ فقد قيل إنه قال في المعسكر الصيفي بالإسكندرية «إن الدولة حريصة على مجانية التعليم الأساسي، وعلى الطلاب الذين لا يقدِّرون معنى مجانية التعليم أن يتحمَّلوا تبعات تصرفهم.» ويُفهَم من هذا التصريح أن المرحلة الثانوية ستعود إلى سياسة التعليم بالمصروفات، وهو ما يتسق مع تصريحاتٍ أخرى نُسبَت إلى الوزير، ونُشرَت في بعض الصحف المعارضة، في مناسبات سابقة، كما يُفهَم من هذا التصريح أن الوزير ينوي أن يفرض المصروفات على الذين يرسبون في مرحلة التعليم الأساسي (المرحلة الابتدائية + المرحلة الإعدادية)، مع أن الذين يرسبون في مرحلة التعليم الأساسي هم في معظمهم (ولا نقول كلهم) ضحية ظروف الفقر، وانعدام الإشراف الأسري في العائلات الفقيرة، والعجز عن دفع تكاليف الدروس الخصوصية وثمن الكتب الخارجية، وبدلًا من الأخذ بأيديهم، ومحاولة مساعدتهم بدروسٍ إضافية داخل المدرسة، وعمل جمعيات تعاونية لشراء الكتب الخارجية؛ إذ بالوزير يهددهم بفرض المصروفات عليهم، وهم بالطبع عاجزون عن ذلك الأمر الذي سوف يؤدي إلى طردهم من التعليم أساسًا.
وكأنما لا يكفي ما تفرضه الظروف الاجتماعية والاقتصادية من طردٍ لأبناء الفقراء من التعليم الأساسي، ومن فرز اجتماعي مبكر لهم، خصوصًا في الريف؛ حيث ينضم أطفال كثيرون إلى سوق العمل وهم في سن العاشرة، كأنما كل هذا لا يكفي حتى يأتي الوزير يهددهم بالعودة إلى المصروفات إن هم رسبوا.
ونحن ندعو الوزير أن يسأل مستشاريه عن تقرير اللجنة المصرية الأمريكية التي شكَّلتها الوزارة وهيئة المعونة الأمريكية لبحث موضوع التعليم الأساسي، والصادر في أغسطس ۱۹۷۹م، وقد منعت الوزارة توزيعه بكل الطرق؛ فالكارثة الحقيقية في التعليم الأساسي هي أعظم بكثير من أن تكون قضية التهديد بالمصروفات ذات وزن حقيقي. إن اللجنة المصرية الأمريكية تعلن صراحةً في تقريرها ما اكتشفته من أن هناك ٣ ملايين طفل وصبي من ذوي العمر «٦–١٥ سنة» ليسوا أصلًا في مدارس التعليم الأساسي.
إذا كان هذا هو العدد عام ۱۹۷۹م، فكم يكون عدد الملايين من الأطفال غير الموجودين في مدارس التعليم الأساسي اليوم في عام ۱۹۹۱م؟!
إننا نقول هذا للوزير الجديد ليدرك أن قضية إصلاح التعليم في حاجة إلى نظرة منهجية؛ فالتعليم جزء من النسيج الاجتماعي للوطن، وبالتالي لا يُتصوَّر إصلاح جِدي للتعليم في إطارٍ اجتماعي اقتصادي سياسي فاسد، والفساد الذي ينخر سوسه في نسق التعليم، سواء على مستوى المدرسين والدروس الخصوصية أو الإدارة التعليمية لا يمكن عزله عن جو الانفتاح العام في البلاد، وما أدى إليه من فسادٍ عام؛ فالمناخ العام للانفتاح — بكل قِيَمه السائدة حول مفهوم النجاح — هو مناخ معادٍ للإصلاح التعليمي.
وضمن شروط عديدة، لا محل لتفصيلها، يحتاج إصلاح التعليم إلى مزيدٍ من الإنفاق الحكومي — خصوصًا في التعليم الفني — وهذا ما يتعارض مع شروط صندوق النقد الدولي وأوامره بخفض الإنفاق على الخدمات لتحقيق توازن بين الموارد الأساسية والمصروفات.
وكل هذا يشير إلى أنه ما ظل وزير التعليم محصورًا في «القفص الحديدي» إياه، داخل مجموعة القيود والضغوط المحيطة بالنسق العام، والتي في المحدد الأول لقرارات السلطة السياسية في مصر؛ فلا أمل في إصلاح التعليم على الإطلاق، وأقصى ما يتوقع عندئذٍ هو أن نواجَه بسياسة مزدوجة ذات وجهَين تقوم على تصريحات ذات صبغة ديمقراطية، وقرارات ذات توجُّه رجعي معادٍ لجماهير الفقراء في مصر، أليس هذا هو محصلة ما انتهى إليه التعليم في مصر في سنوات الانفتاح الأخيرة؟