مُشتبَه فيه جديد
ولج السيد بيكس، كاتب العدل، إلى صالة منزله فور أن أرسل إليه جيم فروبيشر بطاقته. كان رجلًا ضئيل البنية مُفعَم النشاط، تزين وجهه لحية مُدبَّبة أنيقة ويعلو رأسه شعر بالغ القصر، وقد دسَّ طرف منديله بخفة بين طيات طوق قميصه عند رقبته.
شرح له جيم أن الأختام ستُفَض عن غرف منزل كرينيل، لكنه لم يذكر شيئًا عن التطورات الجديدة التي بدأت باكتشاف كتاب السهام.
قال الرجل القصير: «لقد تلقيت رسائل من شركة السادة فروبيشر وهاسلت. كل شيء كان صحيحًا قدر الإمكان. أنا سعيد بلقاء شريك من شركة مرموقة كهذه. نعم. بالتأكيد سأحضر في الثالثة ولديَّ مفاتيحي وأشهد نهاية هذه الفضيحة البائسة. كانت وصمة عار. تلك الشابة اللطيفة والراقية! وذاك الحيوان وابرسكي! لكن يمكننا التعامل معه. لدينا قوانين في فرنسا.»
أوحى الرجل لجيم بأنه لا وجود للقوانين في أي مكان آخَر، ثم شَيَّع زائره إلى الشارع.
عاد جيم عَبْر شارع دي جودران والطريق الرئيسي للمدينة، شارع ليبرتي. وبينما كان يعبُر ساحة دارم التي تتخذ شكل نصف دائرة أمام فندق دي فيل، كاد يصطدم بهانو وهو يدخن سيجارًا.
قال: «أتناولت الغداء بعد؟»
قال هانو وهو يلوح بيده: «منذ نحو ربع ساعة. وأنت؟»
أجاب جيم: «ليس قبل الثانية. الآنسة هارلو أرادت أن تتمشى.»
ابتسم هانو.
وقال: «أفهم ذلك تمامًا! أول تمشية بعد محنة! أول تمشية لمريض يتعافى بعد عملية جراحية! أول تمشية لمتهم بُرِّئ من تهمة خطيرة! لا شك أن تمشية كهذه تستحق الجهد المبذول فيها. لكن واسِ نفسك يا صديقي أن غداءك سيتأجَّل. فقد قابلتني!» ثم اتخذ وضعًا دراميًّا بعض الشيء.
كان جيم الآن يعترض بشدة على أي شيء درامي، خاصة في الأماكن العامة، فأجاب ببرودة: «من دواعي سروري بالتأكيد.»
فابتسم هانو لذلك. بالنسبة له، جعل جيم يبدو «جادًّا» أصبح تسلية لا تفشل.
فقال: «الآن أكافئك» على الرغم من أن جيم لم يستطِع أن يتخيل سببًا لذلك. «ستأتي معي. في هذه الساعة، على قمة برج تراس فيليب لو بون العتيق، سنكون وحدنا تمامًا.»
ثم تقدَّمه إلى داخل الفناء الكبير لفندق دي فيل. خلف الجناح الطويل المواجه لهما، انتصب برج متين مربع الشكل بارتفاع ١٥٠ قدمًا. صعد هانو درجاته البالغ عددها ٣١٦ درجة، وفروبيشر في إثره، وخرج إلى السطح في جو امتزج فيه اللون الأزرق بالذهبي في يوم خالٍ من الغيوم من أيام شهر مايو في فرنسا. ولما ولَّوا وجههم نحو الشرق، انحبست أنفاس جيم لجمال المشهد. أمامهم مباشرة، تألقت قبة كاتدرائية نوتردام الرشيقة المزخرفة، مما أثار دهشته كيف صمدت عبر كل هذه القرون؛ وخلفها، انبسط السهل الأخضر الغني البديع، تتلألأ فيه جداوله، وتتراءى قراه الوادعة.
جلس هانو على مقعد حجري ومدَّ ذراعه فوق الحاجز. وهتف بحماس وفخر: «انظر! هذا ما جئت بك هنا لتراه. انظر!»
نظر جيم وتبيَّن، فأشرق وجهه لِما رأى. في الأفق البعيد، برزت قمة مون بلان الضخمة بجمال خارق؛ كانت بيضاء كالفضة، وناعمة كالحرير، وتتلألأ كالذهب، كما لو كانت شعلة نار تعلو وتغوص.
قال هانو وهو يراقب وجه جيم: «أوه! إذَن هذا شيء مشترك بيننا. هل وقفت على قمة ذلك الجبل؟»
أجاب جيم بابتسامة مليئة بالذكريات: «خمس مرات. آمل أن أفعل ذلك مرة أخرى.»
قال هانو ببعض الحسد: «أنت محظوظ. بالنسبة لي، أراه فقط من بعيد. لكن حتى على ذلك الحال، وحين أكون منزعجًا، يكون الأمر مثل الجلوس في صمت بصحبة صديق.»
زاغ ذهن جيم فروبيشر في ذكريات منحدرات الثلوج وحواف الصخور. كانت العبارة التي استخدمها هانو صحيحة. لقد عبرت عن واحدة من المشاعر العديدة التي يصعب وصفها والتي تعنيها الجبال للأشخاص الذين يشتركون في «ذلك» — أي الشغف نحو الجبال. ثم نظر جيم إلى هانو بفضول.
وقال بتعاطُف: «إذَن أنت قلِق بشأن هذه القضية؟» كان المنظر القصيُّ الرائع لهذا القوس الفضي المخملي الفارع وسط الأجواء الزرقاء الصافية قد جعل من الرجلين للحظة أخوين.
أجاب هانو ببطء دون أن يحول عينَيه عن الأفق: «جدًّا، ولأسباب كثيرة. ما رأيك أنت فيها؟»
قال جيم بجفاف: «أعتقد، يا سيد هانو، أنك لا تحب أن يسأل أحد أي أسئلة إلا أنت.»
ضحك هانو تقديرًا لهذه الطعنة.
وقال: «نعم، كنت تريد أن تطرح سؤالًا على الآنسة أبكوت الجميلة. أخبرني إذا كنت قد خمنت بشكل صحيح السؤال الذي كنت تنوي طرحه! كان السؤال: هل الوجه الذي لمسته في الظلام كان وجهًا ناعمًا لامرأة أم وجه رجل؟»
قال جيم: «نعم. كان هذا هو السؤال.»
الآن كان دور هانو أن ينظر بفضول وبسرعة إلى جيم. لم يكُن هناك شك في الفكرة التي كانت تدور في ذهنه: «يجب أن أبدأ في منحك قدرًا خاصًّا من الاهتمام يا صديقي.» لكنه كان حريصًا على عدم التعبير عن أفكاره بالكلمات.
فقال: «لم أكُن أريد أن يُطرح ذلك السؤال.»
سأل جيم: «لماذا؟»
أجاب هانو: «لأنه كان غير ضروري، والأسئلة غير الضرورية أمور مربكة يُفضل تجنبها كليًّا.»
لم يصدق جيم كلمة واحدة من هذا التفسير. كانت لديه ذكرى واضحة للحركة السريعة والنظرة التي أوقفه بها هانو. كلاهما كانا علامات واضحة على القلق. لم يكُن هانو ليشعر بالقلق من احتمال طرح سؤال، فقط لأنه كان زائدًا عن الحاجة. كان ثمة سبب آخَر، وكان جيم متأكدًا، سبب قوي في ذهن هانو. فقط لم يستطِع جيم اكتشافه.
بالإضافة إلى ذلك، هل كان السؤال زائدًا عن الحاجة؟
أجاب هانو: «بالتأكيد. تخيَّل لو أن يد تلك الشابة لامست في الظلام وجه رجل ذي ذقن خشِنة، وبشرة قاسية، وشعر قصير يحيط برأسه، وهو مُنحنٍ بهذا القرب من وجهها؛ ألن يكون ذلك أشد ما ترتاع منه في هذه الحادثة المروعة بأكملها؟ وبينما هي تمطُّ يدَيها بلا اكتراث فوق رأسها، تلمس وجه رجل فجأةً وبشكل غير مُتوقَّع؟ لم تكُن لتستطيع أن تحكي قصتها دون ذكر ذلك. لم تكُن لتنسَ هذه التفصيلة أبدًا، فهي السبب الرئيسي في ارتياعها. فقد لامست وجه رجل!»
أدرك جيم أن المنطق سليم، لكنه لم يقترب بعد من حل مشكلته؛ لماذا كان هانو يعترض بشدة على طرح السؤال. ثم أبدى هانو ملاحظة هادئة طردت الفكرة تمامًا من تأملات جيم لفترة طويلة.
فقال: «لامست الآنسة آن وجه امرأة في الظلام في تلك الليلة؛ إذا كان ذلك قد وقع على الإطلاق.»
كان جيم مصدومًا تمامًا.
وهتف: «هل تعتقد أنها كانت تكذب علينا؟»
هزَّ هانو يده في الهواء مُحتجًّا.
وقال: «لا أعتقد أي شيء. أنا أبحث عن مجرم.»
«آن أبكوت!» نطق جيم الاسم بدهشة. «آن أبكوت!» ثم تذكر مظهرها وهي تحكي قصتها، وجهها مُتشنِّج من الرعب، ونبرات صوتها المُرتعِشة. «أوه، من المستحيل أنها كانت تكذب. بالتأكيد لا أحد يستطيع أن يتظاهر بالخوف على هذا النحو؟»
ضحك هانو.
وقال: «أصدُقُك القول يا صديقي، كل عتاة الإجرام مُمثِّلات بارعات، لم أرَ منهن غير ذلك.»
قال جيم مرة أخرى: «آن أبكوت!» لكن الآن بدهشة أقل قليلًا. كان يعتاد ببطء وتدريجيًّا على الفكرة. لكن … تلك الفتاة التي تشعُّ بريعان الشباب! أوه، لا!
وعاود يقول: «لم يُخصَّص لآن أبكوت أي شيء في وصية السيدة هارلو. فما الذي يمكن أن تكسبه من قتلها؟»
قال هانو: «تمهل يا صديقي! انظر بعناية إلى قصتها! حللها. سترى … ماذا ترى؟ أنها تنقسم إلى جزأين.» ثم أطفأ هانو عقب سيجارته تحت كعبه، وقدم واحدة من سجائره السوداء لجيم فروبيشر وأشعل واحدة لنفسه. أشعلها بعود كبريت ظل جيم يعتقد أنه لن يتوقف عن الأزيز، ولن يشتعل أبدًا.
قال: «الجزء الأول عندما كانت وحدها في غرفة نومها … قصة صغيرة مُرعِبة وقد مثَّلتها بشكل فعَّال، لكن في النهاية، يمكن لأي شخص اختراعها. أما الجزء الثاني فلم يكن من السهل اختراعه. الباب الواصل بين الغرفتين مفتوح بدون سبب، والضوء من خلفه، والصوت الذي همس: «هذا سيفي بالغرض»، وصوت الصراع! كلا يا صديقي، لا أعتقد أن ذلك كان مُختلقًا. كانت التفاصيل الدقيقة كثيرة، وبدَت وكأنها عاشتها حقًّا. واجهة الساعة البيضاء، ورؤيتها المفاجئة للتوقيت حينها. كلا! أعتقد أن كل ذلك يجب أن يكون مقبولًا وقائمًا. لكن عدِّل فيه قليلًا. انظر! هذا الصباح أخبرنا وابرسكي قصة عن شارع جامبيتا وعن جان كلاديل!»
قال جيم: «نعم.»
قال هانو: «وسألتك بعد ذلك إذا كان وابرسكي سيحكي قصة حقيقية حدثت معه وينسبها إلى الآنسة هارلو؟»
قال جيم: «نعم.»
قال هانو: «حسنًا، فسِّر قصة آن أبكوت بالطريقة نفسها. هبَّ أنها في وقتٍ ما خلال ذلك اليوم قد فتحت قفل الباب الواصل! ما أسهل ذلك؟ كانت السيدة هارلو مستيقظة خلال النهار. غرفتها كانت فارغة. وهذا الباب الواصل لم يكن يفتح على غرفة نوم السيدة؛ إذ ربما كان يمكن اكتشاف ما إذا كان مُقفَلًا أم لا، بل يفتح على غرفة تبديل الملابس.»
قال جيم: «نعم.»
قال هانو: «حسنًا، إذَن استمر! تُترك آن أبكوت وحدها بعد مغادرة الآنسة هارلو إلى حفل السيد دي بوياك. تُرسِل جاستون إلى الفراش. المنزل كله مظلم ونائم. افترض الآن أن — شخصًا مجهولًا — انضمَّ إليها، شخصًا لديه سم السهم جاهز في إبرة تُعطى تحت الجلد. يدخلون غرفة الكنوز تمامًا كما وصفت آن أبكوت. تشعل الضوء لثانية بينما — ذلك المجهول — يجتاز غرفة الكنوز ويفتح الباب. وافترض أن الصوت الذي همس: «هذا سيفي بالغرض» كان صوت آن أبكوت نفسها وأنها همسَتْ به فوق جسد السيدة هارلو إلى الشخص الثالث في تلك الغرفة!»
هتف جيم: «ذلك المجهول. ولكن مَن يكون إذَن؟ مَن يكون؟»
هزَّ هانو كتفَيه. وقال: «لماذا لا يكون وابرسكي؟»
هتف جيم بحماس جديد: «وابرسكي؟»
«لقد سألتني ما الذي يمكن أن تكسبه آن أبكوت من جريمة القتل هذه وأجبتَ أنت بنفسك عن سؤالك. قلتَ: لا شيء، يا سيد فروبيشر، ولكن هل كانت إجابتك السريعة كافية؟ وابرسكي … على الأقل، كان يتوقَّع إرثًا ثمينًا وسخيًّا. ماذا لو اقترح، مقابل المساعدة، أن يتقاسم هذا الإرث مع الآنسة آن الرائعة؟ أليس لديها دافع الآن؟ في النهاية، ما الذي نعرفه عنها على الإطلاق سوى أنها مرافقة مأجورة، وبالتالي فهي فقيرة؟ الآنسة آن!» وهزَّ يدَيه في الهواء. «من أين أتت؟ كيف دخلت ذلك المنزل؟ ربما كانت صديقة وابرسكي؟» وهنا توقف هانو بفعل هتاف أطلقه جيم.
كان جيم قد فكر في وابرسكي كقاتل مُحتمَل إذا كانت جريمة القتل قد وقعت بالفعل؛ قاتل خاب أمله بسبب عدم حصوله على الإرث، فواصل جرمه بالابتزاز والاتهام الكاذب. لكن لم يخطر له أن يربط آن أبكوت به حتى تلك اللحظات في برج تيراس. ومع ذلك، بدأت الذكريات تزدحم في ذهنه الآن. على سبيل المثال، الرسالة التي كتبتها له. كانت قد ذكرت أن وابرسكي طلب دعمها وسخرت من طلبه. هل يمكن أن تكون تلك الرسالة مجرَّد غطاء بارع؟ وفوق كل ذلك، كان هناك مشهد يمرُّ بوضوح في ذهنه يختلف تمامًا عن المشهد الذي كان أمام عينَيه الآن، مشهد غرف مُضاءَة وحشد من الناس حول طاولة خضراء طويلة، وفتاة نحيفة جالسة عند الطاولة خسرت مرارًا وتكرارًا حتى اكتسح الموزِّع بذراع مسح الطاولة كومة الأوراق النقدية الصغيرة التي تملكها، ثم استدارت مبتعدة بتأنٍّ ولكن بشفاه مرتجفة.
قال هانو بحدة: «آه! أنت تعرف شيئًا عن آن أبكوت يا صديقي. ما الذي تعرفه؟»
تردد جيم. في البداية شعر أنه ليس من المنصف بحقها أن يروي قصته. فقد تكون هناك تفسيرات تجعل الموقف يبدو مختلفًا تمامًا. بعد ذلك، رأى أنه من الإنصاف أن يمنحها فرصة الشرح بنفسها. وكان عليه أن يأخذ بيتي بعين الاعتبار. نعم، كان عليه أن يأخذ بيتي بعين الاعتبار قبل كل شيء. فقد كان في ديجون من أجلها.
فقال لهانو: «سأخبرك. عندما رأيتك في باريس، قلت لك إنني لم أرَ آن أبكوت في حياتي. وكنت أعتقد ذلك فعلًا. ولم أدرك أنني ضلَّلتك إلا عندما دخلت المكتبة صباح الأمس. لقد رأيت آن أبكوت عند طاولة لعبة «الأحمر والأسود» في نادي سبورتينج في مونت كارلو في يناير من هذا العام. جلستُ بجانبها. وكانت بمفردها تمامًا وتخسر أموالها. لم يكُن هناك شيء يسير لصالحها. لكنها كانت تتحمَّل الموقف بإباء وجلد. كانت العلامة الوحيدة التي رأيتها وتدلُّ على كربها هي قبض أصابعها حول حقيبتها الصغيرة، ونظرة تحدٍّ سددتها للاعبين الآخرين عندما وقفت بعد محاولتها الأخيرة، وكأنها تتحداهم أن يشفقوا عليها. أما أنا، فقد كنت أربح، فأسقطتُ خلسة ورقة نقدية بقيمة ١٠٠٠ فرنك من فوق الطاولة إلى الأرض، وثبَّتُّ قدمي عليها كما تعلم. وعندما استدارت الفتاة للخروج من وسط الحشد، أوقفتها. وقلت لها بالإنجليزية؛ إذ كان من الواضح أنها من جنسيتي، «هذه لك. لقد أسقطتِها على الأرض». فابتسمت لي وهزَّت رأسها قليلًا. أعتقد أنها للحظة لم تجرؤ على أن تثق بشفتَيها فتتكلَّم، وبالطبع كان الحشد قد ابتلعها في ثانية. واصلت اللعب لبعض الوقت. ثم وقفتُ أنا أيضًا، وعندما مررتُ بمدخل الحانة في طريقي لأخذ معطفي، نهضت تلك الفتاة من إحدى الطاولات الصغيرة العديدة وتحدثت إليَّ. نادتني باسمي. شكرتني بلطف شديد وقالت إنها لم تكُن في مأزق حقيقي بالرغم من خسارتها في تلك الليلة. شككت في صدق ما قالته. فلم تكُن ترتدي ولو خاتمًا واحدًا في أيِّ إصبع من أصابعها، ولا قلادة صغيرة حول عنقها، ولا حلية واحدة على فستانها أو في شعرها. ثم استدارت بعيدًا عني على الفور وعادت إلى الطاولة الصغيرة حيث عاودت الجلوس مع رجل. كانت الفتاة بالطبع هي آن أبكوت، وكان الرجل هو وابرسكي. ولا شك أنها حصلت منه على اسمي.»
سأل هانو: «هل وقعت هذه الحادثة الصغيرة قبل أن تصبح آن أبكوت عضوًا في العائلة؟»
أجاب جيم: «نعم. أعتقد أنها انضمَّت إلى السيدة هارلو وبيتي في مونت كارلو. وأعتقد أنها عادت معهم إلى ديجون.»
قال هانو: «بلا شك.» ثم جلس صامتًا لفترة. بعدها قال بلطف: «لا يبدو هذا مبشِّرًا بحق الآنسة آن.»
كان على جيم أن يعترف بأن الأمر كذلك.
لكنه قال: «لكن فكر في الآتي يا سيد هانو. إذا كانت آن أبكوت متورطة في هذه القضية، وهو ما لا أصدقه، لماذا قد تروي بمحض إرادتها قصة ما سمعته في ليلة السابع والعشرين وتخترع ذلك الوجه الذي مال فوقها في الظلام؟»
أجاب هانو: «لديَّ فكرة عن ذلك. متى أخبرتنا بهذه القصة؟ بعد أن قلتُ إنه يجب أن نفض الأختام هذا المساء ونفتح الغرف. من الممكن أن نعثر على شيء في تلك الغرف يجعل من الحكمة أن تتشكَّك في امرأة أخرى في المنزل. جين بودان، أو حتى خادمة الآنسة هارلو، فرانسين رولار.»
قال جيم بسرعة: «لكن ليس الآنسة بيتي.»
ردَّ هانو بهزة من يده: «لا، لا! الساعة فوق الخزانة المطعَّمة حسمت ذلك. الآنسة بيتي خارج المسألة. حسنًا، سنرى ما في الأمر هذا المساء. في هذه الأثناء يا صديقي، ستتأخر على غدائك.»
ثم نهض هانو من المقعد، وبعد نظرة أخيرة ألقاها على الجبل الساحر، ذلك الحصن الفرنسي، اتجهوا نحو المدينة.
نظر جيم فروبيشر إلى الساحات الصغيرة جدًّا والمُخضرَّة بأشجار الليمون، وإلى الأسطح المنحدرة للمنازل القديمة والملونة بأنماط بهيجة. من حوله كانت القمم المستدقة الأنيقة ترتفع عاليًا مثل الرماح من أسقف الكنائس العديدة. وباتجاه الجنوب قليلًا وعلى بُعد ربع ميل خلف أسطح المنازل، رأى نتوءًا طويلًا لمنزل كبير والدخان يتصاعد من مدخنة أو اثنتين، ومن خلفها قمم الأشجار الطويلة التي كانت تتمايل وتنفض أشعة الشمس من أوراقها.
فقال: «منزل كرينيل!»
لم يأتِه أي رد، ولا حتى أدنى حركة بجانبه.
فسأل: «صحيح؟» ثم التفت.
لم يكُن هانو قد سمعه حتى. كان يحدِّق أيضًا نحو منزل كرينيل بنظرة غريبة على وجهه؛ نظرة كان جيم يعرفها بنوع من التداعي، لكنه لم يستطِع تحديدها لنحو لحظة. لم تكُن نظرة دهشة. من ناحية أخرى، كانت كلمة «اهتمام» ضعيفة جدًّا لوصفها. فجأة فهم جيم فروبيشر نظرة هانو، ورافق هذا الفهم شعور بعدم الارتياح. فنظرة هانو، شديدة الوضوح والتيقظ وقاسية قليلًا، كانت تمامًا مثل نظرة كلب صيد بارع ومطيع عندما يُخرِج سيده البندقية.
نظر جيم مرة أخرى إلى النتوء العالي للمنزل. كانت النوافذ المُجملَنة تتخلَّل الألواح الصخرية، لكنه لم يستطِع رؤية أي جسم في أيٍّ منها. بدا الأمر كما لم يكُن هناك أحد يُلوِّح بأي إشارة منها.
سأل جيم في حيرة: «ما الذي تنظر إليه؟» ثم أضاف ببعض الانفعال: «أنت ترى شيئًا، أنا متأكد.»
سمع هانو رفيقه أخيرًا. فتغير وجهه في لحظة؛ إذ اختفى ترقُّبه الوحشي وأصبح وجه مُهرِّج.
وقال: «بالطبع أنا أرى شيئًا. دائمًا أرى شيئًا. ألست أنا هانو؟ أوه يا صديقي، لكم هي ثقيلة، مسئولية أن تكون هانو! وكم أنت محظوظ أنك لا تحمل مثلها! رفقًا بي! فمثلي لا بد أن يرى شيئًا في كل مكان … حتى عندما لا يوجد ما يُرى. هيا!»
اندفع هانو مبتعدًا عن ضوء الشمس في تلك المنصة العالية إلى الدرج المظلم. نزل الرجلان الدرجات وخرجا مرَّة أخرى إلى ساحة دارم شبه الدائرية.
قال هانو: «والآن!» ثم قال: «نعم» كما لو كان لديه شيء ما بسيط يودُّ قوله ولم يكُن متأكدًا تمامًا إذا كان سيقوله. ثم أفشى ما بنفسه. فقال: «ستتناول كأس فيرموت معي قبل أن تذهب لتناول غدائك.»
أجاب فروبيشر: «سأتأخر إذا أنا فعلت.»
تجاهل هانو الاعتراض بأن هزَّ إصبعه الممدود.
وقال: «بل لديك مُتَّسَع من الوقت أيها السيد. ستتناول كأس فيرموت معي ثم ستصل إلى منزل كرينيل حتى قبل الآنسة هارلو. هذا هو رأيي أنا، أنا هانو» قال ذلك بافتخار فضحك جيم ونزل على رأيه.
قال: «سأتذرَّع بغرورك عندما أجدها هي وآن أبكوت قد أوشكتا على الفراغ من الطعام.»
كان ثمة مقهى في زاوية شارع ليبرتي وساحة دارم، وُضعت طاولتان صغيرتان أو ثلاث من طاولاته على الرصيف تحت مظلة. جلس الرجلان عند إحداها، وبينما يتناولان الشراب، كان هانو على وشك تقديم توصية أو تصريح ما مرة أخرى.
بدأ يقول: «كما ترى …» ثم تهرَّب مرة أخرى. فقال: «إذَن ذهبت خمس مرات إلى قمة مون بلان! من شاموني؟»
أجاب جيم: «بل مرة واحدة من شاموني. ذهبت مرة واحدة من كول دو جيانت عَبْر نهر برينفا الجليدي. ومرَّة عَبْر طريق دوم. ومرَّة من نهر برويار الجليدي. وآخر مرَّة عَبْر مونت مانديت.»
استمع هانو بلطف حقيقي وقال:
«أنت تخبرني بأشياء مثيرة للاهتمام وجديدة جدًّا بالنسبة لي» وكان قوله وديًّا صادقًا. «أنا مُمتَنٌّ يا سيدي.»
أجاب جيم بجفاف: «من ناحية أخرى، أنت يا سيدي لا تخبرني إلا بالقليل جدًّا. حتى ما جئت بي إلى هذا المقهى لتقوله، ستظلُّ تحتفظ به لنفسك. لكن بالنسبة لي، لن أكون بهذا الجفاف والبخل. سأخبرك بما أفكر فيه.»
قال هانو: «وما ذاك؟»
«أعتقد أننا أضعنا الطريق.»
«أوه؟»
وتخيَّر هانو سيجارة من علبتها المغلفة باللون الأزرق اللامع.
«ربما تجد وقاحة في قولي هذا.»
أجاب هانو بجدية: «ولا مثقال ذرة من ذلك. نحن في الشرطة مكلفون بالبحث على نطاق واسع فنغفل عن الحقيقة تحت أعيننا. هذا هو المزلق. لا شيء أثمن من أن تمدني بزاوية إضافية للرؤية. إنني منتبه لك تمامًا.»
اقترب جيم فروبيشر بكرسيه من الطاولة الحديدية المستديرة ووضع مرفقيه عليها.
وقال: «أعتقد أن هناك سؤالًا واحدًا على وجه الخصوص يجب أن نجيب عنه إذا أردنا اكتشاف ما إذا كانت السيدة هارلو قد قُتلت وبيد من إذا كان ذلك صحيحًا.»
أومأ هانو برأسه.
وقال بتريُّث: «أوافقك. لكنني أتساءل إذا كنا نتحدَّث عن السؤال نفسه.»
قال جيم: «إنه سؤال أهملناه. وهو: من أعاد كتاب البروفيسور عن نبات الاسبورانثوس إلى مكانه على رف الكتب في المكتبة، بين منتصف نهار أمس وصباح اليوم.»
أشعل هانو عود ثقاب آخر من أعواده المُزعِجة، وأبقى الشعلة في ظل كفه حتى اضطرمت. فأشعل سيجارته وأخذ منها بضع نفخات.
وقال: «بلا شك هذا السؤال مهم»، وإنْ كان قال ذلك بشكل عابر. «لكنه ليس سؤالي. كلا. أعتقد أن هناك سؤالًا آخر أكثر أهمية. أعتقد أننا إذا استطعنا أن نعرف لماذا كان باب غرفة الكنوز مفتوحًا في ليلة السابع والعشرين من أبريل، وهو الذي لم يُفتح منذ وفاة سايمون هارلو، سنكون قريبين جدًّا من الحقيقة الكاملة لهذه المسألة المبهمة.» ثم مدَّ يدَيه وهزَّهما، وأضاف: «هذا ما يحيرني.»
تركه جيم جالسًا على الطاولة يحدِّق بشرود في الرصيف، كما لو كان يأمل في قراءة الإجابة عنه.