تفويض رد اعتداء
تقع شركة محاماة السادة فروبيشر آند هاسلت في الجهة الشرقية من راسل سكوير، وكان من بين عملاء الشركة عدد كبير من رجال الأعمال الذين لديهم مشاريع تجارية في فرنسا؛ وكان هذا الفرع من نشاط الشركة مصدر فخر كبير لها.
دائمًا ما كان يقول السيد جيريمي هاسلت: «شركتنا تحجز لنا مقعدًا في التاريخ. فتاريخها يعود إلى عام ١٨٠٦، حين نظَّم السيد جيمس فروبيشر المفعم بالحيوية والنشاط — والذي كان حينها شريكنا الأساسي — هروب مئات الرعايا البريطانيين الذين احتُجزوا في فرنسا بموجب مرسوم نابليون الأول. وقد تلقَّت الشركة شكرًا من حكومة جلالة الملك، وكانت سعيدة الحظ بما يكفي لتحتفظ بهذه الرابطة بينها وبينه. وأنا أتابع هذا الجانب من أعمالنا بنفسي.»
ولهذا كانت دفعة الرسائل اليومية التي يتلقاها السيد هاسلت تضم عادةً عددًا لا بأس به من الرسائل التي تحمل الشعار الأزرق الداكن الخاص بالبريد الفرنسي على مظاريفها. لكن في هذا الصباح من بواكير شهر أبريل، لم يكُن هناك سوى خطاب واحد يحمل هذا الشعار. كان الخطاب مكتوبًا بخط رفيع ومشوَّش لا يألفه السيد هاسلت. لكنه كان يحمل شعار بريد ديجون، ففتحه السيد هاسلت مسرعًا. كان لديه عميل في ديجون، أرملة اسمها السيدة هارلو، وقد تلقى مؤخرًا تقارير غير مُبشِّرة عن صحتها. مما لا شك فيه أن الخطاب كان مرسلًا من بيتها، واسمه منزل كرينيل، لكنها لم تكُن هي مَن كتبته. ثم نظر السيد هاسلت إلى التوقيع.
وقال مقطبًا: «وابرسكي؟ بوريس وابرسكي؟» ثم لمَّا أدرك الراسل قال: «أوه، أجل، أجل.»
جلس السيد هاسلت في كرسيه وشرع يقرأ. كان الجزء الأول من الخطاب مجرد إطراء ومجاملات، لكن بعد برهة من قراءته للصفحة الثانية منه، صار غرض الخطاب واضحًا له كالشمس. كان يريد كاتبه ٥٠٠ جنيه. ابتسم السيد هاسلت واستكمل قراءته، وانخرط مع الكاتب في محادثة أحادية الجانب.
كتب بوريس: «لي حاجة كبيرة بهذا المال، و…»
وقال السيد هاسلت: «أنا واثق من هذا.»
وجاء في الخطاب: «أختي الحبيبة جين ماري …»
فصحَّح له السيد هاسلت: «بل هي زوجة أخيك.»
وأردف بوريس: «… لن يطول بها العمر، رغم ما أقدمه لها من رعاية واهتمام. لقد تركت لي، كما تعلم بكل تأكيد، جزءًا كبيرًا من ثروتها. إذَن، هذا المال ملك لي، أليس كذلك؟ يسعني أن أقول هذا ولا يُساء فهمي. لا بد أن نكون واقعيين عندما ننظر إلى وقائع الأمور. فلتعجِّل لي إذَن في إرسال بعض ما هو ملك لي بالبريد المسجل، وتقبل خالص تحياتي.»
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه هاسلت. في أحد صناديقه الصفيحية كانت هناك نسخة من وصية جين ماري هارلو، وقد خطَّها كاتب العدل الفرنسي الخاص بها وصاغها على النحو المناسب في ديجون، وبموجب هذه الوصية، أصبح كل فلس تملكه تركة غير مشروطة لابنة أخت زوجها وابنتهما بالتبنِّي بيتي هارلو. كاد جيريمي هاسلت يتخلَّص من ذاك الخطاب. فقد طبَّقه؛ وكانت أصابعه تشدُّه بقوة؛ وحدث بالفعل قطع في حواف الورقة قبل أن يغير رأيه.
قال في نفسه: «كلا، كلا! مع وجود أمثال بوريس وابرسكي لا شيء مضمون.» ثم احتفظ بالخطاب على رف في خزانته الخاصة.
سرَّه أنه فعل ذلك حين قرأ بعد ثلاثة أسابيع في عمود النعي في صحيفة «ذا تايمز» إعلان وفاة السيدة هارلو، كما تسلَّم بطاقة كبيرة ذات حافة شديدة السواد على الطراز الفرنسي من بيتي هارلو تدعوه إلى حضور الجنازة في ديجون. لم تكُن الدعوة سوى إجراء صوري. فلن يكون بإمكانه الوصول إلى ديجون في الوقت المناسب لحضور مراسم الجنازة حتى إن انطلق من فوره. فاكتفى السيد هاسلت بكتابة بضعة أسطر من المواساة الصادقة إلى الفتاة، وأرسل خطابًا إلى كاتب العدل الفرنسي وضع فيه خدمات الشركة تحت تصرف بيتي. ثم ركن إلى الانتظار.
قال السيد هاسلت: «سيصلني خطاب آخَر من بوريس»، وهذا ما حدث بالفعل خلال الأسبوع. كان الخط الذي كتب به الخطاب أكثر تشوُّشًا من ذي قبل؛ فقد أضرَّ الغضب والسخط بخط وابرسكي وبإنجليزيته؛ علاوةً على أنهما ضاعفا المبلغ الذي طلبه.
كتب وابرسكي: «لا أصدق أبدًا. لم تترك لي شيئًا، أنا أخوها المبالي لأمرها. ثمة خطْب لا يروق لي هنا. لا بد أن أحصل على ١٠٠٠ جنيه الآن بالبريد المسجل. كانت تقول لي والدموع تنهمر من عينَيها الحبيبتين: «لطالما كان العالم مستغلقًا في وجهك يا عزيزي بوريس المسكين. لقد كتبت لك في وصيتي قدرًا لا بأس به.» والآن لا أجد شيئًا! لقد تحدثت بالطبع مع ابنة أخي … تلك العنيدة! تعاملني بازدراء! أهذا سلوك مقبول؟ ١٠٠٠ جنيه أيها السيد! وإلا فسيكون هناك متاعب! أجل! لا أحد يزدري بوريس وابرسكي من دون أن يدفع ثمن ذلك. إذَن هي ١٠٠٠ جنيه عن طريق البريد المسجل وإلا المتاعب»؛ ولم يدعُ بوريس وابرسكي السيد هاسلت أن يتقبَّل تحياته، خالصة كانت أو غير ذلك، لكنه وقَّع ببساطة باسمه وبخط عشوائي.
لم يبتسم السيد هاسلت لهذا الخطاب. بل أخذ يفرك راحتي يديه بهدوء.
وقال على عجل: «سيتعيَّن علينا إذَن أن نثير نحن بعض المتاعب أيضًا.» ثم وضع هذا الخطاب الثاني حيث وضع الأول. لكن السيد هاسلت أحسَّ بشيء من الصعوبة في الاستقرار والانكباب على العمل. تلك الفتاة هناك، في ذلك المنزل الكبير في ديجون، وحدها ولا أحد من قومها بالقرب منها! نهض السيد هاسلت من كرسيه فجأةً واجتاز الممر إلى مكتب شريكه الغِر.
وقال: «جيم، كنت في مونت كارلو هذا الشتاء، أصحيح هذا؟»
أجابه فروبيشر: «مدة أسبوع، أجل.»
«أظنُّ أنني طلبت منك أن تعرِّج على عميلة لنا تملك فيلَّا هناك … السيدة هارلو.»
أومأ جيم فروبيشر. وقال: «فعلت. لكن السيدة هارلو كانت مريضة. وكان ثمة قريبة لها، لكنها لم تكن موجودة.»
فسأله جيريمي هاسلت: «لم ترَ أحدًا إذَن، أليس كذلك؟»
فردَّ عليه جيم: «بلى. رأيت مخلوقًا غريبًا ليتلو عليَّ أعذار السيدة هارلو … كان روسيًّا.»
فقال السيد هاسلت: «بوريس وابرسكي.»
«صحيح، هذا هو اسمه.»
فجلس السيد هاسلت في كرسي.
قال: «أخبرني عنه يا جيم.»
حدق جيم فروبيشر في الفراغ قليلًا. كان شابًّا في السادسة والعشرين من عمره، ولم ينضمَّ إلى الشراكة إلا في العام الماضي. ورغم أنه كان سريعًا بما يكفي حين تطلب الأمر سرعة الأداء، فقد كان متأنِّيًا فيما يتعلَّق بالحكم على الآخرين؛ وقد تضاعف هذا التأني الفطري لديه بفعل رهبة مُعيَّنة من جيريمي هاسلت العجوز في أيٍّ من الأمور التي تتعلَّق بعمل الشركة. وردَّ عليه باستفاضة.
«إنه رجل طويل وبطيء الحركة، له كتلة من الشعر الرمادي التي تنتصب كالأسلاك فوق جبهته الصغيرة وله عينان مضطربتان. رؤيته جعلتني أتصور دمية متحركة لم تُزوَّد أطرافها بالخيوط على النحو الملائم. وأتصوَّر أنه يتسم بالتهور والانفعال. فقد أخذ يعبث بشاربه بأصابعه الطويلة للغاية والملطخة بالتبغ. بدا من النوع الذي يفقد رباطة جأشه ويتصرَّف بغضب شديد في أي لحظة.»
ابتسم السيد هاسلت.
«هذا ما ظننته تمامًا.»
سأله جيم: «هل يسبب لك أي مشكلة؟»
فقال السيد هاسلت: «ليس بعد. لكن السيدة هارلو ماتت، وأظن أنه من المرجَّح كثيرًا أنه سيفعل. هل كان يلعب القمار؟»
«أجل، كان يقامر بمبالغ كبيرة نوعًا ما. أعتقد أنه كان يعيش عالةً على السيدة هارلو.»
فقال السيد هاسلت: «هذا ما أعتقد أيضًا»، ثم جلس في صمت لبرهة. بعد ذلك أضاف: «من المؤسف أنك لم ترَ بيتي هارلو. كنتُ قد توقفت لزيارة ديجون ذات مرة وأنا في طريقي إلى جنوب فرنسا قبل خمس سنوات حين كان سايمون هارلو، زوج السيدة هارلو، ما يزال على قيد الحياة. كانت بيتي حينها صبية نحيلة طويلة الساقين ترتدي جوارب حريرية سوداء طويلة وذات وجه شاحب وبشرة رائقة وشعر داكن وعينين واسعتين … كانت صبية جميلة.» وتململ السيد هاسلت في كرسيه. لم تكُن تَروقُهُ صورة تلك الفتاة وهي وحيدة في ذلك المنزل العتيق ذي الحديقة الكبيرة بأشجار الجميز والقسطل، وبرفقتها رجل مكروب وشبه مجنون يخطِّط لها المتاعب!
قال السيد هاسلت فجأةً: «جيم، هل تستطيع تدبُّر أمورك بحيث تنطلق في رحلة خلال مهلة قصيرة، إذا ما استدعى الأمر ذلك؟»
رفع جيم نظره في دهشة. لم يكُن من ديدن شركة فروبيشر آند هاسلت كما يُقال، أن تجري الأمور فيها بفوضوية واضطراب. إنْ كان أثاث الشركة وضيعًا، فإن أساليبها بارعة؛ قد يكون العملاء على عجل، لكن الشركة لم تعتمد يومًا على الاستعجال والتسرُّع. لا شك أن ثمَّة شركة في مكانٍ ما بالقرب من شركتهما تتَّبع هذا الأسلوب. لكن السيد هاسلت بنفسه، بشعره الأبيض ووجهه الفضولي المستدير، الذي ينمُّ عن ذكاء استثنائي وطفولية في آنٍ معًا، يطلب من شريكه الأحدث أن يكون على استعداد للسفر خارج البلاد فورًا إذا تطلب الأمر ذلك.
قال جيم: «أستطيع ذلك بكل تأكيد»، ونظر إليه السيد هاسلت بإعجاب واستحسان.
كان جيم فروبيشر لديه سمة شخصية غريبة لم يكُن معارفه ولا حتى أصدقاؤه يعرفون عنها إلا علاماتها الظاهرية. كان الشاب معتزلًا. حتى هذا الحين، لم يكُن يهمه حقًّا إلا قلة قليلة من الناس، وحتى هؤلاء كان بمقدوره الاستغناء عنهم. كان شغفه أن يشعر بأن حياته ووسائل معيشته لا تعتمد بأي حال من الأحوال على الآخرين؛ وقد أمضى الشهور الخالية من حياته في تحقيق هذا الشغف. في الكثير من البعثات التي خرج فيها وحيدًا، برفقة النجوم وأفكاره، لم يكُن معه سوى قارب شراعي صغير يستطيع رجل واحد تولِّي أمر قيادته، ومعول ثلج وبندقية ومجلد كبير أو نحو ذلك من الكتب، مثل كتاب روبرت براونينج بعنوان «الخاتم والكتاب»؛ ولهذا اكتسب لمحة من التحفُّظ جعلته لافتًا للنظر بين أقرانه. كانت تلك اللمحة مضللة، لأنها توحي بثقة ربما لم يكُن يوجد ما يُبرِّرها بالقدر الكافي. كانت تلك اللمحة تمامًا هي ما أقنعت السيد هاسلت الآن. فقد فكَّر: «هذا هو الرجل المناسب للتعامل مع المخلوقات أمثال بوريس وابرسكي»، لكنه لم يبُح بهذا بصوت عالٍ.
بل كان ما قاله:
«ربما لا يكون ذلك ضروريًّا في نهاية المطاف. بيتي هارلو لديها محامٍ فرنسي. وهو يتمتع بالكفاءة دون شك. علاوة على ذلك …» وابتسم عندما تذكر عبارة في الرسالة الثانية من وابرسكي «يبدو أن بيتي لديها القدرة على الاعتناء بنفسها. سنرى.»
ثم عاد إلى مكتبه الخاص، ولم تأتِه أخبار من ديجون أكثر من ذلك طَوال أسبوع. في الواقع، كاد السيد هاسلت ينسى ما كان يقلقه عندما وصلت فجأة أخبار مذهلة، ومن قناة اتصال هي أبعَد ما تكون عن التوقُّع.
كان جيم فروبيشر هو مَن جاء بهذه الأخبار. إذ اقتحم مكتب السيد هاسلت في الوقت المحظور، عندما كان الشريك الأكبر يملي على الكاتب الردود على رسائله الصباحية.
صرخ جيم «سيدي!» وتوقف فجأة عند رؤية الكاتب. ألقى السيد هاسلت نظرة سريعة على وجه شريكه الشاب وقال:
«سنستأنف هذه الردود يا جودفري في وقت لاحق.»
خرج الكاتب من الغرفة ومعه دفتر ملاحظاته، وتحول السيد هاسلت إلى جيم فروبيشر.
«والآن، ما هي الأخبار السيئة يا جيم؟»
أطلعه جيم على الأخبار.
«وابرسكي يتهم بيتي هارلو بالقتل.»
«ماذا!»
هبَّ السيد هاسلت واقفًا. لم يستطِع جيم فروبيشر أن يحدِّد ما إذا كان الإنكار أو الغضب هو المهيمن على الرجل العجوز حينها أم لا؛ إذ كان الإنكار يظهر في تجعيدات جبينه، والغضب يشتعل في عينَيه.
وقال بنبرة مُتعجِّبة: «الصبية بيتي هارلو!»
«نعم. لقد قدَّم وابرسكي عريضة اتهام رسمية إلى مأمور الشرطة في ديجون. اتهم بيتي بتسميم السيدة هارلو في ليلة السابع والعشرين من أبريل.»
هتف السيد هاسلت: «لكن هل أُلقي القبض على بيتي؟»
«كلا، لكنها تحت المراقبة.»
ارتمى السيد هاسلت بثقله في كرسيه المريح أمام طاولته. متهور! منفلت الزمام! كانت هذه نعوت طيبة جدًّا لوصف بوريس وابرسكي. فهذا شرير خبيث مارق، شغفه للانتقام أحط مما يُمكِن تصوُّره.
وسأل فجأةً: «كيف عرفت كلَّ هذا يا جيم؟»
«لقد تلقَّيتُ رسالة هذا الصباح من ديجون.»
هتف السيد هاسلت مُتعجِّبًا: «أنت؟» وتملَّك السؤال أيضًا من جيم فروبيشر وأغرقه في الحيرة. فبفعل الصدمة الأولى من الأخبار، أزاحت حقيقة هذا الاتهام الوحشي كل شيء آخَر من رأسه. والآن صار يسأل نفسه لماذا، في نهاية المطاف، وصلته الأخبار ولم تصل الشريك الذي يحوز ممتلكات هارلو في عهدته.
أجاب فروبيشر: «نعم، هذا غريب. وإليك شيئًا غريبًا آخَر. لم تأتِ الرسالة من بيتي هارلو، بل من صديقة لها، اسمها آن أبكوت.»
شعر السيد هاسلت بالراحة بعض الشيء.
«إذَن كان لدى بيتي صديقة ترافقها؟ هذا أمر جيد.» ثم مدَّ يده عَبْر الطاولة. وقال: «دعني أقرأ الرسالة يا جيم.»
كان فروبيشر يحمل الرسالة في يده، فأعطاها لجيريمي هاسلت. كانت رسالة طويلة كُتبت في أوراق كثيرة، فجعل جيريمي يفرُّ حواف الأوراق تحت إبهامه.
وقال بأسف: «هل عليَّ أن أقرأ كلَّ هذا؟» ثم شرع في مهمته. كان بوريس وابرسكي قد اتهم بيتي أولًا وجهًا لوجه. رفضت بيتي بكل ازدراء الرد على التهمة الموجهة إليها، وذهب وابرسكي مباشرة إلى مأمور الشرطة. وقد عاد بعد ساعة، يتحدَّث إلى نفسه بصوت عالٍ ويومئ بإيماءات جامحة. كان قد طلب فعليًّا من آن أبكوت أن تدعمه. ثم حزم حقائبه واتجه إلى فندق في المدينة. كانت القصة مذكورة بالتفصيل، مع اقتباسات من حديث وابرسكي العنيف والمجنون؛ وبينما كان الرجل العجوز يقرأ، ازداد اضطراب جيم فروبيشر وازداد قلقه كذلك.
كان جالسًا بجانب النافذة العريضة الطويلة التي تطلُّ على الميدان، يتوقَّع انفجار هاسلت غضبًا واحتقارًا. لكنه رأى القلق يتسلَّل إلى وجه السيد هاسلت ويلبث في محياه أثناء قراءته. لقد توقَّف تمامًا عن القراءة أكثر من مرة، وكأنه يحاول تذكر شيء ما أو ربما اكتشافه.
قال جيم لنفسه بنفاد صبر: «الأمر كله واضح وضوح الشمس.» لكن — ومع ذلك — كان السيد هاسلت يجلس في ذلك الكرسي الكبير طَوال القسم الأكبر من اليوم، وطَوال القسم الأكبر من السنوات الثلاثين المنصرمة. خلال تلك السنوات، كم من رجال ونساء عَبَروا الطريق أسفل هذه النافذة ودلفوا إلى هذه الغرفة المستطيلة الهادئة بشكاواهم، وفواجعهم، واعترافاتهم؟ وخرجوا منها مرَّة أخرى وقد أسهم كل واحد منهم بالقليل لإكمال معرفة الرجل العجوز وشحذ ذكائه؟ على هذا، إذا كان السيد هاسلت يشعر بالقلق، فهذا يعني أن ثمَّة شيئًا في تلك الرسالة، أو ثمَّة ما تبشر به، شيئًا غفل هو عنه لحداثة عهده. شرع فروبيشر يقرأ الرسالة مرَّة أخرى في ذهنه بأفضل ما استطاع أن يتذكَّر منها، لكنه لم يكُن قد قطع شوطًا طويلًا قبل أن يضع السيد هاسلت الرسالة.
صاح جيم: «هذه بالتأكيد يا سيدي قضية ابتزاز واضحة.»
انتبه السيد هاسلت وقد انتابت كتفه رجفة خفيفة.
«ابتزاز؟ أوه! هو كذلك بالطبع يا جيم.»
نهض السيد هاسلت وفتح خزانته. أخرج منها رسالتي وابرسكي وأحضرهما عَبْر الغرفة إلى جيم.
«ها هي الأدلة، إنها دامغة.»
قرأ جيم الرسائل وأطلق صيحة سرور خاطفة.
«ذلك المارق، لقد سلم لنا نفسه بنفسه.»
قال السيد هاسلت: «أجل.»
ولكن بالنسبة إليه على الأقل، لم يكُن ذلك كافيًا؛ كان لا يزال يبحث بين كلمات الرسالة عن شيء خفي، شيء لم يستطِع هو أن يعثر عليه.
فسأله فروبيشر: «إذَن ما الذي يقلقك؟»
وقف السيد هاسلت على السجادة المهترئة وقد أعطى ظهره للمدفأة.
وشرع يقول: «إليك ما يقلقني يا جيم. في ٩٥ من أصل كل ١٠٠ من هذه الحالات، يكون ثمَّة شيء آخَر، شيء يستتر خلف التهمة الفعلية ولا يُؤتى على ذكره، غير أن المبتزَّ يعتمد عليه كل الاعتماد. كقاعدة عامة، يكون هذا الشيء سرًّا صغيرًا مخزيًا، وصمة عار لشرف العائلة يمكن أن يُفتضح أمرها في أي لحظة. لا بد أن يكون هناك شيء من هذا القبيل في هذه الحالة. كلما كانت اتهامات وابرسكي أكثر سخرية، كان مؤكدًا أنه يعرف شيئًا يضرُّ بسمعة عائلة هارلو، شيئًا يرغب أي فرد في العائلة في إخفائه. كل ما هنالك أنني ليس لديَّ فكرة عما يمكن أن تكون ماهية هذا الشيء اللعين!»
فاقترح جيم قائلًا: «ربما يكون شيئًا تافهًا يبالغ بشأنه شخص مجنون مثل وابرسكي.»
وافقه السيد هاسلت قائلًا: «نعم. هذا يحدث. أن يستغرق المرء في مظالم خيالية، إضافةً إلى أنه يتسم بالتهوُّر وانفلات الزمام … نعم، ربما كان الأمر كذلك.»
ثم تحدث جيريمي هاسلت بنبرة مبتهجة أكثر.
قال: «دعنا نرى بالضبط ما نعرفه عن العائلة»، وسحب كرسيًّا ليجلس بمواجهة جيم فروبيشر والنافذة. لكنه ما كاد يجلس حتى سُمع طرق خفيف على الباب، ودخل أحد الموظفين ليُعلن عن قدوم زائر.
قال السيد هاسلت «ليس بعد» قبل أن يذكر الموظف اسم الزائر.
فرد الموظف: «حسنٌ يا سيدي» ثم خرج. كانت شركة فروبيشر آند هاسلت تدير أعمالها بهذه الطريقة. كانت الشركة تجسيدًا للمبادئ الأصيلة التي تقوم عليها شركات المحاماة، والعملاء الذين لا يروق لهم أسلوبها بمقدورهم الذهاب إلى شركة المحاماة الكائنة عند منعطف الشارع. تمامًا كما يجب على الأشخاص الذين يذهبون إلى خيَّاط ماهر أن يقبلوا تصميمَه ملابسَهم بأسلوبه الخاص.
التفت السيد هاسلت إلى جيم مرة أخرى.
قال: «دعنا نرَ ما نعرفه»، ثم جلس في الكرسي.